Tuesday 30 September 2014

عفاريت الأسفلت وحارة التسعينيات



عفاريت الأسفلت وحارة التسعينيات
مصطفى ذكرى 
وسرد جديد غير منقطع مع التراث

يمثل " عفاريت الأسفلت " بالنسبة لى نموذجا لسينما ما بعد الحداثة لجمعها بين الكلاسيكى المتعارف عليه فى السينما المصرية مع مزجها بسرد مركب من صوت الراوى الذى يحكى لنا الفيلم وأصوات أبطاله المتعدده فى بوحهم بمكنون صدورهم للرفيق المحبوب، الآخر المختلف عن نصيبه وقدره الذى لا مفر منه. جمل الحوار المحمل بمعانى تتجاوز وظيفته المباشرة أهم الملامح التقليدية فى العمل الذى عرض عام 1996 من تأليف الأديب " مصطفى ذكرى" صاحب " جنة الشياطين الأكثر إغراقا فى التجريب على حساب التقليدى والمتعارف عليه. استمد " عفاريت الأسفلت" اسمه من حوار سيد بطل العمل وهو يدفع النقوط فى فرح زميله السائق " شرابين الحشيش على الريق،السواقين تيمان، عفاريت الأسفلت، ميت مليون مرة " فى الفرح أحد أعمدة المشهد السينمائى المصرى الذى لا يخلو فيلم منه. الفرح والمأتم ، عناوين رئيسة لمشاهد أساسية، ومعهما موقع البيت حيث تتجمع فيه الشخصيات وحارة تنفتح هنا على موقف الميكروباس.
يبدأ الفيلم بمشهد الصباح وفيه تقديم الشخصيات عند الاستيقاظ من النوم، الأسرة من ثلاثة أجيال حيث الرجال وجملة من الأب عبد الله/جميل راتب" أبويا قالى الدخان للرجالة واللى يحافظ على صحته يبقى راجل خسيس" هكذا يقدم مصطفى ذكرى رجال العائلة الابن سيد/ محمود حميده/ والأب عبد الله ، والجد محمد توفيق الممثل القدير فى أداء صامت رائع. أما المرأتين فهما تفيدة / عايدة عبد العزيز وانشراح/ سلوى خطاب بين اشباع الرغبة والحاجة إليها. نظرة ذكورية جدا من الكاتب والمخرج والأبطال للعالم حيث الرجال مهزومين ومرضى – وبرضه رجالة- ونساء عفيات قادرات Femme Fatale  على الطريقة الفرنسية. 

هذا التصور الشعبى عن (الستات الهايجة) الابنة والزوجة وتنضم اليهما بطة/منال عفيفى الجارة عشيقة الابن سيد وهى زوجة محمد / حسن حسنى الحلاق الذى يعشق تفيدة زوجة عبد الله وأم انشراح وسيد فى صمت. دوائر العلاقات المتشابكة تفضح ما يمكن التعبير عنه بالتواطؤ بين الشخصيات أو بالمسكوت عنه، بينما الظاهر علاقات رسمية غير مشبعة للجميع وأخرى تجرى فى عالم سرى بين الحلم والواقع. بين تصور شعبى مدعم بثقافة غربية غير منقطع الصلة مع أفلامنا القديمة الرائعة الى أسست ملامح لسينما مصرية عن مجتمع مصرى شديد الخصوصية، من عوالم الأفلام والقصص الشعبى والحكايات التراثية يقدم لنا الكاتب مصطفى ذكرى والمخرج أسامة فوزى عالم الشخصيات ومهنة سائقى الميكروباس فى فيلمهما الأكمل بعد جنة جنة الشياطين.

الأسطى سيد يبدأ يومه باختراق السكون فيقطع بمطواه غطاء عربة فاكهة سارقا برتقالة يقشرها ويلقى القشر خلفه وكأنه يبصق على العالم كطقس صباحى قبل استلامه العربة والطيران بها على أسفلت الشارع. يذكرنى تقديم الشخصية بتعبير سمعته من المونتير الراحل عادل منير عن " صياعة البلكونات" مصطفى ذكرى الذى لا أشك لحظة فى أنه يركب الميكروباس فى رحلة متكررة من حى حلوان الذى يقبع فيه حيث وسط البلد قلعة المثقفين الذين يعيشون صعلكة اختيارية تختلف عن صعلكة مفروضة على الأسطى سيد سائق الميكروباس وتوأم روحه رنجو/ عبد الله محمود. وبينما يختار المثقف /ذكرى وفوزى صعلكتهم لمعرفة العالم، يحاول الأسطى سيد الخروج من طبقته بملابس فاخرة يشتريها من وكالة البلح، تكون سببا فى انجذاب طالبة جامعية له فيصطحبها حيث يشترى لها ملابس فاخرة بأسعار زهيدة. لا يخبرنا فوزى ولا ذكرى عن مصير العلاقة بشكل واضح ولكنهما يتركان للمشاهد أن يدرك بنفسه استحالة أن يتزوج سيد من أمانى الجامعية وخاصة حين وضع شرطا أن يتوزج عادل أخوها من انشراح. محاولة الهروب من قدر طبقة عفاريت الأسفلت تبدو حلما مستحيلا وأملا بعيد المنال لا يمكن أن يتحقق حيث الواقع والشخصيات التى تعيش فى قذارة فُرضت عليهم واختاروها بعد يأس.
مثل هذه العلاقة كنت شاهدة على شبيهات لها عندما أهم بركوب المقعد المجاور للسائق فى ميكروباس يتحرك داخل العاصمة، فيطلب منى السائق الشاب العائق المستحم والنظيف أن أجلس فى الخلف وينتظر فتأتى فتاة جامعية جميلة يتهلل لها وتجلس بجواره هى وزميلة أخرى غالبا أقل جمالا كمحلل للعلاقة ومستفيدة منها أيضا. لا أعلم كيف تتطور العلاقة فى الواقع المعيش ولكن فى الفيلم يجعلها الكاتب مصطفى ذكرى تستغل السائق وتقيم معه علاقة فى مقابل مشوار وكالة البلح وركوب العربة دون دفع الأجرة غالبا. حكم قاس من الكاتب على فتيات من طبقته الاجتماعية بقدر من التناول الذى يتجاوز الواقعية إلى المذهب الطبيعى الذى يقدم الشخصيات بكل فجاجتها دون أى تجميل وأيضا بدون ميلودراما ولا أى قدر من الرومانسية، هناك علاقة مصلحة واشتهاء من جانب الفتاة وومن جانب الأسطى سيد تطلع لحياة تبدو أجمل على السطح فقط كما يعبر عنها صناع الفيلم.
سيمضى الفيلم بين بيت الأسرة وموقف الميكروباس ومقهى السواقين فقط فى عوالم أبطاله "عفاريت الأسفلت" ووكالة البلح . فقط شرفة أمانى الفتاة الجامعية حين يذهب إليها باقتراح زواج البدل بينه وأخته وبين أمانى وأخيها عادل. هذا الاقتراح الذى تقابله الفتاة باستهانة ودون غضب أيضا. السماء تحمل ملامحها الطبقية النمطية، سيد وعادل، امانى وانشراح.
ما حيرنى عند المشاهدة الأولى للفيلم كانت شخصية الحلاق محمد/ حسن حسنى الذى يحكى لزبائنه قصصا من ألف ليلة وليلة عن هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكى. وخاصة أنه لا توجد علاقة مباشرة بين ما اختاره مصطفى ذكرى من حكايات وبين أحداث فيلمنا ، إذا جاز أن نطلق على السرد وما فيه من علاقات بالحدث. فلا يوجد حدث بالمعنى المفهوم بل تجرى أمور حياتية يومية للشخصيات الثانوية حيث يتزوج سائق ما ويموت الجد وتمضى الحياة فى مشاهد تنتهى بالحلاق يحكى حكاية طويلة يستمع إليها كل أبطال العمل وهم يتناولون العشاء رحمة على المرحوم الجد، وكل منهم يسرح فى خيال خاص به حالما بالحبيبة التى تمناها لنعود إلى ثنائيات للعشاق فى تبديل مختلف عن واقعهم الذى يهربون منه على خلفية موسيقى راجح داوود التى تدعم خيالهم المرتبط بحكايات ألف ليلة وليلة. فكرة رفض بيع بيت العائلة شديدة التقليدية ممتزجة مع مشاهد بديعة من لقطة واحدة طويلة جدا للحكاء محمد الحلاق وقد حوله خيال الكاتب من كراهية لنمط الحلاق الثرثار الذى يصدع زبائنه بحكايات مملة إلى العكس تماما مع شخصية ساحرة تحكى حكايات مدهشة بينما يقتلها الشوق إلى تفيدة ست الستات غير منتبه إلى خيانة زوجته الشابة له مع ابن تفيدة. تراوح مصطفى زكرى بين التقليدى والحداثى يخلق فيلما شديد التميز منفتح على قراءات عدة لكل مشاهد حسب مرجعايته وحسب حالته الآنية. فى قراءتى الجديدة له بعد مرور ما يزيد عن خمسة عشر عاما أجده واحدا من أهم أفلام السينما المصرية منبثق عنها ومنطلقا إلى آفاق أرحب تكسر الأنماط الجاهزة وتعيد خلقها من جديد.
نشر المقال بموقع الكتابة الأحد 28 سبتمبر 2014 فى ملف عن الكاتب مصطفى ذكرى

Wednesday 24 September 2014

العصفور فى زاوية



العصفور

والفساد الذى مازال مانعا للنصر

تواصل ماريان خورى عروضها المختلفة فى زاوية والتى تعوض عدم وجود أرشيف قومى للسينما " سينماتك" ومكتبة سينمائية تعرض كلاسيكيات الأفلام كما هو متاح فى كل بلدان العالم. كنا ننتظر بدأ العرض وحكى لى الناقد الشاب فتحى أمين عن سينماتيك السويد –بلده الثانى بعد زواجه من سيدة سويدية – لم يكن هناك وجه للمقارنة مع حالتنا المصرية التى تخلت فيها الحكومات المتعاقبة عن دورها فى أغلب المجالات ، وعزاؤنا هذه المبادرات الفردية هنا وهناك للتعويض.

فيلم " العصفور" الذى مضى على عرضه أربعون عاما بالتقريب ، اذ عرض 26 أغسطس 1974 بعد عامين من إنتاجه وبعد انتصار أكتوبر فى 1973 . فهل أدركت السلطة وقتها أن الفيلم لم يكن ضد ثورة يوليو ورجالها ولا ضد عبد الناصر، بل يلقى أسباب الهزيمة على مافيا الفساد التى تتخذ من شقى الصعيد " أبو خطوة" ستارا لتغطية جريمتها الكبرى بسرقة المال العام وتحويله لصالح القطاع الخاص المستغل. لطفى الخولى اليسارى الذى نجح عبد الناصر فى ضمه إلى التنظيم الطليعى –حظيرة عبد الناصر لليسار المصرى- كتب السيناريو ومعه يوسف شاهين مدافعين عن عبد الناصر وشارحين لأسباب الهزيمة نتيجة الفساد. فى الجزء النهائى من الفيلم تصرخ بهية رافضة تنحى عبد الناصر، بهية محسنة توفيق التى جعلاها لطفى الخولى ويوسف شاهين رمزا لمصر . تصرخ لا وهنحارب ويصرخ الشعب بكل طوائفه لا .. وفى الشارع تكون سيارات أبو خطوة فى موكب يزاحم الرافضين للهزيمة ومجبرهم على التنحى جانبا ليخترق الفساد صفوف الجماهير.  مشهد مازال معروضا فى مصر المحروسة حتى بعد مرور سنوات على ثورته الجديدة فى 25 يناير 2011 .

شاهدت الفيلم وقد أوشكت على التخرج من معهد السينما ونسيت كل ما به من سياسة مباشرة، وبقيت معى مشاهد حميمة بين سيف ضابط البوليس الشاب وفاطمة ابنة بهية، بقيت معى دمعة رجاء حسين ترجو الشيخ على أن يحيا لها ويترك تاره مع أبو خطوة، بقيت معى نظرة بهية، محسنة توفيق تلك الرائعة الأرملة المحبة فى الأربعين تعشق يوسف الصحفى المناضل عشقا موصولا بعشق الوطن والرغبة فى الانتصار، عشقا موصولا برفض الهزيمة والتعلق بحلم لا ينهزم. بقيت معى نظرة مريم فخر الدين تستعطف رؤوف الابن ليسامح خيانتها لوالده. العصفور بعد 40 سنة ما زال محتفظا برونق السينما الجميلة التى تربط الخاص بالعام والتى تقدم سردا مختلفا يتداخل فيه الذاكرة مع الواقع، وتتشابك فيه شخصيات معبرة عن طوائف الشعب بنماذجه الطيبة والفاسدة . الحالمة والشريرة غير العابئة بانكسار الحلم. 

صالة زاوية ممتلئة بشباب وفتيات لم يعشن المرحلة، غالبا وجدوا الفيلم متواضع المستوى الفنى مقارنة بما حدث للسينما من تقدم، لم أشعر بتعاطفهم مع الحدث العام ، ولكنهم أحبوا وتفهموا مشاعر الشخصيات التى عبر عنها ممثلين بارعين، ليسوا نجوما للشباك ولكنهم امتلكوا روح الشخصية وعبروا عنها بجمال آسر. للمثل على الشريف مشاهد فائقة شديدة الجمال مرة مع بهية محسنة توفيق الحبيبة والرمز، ومرة مع رؤوف والطفل،
ومرة ثالثة مع كل شخصيات العمل الذين اجتمعوا فى مقهى محملين بالرغبة فى الحتفال بالنصر. محمود المليجى ، محسنة توفيق، على الشريف، صلاح قابيل ، سيف عبد الرحمن وجلاديس اللبنانية فى دور فاطمة – حبيبة كاسم فنى اختاره لها يوسف شاهين. الأبطال فى كادر مزدحم متوسط ملتحمين ومنتظرين أن يتحقق النصر.

فى المقعد المجاور فى دار العرض كان قاضى شاب محب للسينما ، تجاذبنا أطراف الحديث حول السينما قديما وحديثا قبل عرض " العصفور" وازداد احترامى لأفلام مصر العالمية ورثة شاهين لتقديمهم خدمة ثقافية يحتاجها مثل هذا المصرى الذى أكد لى أنه حضر أسبوع أفلام يوسف شاهين رغم توفرها بجودة عالية على اليوتيوب ، رغبة فى التمتع بنسخة عرض على شريط سينمائى، وتمنى لو كان ما يعرض من أفلام من النوادر غير المتوفرة على الشبكة الدولية. بعد انتهاء العرض كانت دموعى الحبيسة مانعة لى لمواصلة الحديث معه. وتأملت الصالة والشباب المتواجدين، ولاحظت للأسف أنهم نفس " الجيتو" من شباب وسط البلد المتابعين للعروض الخاصة وليسوا من الجمهور العادى الذى تجذبه السينما الشعبية المصرية. أقول للأسف لا يذهب دعم ماريان خورى للسينما المختلفة لمستحقيه، وتبقى السينما وجمهورها منقسمة بين الصفوة وذوقهم الخاص، وبين العامة برغبتهم فى التسلية.

مع أول فيلم أحضره فى زاوية وهو الفيلم السعودى للمخرجة هيفاء المنصور وبين العصفور يبقى حلمى باندماج نوعى السينما التى أتراوح بينها ، وما زلت أحلم بأن نحقق سينما جميلة قادرة على الوصول للجميع. 
نشر بصفحة السينما اشراف حسام حافظ  
بجريدة الجمهورية الأربعاء 24 سبتمبر 2014 


Wednesday 23 July 2014

جزيرة الأقباط لأحمد رشوان




 وكيف تحكى الثورة 
من وجهة نظر مسيحية
تسمع عن فيلم للمخرج أحمد رشوان
وتعرف عن عنوانه " جزيرة الأقباط" فتتهيأ لمشاهدة فيلم عن القرصاية وتلك الجزيرة التى تقع فى جزيرة بالنيل أغلب سكانها من فقراء المسيحيين، ولكن ها نحن مع جورج فوزى فى جورجيا الجميلة ومع مسيحى آخر وأسرته يحكون عن تجربة الهجرة إلى جورجيا ، الهجرة التى دفعهم إليها وصول الإخوان المسلمين إلى حكم مصر، دقائق مع سفر الخروج الذى وصف به أحمد رشوان هذا الجزء من عمله التسجيلى الطويل بعد "مولود فى 25 يناير" عن الثورة المصرية التى بدأت فى 25 يناير 2011 . ينتقل رشوان إلى السفر الثانى والثالث وتتعدد الأسفار لنجد أن فكرة الهجرة قد تراجعت واندمجنا مع توثيق تأريخى لمحطات فى أحداث الثورة تتركز على العلاقة بالمسيحيين فى مصر. السيدة صابرين فخرى وأسرتها فى الإسكندرية والمغنية الشابة كرستين مجدى لا توافقان على فكرة الهجرة وتشعران بأن " دى بلدى" ولن أتركها، بينما منى مكرم التى وجدت أنه آن الأوان بعد وصول الطفل وبعد استلام الإخوان الحكم ويؤكد زوجها حرصهما على أهمية أن تكون لديهم جنسية أخرى. 
كاميرا رشوان تنتقل بنا بين الأماكن والشخوص، فمن حدائق فى جورجيا وكنيسة هناك، إلى زحام القاهرة وكنيسة بها ، لا أنجح فى الاندماج وتثور داخلى مقارنات خاصة بالهدوء هناك والزحام هنا، بالخضرة هناك وزحام المبانى هنا، أفكر هل لا يفكر المصريون جميعا فى الهجرة؟ ألا تدفعنا المقارنة إلى التفكير بالخروج ؟ يدخلنا الفيلم مع الشهيد مينا دانيال وأخته مارى دانيال فى فيلم آخر عن الثورة وأخطاء المرحلة الانتقالية بعد مبارك، محطات كثيرة يصحب فيها المخرج شخصياته فى قلب أحداث نعرفها، بعض الوثائق النادرة تثير شجوننا وتؤكد أن شركاء الوطن لا يختلفون فى التمسك بحلم التغيير وفى التضحية من أجل الوطن. أبقى منتظرة أن يعود الفيلم للمسألة التى بدأ منها، الهجرة نتيجة التمييز والشعور بصعوبات الحياة، وتأتى العودة متأخرة وغير حاسمة ليس فى الفيلم فقط ولكن مع الشخصيات نفسها ، فها هو جورج بين جورجيا ومصر، ومنى مكرم مخرجة الأفلام بين استراليا ومصر وكمال ينتظر "لما مصر تبقى حلوة" ، ولماذا لا تأتى يا كمال لتسهم فى جعلها حلوة!

بالطبع لا يمكن محاكمة شخصيات العمل، ولكننا رغما عنا نجد أننا نتعاطف مع البعض ونتفهم قضيته دون البعض الآخر. نفرح بتماسك مارى دانيال وقوتها بعد استشهاد أخاها الذى تصفه بأنه ابنها وصديقها وزميل نضالها، ونفرح بكريستين وصابرين ومشاركتهم فى ثورة 30 يونيو وتوقيع استمارات تمرد. نتفهم أزمة فقد الأب بابا شنودة الذى كان جمال عبد الناصر شعب الأقباط وجنازته تشبه جنازة ناصر كما يصفها لنا الباحث فى الشئون القبطية سليمان شفيق، وكان وجوده هاما لتوضيح بعض الحقائق مستندا إلى دراساته العلمية.

يبقى " جزيرة الأقباط" عملا تلفزيونيا أقرب إلى تحليل لأخبار نعرفها من شرائط الأخبار ، توقعت له أن يغوص فى مشكلة الهجرة وأن يعود بها لسنوات سابقة ولكن نداهة الثورة قد دعت رشوان ووجد نفسه غارقا فى أمواج الثورة التى بدأت ولم تنتهى بعد.

ويبقى العمل الذى أنتجته قناة العربية وأنجزه المخرج أحمد رشوان فى 85 ق إضافة هامة للسينما التسجيلية التى تواصل دورها فى خدمة المجتمعات العربية وتحاول سبر أغوارهم.    
 صفاء الليثى شاهدته بعرضه الأول فى مصر بمركز الإبداع بالقاهرة

Friday 27 June 2014

الأفلام العربية التسجيلية بالإسماعيلية 17



أرق Guardians of the lost 
  وحبيبى بيستنانى عند البحر
شارك بالدورة 17 من مهرجان الإسماعيلية  فيلمين عربيين أولهما أرق للمخرجة اللبنانية ديالا قشمر و"حبيبى بيستنانى عند البحر" للأردنية ميس دروزة. " أرق" عن شباب يعرفون بالزعران يسكنون حى اللجا الفقير ببيروت. 

يدينون بالولاء للسيد (حسن نصر الله) ويعشقون أغنيات أبو وديع( جورج وسوف) ، الفيلم محاولة جيدة للاقتراب منهم وسبر أغوارهم، لولا الإطالة وافتقاد البناء فى الفيلم الذى قارب الساعتين، وحالة من الانبهار بالذكورية الفجة لهؤلاء الزعران الذين ظهروا كنجوم السينما بشعور مدهونة بالفازلين وبملابس تصلح عرضا للأزياء. ونسمعهم يتفاخرون :" في لبنان على الشاب أن يمتلك إمّا المال أو القوّة. نحن نمتلك القوة" يثير تفاخرهم إعجاب البعض منا وشفقة البعض الآخر، كل حسب رؤيته، اختارت قشمر لهم مقهى على رصيف مبلط أمامه محل لبيع الورود، رتبت كل شيء، فلم يظهر فقر الحى ولا ساكنيه، حاورتهم بالساعات وخلفهم يظهر ملصق شيعى، وحين وصلنا إلى ما يشبه النهاية مع سؤالها عما يتوقعون أن يكونوا عليه بعد عشر سنوات كانت إجابتهم ستجديننا هنا على نفس الكرسى. انتقلت بعد ذلك لمشاهد أخرى ولكنها عادت لتجلسهم فى نفس المكان بعد أن برد الحوار ولم يضف جديدا. 
شهوة الكلام أفسدت الفيلم الذى يعكس طموح مخرجته ووضوح قلة خبرتها فى استخلاص ما يمكن أن يصاغ منه فيلم عن شباب عربى عاش جل حياته فى مناخ الحرب الأهلية. حين ابتعدت بهم فى الطريق إلى مناسبة للشيعة سمعنا أغنية من مسجل السيارة تصاعد معه غناؤهم بصبيانية وحماس طفولى وكان أكثر نجاحا فى التعبير عن شخصيتهم من مشاهد الحوارات المطولة التى تباهوا فيها بفحولتهم ، وحين ابتعدت عن المقهى لتصحب أحدهم فى ضوء نهار ساطع ظهر على حقيقته شابا ضخما أسنانه مهشمة- قد تكون من معركة ما- يحكى عن معاناته كشيعى وحيد فى حى سنى. نعم لمحات جيدة متناثرة هنا وهناك، ولكن ماذا بعد؟ الفيلم حصل على منحة إنتاج وفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة "المهر العربي للأفلام الوثائقية" في "مهرجان دبي السينمائي الدولي"2013، وخرج من جوائز الإسماعيلية 2014، منتديات الإنتاج صارت ملازمة للمهرجانات، هذا العام بالإسماعيلية فاز فى منتدى الإنتاج العربى المشترك فى دورته الثانية فاز فيلم " الاسماك تقتل مرتين " للمخرج المصرى أحمد فوزى صالح  صاحب فيلم "جلد حى" الذى فاز بجوائز عديدة  و فيلم " حروب ميغيل " للمخرجة اللبنانية اليان الراهب وهى أيضا حاصدة للعديد من الجوائز ، وحصل فيلم " الرقص مع الرصاصة " على المركز الثالت وهو من اخراج  العراقى ضياء خالد جودة. وهذا المنتدى من الإضافات الهامة للمنتج محمد حفظى لمهرجان الإسماعيلية  ويعقد ضمن فعالياته تكونت لجنة التحكيم  للدورة الثانية له من جاد أبى خليل رئيسا، وعضوية كل من ايريت نيدهارت و تهانى راشد. يحمل أرق عنوانا بالإنجليزية ترجمته " حراس الزمن الضائع" لا أفهم لماذا وأى زمن ضائع يحرسه هؤلاء الزعران. شاهدنا فيلما عن الجنوب وشيعته للمخرج الفلسطينى نزار حسن اقترب فيه بدرجة أعمق من شيعة لبنان وحصل عنه على جائزة كبرى بدورة سابقة من المهرجان. 

حبيبى بيستنانى عند البحر" فيلم عربى أخر حاز جائزة لجنة التحكيم من اللجنة الرسمية التى ضمت المخرجة المصرية الشابة هالة لطفى، وكان من المقرر أن يرأسها المخرج السورى محمد ملص ولكن السلطات المصرية لم تمنحه تأشيرة الدخول رغم تواجده السابق فى زاوية ماريان خورى التى كرمته وعرضت أفلامه.

قدمت ميس دروزة فى فيلمها بناء دائريا بدأته بسؤال أمها عن البحر، ثم تتبعت كتاب الفنان الفلسطينى الراحل حسن حورانى حسن فى كل مكان، ورسمت هى بالفحم وأدخلتنا عالمها الملئ بالأمنيات والتساؤلات. وعادت لتقدم لقاءات اعتدناها فى كل الأفلام عن قضية فلسطين وعن شعبها، عدة لقاءات موفقة ولكنها - كما مخرجة أرق-  لم تقتنص لحظة القطع المناسبة لتنهى مشاهدها وتنتقل بالفيلم إلى آخر. فها هم الشبان الثلاثة يحكون عن معاناتهم، اثنان منهما حديثهما شيق والثالث يبتسم فقط، المشهد كان مصورا فى لقطة واحدة متصلة ولكنها قطعته لتجعل المبتسم يحكى ، فلا يقدر. توقعت أن تنهى مشهدها عند جملة قوية لمن يجيد الحكى وتنهى بابتسامة الثالث فتكون خير تعليق فقد كانت ابتسامة مريرة تؤمن على كلام صديقيه وتعكس معنى أنه لا فائدة. ولكنها أصرت على استجوابه علها تخرج منه بحديث، تغرى المادة المصورة بغزارة مع تقنيات المونتاج فلا يكتفى المخرج أثناء التصوير، ويكون عليه أن ينتقى بمعيارمن  ذهب، وظهر بوضوح عدم القدرة على الانتقاء فى مشهد بدأته بحميمية مع الفلسطينى الذى يداعب طفلته ثم حوارها مع الزوجة نصف الكندية التى كانت تبحث عن كلماتها بالعربية وحين وصلت إلى ذروة واستنتاج فى حديثها، أكملت المشهد وكأنها تبدأ حديثها من جديد. وجدتنى أعيد بناء المشهد أثناء المشاهدة وأقترح تقديما وتأخيرا داخل عقلى أثناء المشاهدة،وهو دور المخرج الذى عليه أن يقوم به فى المونتاج أهم مراحل الفيلم التسجيلى  قاطبة، وفيها يمكن إعادة بناء ما تم تصويره فلا نشهد عدة نهايات فى الفيلم بل تأتى النهاية فى لحظة نكون كمشاهدين قد اكتفينا ووصلتنا الرسالة التى يريدها صانع الفيلم. 
بالطبع عادت دروزة إلى البحر مع لقاءات لشخصيات جديدة غير التى صحبتنا طوال الفيلم ووصلت لما تريده من التعبير عن ضياع فلسطين التى لم يعد لها منفذ على البحر حيث ينتظرها كل الأحبة الراحلين دون أن يتحقق حلمهم بالعودة إلى فلسطين وبحرها . تظهر المخرجة بجوار سور التقسيم العنصرى تروح وتجئ محاولة أن تفتح فرجة فى الجدار الأسمنتى الذى سيسقط حتما مهما طالت السنين.  

نافس فيلم دروزة على جائزة المهر العربي للأفلام الوثائقية ضمن الدورة العاشرة من مهرجان دبي السينمائي الدولي في ديسمبر ٢٠١٣، ولم يحصل عليها بل حصل عليها فيلم قشمر الذى خرج من جوائز الإسماعيلية وهكذا تتغير وجهات نظر اللجان ويختلف التلقى من مكان إلى آخر ولهذا تقام المهرجانات وتختلف جوائزها وتتنوع ردود الأفعال بخصوصها. 
نشر بجريدة الجمهورية الأربعاء 24 يونيو 2014 بصفحة السينما إشراف حسام حافظ