Monday 20 January 2020

الدورة الثالثة للجونة السينمائي هواها عربي

سينما المخرجات العربيات وضغوط المجتمع
كنت كتبت قبل إعلان الجوائز أنه من بين مجموعة الأفلام العربية التي عرضت بالجونة 3 تفوق في الروائي " ستموت في العشرين " للمخرج السوداني أمجد أبو العلا في مسابقة الأفلام الروائية وتفوق " حديث عن الأشجار " في مسابقة الأفلام التسجيلية وتساءلت هل ستنحاز لجان التحكيم للأفضل أم ستحكمها التوازنات ، هل يمكن أن يفوز "لارا" الألماني أو " يقولون لا شيء يبقى على حاله الياباني" الفيلمان الكبيران في المسابقة التي يشارك بها أيضا " ستموت في العشرين " السوداني وآدم المغربي وحلم نورا التونسي وبابيشا الجزائري؟ أعلنت النتائج وحصدتها المخرجات العربيات جميعهن بدون استثناء.
المؤكد أن أفلام المخرجات العربيات في مجموعها تطرح قضايا ولكن هل يتم الحكم على سطور الفكرة دون اعتبار لطريقة معالجتها، حين يقرأ الواحد منا ملخص بابيشا الجزائري يتوقع مناقشة عميقة لما جرى نهاية التسعينيات في الجزائر ولكن معالجة المخرجة حولته لعمل نسوي يميل لتنميط الشخصيات، النساء في الجانب الخير ومعهن كل الحق والرجال  كلهم شياطين سواء البواب الطامع في الفتاة، أو حبيب البطلة الثانية الذي لم يكمل تعليمه أو حبيب البطلة البرجوازي الذي يريد أن يترك البلد بينما نجمة تتمسك بوجودها في الجزائر محاولة تحقيق ذاتها.  تنميط آخر لهؤلاء الإرهابيين وخاصة من النساء ، تأتي مجموعة منهم بالأسلحة تدمر عرض أزياء نجمة ويا للمفارقة لا يموت أحد وتنجو ويكملن مشروعهن. هناك حالة من الضجيج الفارغ الذي ينتهي للا شيء بداية من خروجهن بعباءة وحجاب ثم خلعه وإظهار ما تحته، حدث لي تشوش هل هن ذاهبات في مواعيد غرامية، أو لديهن عمل في ملهى، كلا ستمارسن حرية بريئة وتمرحن حتى الفجر الذي نسمع آذانه لنتأكد أنهن في بلد إسلامي. تفتيش الميليشيات الإسلامية لا يسفر عن شيء فقط قدر من توتر الواقع تجاوزه . مشهد لعب الفتيات بكرة القدم يكاد يكون منسوخا من أحلى الأوقات العمل الأول لهالة خليل الذي حصل على جوائز محلية ولكنه لم يعبر المتوسط، وهو تعبير كان يطلقه الناقد الكبير الراحل سمير فريد ، الآن الجزائري بابيشا الذي أجده سينما عتيقة وقوالب سادت قديما  عبر إلى كان في نظرة خاصة، كما عبر آدم الذي يكرر نفس القصة القديمة عن الفتاة التي تحمل خارج الزواج فتهرب للبحث عن عمل وتجده لدى أرملة تخبز فطائر شعبية، شبح شوكولاته الذي مثلته جيليوت بينوش يطاردني ولكن لا بأس هناك في واقع المغرب امرأة تخبز فطائر، تبدع الفتاة الحامل القادمة من مجهول عمل نوع محبب من المخبوزات يكون سببا لبقائها مع الأرملة. أداء الممثلة وضحكتها الصافية كانت سببا في تقبلي للفكرة المتكررة من زمن أفلام الأبيض والأسود، كما وجدت عمل المخرجة مميزا في أسلوب اختارت فيه اللقطة القريبة والمتوسطة، مقتربة بحميمية من شخصياتها، الاكتفاء ببطلتين ورجل وحيد يرغب في الزواج من الأرملة، اقتصاد محمود والعمل في كليته وجدته الأفضل من بين الأعمال الثلاث للمخرجات ويتفوق في كل تفاصيله على حلم نورا الذي حصلت فيه هند صبري  على جائزة أفضل ممثلة ،
متفوقة كما رأت اللجنة على ممثلات كان أدائهن مميزا على سبيا المثال لا الحصر لاورا الألمانية والتعبير عن شخصية صارمة تقسو على كل من حولها وأضرت بنفسها نتيجة صرامتها وخسرت الزوج والابن كما خشيها زملاء العمل، يهدي المخرج فيلمه الى أمه فهل أنجز فيلمه تحذيرا لكل أم لتتدارك خطأها مع أبنائها دون إلقاء اللوم على الآخر ولا على المجتمع،  وسيدة فيلم البيرو أغنية بلا عنوان. بطلة الفيلم سرق طفلها بعد ولادته ، عصابة تستغل اضطرابات سياسية لتبيع الأطفال خارج البلاد، هنا ربط مأساة الأم الفردية بمناخ عام سياسي واجتماعي خلاف للأفلام العربية التي تكتفي بإدانة ذكور العرب دون ربطها بواقع البلاد سياسيا واقتصاديا. لم تستشعر اللجنة الحرج وهي تمنج جائزتها لعضو اللجنة العليا للمهرجان كما نبهتنا بنفسها هند صبري لحظة استلامها الجائزة. كما أكدت فرحتها  لاستعانة المخرجة في عملها المستقل بنجمة في السينما السائدة كسرا لحاجز الخوف، وأعتبره انتهاكا لخصائص هذه السينما البديلة التي يقوم أساسها على رفض كل رموز السينما السائدة وخوض تجارب بديلة في طرق السرد وفي توجيه ممثل – ليس نجما- وفي طريقة الإنتاج غير المعتمدة على شركات كبيرة. استأذنت النجمة من المخرج مروان حامد وكانت ستصور فيلم الفيل الأزرق 2 لتصور هذا العمل المستقل على حد قولها، في حلم نورا هي بلا ماكياج وبأداء وجهتها المخرجة ليكون مختلفا فهل نجحتا معا؟ أعترف بحيرتي في تقييم العمل وكانت هناك غلظة في الشخصية ولم أقتنع بها وهي تحتضن العشيق وتخبره أن رائحته جميلة. هل منحها الجائزة سيشجع صناع السينما البديلة على الاستعانة بالنجمات ، أليس هذا ضربا لهذه السينما من الداخل، خسرت فيه صاحبته جمهور السينما السائدة والبديلة على السواء . بعيدا عن النسوية ومشاكلها التي مازالت تحصر المخرجات العربيات قدم المخرج السوداني عمله الأول وحصد نجمة الجونة الذهبية وهي مستحقة في إطار الأفلام العربية فقط ولكن لا يمكن قبولها مقارنة بأفلام أخرى شاركت المسابقة  من اليابان وأمريكا اللاتينية وألمانيا، نختلف ونتفق فيما بيننا نقاد السينما الحاضرين بالجونة ولكن هناك ما يشبه الإجماع على ارتفاع مستوى أفلام المسابقة وأن الانحياز للأفلام العربية يضر بسمعة المهرجان وخاصة أن هذه الأفلام دعمت من جهات عديدة . ذكرني موقع الفيسبوك بجوائز العام الماضي ووجدتها غير منحازة لمنطقة معينة لا عربية ولا مصرية ولا أوربية، بل كان انحيازها فنيا خالصا . نحن المتلقين نجد أنفسنا أحرارا  في التعليق على أحكام قضاة الفن وخاصة أنه لا يوجد قانون ثابت ولا معايير محددة للحكم على الأفلام حتى لو شاركت فينيسيا وبرلين وكان. على الأرجح هناك من نجح في الوصول عن طريق شركات توزيع إلى كبرى المهرجانات . فهل ستنجح هذه الأفلام مع المشاهد دافع التذكرة أم ستكتفي بنجاحها في المهرجانات؟ هل سنشهد قريبا أزمة للفيلم العربي في تونس والمغرب والجزائر أم يصل فنانوها لصيغة تساعدهم على الاستمرار حتى لو تغيرت أمزجة أسيادنا فى كبرى المهرجانات. 
السوداني الذي أخرج مخزونه وصعد

أعود إلى الجونة فى دورته الثالثة حيث تفوق السودان في المسابقتين الروائية والتسجيلية بفيلمين لمخرجين شابين يتبادر إلى الذهن رغما عنا اعتقاد أن ثورة السودان لها تأثيرها في الاهتمام المفاجيء بسينما آتية من السودان، لكن مشاهدتي للفيلم التسجيلي " حديث عن الأشجار" بموضوعه عن السينما في السودان وبما قدمه المخرجون الخمس مؤسسوا جمعية النهوض بالفيلم السوداني . أسلوب المخرج الشاب وتجاوب المخرجين الرواد معه حقق فيلما مؤثرا أثار الإعجاب في كل من شاهده، وجاءت جائزته متوافق عليها لاستحقاقه الأفضل بين كل ماعرض في المسابقة وخارجها. حين يتأخر طفل في الكلام عن أقرانه ثم يفاجئنا بطلاقة حديث وحلاوة تعبير نعلق قائلين أنه كان يختزن ثم أخرج مخزونه مرة واحدة. هذا ما يمكن قوله عن صهيب قسم الباري وعن أمجد أبو العلاء صاحب "ستموت في العشرين"  الحائز ذهبية الجونة من لجنة تحكيم رأسها خيري بشارة المخرج الطليعي واحد من مجموعة الواقعية المصرية الجديدة، لكل لجنة انحيازها وعلى الأرجح انحازت اللجنة لسينما الشباب وكرمت الأعمال الأولى في كل جوائزها. سبق لفيلم أمجد حصوله على جائزة أسد المستقبل في مهرجان فينيسا، ويواصل حصد جوائزه . أتفق مع من سبقني بالكتابة عن الفيلم وتشبيه بعض مشاهده بمومياء شادي عبد السلام، ولكني أتوقف عند نقيصة بفيلم السودان فالشاب مزمل لا يقوم بفعل ما تجاه نبوءة حرمته من متع الحياة، في فيلم " أوديب ملكا" لبازوليني حين علم الشاب أوديب بنبوءة أنه سيقتل أبيه ويتزوج أمه هرب إلى بلاد الله الواسعة ، واجه أهوالا ووقع في المحظور وكان القدر أقوى منه. مزمل الطفل مُنع من اللعب مع أقرانه، هجره أباه وبقي فقط مع  أمه التي ظلت حزينة تنتظر حتى يكمل ابنها عامه العشرين، فتشتري كفنه وتقيم له جنازة استباقية. ومزمل كما لو كان ما يحدث يخص شخصا آخر غيره، يعيش حياة عادية، فلو افترضنا مثلا أن مشاهدا فاته العشر دقائق الأولى من الفيلم لما وجد سببا يمنع مثلا زواج مزمل من حبيبته، ولظن أن بقائه بالمسجد شكلا من أشكال التدين الجديد بالمغالاة في العبادة. وقفنا على ردود أفعال الأطفال، الأب الذي لم يتحمل الانتظار، الأم وحزنها الدائم، وتجهم الجميع ما عدا سليمان، الذي أشعر أنه إحدى شخصيات " حديث عن الأشجار" قفزت الى فيلم "ستموت في العشرين"، قدر من تنميط الشخصية رسمه أمجد له، ولكنه يثور على النمط ونجده فاعلا يقاوم استسلام مزمل ويحرضه على الحياة، يحرضه على اختبار المعاصي ليعرف الخطأ من الصواب. سليمان فاعل ومزمل مفعول به منساق حتى في علاقته مع الحبيبة ويتركها على وشك أن تتزوج من آخر. صورة الفيلم جيدة ، المواقع تعرفنا عن السودان ونيله، والنساء بالثوب السوداني كلها عناصر متميزة لفيلم قيل أنه السابع في تاريخ السينما السودانية. ولكنه جاء قويا معبرا عن بلده وناسها، منتقدا سيطرة الفكر القديم على ناسه ، بسخرية مبطنة فها قد مضت عشرون عاما ومات سليمان ودفن في القبر الذي أعدوه للفتى ،  رغم جفاف الفيلم دون دعابة أو مزحة إلا أن النهاية جاءت مريحة ومؤكدة على خطأ من يرسخون لثقافة الموت ويتعيشون من قتل الحياة. يواصل الفيلم نجاحاته ونجح المنتج المصري حسام علوان المشارك بالإنتاج في توزيعه في دور العرض بانجلترا وسويسرا وصربيا، وهذه الخطوة في عدم الاكتفاء بعروض المهرجانات خطوة مهمة تسهم أن يكون هناك استمرارية لصناعة السينما وفي دعم أعمال جديدة أخرى تقتحم العالم.  
يحمل المتابعون لأجمل الأفلام قلقا وكأنهم يشاركون المبدعون التفكير في الخطوة التالية، شعرنا بالقلق على أبو بكر شوقي وتساءلنا ما الذي يمكن أن يقدمه في عمله التالي بعد " يوم الدين" واجهه السؤال هل ستستمر في العمل بنقس الطريقة، الاستعانة بأشخاص حقيقيون تجعلهم يؤدون دورا شبيها بحياتهم بسيناريو مستمد من قصصهم الواقعية؟ نترقب خطوته التالية متمنين له النجاح كما نترقب خطوات أمجد وصهيب ومروى زين وكل الأسماء الجديدة التي تثري حدائق الإبداع في عالم السينما.
صفاء الليثي
نشر بمجلة تلي سينما يناير 2020 رئيس مجلس الإدارة مسعد فودة رئيس التحرير أيمن الحكيم
ملحوظة: تأخر النشر لأسباب خارجة عن إرادة الجميع فالموضوع كتب منذ فترة .



Monday 13 January 2020

Marriage Story عن فيلم قصة زواج


قصة زواج وأهمية الحوار في الفن والحياة
السمة الغالبة على أشهر أفلام نهاية العام 2019 عودة الحوار كعنصر هام من عناصر الفيلم السينمائي في الأيرلندي والبابوان وأيضا في قصة زواج. يلعب الحوار في مشاهد فائقة بالفيلم دورا كاشفا عن طبيعة العلاقة المركبة بين الزوج تشارلي (آدم درايف) والزوجة نيكول (سكارليت جوهانسون) ، وهما شريكان في العمل والحياة، دائما توصف علاقة الزواج بالحب والكره في آن واحد، هما متحابان تربطهما علاقة حميمة ، يصعدان فيها معا إلى درجة أعلى في مهنتهما هو كمخرج وهي كممثلة، ولكنها ترفض الوضع الأدنى وتشعر فجأة أنها الجانب الذي يضحي ويتنازل عن أحلامه بينما يحقق هو ما يريده ويرتقي ككيان منفصل، يعزز غضبها الخيانة لمرة واحدة التي قام بها الزوج مدفوعا بتركه ينام على كنبة . حين يناقش المخرج نوح باومباخ – وقد مر هو شخصيا بتجربة طلاق- يكون تركيزه على حق الطفل المحب من الطرفين في حياة يسعد فيها بأمه وأبيه ويحصل على أعلى درجات الرعاية والاهتمام، تشجع قوانين الأسرة في أمريكا على اعتبار أولية مصلحة الطفل هنري في المقام الأول حتى أن المحكمة التي تناقش قضية طلب الزوجة الطلاق توصي بوضع مراقب لكي يقدم تقريرا عن علاقة كل من الأب والأم بطفلهما. المشهد الذي تصل فيه المراقبة لمنزل الأب وتراقب بصرامة موظف خال تماما من المشاعر أحد أهم مشاهد الفيلم الذي يضعنا أمام مأساة أن يقوم شخص غريب تماما بتقييم علاقتك بأهم فرد في حياتك، علاقتك بابنك . وفي لقطة مؤثرة ينام الأب على أرضية المطبخ متألما وقد جرح يده بسلاح صغير في سلسلة مفاتيحه دون قصد وهو يشرح للمراقبة عما كان يقصده الابن من السؤال عن سلاح الأب. الابن استيقظ ليشرب يسأل والده لماذا ينام هكذا والأب كاتما ألمه يقول إنه متعب قليلا. التعب الجسدي وقد تحول بالكتمان إلى تعب نفسي يجسد حقيقة أنانية الطفل ولا مبالاة الرقيب الخارجي حتى لو كان معينا من قبل قضاة يقصدون مصلحة الطفل أولا قبل أي شيء. نأتي إلى المشهد الفائق فيه تأتي نيكول بمفردها دون الطفل الذي فضل البقاء مع أبناء خالته وتناقشه في أمر تسوية دون اللجوء للمحاميان الذي قدمهما المخرج كسمكتي قرش عملاقان كل ما يهمها الانتصار لموكله على حساب تشويه وإبراز عيوب جانب منها صحيح مع قدر من مبالغات للتأثير على المحكمة، حين يتعاتبان ينفعل كل منهما ويفقد تشارلي أعصابه ويصل إلى البكاء فتتعاطف معه نيكول تحتضنه ويعتذر ويصل الممثلان إلى أعلى درجات الأداء المعتمد كلية على الكلام المنطلق من القلب والمعبر عن مشاعر الغضب من الموقف السخيف الموضوعان به. مشهد يمكن تسميته بالمسرحي حيث صالة المنزل هي خشبة المسرح وحيث الكلمة واللقطة المتوسطة المحايدة تحافظ على وضعهما في المكان دون الاقتراب من الوجه في لقطات مكبرة تتميز بها السينما، الاعتماد على تدفق الكلام ودرجة انفعال نيكول وتشارلي يعيدنا إلى حقيقة أهمية تبادل الحوار والتعبير المباشر والصريح عن الغضب دون تركه لتتكون تراكمات لا سبيل إلى حلها إلا بتدخل الآخرين ومنهم المحامية القرش نورا (لورا ديرن) والمحامي القرش فانشو (يوهانسون) المستفيدان الأكبر من كل نزاع يهدد أسرة متحابة كأسرة تشارلي ونيكول وهنري.
المشهد الافتتاحي يقدم الشخصيات بتعليق من الأطراف الثلاث فنتهيأ لمتابعة قصة رومانسية عن أسرة متحابة وتأتي الصدمة من الانقلاب الدرامي بتغير مشاعر الزوجة وطلبها الطلاق وتعرض الطفل لمتاعب الانفصال، في نهاية الفيلم يدخل الأب صدفة فيجد الابن يتهجى قائمة كتبتها الأم تصف الزوج بكلمات كلها محبة وذكر لصفاته الجميلة يقرأالأب مع الطفل ويحبس دموعه وهو سريع البكاء كما وضح لنا المخرج في البداية حيث يبكي مع الطفل وهما يشاهدان فيلما ما ، بينما الزوجة لا تتمكن من البكاء بسهولة وخاصة على المسرح بينما تبكي ويحمر أنفها حين تنفرد بنفسها، امتلك المخرج والمشارك في الكتابة حساسية في التعبير عن تفاصيل حميمة تصف شخصيات فيلمه الذي نجح في جعلنا نحبهم بنفس القدر دون انحياز نسوي أو ذكوري ، ودون الإحساس بملائكية مطلقة للطفل، بل شعرنا بأن البشر رجلا كان أو امرأة أو طفل يمتلكون جوانب إيجابية وطيبة وأخرى سلبية وسيئة، وأننا في النهاية نحتاج أن نتسامح كأسرة وأن نتعلم تقبل الآخر والتعاون بقدر من التنازلات، سنجد تشارلي وقد وصل إلى الحصول على عمل ليبقى في لوس أنجلوس المدينة التي تفضلها زوجته حيث هناك دائما مساحة للانطلاق بعيدا عن اختناق العاصمة نيويورك.
رغم اختلاف التفاصيل بين أمريكا ومصر إلا أن المشاهد المصري يجد دروسا مستفادة من فيلم قصة زواج تدعم تماسك الأسرة وتعطي درسا لايكلف الكثير عن ضرورة الاستماع إلى الآخر وعن أهمية الحوار في الفيلم والحياة.
عرض الفيلم في إطار نشاط جمعية نقاد السينما المصريين في نهاية العام . وعرض فيلم ينتمي للنوع الاجتماعي لا يقل أهمية عن عرض فيلم يتناول قضايا كبرى، فالسينما هي فن الحياة ويكتسب كل فيلم أهميته من درجة تعبيره الخاص عن قضية تشغل البشر في أي مكان من العالم.
صفاء الليثي
نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 7 يناير 2020 رئيس التحرير عماد الغزالي


تحية إلى الناقد عدنان مدنات


عدنان مدنات وجماليات الوقائع

عام 2001 كنت ما زلت أحبو بعالم النقد بعد تجارب في مونتاج الأفلام، في الإسماعيلية أراهم مقبلون علينا كبار النقاد العرب يجمعهم علي أبو شادي في القرية الأوليمبية حيث إقامة المشاركين بمهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية والقصيرة، سمير فريد وكمال رمزي وقيس الزبيدي وعدنان مدنات. يشدنى الاسم الذي لم أسمع به لأحد غيره، ناقد أردني كيف؟ وهل بالأردن سينما وأفلام ليكون منها ناقد مهم كهذا؟ سأعرف أنه بعد تخرجه من جامعة موسكو عام 1970 ، وإنجازه لعدد من الأفلام التسجيلية انتقل للعيش ببيروت، حيث ترجم وألف كتبا عن السينما، السينما فن أممي ، يدمع الناس من أجناس مختلفة ويوحدهم في عشقها ، تناديهم كنداهة معاصرة فيرتحلون معها أينما تكون، في مصر أو إيطاليا، في روسيا أو أمريكا وفارس النقد العربي يترجم كتابا عن دافيد لينش، ويجري حوارا مع ميشيل خليفي وذاكرته الخصبة، يترجم كتاب ميخائيل روم" أحاديث حول الإخراج السينمائي" ويؤلف كتابه حول السينما التسجيلية بعنوان الدراما والشعر، على ظهر غلافه مقتطف يتبناه فيكتب .. وبعد، قرأت ذات يوم لكاتب فرنسي يقول ما معناه: " لا تكون السينما فنا إلا عندما تكون الكاميرا في عين الشاعر" ويبدو لي أن هذا الرأي ينطبق بقوة على السينما التسجيلية. أجده يعتمد مصطلح السينما التسجيلية المعتمد لدى السينمائيين المصري بديلا عن الوثائقية الذي يعتمده غيرهم من كتاب العربية. يقدم قيس الزبيدي الكتاب ويكرر ما اكتشفه أن عدنان مدنات في أغلب ما ألفه وترجمه حول السينما لم يكن يرى في الفيلم مادة فنية للمشاهدة الممتعة وللتسلية فقط، بل يراه مادة للتفكير أيضا. حين كتب عن " صور من ذكريات خصبة" الوثائقي المصنوع بأسلوبية الفيلم الروائي لميشيل خليفي يوضح:" إن وضوح الهدف عندالمخرج هو ما جعله ينظم مادته أثناء المونتاج على نحو مقلق أحيانا بالنسبة للمتفرج، متقصدا نقل المتفرج من حالة إلى أخرى، بحيث يبقى وعيه مستنفرا، فما إن ينفعل المتفرج أمام مشكلة وطنية تثيرها السيدة فرح حاطوم مثلا، حتى ينتقل الفيلم إلى مشهد لسحر خليفة تتحدث عن مشكلة شخصية جدا ، وهذا البناء يساعده على تقديم الأفكار والأجواء المتعددة.." يحدد مدنات تميز التسجيلي السينمائي بقوة التركيز على الموضوع الرئيسي وبناء وإخراج الفيلم على قاعدة ما قل ودل.

حين كتب عن فيلم " يعيشون بيننا" للمخرج محمود سليمان ذكر أنه واحد من الأفلام التسجيلية القصيرة الذي وجد فيه تجسيدا حقيقيا لما يصفه بالبطل الروائي في الأفلام التسجيلية، واستحق منحه وبحماس شديد الجائزة الأولى في مسابقة قناة الجزيرة للأفلام التسجيلية علم 2005 وكان مشاركا بلجنة التحكيم وقتها.
التداخل بين التسجيلي والروائي محل إعجاب منه كما وضح مع فيلم " الشاطر حسن"(2000) للمخرج الأردني المقيم بهولندا محمود مساد. فمن خلال مادة تسجيلية تتابع وقائع يومية من متشرد يعيش في شوارع المدينة يدعى حسن رأي فيه المخرج أنموذجا واقعيا لشخصية الشاطر حسن الأسطورية. ويذكر رأي المخرج أن الشخصية معادل موضوعي له شخصيا عن هجرته إلى أوربا.
رغم بداياته كمخرج إلا أنه يطلب تقديمه مجرد ناقد سينمائي ، بتواضع جم يقول إن الأفلام القليلة التي أتيحت له فرصة إخراجها لم توفر له الخبرة الكافية التي تجعل منه مخرجا متمكنا من حرفته.
سيتفرغ للكتابة عن الأفلام وعن السينما بوجه عام بعقلية ناقد وباحث حول دور الناقد وعلاقته بالمجتمع، ظل تركيزه حول إقامة جسر ثقافي بين الفيلم والجهور. 

صفاء الليثي
نشر بالعدد الثالث  من كراست الفيلم القصير 

Monday 6 January 2020

أم كلثوم في السينما التسجيلية


أم كلثوم واللحن الأخير .. صوت يشبه مصر
نهاية عام 1974 وبعد وفاتها بقليل قدم المخرج أحمد راشد فيلما مختلفا عن مسيرة أفلامه " أبطال من مصر " و" توفيق الحكيم" باختياره للتناول الأغنية الأخيرة التي لم تسجلها أم كلثوم وكانت من ألحان سيد مكاوي، بعد لحنه لها لأغنية " يا مسهرني" ، "أوقاتي بتحلو " سجلت لها بروفة مع عود سيد مكاوي وتدخل القدر قبل تسجيلها النهائي وبعد فترة سجلتها وردة الجزائرية . لا تفارق أذناي صوت أم كلثوم كما سمعتها في فيلم أحمد راشد " أم كلثوم واللحن الأخير" مشروخا حزينا، رغم الكلمات المرحة للأغنية التي تقول:" أوقاتي بتحلو، بتحلو معاك، وحياتي تكمل برضاك، وبحس بروحي، بوجودي ، من أول ما بكون وياك..وياروحي ساعة ما ألقاك، مش بس أوقاتي بتحلو، دي العيشة والناس والجو، دي الدنيا بتضحكلي، بتضحكلي معاك " الفيلم من إنتاج المركز القومي للسينما ، ألوان مدة عرضه : 20 ق، تصوير سعيد شيمي ومونتاج أحمد متولي. عرض " أم كلثوم واللحن الأخير" عام 1975 بعد التصوير بعام تقريبا.
قيل إن أم كلثوم في تسجيل نادر لها شبهته بأنه ( زكريا أحمد هذا العصر) إلا أن الصدمة كانت في انتظار سيد مكاوي فبعدما لحن أغنية "أوقاتي بتحلو" وأجرت أم كلثوم بروفات بصوتها للأغنية لكن الموت كان أسبق فلم تقدمها في حفلة ولم تقم بتسجيلها كأغنية وهو ما أشعر مكاوي بالحزن ودفعه للعزلة عن الجميع قبل أن تقنعه وردة بغناء الأغنية وأن يقدمها هو بصوته وهو ما حدث فيما بعد.(كما كتب محمد طاهر )
قليلة هي الأفلام التي وثقت لمسيرة وحياة معجزة الغناء المصرية التي تكاد تكون الوحيدة المعروفة جيدا في الأوساط العالمية، يسمع لغنائها دونما حاجة لفهم الكلمات العربية التي تتغنى بها.
هناك الوثائقي " أم كلثوم صاحبة العصمة" وثائقي من إنتاج قناة الجزيرة، أخرجه شريف عزت وساعد في إخراجه طارق متولي، الوثائقي في جزئيين يوثق بأسلوب كلاسيكي بادئا بجنازتها المهيبة ومسترجعا مشوارها اعتمادا على وثائق هامة يعلق عليها معد المادة البحثية سيد محمود، وآخرين منهم المؤرخ صلاح عيسى والفنان التشكيلي عادل السيوي. الفيلم مهم لمن لا يعرف أم كلثوم ، بداياتها ، مسيرتها وعلاقة المصريين والعرب بها، ودورها مع ثورة يوليو، وعبد الناصر ، ودورها في جمع التبرعات (لإزالة آثار العدوان) فيلم هام رغم تقليديته ولكنه لا يضارع فيلم اليهودية الأمريكية (ميشيل جولدمان ) الذي أنتج عام 1996 وعرض بمهرجان القاهرة وأحدث صدى كبيرا بداية من عنوانه الفني " أم كلثوم صوت يشبه مصر" وحتى كتابة هذا السطور لم يقدم عمل عن أم كلثوم يقترب من تفرده بالكشف عن أهمية أم كلثوم لكل مصري كان وما زال يرتبط بأغانيها وخاصة عندما يخوض تجربة الحب، تجربة العشق لآخر وللوطن أيضا تجد ملاذها عند أم كلثوم في أغانيها العاطفية والوطنية على السواء. قبل أن أتناول بالتحليل هذا الفيلم البديع لا يمكن تجاهل فيلم المخرجة الأمريكية من أصل إيراني شيرين نيشات، " البحث عن أم كلثوم" فيلم ألماني نمساوي مشترك، وبطولة ياسمين رئيس ونيدا رحمنيان، وقدمت أغانى أم كلثوم المطربة مروة ناجى، وتم تصويره مشاهده بين المغرب وألمانيا والنمسا ومصر، الفيلم يقدم سردا غير تقليدي يتقاطع فيه عرض حياة أم كلثوم كما تعرفها المخرجة مع محاولة مخرجة داخل الفيلم بتقديم فيلم عن شخصية استثنائية مصرية تغني بلغة عربية.
 عرض الفيلم بافتتاح مهرجان أسوان لأفلام المرأة وقبلها عرض بمهرجان فينيسا وجاءت تجربته محيرة لمن شاهده، يعكس عنوانه أيضا " البحث عن أم كلثوم" حيرة مخرجته التي سكنتها شخصية أم كلثوم المنطلقة من بلدتها الريفية محملة بموهبة نادرة، وكيف تحولت من قراءة القرآن والتواشيح في بلدتها بعمق ريف مصر إلى (كوكب الشرق) ودرته النادرة. اختارت المخرجة شكلا مركبا للفيلم ليس وثائقيا بشكل تقليدي، ولكنها قدمت فيلما داخل فيلم عن المخرجة التي قررت أن تنجز فيلما عن أم كلثوم وتصور ارتباكها وحيرتها في رحلة بحثها عن جذور أم لثوم ليتحول الفيلم إلى بحث عن ذات المخرجة نفسها ، إلى بحث عن الذات المبدعة وجدت إلهاما في هذه الفتاة الفقيرة من قرية طماي الزهايرة التي وصلت بإصرارها لتكون أم كلثوم أروع من غنى باللغة العربية قاطبة.
ميشيل جولدمان المهمومة بمصرشعبا وتاريخا، المنشغلة بما جرى وخاصة في الحقبة الناصرية كما بدا في فيلمها الأخير " جمهورية ناصر" الذي عرض في بانوراما الفيلم بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 38 عام 2016 . الفيلم الذي اهتم لمشاهدته كل من لم ينسى فيلمها البديع " أم كلثوم صوت يشبه مصر" الذي عكس جمال الشعب بفئاته المختلفة ولم يقف فقط عند جمال أغنيات كوكب الشرق. مضى حوالي عشرون عاما على مشاهدتي الأولى للفيل ومازال مشهد صاحب المقهى الذي يغني بصوته الأجش في حالة من الشجن مقطعا لأم لثوم، لا تقاطعه ميشيل ولا تنصرف عنه إلى أصحاب أصوات أجمل ولا إلى أداء أكثر حرفية ، بل تترك اللقطة على طولها ليصل تأثير ما أرادته عن تفاعل الناس، بشكل تلقائي مع غناء أم كلثوم وعن كونهم يتحولون إلى كتلة من الشجن وهم يصاحبون غناءها بأصواتهم المنفعلة . من خلا الفيلم تصل المخرجة إلى التعبير عن روح مصر، في القاهرة المزدحمة، الزخمة بتفاصيل الحياة، في فيلم بعيد تماما عن تقاليد السرد الكلاسيكي لفيلم تسجيلي، بل في فيلم يقتنص جوهر الأشياء وينجح في التعبير عنها، تاركا المشاركين من شخصيات قدمتهم في الفيلم، والمشاهدين للفيلم بعد انتهائه في حالة من النشوة وكأنهم كانوا يؤدون طقسا إيمانيا يملأ روحهم بكل ما هو جميل.
فيلم " أم كلثوم صوت يشبه صر" صوره مدير التصوير كمال عبد العزيز وعلق عليه الفنا الكبير عمر الشريف، وجده أحد مستخدمي الشبكة الدولية أجمل فيلم وثائقي عن أم كلثوم ، إذ كتب  تحت عنوان:
( أفضل فيلم وثائقي عن حياة أم كلثوم ) كيف أن أستاذه البروفيسور بروس كوك ، الأستاذ في كلية ديابلو فالي ، ضغط على زر تشغيل الفيلم ، ومنذ بدايته ، لم أستطع الاهتمام بباقي درسي في هذا اليوم.هذا الفيلم الوثائقي ، الذي يقترب من مقاربة علمية ، سوف يستمتع كل من  يبحث عن ساعة ونصف جيدة. ومفيدة .بتوثيق حياة أم كلثوم ، علمني هذا الفيلم تاريخًا كنت سأعرفه إذا لم يكن لحقيقة أن كلثوم لم يكن جزءًا من الثقافة الموسيقية الغربية. هزت موسيقاها الكثير من مصر وكانت قوية للغاية من الناحية السياسية والموسيقية هناك. الفيلم يحكي كيف تحولت من فتاة صغيرة قامت بأموال لعائلتها إلى مطربة شهيرة للغاية. شاهد هذا الفيلم. من المؤكد أنك ستحبها إذا كنت مهتمًا بالعلوم العرقية أو حتى إذا كنت مهتمًا بهذا النوع من المعارف . إلى هنا ينتهي تعليق المستخدم العادي الذي ينصح بمشاهدة الفيلم ومن الواضح أنه يصلح كمادة توضيحية لدراسة علم الأعراق ومعرفة كيف يمكن أن يتجاوز حدود مكوناتها المحلية لينجح في التواصل مع باقي شعوب العالم. إنها معجزة أم كلثوم التي تتجاوز كل فناني المسارح الراقية وهو ما عبر عنه الفان عادل السيوي حين أسمع مغنية أوبرا إيطالية لكل من فيروز وأم كلثوم فقالت عن فيروز إنها مطربة بارعة ولكن أم كلثوم معجزة.
في إطار عنوان (في خدمة الفن والثورة) قرأت مقال عن وثائقي عرض بمهرجان نيويورك السينمئي الدولي ، يقصد به الكاتب من نيويورك تايمز فيلم ميشيل جولدمان كتبه في نفس عام إنتاجه 1996 : 
" إن موضوع "ميشيل جولدمان" "أم كلثوم: صوت مثل مصر" هو أقل شهرة في هذا الجزء من العالم من فانون. أم كلثوم ، التي توفيت في عام 1975 ، كانت مغنية تحظى بالاحترام في مصر وشعبية في جميع أنحاء العالم العربي. لقد أثر صوتها وأغانيها على شعبها وشجعت روحهم وشوقهم إلى أن أصبحت قوة قوية في جهود مصر لإنهاء الاحتلال البريطاني ، وتحقيق تطلعاتها القومية ، وإطاحة ملكيتها، وتصبح جمهورية في عام 1953." تعتمد الأفلام بشكل تقليدي في معالجاتها لموضوعاتها، وتعتمد بشكل كبير على المقابلات مع الكتاب والنقاد والصحفيين والعائلة والأصدقاء ، وعلى الصور الثابتة والصور المتحركة... صورة أم كلثوم تزداد وضوحًا كلما تقدمت، وساعدت بشكل كبير في الإرث الغني للأفلام والتسجيلات التي يمكن أن تعتمد عليها السيدة جولدمان. هنا يحدد الكاتب أن ما اعتمدت عليه المخرجة في فيلمها جعل الصورة أكثر ما تكون وضوحا نتيجة للوثائق الغنية المتوافرة في حال النية لعمل فيلم وثائقي عن أم كلثوم. ومن وجهة نظري فإن ميشيل لم تكتف بهذه المواد- رغم وفرتها- بل صورت مواد وفيرة أخرى معاصرة مع المصريين في أماكن تواجدهم وخاصة في المقاهي ، بعضها يحمل اسم أم كلثوم، يعتمد قديما على إذاعة أغانيها في مواعيد إذاعتها الثابت بمحطات الإذاعة المصرية، قبل تحولها إلى محطات تلفزيونية تذيع الأغاني والأفلام . مقاهي يتخذها العشاق أماكن للقاء ، يعيشون مع أغانيها قصص حبهم .
صوت يشبه مصر
تبدأ ميشيل جولدمان فيلمها مع لقطات لريف مصري قديم حيث الشادوف والساقية مع صوت يمثل أم كلثوم أداء منى زكريا تحكي أنها ولدت فجرا، وتنهي فيلمها بعد مشاهد الوداع بتلخيص بديع لكل عناصر الفيلم، عمارتها التي بنيت على أنقاض فيلتها ، ومشهد لشخص نشوان بأغنية لها، يغني "فكروني إزاي" وخلفه محطة السكة الحديد الرئيسية بالعاصمة والتي نسميها (محطة مصر) لقطات للقاهرة ليلا ، ثم نفس مشهد البداية للموقع الفلاحي ولكن في المساء ورجل يعد الشاي على راكية النار . تنزل العناوين أولها إهداء إلى أفريل بوتوفسكي رجل أحب مصر ، ثم تتر المخرجة المنتجة وكاتبة السيناريو، لوحة عن كتاب " صوت مصر" تأليف فيرجينا دنكسون جامعة شيكاغو نشر بعد عرض الفيلم بعام ، ثم تعليق عمر الشريف ، مدير التصوير كمال عبد العزيز ( ومن الملاحظ أنه كان يسأل بعض الشخصيات الشعبية التي قابلتهم المخرجة في الفيلم. ساعة وسبع دقائق، 67 ق ،مدة عرض الفيلم الوثائقي الذي اعتمد على بحث جامعي يربط شخصية مطربة الشرق أم كلثوم بشعبها وتاريخه . اختارت المخرجة الكاتب سعد الدين وهبة، الصحفي المفكر محمد عودة، والمخرج توفيق صالح ، والمذيعة اللامعة آمال فهمي، شخصيات تعرف بتوجهها الناصري وانحيازها الشديد لفترة حكمه. ومع صور فوتوغرافية نادرة وقيمة، ومقاطع من أغانيها، ومشاهد للقاهرة المعاصرة صاغت ميشيل فيلمها الغني، في مونتاج خلاق يربط التعليق بالصورة، ويترجم ما يقال من آراء ويدلل عليها بما يؤكد ما يشرحه توفيق صالح أو سعد وهبة أو آمال فهمي. البديع في الفيلم هذه اللقطات التي جرت مع عابر بالطريق، أو عامل في مقهى، ينفتحون بالغناء متغلبين على خجلهم، مندمجين ناسيين الكاميرا في تعبير فطري دون فلسفة عن تعلقهم بأم كلثوم واعتبار أن كل حكاية حب تغنيها تخص كل فرد منهم.
الفيلم حصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي من مهرجان سان فرانسسكو عام 1996، عرض بمهرجان القاهرة في قسم يسميه يوسف شريف رزق الله مهرجان المهرجانات يضم الأفلام التي عرضت بمهرجانات عالمية وحصلت على جوائز. احتفى المصريون بالفيلم عند عرضه، ولم يتشكك أحد في نوايا مخرجته اليهودية الأمريكية، فقد كان واضحا أنه مبني على تقدير لمعجزة الغناء العربي أم كلثوم، ولعبد الناصر وعلاقته بها، دورها في جمع تبرعات للمجهود الحربي، حولت حزنها على هزيمة 67 إلى طاقة إيجابية ومبادرة لخدمة وطنها، عملت على بذل جهد للمصالحة مع بورقيبة وعادت العلاقات مع ناصر ونظامه بفضل جهدها وغنائها الذي استقبل بحفاوة بالغة " هل رأى الحب سكارى" مع أطلال السنباطي. في خلال الساعة، عرض لسيرة حياتها، تعريف بملامح شخصيتها، إظهار علاقتها بمصر الملك، وتوقعها للثورة ، شرح لمزايا صوتها وعلاقتها بأحمد رامي ، والقصبجي، علاقتها بمحمد عبد الوهاب وشرح الفارق بينهما، عبد الوهاب الذي وصفها ( زعيمة واقفة تغني) يأتي الوصف على لسان مؤرخ موسيقي حكى كيف كانت تأتي لحفلات الجامعة وكيف كانوا كومبارس لها في غناء (نشيد الجامعة) يا شباب النيل هبوا للعلا ..وفي النهاية يصف كيف نزلت دموعها حين غنت وأحست بضعف صوتها، تقطع المخرج عليها تغني (واثق الخطوة يمشي ملكا) تعبيرا عن كبريائها الذي جعلها ترفض الاستمرار بعد ضعف صوتها.
المادة الغنية التي جمعتها المخرجة، والشخصيات الكبيرة الذين قابلتهم، وما انكشف لها من عظمة هذا الفتاة الريفية ابنة الشيخ ابراهيم التي نجحت في تحقيق معجزة البقاء والاستمرار على عرش الغناء العربي لخمسين عاما متصلة أو تزيد، كل هذه العناصر كانت محفزة للمخرجة على إبداع فيلمها الأفضل عن أم كلثوم ، وسيكون اقترابها من علاقتها بعبد الناصر دافعا ليكون فيلمها التالي بعد مرور سنوات عن جمهورية عبد الناصر، عرض بمهرجان القاهرة أيضا وحضره الشخصيات المعروفة بعروبيتها وتعلقها بعبد الناصر.
هذا فيلم يدرس ليعرف شباب المخرجين كيف يقدمون شخصية ما ويعكسون معها خلفية تاريخية للبلد وللنظام، وكيف يعبرون عن علاقة أفراد الشعب من عامة الشعب بشخصية تشبههم وتمثلهم كما أم كلثوم الصوت الذي يشبه مصر .
صفاء الليثي
نشر بمجلة الفنون عدد ديسمبر 2019  
نسخة من فيلم صوت يشبه مصر   A voice Like Egyp