Saturday, 8 March 2014

فيلم العمر: المراهقات



حين كان الحديث عن المراهقات
 لا يؤدى إلى المحاكم*
عشت طفولتي في مدينة صغيرة بمحافظة المنوفية في دلتا مصر تسمى " قويسنا "، كانت لنا رحلتان لمدينة طنطا واحدة لشراء ملابس العيد والأخرى لشراء متطلبات المدارس، كنا أربعة أخوة بنات وشاب واحد وكانت أمي ربة البيت المتعلمة تصحب بنتين منا في كل رحلة ، قبل إحدى هذه السفريات مرت سيارة نصف نقل تجوب البنادر والقرى لتعلن عن الفيلم الاجتماعي الجبار " المراهقات ".

الاسم وتأثير كلمات الرجل الدعائية أبقتنا على نار نحن البنات الأربع، حتى كان الدور علي أنا وأختي التي تكبرني بخمسة أعوام " وفاء "، بقينا في شوق حتى جاء موعد الرحلة واستقلينا القطار إلى طنطا وبدأنا طقوس الرحلة بتناول طعام الإفطار من الفول والطعمية الرائعة من مطعم  " أبو سنة ". ثم تجولنا للشراء بعده اشترينا ساندوتشات الكفتة من أشهر كبابجي في الدلتا.  في مسجد " السيد البدوي " باب جانبي يؤدي إلى استراحة للنساء تناولنا فيها الطعام وأنا أرتجف من الخوف من سيدة تعاني من مرض نفسي يجعلها  تعيش في منطقة حمام السيدات بالمسجد عارية تماما ولا تكف عن  التحدث لنفسها ، لم تكن تؤذي أحدا ولكني وقتها كنت أخاف من خيالي . تنهي أمي صلاتها ودعواتها ودون أن نطلب منها - وإن كنا نتمنى- وجدناها تأخذنا إلى سينما " أمير " بطنطا لنشاهد فيلم المراهقات، لم تدخل معنا الصالة بل جلست في حجرة المدير الذي استقبلها باحترام شديد دون سابق معرفة، وبقينا ساعتين من ساعات العمر التي لا تنسى مع ماجدة و" جدو" حسين رياض وفتى أحلام نصف فتيات مصر "رشدي أباظة " . كنت طفلة على أعتاب البلوغ ولكني لا أعتقد أنه قد فاتني شيء أفهمه فالأفلام في ذلك الوقت كانت بسيطة تتعامل مع العواطف ، تعيد وتزيد في توضيح المغزى منها ، ما أذكره أنني لسنوات لم يفارقني المشهد الذي جرى على سلم البيت والأخ يضرب أخته المراهقة ماجدة بالصفعات على الوجه والجد يبكي ونحن لم تتوقف دموعنا . يقطع الذكرى مشهد الطائرة التي تحوم وماجدة في نافذتها تتطلع إلى السماء ، وبعد عدة سنوات ومع دخول التلفزيون البيوت لم أشعر لحظة بالملل من تكرار مشاهدة " المراهقات " و ظل ابتسامة ترتسم على وجهي ولا تفارقه طوال مشاهدة الفيلم فأتذكر وفاء التي كانت أكثر تأثرا بالفيلم مني لأنه يعبر عن سنها. وتعود دموعي للانهمار، لم أكن أبكي الفيلم ولكني أبكي أمي التي ربتنا على الحرية ولم تفرض علينا ما فرضته على نفسها من مقاطعة السينما وكل أصناف اللهو بل سعت لكي لا نحرم من أمر تهفو إليه نفوسنا، وكانت تكمل بناء وجدانا المتخم بنزهات الوالد على ترعة " قويسنا "، وهو يوضح لنا كل ما نمر به من شجر وطير معتمدا في شرحه على آيات القرآن عن الطير والأرض والجبال، معلمنا الصبر بالسير حتى نجد الكوبري فلا نخوض بأرجلنا في مياه الترعة التي كثيرا ما تكون ضحلة، يتركنا تحت ظل شجرة أو في مقام الولي " الشيخ رمضان " حتى يزور صديقه الحاج صابر زيارة قصيرة يشرب معه القهوة ولا يطيل، متحججا ببناته اللاتي تركهن لدى الولي .

" المراهقات " أول فيلم أشاهده في دار عرض كبيرة مغلقة، استمر كنموذج لما يجب أن تكون عليه الأفلام معبرا عما لخصته أمي من " اتنين بيحبوا بعض، تحدث بعض المشاكل ثم يتزوجان ويعيشان في تبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات ".

" المراهقات " مشبع  بالأحداث الدامية التي تخاطب القلوب، المبالغات في كلا الطرفين، الخير والشر، النهاية الفاجعة للبطلة الثانية والنهاية السعيدة للبطلة الأولى، عالم المراهقات الذي كنت على أتعابه، النموذج المحافظ والمتحررات، التي أحبت بشكل كامل – فرطت في نفسها بمفاهيم تلك الفترة – والتي أحبت حبا رومانسيا ومزقت قلوبنا، نموذج فتى الأحلام الوسيم الناجح في عمله، صاحب الخبرة مع النساء الذي اختار البراءة " ندي " وهو يردد: " دي حاجة ثانية خالص غير كل الستات اللي عرفتهن " كم كانت ترضينا هذه العبارة ونحن بالطبع نعتقد في أنفسنا أننا " حاجة ثانية غير الستات اللي الرجالة بتعرفهم ".
عذراء الشاشة العربية
 في  الفيلم الاجتماعي الكبير" المراهقات "
بعد أقل من عام سيمر" عنتر" يدق طبلته معلنا عن فيلم " المراهقات "، ملصقه موضوع على مثلث خشبي كبير فوق عربة يجرها حمار. عنتر من الغجر، يقدم أحيانا عرضا راقصا قبل أن يقوم بدور المذيع . جلبابه الأبيض الناصع محط إعجاب أمي التي تحترم من يهتمون بنظافتهم، يتوقف بعد فاصل من دقات الطبل ويعلن: " سينما النصر بقويسنا تقدم لكم باكر الخميس، عذراء الشاشة العربية ماجدة في الفيلم الاجتماعي الكبير" المراهقات "، بطولة فتى الشاشة الأول " رشدي أباظة " ومجموعة من ألمع النجوم في أقوى وأروع فيلم عرفته الشاشة المصرية حتى الآن، حسين رياض، دولت أبيض، زيزي مصطفى، جلال عيسى وعدلي كاسب ".

نصرخ من الفرح نحن البنات الأربع فها هي الفرصة سانحة لنحضر الفيلم معا " تحية ووفاء وصفاء وبهية "، نحايل أمنا التي لا توافق على الفور ويكون علينا أن نظهر كل فروض الطاعة وسماع الكلام حتى يأتي موعد العمر، قبل الموعد بعدة ساعات أتحرك أنا وأختي الصغرى " باهي / بهية " بالقرب من " السينما " التي بدأت في إذاعة أغنية " يا مصطفى ، يا مصطفى، أنا بحبك يا مصطفى " قبل العرض بساعتين على الأقل ونتأكد بأعيننا من أن الفيلم المذكور سيعرض الليلة. كان يوم الخميس اليوم المخصص للأفلام الاجتماعية التي تجذب الأسر ويوم الاثنين لأفلام المغامرات وأفلام " إسماعيل يس " الكوميدية . سينما النصر بقويسنا كانت دار عرض صيفية تغلق في الشتاء، ويتم الإعلان عن وجود " أماكن خاصة للسيدات " فتطمئن الأسر وترسل بناتها لمشاهدة الأفلام. والمكان المخصص للنساء كان عبارة عن شرفة كبيرة " البلكون " بينما يجلس الرجال في " الترسو" المواجه للشاشة على مقاعد " دكك " خشبية طويلة، يليها صفوف من الكراسي للصالة وخلفهم عدد من الحجرات المميزة " لوج " اعتاد أخي الجلوس فيها مع أصدقائه الصبيان، كانت تذكرة البلكون بثلاثة قروش والصالة بقرشين والترسو قرش ونصف، أما تذكرة " اللوج " فكانت خمسة قروش كاملة. مركز قويسنا كان يتبعه عدد من القرى والنجوع ودار سينما " النصر " تخدم مجموعة القرى بعروضها المتنوعة بين الكوميدي والأكشن وأفلامنا الاجتماعية لفاتن وشادية وصباح وماجدة وهند رستم .

مولد الكهرباء يعمل قبل العرض بمدة كافية – لم تكن الكهرباء قد دخلت المدن الصغيرة بعد – وصوت ماكينة العرض وأسطوانة " يا مصطفى .. أنا بحبك يا مصطفى " كانت أكثر إمتاعا لي من مشاهدة الفيلم نفسه ،. أحيانا كان عامل العرض يجعلنا ندخل الكابينة ونبحلق في الصور الصغيرة التي يتكون منها شريط الفيلم، نتابع شريط الضوء الذي يحول الصور الصغيرة لصور تتراقص على الشاشة في سينما النصر بقويسنا.

عامل العرض الذي كان مجرد كهربائي، تحول إلى فني عرض ممتاز، له نظام ثابت لا يتغير فقبل الإظلام مباشرة تدور موسيقى " فتافيت السكر" لمحمد فوزي لتمهد الجميع ويسود الصمت انتظارا للحظة الساحرة التي تتحرك فيها الصور على الحائط الأبيض المحاط بإطار أسود سميك.

مع المشاهدة الثانية لفيلم " المراهقات " تعلقت أكثر بدور صفية الذي أدته " زيزي مصطفى " التي تزوجت عرفيا من ابن زوج أمها " جلال عيسى ". مثل لنا " عدلي كاسب " زوج الأم السكير القاسي النموذج المطلق للشر، كرهناه بقدر ما كرهنا " طارق " الأخ الأكبر لبطلتنا " ندى " ماجدة الصباحي التي عاشت أسرتها في قويسنا في بيت محاط بحديقة صغيرة وأحيانا تسرى شائعة عن وجود النجمة " ماجدة " في البلدة ، لن يمضي وقت طويل حتى نندمج تماما مع الفيلم ونبكي بحرقة بطلتينا، تربت علينا مرافقتنا " شربات "الريفية الجميلة صديقة العائلة التي تثق أمي في رعايتها لنا أثناء حضور العروض. " شربات " جميلة جمالا غير عادي ، قامتها رشيقة يؤكدها جلبابها الفلاحي ، شعرها الكستنائي الناعم الطويل  تشكل ضفائره دائرة كاملة عندما تجلس على الأرض مربعة ساقيها ، في جلسة تشبه تصاوير الفراعنة . شربات تشاركنا البكاء ثم تضحك على نفسها " والنبي دا كله تمثيل في تمثيل ، معقولة يحصل كل ده ! " ثم تعود وتبكي في حرقة، شربات كانت يتيمة الأبوين وكانت أمى تعطف عليها وتحبها. المكان المخصص للسيدات تتصاعد منه شهقات الدموع وسط صمت الغالبية من الفتيات والنساء في نحيب صامت، الكل يبكي ولن نعود باكين فالنهاية السعيدة ومتعة المشاهدة الكاملة مع الفيلم وقبله مقدمة تعرض الفيلم القادم ، وأحيانا جريدة مصر الناطقة التي نشاهد فيها حبيبنا " جمال عبد الناصر "، وصوت التعليق الحماسي المميز للفترة . وجبة دسمة من المتعة والمعرفة تملأنا بفرحة ممزوجة بالقلق ونحن عائدات بقلوب تقفز خوفا من غضب أمي لأننا تأخرنا ونحن نتسكع في طريق العودة يقاطع بعضنا بعضا وكل منا يحكي مشهدا أعجبه أو يعيد جملة حوار أثرت فينا.

أربعون عاما مضت، والآن ارتفعت بناية كبيرة نوعا مكان " سينما النصر بقويسنا " وأهملت " سينما " أمير " بطنطا ، ولم يفكر أحد في تجديدها. لم يعد الذهاب إلى السينما من تقاليد الأسر المصرية وأصبح أي فيلم يناقش قضايانا الهامة مثل " المراهقات " عملة نادرة ، وإن وجد تعرض صانعوه لهجوم  يصل أحيانا إلى ساحة المحاكم. لم نكن نغطي شعورنا بهذا الغطاء السخيف المسمى بالحجاب وكانت أمهاتنا تضع غلالة رقيقة من " الشيفون " الأسود فقط احتراما لسنهن، بينما نقص نحن شعرنا قصة " شادية " أو نتركه في تموجات مثل " ماجدة ".

القاهرة 9/10 /2002                                                          صفاء الليثى

·        نشر بمجلة سينما التى كانت تصدر من باريس لصاحبها قصى درويش. ورئيس التحرير وهو الذى اختار العنوان من المقال الذى كان يلمح للقضية التى رفعت على المخرجة إيناس الدغيدى بعد فيلمها " مذكرات مراهقة" بطولة هند صبرى وأحمد عز. 

ماجدة الصباحى نجمة ومنتجة لأفلام ساندت المرأة وتناولت مشاكلها وخاصة فى فيلمى " أين عمرى" والمراهقات(1962) للمخرج أحمد ضياء الدين. لم تأخد حقها ولم تكرم التكريم الذى يليق بدورها فى السينما المصرية ودعما للنساء.

No comments:

Post a Comment