Tuesday 26 October 2021

في معرض كيشلوفسكي بقاعة المعارض بالجامعة الألمانية ( الجونة 5 )

 إبداع المخرج الفني أنسي أبو سيف

يطالعنا وجه مرسوم بالحفر وتحته تاريخ الميلاد ثم يسارا لوحات رسمها الفنان التشكيلي البولندي أندريه باجوفيتش، أفيشات فنية مختلفة عن أفيشات الأفلام والبداية مع أفيشات الثلاثية ( أزرق، أبيض ، أحمر) ولوحات أخرى  سبق عرضها بمهرجان كان وأحضرتها شركة اكس لاب التي قامت بتنفيذ المعرض الذي صممه منسق المناظر الفنان أنسي أبو سيف ووضع اللوحات بنفس إطارتها،


اختار كادرا للمخرج المكرم الكبير كيشلوفسكي يشير بأصابعه، أنه رفض قبوله بمعهد الفيلم البولندي ثلاث مرات، الكادر المختار يشبه علامة كادر السينما التي يشير بها السينمائيون. كادر أصابعه الثلاث يغطى جانبا من وجهه اختاره أبوسيف مفتتحا للمعرض، في الواجهة على اليمين كلمة ستانلي كوبريك عن كيشلوفسكي على خلفية سوداء باللغتين الإنجليزية والعربية وعلى اليسار، (كنت دائما أمام السمة المميزة لسينما كيشلوفسكي ، لكن تلك السمة بدت جلية بالنسبة لي عندما شاهدت الوصايا العشر بأن كيشلوفسكي لديه قدرة فريدة على تحويل ما يحمله من أفكار إإلى دراما )  ثم وجه كيشلوفسكي على كادر من فيلمه " الهدوء " حيث الناس يجرون متفرقين.

في الممر التايم لاين لسنوات هامة مكتوبة بعرض الحائط وفي المواجهة بداية من مولده وتطوره وينتهي بكادر له يراجع تكوين كادر في فيلم يصوره، تصميم مدهش لقاعة عرض صغيرة بكراسيها وشاشة عرض لفيلم عن حياته يمكن لزائر المعرض أن يستريح ويشاهد الفيلم، وإذا استدار خلفا ستتابع ثلاث شاشات متجاوره تتبدل عليها كادرات من ثلاثية الألوان أشهر أعماله، وحين تتهيأ للمغادرة ستودعك شاشة أخرى بها لقطات من فيلم " الحياة المزدوجة لفيرونيكا" ستخرج وتجد البوستر الرسمي للمعرض وعلى يمينه ويساره أعمدة لدورات الجونة الأربع التي سبقت الدورة الخامسة التي يتم فيها تكريم كيشلوفسكي بهذا المعرض وبعرض نسخا مرممة من أعماله قامت بها شركة فرنسية

( إم كا تو) وتعرض في برنامج خاص بالجونة الخامس.

صفاء الليثي

هامش: زرت المعرض عدة مرات وافتقدت وجود كتالوج مطبوع لتوثيق هذا المعرض الهام ، حدثني الفنان أنسي أبو سيف شارحا طريقة العمل ودوره مع الشركة المنفذة للمعرض.


أوجاع البشر وأحلامهم عبر العالم في الجونة الخامس

                 الدورة الأنجح رغم الحرائق والخلافات

ولأن العبرة بالخواتيم جاء حفل افتتاح مهرجان الجونة هادئا وراقيا، وملخلص كامل التوفيق لدورة ناجحة بأفلامها وتنظيمها وفعاليات منصتها، مسح حفل الختام كل ما أثير من مشكلات، والبداية بتحية سميح ساويرس مؤسس مدينة الجونة لعمال أوراسكوم ممن أصلحوا المسرح الذي اندلع بمسرح المارينا قبل الافتتاح بيوم، نالوا تصفيقا فاق الحاصلين على الجوائز على حد قوله، كما قدم نجيب ساويرس مؤسس المهرجان تحية لوالده في أول دوره لا يكون موجودا فيها لرحيله، وباسمه قدم جائزة سينما من أجل الإنسانية للفيلم الوثائقي " أوستروف جزيرة مفقودة" الذي حاز أيضا على نجمة الجونة الفضية في مسابقة الوثائقي. وكان النجاح الثالث لكلمة مدير المهرجان انتشال التميمي الذي قدم فيه التحية لشركائه في العمل باتزان واحترافية كما أعلن عن موعد الدورة القادمة وكانت كلمته تعني الكثير وتقطع كل الشائعات.

تقدم الأفلام بانوراما لأوجاع البشر عبر العالم، وجع الدول الفقيرة والتي تمر بأزمات اقتصادية، ووجع البشر ومشاكلهم في العالم الأول. الحياة ليست وردية  في أي مكان ولا مجال لأفلام التسلية. الهندي " ذات يوم في كلكوتا " فيلم ينتمي لواقعية معاصرة بعيدا عن بوليوود وزيفها، ينطلق من مشكلة تخص سيدة ماتت طفلتها الوحيدة ولا تجد سكنا رغم أن والدها أورث أخاها غير الشقيق منزلا ودار عرض قديمة، هو معاق وستنتهي حياته بمأساة، يعرج الفيلم على شخصيات فاسدة تؤثر على حياة الأفراد وتعكس أزمة الأنظمة الرأسمالية الباحثة عن الربح.  اللبناني" كوستا برافا " معبر عن الحالة اللبنانية الراهنة حيث تزحف النفايات على المنازل الجميلة، قادت المخرجة مونيا عقل أبطالها ببراعة وخاصة الطفلة ومن قامت بدور الجدة، نال الفيلم جائزة نجمة الجونة الخضراء لأفلام تتناول مشاكل البيئة ، كما نال جائزة لجنة الفيبريسي أيضا. 

النرويجي بعنوانه المثير " أسوأ شخص في العالم " تعاني بطلته من أزمة وجود، والبطل الناجح يصاب بالسرطان مرض العصر ويزيده هجر حبيبته له اكتئابا يعجل بموته. قسم المخرج فيلمه إلى فصول عناوينها مشوقة، تمثيل البطلة بارع سبق لها الحصول على جائزة أفضل ممثلة في كان وتوقع متابعو الجونة أن تحصل عليها من لجنة تحكيم الجونة التي انحازت لتمثيل الطفلة مايا فاندربيك بطلة "ملعب" للمخرجة لورا فونديل في عملها الأول ، ركزت المخرجة أحداث فيلمها في ملعب المدرسة من الفسحة، كما ركزت على الطفلة التي تعاني من تنمر زملاء المدرسة ضد أخيها الذي يعاني مشكلة نفسية، كما تعاني من تنمرهم ضدهاومعايرتها بأخيها، المخرجة بدأت بمشهد تبكي فيه الطفلة ولا تريد أن تترك أخاها ونتصور أنها ضعيفة ولكن يتبين أنها تريد حمايته، مشكلتي الوحيدة مع الفيلم عدم منحنا معلومات كافية عن هذه المدرسة التي يصعب تصديق أنها في بلد أوربي مثل بلجيكا، المدرسة أقرب لمدرسة في بلد فقير يعاني من أزمات اقتصادية، والأطفال يحمل بعضهم أسماء عربية أو أوربا شرقية، فهل المدرسة في حي يضم أغلبية من المهاجرين؟، بعيدا عن نقص المعلومات نجحت المخرجة في عرض مشكلة تنمر وانتهت الى فاجعة أن الصبي المضطهد وجد حلا كي لا يتم ضربه بانضمامه الى مجموعة الأشقياء بتنمره على اسماعيل، فتى ضعيف البنية غالبا من أصل عربي. في " ملعب"، يفشل المدرسين وتفشل الإدارة في حماية هؤلاء  الأطفال الذين يتعرضون للتنمر،  وتأتي النهاية فاجعة اذ يتحول الصبي المضطهد إلى عضو في المجموعة التي تتنمرعلى الضعفاء ويجد أن هذا هو الحل الوحيد لكي ينقذ نفسه من الضرب اليومي ومن خوفه الذي يجعله يتبول على نفسه. أداء الطفلة مايا فاندربيك كان بارعا استحقت عنه جائزة أفضل ممثلة متفوقة على البطلات الكبار،نجمة الجونة وشهادة عن دورها في فيلم "ملعب".

وفي فنلندا يتعرض الرجل الذي أصابه العمى كمضاعفات لمرض في عضلاته، يتعرض لتنمر من أشقياء ولكنه يقاوم ببسالة مدفوعا برغبته في لقاء حبيبته التي تعرف عليها عن طريق الانترنت من خلال مكالمات صوتية فقط. المخرج تعامل مع ممثل أصابه مرض شبيه بالبطل وأصابه العمى كما بطل الفيلم ، الكاميرا قريبة جدا من وجه الرجل، هو فقط في البؤرة أما ما حوله في منطقة ضبابية كما يراها الأعمى فاقد البصر ولكنه لم يفقد البصيرة كما يقول في الفيلم للسارق المدمن الذي فشل في سحب أمواله من كارت البنك لتمسك البطل بالدفاع عن حقه. حصد الفيلم جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الروائي الطويل (نجمة الجونة وشهادة و50000 دولار أمريكي) ذهبت إلى فيلم "الرجل الأعمى الذي لم يرغب بمشاهدة تيتانيك" للمخرج تيمو نيكي ، التركيز على بطل واحد في لقطة قريبة سبق مشاهدته في فيلم "مذنب" الذي شاهدناه بالجونة أيضا منذ سنتين وحاز اعجابنا والجوائز. أما الفيلم الروسي "هروب الرقيب فولكونوجوف " " فيعود الى الماضى في حقبة صورها النظام في أفلامه الدعائية التي تتغنى ببطولات الجيش الأحمر، ويعرض الفيلم لجرائم تقوم بها الفرق الخاصة في هذا الجيش بتعذيب وإعدام للكثيرين كإجراء وقائي تحسبا لأي خيانة أو ارهاب يقوم به هؤلاء، وأغلبهم مخلصين لعملهم المفيد حقا للبشر وللوطن. حصل الفيلم على نجمة الجونة البرونزية ومشكلتي معه في العرض السادي لممارسات النظام القمعي في روسيا السوفيتيه، وما وجدته تناولا من وجهة نظر تنفي تماما بطولات الجيش الأحمر المعروفة ضد النازي في أسلوب سينمائي يقترب من السينما الأمريكية بمبالغات في رسم الشخصيات والهجوم السافر على الحقبة الشيوعية. حصد الفيلم جائزة نجمة الجونة البرونزية وشهادة و15000 دولار أمريكي) ذهبت إلى للمخرجين ألكسي تشوبوف وناتاشا ميركولوفا،  وأفضل عليه فيلم " أنا عدت يا أمي " الروسي خارج المسابقة  الذي ينتقد روسيا النظام الأوحد وروسيا المعاصرة معا ، يفضح الفيلم حقيقة شركات توظيف عسكرية لشباب كجنود مرتزقة منهم ابن أهم سيدة في البلدة يتوظف ابنها في شركة عسكرية خاصة ويحارب في سوريا ويختفي هناك، يمنحونها مبلغا من المال ونياشين غير رسمية، ترفض الأم التسليم بوفاة ابنها وتبحث عنه فيحضرون لها متطوع آخر يدعي أنه ابنها حتى لا تستمر في البحث الذي يفضح تجاوزات كبيرة، كل هذه الأحداث تتم بينما هناك محاولة لترميم منزل قديم قيل إن ستالين ومن بعده خروشوف وبريجينيف قضوا فيه أجازات وهناك فكرة لجعل البيت من التراث ولكن يتبين أنه غير صالح للترميم، رمزية البيت الذي لا يصلح ترميمه في وقت يتم فيه الكشف عن أوضاع مأساوية تخص بطالة الشباب وتعريضهم للموت في حروب كأجراء ووضع الأم التي فقدت ابنا وفكرت في النهاية في تقبل الابن المزيف كتعويض عن ابنها المفقود. من خلال أداء عظيم للممثلة في دور الأم والابن المزيف قام بالدور الممثل النجم يوري بوريسوف وله فيلمين آخرين بالجونة في مصادفة غير مقصودة، وقد رشحه النقاد لجائزة أفضل تمثيل ولكن بطل "الرجل الأعمى" الممثل بيتري بويكولاينن حازها وأوافق اللجنة على ذلك. إذ حصل على جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثل (نجمة الجونة وشهادة) ورغم الجدل الذي انتشر هل الممثل أعمى فعلا أم يمثل دور الأعمى، وسواء كان أعمى فعليا أم لا، فانه قام بدوره ببراعة مؤثرة دعمها المخرج باقترابه من وجهه وإظهار تعبيراته بوضوح بينما كل تفاصيل الصورة حوله مبهمة وخارج البؤرة.  

في كمبوديا يهدمون بناية يعيش فيها فقراء كل في مساحة لا تزيد عن 40 مترا أو نصفها، ويتم منحهم تعويضا ضئيلا لا يعوضهم عن سكنهم المتواضع في "المبنى الأبيض". بطل الفيلم الشاب حاز جائزة التمثيل في فينيسا ولا أجده يستحقها، لاحظت دوما الانحياز الى كمبوديا والتعاطف معها سوا في عرض معاناة شعبها مع الشيوعيين والخمير الحمر، أم الآن في أوضاعهم المعاصرة التي لم يحسنها منح الغرب ولا تعاطفه.

يجد صناع الأفلام من واجبهم أن يعبروا عن الإنسان الذي يعاني سواء بسبب الأنظمة أو بسبب الأمراض التي تتزايد نتيجة تلوث البيئة، أو بسبب الأنظمة الاقتصادية التي لا يهمها سوى تحقيق أعلى ربح على حساب الاستغناء عن موظفيهم  كما في  الفيلم الفرنسي " عالم آخر ". وأهم ما حدث  بالجونة 5 ما يخص فيلمنا المصري "ريش" الذي جاء الهجوم عليه في صالحه وحتى التسريب الذي وسع دائرة من شاهدوه فاشترك عدد كبير من مثقفي مصر ومواطنيها في التعبير عن رأيهم بالفيلم وتحول مهرجان الجونة إلى منصة عامة تدعم فن السينما وتعزز التواصل بين محبيها وتمحو كل الصغائر التي ذهبت أدراج الرياح.

وهكذا يأتي التركيز على معاناة البشر فكرة أساسية في كل الأفلام الفنية التي اختبرت في مهرجانات كبرى مثل برلين وكان وفينيسا، وجلبها فريق الجونة انتشال التميمي وأمير رمسيس ومعهم المبرمجين لعرضها في الدورة الخامسة لمهرجان يبعث الطمأنينة في نفوس المشاركين به لأنهم سيشهدون أهم أفلام العام في عروض منظمة كلها مترجم للعربية.

صفاء الليثي 

نشر بموقع أويما 20 مسئول التحرير مصطفى الكيلاني 


  

 

Sunday 24 October 2021

في " ريش " حيث الرجال نزقون والمرأة عاقلة

تحية للمرأة المصرية المعيلة 

أعادت أزمة فيلم ريش إلى ذهني المثل الأمريكي ( لكل منا مهنتان ، مهنته ومهنة ناقد سينمائي ) فقد قرأت نقدا للفيلم من مثقفين ومشاهدين توقف عند مشاهد هامة وأساسية بالفيلم وحللها بدقة، منها مشهد تحرش ومشهد سرقة ومشهد لقتل رحيم ومشاهد أخرى كانت علامات في فيلم يقدم رؤية أسلوبية لواقعنا المتردي.

بعيدا عن أي قدر من الإسفاف يقدم عمر الزهيري مشهد تحرش دون كلمات هابطة ولا أفعال سوقية ، بظرف شديد فجر ضحكات المشاهدين في مشهد غزل صديق البطل للمرأة التي تحول زوجها الى فرخة. تطوع المتحرش لمساعدتها في البحث عن الساحر الذي حول زوجها الى فرخة وفشل في إعادته، المشهد فائق يمثل مفتاح فهم أسلوب المخرج عمر الزهيري. فيه يوقف الرجل سيارته المتهالكة ويشغل أغنية لفايزة أحمد ويغني للمرأة التي تنظر اليه باندهاش شديد، يخرج من السيارة ثم يعود ويعلن لها عن حبه "أنا بحبك من زمان"، تدفعه بعيدا عنها وتجري ثم تعود لتأخذ التلفزيون، الأم يهمها اسعاد أطفالها فتأخذ التلفزيون وتجري الى بيتها، كان الرجل قد دفع نقودا لفك رهنية التلفزيون، يساعدها ليس بدافع الشهامة بل لأنه يحبها من زمان، لا يدين المخرج أبطاله ولا يحكم عليهم، تتسم تصرفات الرجال منهم بالنزق، الزوج ، الساحر، صديق الأسرة، ومسئول العمل كل الرجال حوارهم عبثي وأفعالهم خائبة. المرأة فقط هي العاقل الوحيد في "ريش". ورغم الحاح الرجل في مطاردة المرأة فإنه لا يحصل على مقابل  نقوده التي دفعها طواعية ولا يحصل على المقابل الذي يريده أن تبادله الحب في غياب زوجها، يزعق عاليا " افتحي الباب " مرددا عاوز فلوسي ، هي داخل البيت تحمل الرضيع ويحتمى ابنها الأوسط بجلبابها، والطفل الأكبر جالس عن بعد ويتواصل الرزع على الباب من المتحرش والمرأة ثابتة لا تفتح. وتنهار حجارة حول الباب ولكنه لا ينخلع.

 ويمضي الفيلم دون أن نعرف اسما لها ، هي زوجة العامل الفشار صاحب التصرفات النزقة، لم أجده متسلطا أو قاهرا لها ، حتى وهو يعطيها مصروف اليوم من خزنته الصدئة ومحددا، النهاردة وبكرة باذنجان. يشرب لبن من كوب كبير ويفشر بمنتهى الجدية، زمان كانوا بيجيبوا لكل واحد جاموسة صغيرة ونشرب لبنها سخن، هي صامتة لا تعارض له رأيا. يقوم بإرضاع الطفل وحوله الطفلين الأكبر وهي ترفع المائدة، رغم الفقر هناك حالة أسرية لا تصل في فقرها لأسرة " آكلي البطاطس" في لوحة فان جوخ.

في أوساط عمالية تدور الأحداث وفي موقع شديد الدلالة لمصنع يطلق نفاياته ونشاهد الدخان يملأ المكان فتغلق الزوجة نافذة صالة بيتها القريب جدا من هذا المصنع لتمنع دخول الدخان. هذا الموقع الداخلي المطل على ما يمكن اعتباره أطلال مصنع لا نعرف شيئا عن نوع العمل به، الزوجة أم لثلاثة أطفال ولدين ورضيع لم يحدد لنا المخرج نوعها، بنت أم ولد . هذه الأم وجدت نفسها مسئولة عن إطعام أطفالها وسداد ديون تورط فيها الزوج فلم يسدد إيجار المنزل وأصبحت مهددة بالطرد، رغم انفاقه النقود على حفل عيد ميلاد ابنه الذي اختفى فيه بفعل الساحر، هذا فيلم لا يرضي الباحثين عن حواديت، أو من ينتظرون حل اللغز، هل تحول الزوج فعلا الى دجاجة أم أن هناك حيلة ما لاختفائه واستغلال زوجته من الصديق الذي أحضر الساحر الذي اختفى ثم ظهر هو كمنقذ للمرأة وفارسا لحل مشاكلها. لا أتصور بديلا عن الممثلين غير المعروفين الذين قاموا بأدوار، الزوج، وصديق الزوج العاشق للمرأة ، والساحر، و موظف المصنع الذي يطبق القانون بصرامة غبية، ، احنا ما بنشغلش ستات لكن ممكن ناخد الولد يشتغل بدل أبوه، أي عمل هذا يستطيعه طفل في الثامنة من عمره!، وما الذي يمنع عمل المرأة!. الرجل يتحدث ناظرا للكاميرا فيما يمكن اعتبارها محل المرأة الحائرة التي تبحث عن حل  لتعويض غياب الزوج وإطعام أطفالها.

توقف معلقون ممن شاهدوا الفيلم بعد تسريبه عند مشهد سرقة المرأة لقطع من الشوكولاته وقطعتين من اللحم، ضبطها كلب الهانم صاحبة المصنع ثم التهم قطع اللحم وعوقبت المرأة الأم بطردها من العمل ، لتبدأ رحلة جديدة في البحث عن عمل آخر في مؤسسة غريبة، واجهة بها فساتين أطفال وفي الداخل أدوات صحية، نوعيات الأعمال التي اختارها المخرج تمثل صورة عبثية عن هذه الكيانات، مصانع  غير معروف نشاطها ، هل هي مؤسسة لجمع الروبابيكيا؟ ، أعمال صغيرة مثل عمل المتحرش الذي تمتلي شنطة سيارته ببضائع غريبة قد تكون من مهربات التصدير، أو ما يطلق عليه مصادرات الجمارك. أتفاعل مع الفيلم وأجده معبرا عن بيئات عمالية في مصر كحلوان أو امبابة، أو ضواحي الجيزة، أماكن حقيقية في مصر وأختلف عن اعتبار الفيلم يجرد الزمن والأماكن . هذه مناطق أعرفها وبناية منزل الأسرة في الفيلم تمثل أحد المساكن الشعبية، بناية لم يصورها المخرج حرفيا كما في الواقع حيث تطفح حولها المجاري ولكنه صور منزل تطل نافذته على دخان المصنع خالقا واقعا فنيا يعبر عن أجواء كارثية يعيشها هؤلاء العمال وأسرهم. في محاولتي للبحث عن منطق لمشاهد لم تفسر، قرأت المشهد الافتتاحي للرجل المحترق أنه للزوج بعدما ألقي به من صندوق الساحر ، سرق أشقياء محفظته وأشعلوا فيه النار . يرفض صانع فيلم مثل " ريش " أي تفسيرات كهذه أو أي تشبيهات أو اسقاطات، ولكني أمارس حريتي في التلقي كما مارس هو حريته في الإبداع، وأتلقى مشهد خنق المرأة لزوجها بعدما استحال شفائه كتحية لفيلم حب 2015 " آمور" صاحب سعفة كان الذهبية الذي خنق فيه المسن المحب حبيبته ليريحها من عذاب المرض، التخلص من الزوج ومن قرينته الدجاجة حلا رحيما لتمضي المرأة في حياتها، تعمل وتقاوم وتمنح أطفالها حلوى الجاتوه يأكلونها وهم يشاهدون مشاهد جميلة ملونة من التلفزيون لأسماك وزهور وأغاني مرحة من عالم آخر يعيشه آخرون، بعضهم لا يطيق التعرف على حياة عمال فيلم "ريش" وبعضهم يعرف أن هناك بشرا يعيشون هكذا، وعلينا أن نعمل على تحسين معيشتهم على الأقل حتى يتم إنقاذ الصغار منهم فلا يعملون في سن صغيرة ، ولا يحرمون من بعض المتع البريئة كمشاهدة التلفزيون أو أكل  بعض القطع من حلوى الأغنياء. أما عن انتقاد البعض لتعدد الأساليب في الفيلم بين المنهج العبثي ومنهج الواقعية فهذا معروف في منهج ما بعد الحداثة الذي يمزج أساليب متعددة في عمل واحد يفتح مساحة أمام كل متلقي للتفاعل مع المشاهد  المختلفة ومع العمل ككل حسب مرجعيته وكل حسب ذوقه الشخصي.  

لمن لم يتابع ما أسميته أزمة الفيلم ، أنه حين عرضه بالجونة عرضا أول في مصر والشرق الأوسط انسحب أثناء العرض عدد من الفنانين، وصرح أحدهم بالتهمة القديمة " فيلم يسي الى سمعة مصر" واشتعلت الأزمة وطلب البعض محاكمة من صنع الفيلم ومن أيد عرضه ومن كتب نقدا أو دفاعا عنه ، ولم تهدأ الأزمة الا بعد نشر بوست من منسق المشروع الرئاسي " حياة كريمة " ينفي أن يؤدي عمل فني إلى الإساءة إلى مصر ، وصمت المزايدون، وحصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم عربي من لجنة التحكيم الدولية بمهرجان الجونة ليضاف إلى جوائز كان بفرنسا، وجيلباو بالصين ، وأتوقع لفيلم "ريش" ومخرجه عمر الزهيري وكاتب السيناريو أحمد عامر والمنتجين شاهيناز العقاد ومحمد حفظي مزيدا من النجاح في أعمالهم القادمة معا أو مع سينمائيين جدد يضيفون لمصر نماذج من السينما العظيمة بتنويعاتها الفنية. 

صفاء الليثي

نشر مباشرة على صفحتي على الفيسبوك وأعيد نشره على مدونتي الخاصة هنا " دنيا الفيلم"