سينما ترسو
صفاء
الليثى
(العنف على الطريقة المصرية)
من وحش الشاشة إلى نجمة الجماهير
بينما كان الفيلم معروضا فى سينما النصر الصيفية بمدينة قويسنا كان هناك
فيلما واقعيا يدور بين مشجعى فريد شوقى الملك، وبين الشرير المطلق محمود المليجى
فى مقاعد الترسو المواجهة للشاشة حيث يجلس
رواد السينما من ذوى الجلاليب الآتين من الكفور والنجوع لحضور العرض المستمر من الاثنين
حتى الخميس بعدها يرفع ليعرض بدلا منه " فيلم اجتماعى جبار" وهو غالبا
من الرومانسيات الخالدة التى تفضلها العائلات. كنت أراقب المشهد من جلستى فى
الشرفة المخصصة للسيدات حيث ( أماكن خاصة للسيدات) فى دور علوى يطل على المشهد
كاملا حيث مجموعة من البناوير كانت تسمى كرسى لوج وكان الأغلى حيث التذكرة بسبعة قروش كاملة، ويضم خمسة مقاعد كان أخى يجلس بها
مع زملاء الثانوية بمدرسة المساعى المشكورة بقويسنا . أما الترسو فكان بقرشين، دكك
خشبية متصلة تبدأ بعد اللوج حتى ثلاثة أمتار من شاشة العرض السينمائى المنطلق من
كابينة عرض تذيع أغنية واحدة دائمة قبل العرض بساعة يتم فيها تسخين الماكينة التى
يعمل موتورها بالفحم كما القطار.
ينحاز المتفرجون لفريد شوقى الذى يُنظر إليه على أنه ( فتوة الناس الغلابة)
الذى تعرض لظلم أو إهانة فيتحول إلى وحش كاسر يقهر جلاديه، لم يولد شريرا كما
محمود المليجى الذى تعبر ملامحه عن شر ينطلق من عينيه الثعبانيتين، بل هو رجل يسعى
فى الحصول على لقمة العيش وحين يهان تخرج طاقة عنف من داخله ويسيطر على ظالميه. مع
الفتوة انطلق نجم فريد شوقى ليس كسنيد للبطل النحنوح أو كعضو فى عصابة الشر، بل
كبطل أول لا ينازعه سوى شرير ولد ليظلم غيره
مثل زكى رستم ، أو محمود المليجى. وحين يفكر فى الإنتاج يقدم مع شركته
" أفلام العهد الجديد" رائعة نيازى مصطفى "رصيف نمرة خمسة"
الذى يحقق أرقاما قياسية فى الإيرادات ، ويستمر وحش الشاشة ومنافسه شرير الشاشة فى
بطولات تشعل الترسو المنقسم الآن إلى فريقين يتبارزان بالعصى ويكملان لوحة شعبية
لهذا النوع من الفن الجديد، السينما الشعبية المصرية التى حققها جيل الرواد فى
سينما بدأت بعد العالم بقليل ونجحت فى التعبير عن واقع يعيشه المصريون يقدم فى
توليفة تستحق أن تدرج فى القواميس " فيلم مصرى" تحمل خصائص محلية فى نطاق كل من ينطق باللغة
العربية، تتواتر فيها مشاهد فائقة مصرت
مثيلا لها فى السينما الأمريكية الأم وهى مشاهد قلما يخلو منها فيلم مصرى، مشهد
الخمارة أو المقهى البلدى، مشهد الفرح ، حفل الزفاف الذى يجمع كل أبطال الفيلم
وتتفجر الصراعات الدرامية خلاله ، يضاف لهذين الموقعين الحارة نفسها ، وكر العصابة،
قسم البوليس وعدد من منازل أبطال الفيلم. بتباديل وتوافيق تجرى الأحداث الدرامية
فى مواقع الفيلم حيث معارك بالمقهى ورقص وغناء أيضا وأولا ، تحدث مفارقات درامية
وتتكشف الحقائق فى خيمة الفرح حيث الرقص والغناء والمعارك التى غالبا ما تنهى
الفرح بتحطيم الكراسى، وينفض المولد ولا يتم الفرح غالبا فى أفلام الأكشن المصرى،
أو يتم فى أفلام الرومانسية الاجتماعية .
مع ملك الترسو سيكون الفرح مفصلا لإعلان المنتصر فى الصراع وتدشين معلم
جديد وكبير جديد للمنطقة، ومع ملوك الرومانسية ستحدث النهاية السعيدة ويقبل علينا
العروسين وتنزل على الصورة كلمة النهاية.
أتوقف بعد هذا المدخل عند ملك الترسو وأفلامه التى تحمل فكرة واحدة عن
المظلوم الذى حوله المجتمع وقوانين السوق الى مجرم ( جعلونى مجرما) عنوان أحد
أفلام الملك ووصف للنمط الذى يقدمه فريد شوقى بتنويعات تختلف حسب المخرج والمؤلف ،
تنويعات مع "الفتوة" و"
الأسطى حسن" ، و" مجرم فى أجازة" وكلها من إخراج صلاح أبو سيف ،
الذى يصبغ القالب الفنى بانحيازه للغلابة وتحليله للنسيج الاجتماعى المحيط
بالشخصيات. ونقارن مع أفلام تسعينية حاولت
المضى على الطريق ولكن طبيعة الإنتاج تسيطر وتبدل العناصر الثابتة ، فتجعل البطولة لامرأة ممثلة ويتم تناول سطحى
للصراع كما فى فيلم " شادر السمك" ويتركز فقط حول طمع الذكور فى الأنثى
الفاتنة التى تمثلها نجمة مصر الأولى (نبيلة عبيد) ، ويتم استبدال وحش الشاشة
الرجل القوى معبود الجماهير بالمرأة القادرة نجمة الجماهير نادية الجندى قاهرة
الرجال المحققة لأعلى الإيرادات فى زمانها. من فريد شوقى إلى نادية الجندى ومنهما
إلى أحمد زكى وكريم عبد العزيز والسقا ومحمد رمضان تحولات جرت وأمواج تحركت فى بحر
السينما المصرية التى احتفظت بتعريف أنها الصناعة
السينمائية الوحيدة فى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ومازالت رغم التراجع –كما
وكيفا- الأولى صناعيا والتى تحقق نجاحا مع الجماهير الناطقة بالعربية .
بالعودة إلى بداية أفلام الفتوات مع فيلم " نيازى مصطفى" فتوات
الحسينية " 1954 فيه يخلع فريد شوقى البدلة والطبقة التى ظهر عليها فى
الأفلام الأولى فى أدوار ثانية مع أنور وجدى مثلا، ليصبح واحدا من الشعب المظلوم
وقد قرر أن ينتقم من ظالميه ، هذه التيمة مع الأجواء المقدمة فى العاصمة حيث
الحارة والخمارة، وفي الإسكندرية حيث الملاحات والميناء والخمارة كذلك كما أبو
حديد 1958 ، القصة دائما لفريد شوقى ويبدأ فى دخول مجال الإنتاج بأفلام "
العهد الجديد" بعد الثورة مع زوجته هدى سلطان ومازال اسمها يسبق اسمه فى
عناوين الأفلام ويختلف هذا مع المنتج محمود المليجى فى " سوق السلاح"، أو مع رمسيس نجيب
في " أبو حديد "، عندما تزداد شعبية الملك ليصبح ملك الترسو بلا منازع
يسبق اسمه الجميع ويكتب قبل عنوان الفيلم.
التوليفة في قالب واحد (باترون) تتغير مفرداته، ودائما ينتهى الفيلم نهاية
سعيدة بعودة الحق لأصحابه، أما عندما تجنح الفكرة نحو " جعلونى
مجرما" كما فى " الفتوة" أو " سلطان" يتحول فيها البطل الذى
ظلم منذ طفولته إلى مجرم نتيجة قسوة الأهل والمجتمع والبيئة التى نشأ فيها.
وحش الشاشة هو من يكتب القصة غالبا ويصيغها كل مخرج مع فريق عمل يكتبون
مباشرة للسينما دون الاعتماد على رواية مؤلفة ، فقط خطوط لقصة ألفها الممثل الذى
خلق لنفسه الشخصية بملامحها المحببة للقطاع العريض من الجماهير التى ترى فى الانتقام
تحقيقا للعدل وعودة الحق إلى أصحابه. ويجد فيها صناع الفيلم مادة ثرية للصراع
الدرامى . تنويعات الفكرة مع كل منتج وكل مخرج دائما مشوقة ممتعة هادفة ، سينما
مصرية أصلها صناعها وراء الكاميرا وأمامها، سينما أفتقدها الآن مع انفراد شخص واحد
بكتابة القصة والسيناريو والحوار كما أفتقد وجود ممثلين على درجة وعى العملاق فريد
شوقى خريج المعهد العالى للفنون المسرحية دفعة 1953 ومعه فاتن حمامة سيدة الشاشة
العربية بلا منازع. ولها معنا حديث طويل في نوع آخر من أفلام سينما ترسو.
قرأنا كثيرا عن ارتباط نجيب محفوظ بالمخرج صلاح أبو سيف ولم نقرأ عن عمله
مع نيازى مصطفى الذى بدأ معه فيلم " فتوات الحسينية" 1954 ومعهما كاتب
الحوار السيد بدير وأتصور أن الكتابة كانت تتم بدفع فريد شوقى بقصته التى تتحمس لها
الزوجة رفيقة الفن فينتج لهما الأخ المحب الفيلم ويتم اختيار المخرج الذى يكون
فريق عمله معتمدا على نجيب محفوظ البناء العظيم كما وصفه صلاح أبو سيف " نجيب
محفوظ يقيم الأسمنت المسلح فى عمارة الفيلم" حيث يقيم أساس الدراما
والسرد الذى يبنى فوقه المخرج بعدما يسكن الأبطال كل فى دوره ويقوم السيد بدير
بمنح الشخصية شكلها الخارجى بجمله الحوارية الدالة على دواخل نفسيتها . البناء
الدرامى للفيلم يبدأ بالمشهد الافتتاحى حيث يعانى الفتوة العجوز من سكرات الموت
فيحكى لابنه ما كان ممن غدروا به فى حيه القديم وكيف استولوا على بيته وعليه مجسم
لتمساح رابض يحرسه ، يموت الأب وتقترب الكاميرا من البطل وقد توعد أن يعيد حق أبيه
مصطحبا أخيه الأصغر . على غرار أفلام الغرب الأمريكى البطل العائد وفى الطريق مشهد
يقدم شخصيته حيث ينقذ سيدتين معهما مسن من لص وتكون السيدة هى البطلة هدى سلطان
العالمة الجميلة التى يتعلق بها من اللقاء الأول وبعد وصولهما الحارة الشهيرة يلمح
الأخ الأصغر التمساح على البيت والمعلمة، وتسمع أصوات الزفة مصاحبة لعودة جعلص /
محمود المليجى من السجن، عناصر الصراع تجمعت فى المكان هنا العائد القادم للانتقام
وفتوات المكان الأشرار والعالمة التى ستغنى وعندما يصعد لها جعلص تنهى البروفة
ويظهر كم الانزعاج منه ومن بلطجته. عناصر الفيلم ستبقى هى هى فى كل أفلام هذا
النوع من الأكشن المصرى عن الحارة بسكانها ونسيجهم من الطيبين من الحرفيين ومن
يفرض سطوته عليهم ويتحصل على الإتاوات عنوة، وغالبا سيدور صراع بين فتوة لايرحم
وآخر يمارس المهنة أيضا ولكن بقدر من التراحم يميز بأفعاله بين من يمكنه الدفع
وبين الغلبان غير القادر على ذلك. تُسكن السينما المصرية ممثليها فى أدوار لا
تتغير ، فيبقى فريد شوقى ( الفتوة الجدع صاحب الحق) ويبقى محمود المليجى ( البلطجى
الشرير مغتصب الحق ) وبين الفتونة والبلطجة شعرة طفيفة يرسمها الكاتب والمخرج
والممثل وينحاز إليها المشاهد ويتفهمها ، يتوحد مع بطله الطيب ، ولكنه أيضا لا
يكره الشرير بل يعجب بقوته وينتظر صابرا لحظة الانتصار عليه . فى هذا النوع من
الأفلام مسرح للأحداث ومشاهد فائقة لا تتغير يؤسس لها كل المخرج مع مهندس الديكور
ومختص بالمعارك ، حيث يكون الغناء والخناق ، الجد والفكاهة ، وصراع ينتصر فيه الشر
غالبا فى البداية أو يتعادل الطرفان حتى نصل للمعركة الفاصلة التى ينتصر فيها
البطل وتنهال صيحات الجمهور العاشق لبطله الذى نصبه ملكا وقد انتصر على ظالميه.
قام نيازى مصطفى بتمصير بار أفلام الغرب بكل تفاصيله ومنها حجرة العالمة ،
الراقصة/ المطربة، فى الدور العلوى للخمارة حيث يصعد إليها الرجل الكبير زعيم
العصابة ، هل هناك ما يؤكد وجود مثل هذه الخمارة فى أحياء العاصمة المصرية ؟ على
الأرجح فهذا محض بناء سينمائى (شغل سيما) من دقة تصويره وتواتره فى الأفلام خلق
تصورا بأن هذا واقع الحياة فى مصر فى بداية القرن التاسع عشر وما بعده. حققت هذه
الأفلام واقعا بديلا للواقع الذى يعيشه المصريون واقتنعوا أن هناك مواطنين لهم
يعيشون هكذا ، ويتصارعون هكذا ، ويتكسبون عيشهم من مهن كهذه، البلطجة والفتونة
للرجال، ومهنة العوالم للنساء وأشباه الرجال من العازفين وأحيانا المنشدين
والمطربين.
أما عن لغة الحوار والأسماء التى يختارها الكتاب لأبطالهم فحدث ولا حرج
فالشرير " جعلص" والطيب " زقلط" والمعلمة " شطة " وبيومى
العائد بعصاية زقلط التى سيتعرف عليها أهل الحته، يصرع المعلمة كما يليق بالرجال فور وصوله " الراجل غلب
الست من غير ما يمد ايده عليها " ، وننتقل إلى " زبيدة العالمة "
ومشهد قُبلة للمنتصر منقول من مشاهد أجنبية يتقبله المشاهدون وأغلبهم لا يعرفون
هذا النوع من الخمارات، هم لا يعرفونه، ولكنهم يصدقون وجوده فى مكان ما بعيد عنهم،
تمنحهم السينما متعة التواجد على مدى ساعتين فى جو من السلطنة والفتونة
والمتعة التى يؤججها الصراع عل المرأة
الجميلة " زنوبة العالمة" وهذا الصراع سيطوره المخرج الاشتراكى صلاح أبو
سيف فى فيلمه "الفتوة "بعد "فتوات الحسينية" بثلاث سنوات ومع
نفس فريق الكتابة، البناء نجيب محفوظ وكاتب المحسنات البديعية بالحوار العظيم
السيد بدير، ويكون الفيلم وثيقة تحليل
اجتماعى لقوانين السوق فى المجتمعات الرأسمالية المبينة على فائض القيمة فيعلى أبو
سيف من موضوع الفيلم مع الاحتفاظ بعناصر التشويق وصراع الخير والشر وتعاطف من
المرأة التى تكون ندا للرجل وسندا له وليست غازية أو عالمة مكسورة الجناح . فى
الفتوة تكون تحية كاريوكا المعلمة التى تستقبل الريفى الساذج القادم لأكل العيش
الشريف فى القاهرة وتسخر منه حين يتلقى أول ضربة على قفاه فتستفز فيه رجولته وتقف
بجواره حتى يصبح سيد السوق ويزيح الشرير زكى رستم، ولكن المخرج الاشتراكى المؤمن
بأن الإنسان الفرد لم يولد هكذا والمنحاز لفهم دور المجتمع وقوانين السوق فى خلق
شرير جديد لا ينهى الفيلم بنهاية مريحة لمشاهديه بل يعود الفيلم فى دائرة ليتخلى
فريد شوقى عن نخوته ويصبح تيكونا كبيرا ملوثا بالتحالف مع الفاسدين الكبار فى
السراية، وينهى أبو سيف فيلمه بساذج جديد، محمود المليجى فى دور شرفى بالفيلم
تستقبله هذه المرة هدى سلطان بديلا عن تحية كاريوكا وتنبهه لما سيحدث له. دائرة الصراع لا تنتهى بين
الراغبين فى العيش الحلال وبما يرضى الله، وبين الطامعين فى السلطة الفارضين
سيطرتهم على الجميع.
سيقدم نيازى مصطفى تنويعات على نفس اللحن مع أفلام شعبية تحقق نجاحا تجاريا
كبيرا فى سوق السلح وأبو حديد مع الملك ، وسيقدم أبو سيف فكرته مع الملك فى الفتوة وأيضا مع المليجى فى الوحش،
ويستمر النجمان فريد شوقى والمليجى فى صراعهما داخل الشاشة وصداقتهما خارجها
وينشئان شركة واحدة تغير وجه البطل الناعم الحبوب الذى قدمه عماد حمدى أو شكرى
سرحان أو كمال الشناوى، ينجحان فى التخلص من دور السنيد الذى فرض عليهما فى
الأفلام الأولى التى كانت تدور فى القصور والمنازل الفخمة ، حين ينجحان بإنتاجهما
غالبا فى تقديم هذا الشكل من الأكشن المصرى بعناصره الفنية التى تلهب حماس
المشاهدين، فينقسمون إلى فرق متصارعة يشجع
كل فريق نجمه المحبوب ، يخرجون بعد العرض وقد تحققت فائدة الفن بالتطهر من طاقة
العنف التى وجدت ما يفرغها من خلال أعمال راقية لا نمل مشاهدتها مهما طال
الزمن.
كتبته صفاء الليثى ونشر بالعدد الخامس من مجلة
" الفيلم " رئيس التحرير فتحى امبابي
متوفرة بمكتبة تنمية شارع هدى شعراوى وأماكن أخرى.