سينما المخرجات العربيات وضغوط المجتمع
كنت كتبت قبل
إعلان الجوائز أنه من بين مجموعة الأفلام العربية التي عرضت بالجونة 3 تفوق في
الروائي " ستموت في العشرين " للمخرج السوداني أمجد أبو العلا في مسابقة
الأفلام الروائية وتفوق " حديث عن الأشجار " في مسابقة الأفلام
التسجيلية وتساءلت هل ستنحاز لجان التحكيم للأفضل أم ستحكمها التوازنات ، هل يمكن
أن يفوز "لارا" الألماني أو " يقولون لا شيء يبقى على حاله
الياباني" الفيلمان الكبيران في المسابقة التي يشارك بها أيضا " ستموت
في العشرين " السوداني وآدم المغربي وحلم نورا التونسي وبابيشا الجزائري؟ أعلنت
النتائج وحصدتها المخرجات العربيات جميعهن بدون استثناء.
المؤكد أن أفلام المخرجات العربيات في مجموعها تطرح قضايا ولكن هل يتم الحكم على سطور
الفكرة دون اعتبار لطريقة معالجتها، حين يقرأ الواحد منا ملخص بابيشا الجزائري
يتوقع مناقشة عميقة لما جرى نهاية التسعينيات في الجزائر ولكن معالجة المخرجة
حولته لعمل نسوي يميل لتنميط الشخصيات، النساء في الجانب الخير ومعهن كل الحق
والرجال كلهم شياطين سواء البواب الطامع
في الفتاة، أو حبيب البطلة الثانية الذي لم يكمل تعليمه أو حبيب البطلة البرجوازي
الذي يريد أن يترك البلد بينما نجمة تتمسك بوجودها في الجزائر محاولة تحقيق
ذاتها. تنميط آخر لهؤلاء الإرهابيين وخاصة
من النساء ، تأتي مجموعة منهم بالأسلحة تدمر عرض أزياء نجمة ويا للمفارقة لا يموت
أحد وتنجو ويكملن مشروعهن. هناك حالة من الضجيج الفارغ الذي ينتهي للا شيء بداية
من خروجهن بعباءة وحجاب ثم خلعه وإظهار ما تحته، حدث لي تشوش هل هن ذاهبات في
مواعيد غرامية، أو لديهن عمل في ملهى، كلا ستمارسن حرية بريئة وتمرحن حتى الفجر
الذي نسمع آذانه لنتأكد أنهن في بلد إسلامي. تفتيش الميليشيات الإسلامية لا يسفر
عن شيء فقط قدر من توتر الواقع تجاوزه . مشهد لعب الفتيات بكرة القدم يكاد يكون
منسوخا من أحلى الأوقات العمل الأول لهالة خليل الذي حصل على جوائز محلية ولكنه لم
يعبر المتوسط، وهو تعبير كان يطلقه الناقد الكبير الراحل سمير فريد ، الآن
الجزائري بابيشا الذي أجده سينما عتيقة وقوالب سادت قديما عبر إلى كان في نظرة خاصة، كما عبر آدم الذي
يكرر نفس القصة القديمة عن الفتاة التي تحمل خارج الزواج فتهرب للبحث عن عمل وتجده
لدى أرملة تخبز فطائر شعبية، شبح شوكولاته الذي مثلته جيليوت بينوش يطاردني ولكن
لا بأس هناك في واقع المغرب امرأة تخبز فطائر، تبدع الفتاة الحامل القادمة من
مجهول عمل نوع محبب من المخبوزات يكون سببا لبقائها مع الأرملة. أداء الممثلة
وضحكتها الصافية كانت سببا في تقبلي للفكرة المتكررة من زمن أفلام الأبيض والأسود،
كما وجدت عمل المخرجة مميزا في أسلوب اختارت فيه اللقطة القريبة والمتوسطة، مقتربة
بحميمية من شخصياتها، الاكتفاء ببطلتين ورجل وحيد يرغب في الزواج من الأرملة،
اقتصاد محمود والعمل في كليته وجدته الأفضل من بين الأعمال الثلاث للمخرجات ويتفوق
في كل تفاصيله على حلم نورا الذي حصلت فيه هند صبري على جائزة أفضل ممثلة ،
متفوقة كما رأت اللجنة
على ممثلات كان أدائهن مميزا على سبيا المثال لا الحصر لاورا الألمانية والتعبير
عن شخصية صارمة تقسو على كل من حولها وأضرت بنفسها نتيجة صرامتها وخسرت الزوج
والابن كما خشيها زملاء العمل، يهدي المخرج فيلمه الى أمه فهل أنجز فيلمه تحذيرا
لكل أم لتتدارك خطأها مع أبنائها دون إلقاء اللوم على الآخر ولا على المجتمع، وسيدة فيلم البيرو أغنية بلا عنوان. بطلة
الفيلم سرق طفلها بعد ولادته ، عصابة تستغل اضطرابات سياسية لتبيع الأطفال خارج
البلاد، هنا ربط مأساة الأم الفردية بمناخ عام سياسي واجتماعي خلاف للأفلام
العربية التي تكتفي بإدانة ذكور العرب دون ربطها بواقع البلاد سياسيا واقتصاديا. لم
تستشعر اللجنة الحرج وهي تمنج جائزتها لعضو اللجنة العليا للمهرجان كما نبهتنا
بنفسها هند صبري لحظة استلامها الجائزة. كما أكدت فرحتها لاستعانة المخرجة في عملها المستقل بنجمة في
السينما السائدة كسرا لحاجز الخوف، وأعتبره انتهاكا لخصائص هذه السينما البديلة
التي يقوم أساسها على رفض كل رموز السينما السائدة وخوض تجارب بديلة في طرق السرد
وفي توجيه ممثل – ليس نجما- وفي طريقة الإنتاج غير المعتمدة على شركات كبيرة.
استأذنت النجمة من المخرج مروان حامد وكانت ستصور فيلم الفيل الأزرق 2 لتصور هذا
العمل المستقل على حد قولها، في حلم نورا هي بلا ماكياج وبأداء وجهتها المخرجة
ليكون مختلفا فهل نجحتا معا؟ أعترف بحيرتي في تقييم العمل وكانت هناك غلظة في
الشخصية ولم أقتنع بها وهي تحتضن العشيق وتخبره أن رائحته جميلة. هل منحها الجائزة
سيشجع صناع السينما البديلة على الاستعانة بالنجمات ، أليس هذا ضربا لهذه السينما
من الداخل، خسرت فيه صاحبته جمهور السينما السائدة والبديلة على السواء . بعيدا عن
النسوية ومشاكلها التي مازالت تحصر المخرجات العربيات قدم المخرج السوداني عمله
الأول وحصد نجمة الجونة الذهبية وهي مستحقة في إطار الأفلام العربية فقط ولكن لا
يمكن قبولها مقارنة بأفلام أخرى شاركت المسابقة
من اليابان وأمريكا اللاتينية وألمانيا، نختلف ونتفق فيما بيننا نقاد
السينما الحاضرين بالجونة ولكن هناك ما يشبه الإجماع على ارتفاع مستوى أفلام
المسابقة وأن الانحياز للأفلام العربية يضر بسمعة المهرجان وخاصة أن هذه الأفلام
دعمت من جهات عديدة . ذكرني موقع الفيسبوك بجوائز العام الماضي ووجدتها غير منحازة
لمنطقة معينة لا عربية ولا مصرية ولا أوربية، بل كان انحيازها فنيا خالصا . نحن
المتلقين نجد أنفسنا أحرارا في التعليق
على أحكام قضاة الفن وخاصة أنه لا يوجد قانون ثابت ولا معايير محددة للحكم على
الأفلام حتى لو شاركت فينيسيا وبرلين وكان. على الأرجح هناك من نجح في الوصول عن
طريق شركات توزيع إلى كبرى المهرجانات . فهل ستنجح هذه الأفلام مع المشاهد دافع
التذكرة أم ستكتفي بنجاحها في المهرجانات؟ هل سنشهد قريبا أزمة للفيلم العربي في
تونس والمغرب والجزائر أم يصل فنانوها لصيغة تساعدهم على الاستمرار حتى لو تغيرت
أمزجة أسيادنا فى كبرى المهرجانات.
السوداني الذي
أخرج مخزونه وصعد
أعود إلى الجونة
فى دورته الثالثة حيث تفوق السودان في المسابقتين الروائية والتسجيلية بفيلمين
لمخرجين شابين يتبادر إلى الذهن رغما عنا اعتقاد أن ثورة السودان لها تأثيرها في
الاهتمام المفاجيء بسينما آتية من السودان، لكن مشاهدتي للفيلم التسجيلي "
حديث عن الأشجار" بموضوعه عن السينما في السودان وبما قدمه المخرجون الخمس
مؤسسوا جمعية النهوض بالفيلم السوداني . أسلوب المخرج الشاب وتجاوب المخرجين
الرواد معه حقق فيلما مؤثرا أثار الإعجاب في كل من شاهده، وجاءت جائزته متوافق
عليها لاستحقاقه الأفضل بين كل ماعرض في المسابقة وخارجها. حين يتأخر طفل في
الكلام عن أقرانه ثم يفاجئنا بطلاقة حديث وحلاوة تعبير نعلق قائلين أنه كان يختزن ثم أخرج مخزونه مرة واحدة. هذا ما يمكن قوله عن صهيب قسم الباري
وعن أمجد أبو العلاء صاحب "ستموت في العشرين" الحائز ذهبية الجونة من لجنة تحكيم رأسها خيري
بشارة المخرج الطليعي واحد من مجموعة الواقعية المصرية الجديدة، لكل لجنة انحيازها
وعلى الأرجح انحازت اللجنة لسينما الشباب وكرمت الأعمال الأولى في كل جوائزها. سبق
لفيلم أمجد حصوله على جائزة أسد المستقبل في مهرجان فينيسا، ويواصل حصد جوائزه .
أتفق مع من سبقني بالكتابة عن الفيلم وتشبيه بعض مشاهده بمومياء شادي عبد السلام،
ولكني أتوقف عند نقيصة بفيلم السودان فالشاب مزمل لا يقوم بفعل ما تجاه نبوءة حرمته
من متع الحياة، في فيلم " أوديب ملكا" لبازوليني حين علم الشاب أوديب
بنبوءة أنه سيقتل أبيه ويتزوج أمه هرب إلى بلاد الله الواسعة ، واجه أهوالا ووقع
في المحظور وكان القدر أقوى منه. مزمل الطفل مُنع من اللعب مع أقرانه، هجره أباه
وبقي فقط مع أمه التي ظلت حزينة تنتظر حتى
يكمل ابنها عامه العشرين، فتشتري كفنه وتقيم له جنازة استباقية. ومزمل كما لو كان
ما يحدث يخص شخصا آخر غيره، يعيش حياة عادية، فلو افترضنا مثلا أن مشاهدا فاته العشر
دقائق الأولى من الفيلم لما وجد سببا يمنع مثلا زواج مزمل من حبيبته، ولظن أن
بقائه بالمسجد شكلا من أشكال التدين الجديد بالمغالاة في العبادة. وقفنا على ردود
أفعال الأطفال، الأب الذي لم يتحمل الانتظار، الأم وحزنها الدائم، وتجهم الجميع ما
عدا سليمان، الذي أشعر أنه إحدى شخصيات " حديث عن الأشجار" قفزت الى
فيلم "ستموت في العشرين"، قدر من تنميط الشخصية رسمه أمجد له، ولكنه
يثور على النمط ونجده فاعلا يقاوم استسلام مزمل ويحرضه على الحياة، يحرضه على
اختبار المعاصي ليعرف الخطأ من الصواب. سليمان فاعل ومزمل مفعول به منساق حتى في
علاقته مع الحبيبة ويتركها على وشك أن تتزوج من آخر. صورة الفيلم جيدة ، المواقع
تعرفنا عن السودان ونيله، والنساء بالثوب السوداني كلها عناصر متميزة لفيلم قيل
أنه السابع في تاريخ السينما السودانية. ولكنه جاء قويا معبرا عن بلده وناسها،
منتقدا سيطرة الفكر القديم على ناسه ، بسخرية مبطنة فها قد مضت عشرون عاما ومات
سليمان ودفن في القبر الذي أعدوه للفتى ،
رغم جفاف الفيلم دون دعابة أو مزحة إلا أن النهاية جاءت مريحة ومؤكدة على
خطأ من يرسخون لثقافة الموت ويتعيشون من قتل الحياة. يواصل الفيلم نجاحاته ونجح المنتج
المصري حسام علوان المشارك بالإنتاج في توزيعه في دور العرض بانجلترا وسويسرا
وصربيا، وهذه الخطوة في عدم الاكتفاء بعروض المهرجانات خطوة مهمة تسهم أن يكون
هناك استمرارية لصناعة السينما وفي دعم أعمال جديدة أخرى تقتحم العالم.
يحمل المتابعون
لأجمل الأفلام قلقا وكأنهم يشاركون المبدعون التفكير في الخطوة التالية، شعرنا
بالقلق على أبو بكر شوقي وتساءلنا ما الذي يمكن أن يقدمه في عمله التالي بعد
" يوم الدين" واجهه السؤال هل ستستمر في العمل بنقس الطريقة، الاستعانة
بأشخاص حقيقيون تجعلهم يؤدون دورا شبيها بحياتهم بسيناريو مستمد من قصصهم
الواقعية؟ نترقب خطوته التالية متمنين له النجاح كما نترقب خطوات أمجد وصهيب ومروى
زين وكل الأسماء الجديدة التي تثري حدائق الإبداع في عالم السينما.
صفاء الليثي
نشر بمجلة تلي سينما
يناير 2020 رئيس مجلس الإدارة مسعد فودة رئيس التحرير أيمن الحكيم
ملحوظة: تأخر النشر
لأسباب خارجة عن إرادة الجميع فالموضوع كتب منذ فترة .