Wednesday 16 December 2015

أفلام الدورة السادسة لمشروع بلازا


من الإسكندرية إلى القاهرة...
 بدلا من المحلية إلى العالمية

مقولة قتلت بحثا أنه لكى تنطلق إلى العالمية عليك أن تبدأ من المحلية، فى السينما تحديدا لأنها الفن الذى يعبر عن مكان وزمان تحدده الصورة وهكذا نجح صلاح أبو سيف بشباب امرأة ونجح بركات بالحرام وعرضا بمهرجان كان بفرنسا ولم تنجح أفلام أخرى عبرت عن طبقة وسطى تشبه مثيلاتها فى دول العالم المختلفة. ولكن أن ترتفع أصوات مطالبة بفن سكندرى وسينما سكندرية فأمر يثير الانتباه ويجعل التساؤل مشروعا، هل نحن بصدد سينما من الإسكندرية تواجه سينما القاهرة بتفاصيلها وما تعكسه من خصوصية للعاصمة مترامية الأطراف تتمركز بها كل فرص العيش وكل الإبداعات والفعاليات الفنية وكأن (مصر) هى فقط العاصمة وساكنيها هم فقط المتاح لهم التواجد على الساحة.
تسيطر مشاعر التجاهل على الكثير من الشباب السكندرى مما دفعهم لتكوين تجمعاتهم الفنية ومؤسساتهم المستقلة متضامنين لإنجاز أفلام قصيرة وتسجيلية معبرة عن رؤاهم وعن خصوصية مدينتهم العاصمة الثانية لدولة مصر. ومع مكتبة اٍسكندرية وجد شبابها مجالا للتواصل وتحقيق جانبا من أحلامهم مع مشروع بلازا الذى بدأ بدعم أفلام صغيرة تصور على الساحة المفتوحة المواجهة لقسم الفنون بالمكتبة . وصلت مشروعات البلازا إلى الدورة السادسة اختتمت ديسمبر 2015 بعروض لثلاثة أفلام فازت بمنحة كأفضل الأعمال التى تقدمت للحصول عليها.
فى المسرح الكبير جدا والمعد ليكون قاعة مؤتمرات كبرى بمقاعده  الأنيقة المريحة والمزودة بآلية تسمح بالكتابة عليها، عرضت الأفلام وسط حضور صاخب لغالبية من شباب وشابات يمرحون ويتسامرون وكأنهم فى حفل تخرج. ولم لا فبعد عرض الأفلام يدشن صناعها ويتم الدفع بهم فى معترك صناعة السينما المستقلة التى شهدت ازدهارا نسبيا بالإنتاجات والمهرجانات والمؤسسات التى ترعاها. على يسارى جلست فتاة منتقبة وشاب دقيق الملامح كانت المرة الأولى للفتاة أن تحضر فيها عرضا عاما كهذا كما أخبرتنى، صادفت إعلانا عن هذا النشاط أثناء ترددها على المكتبة للدراسة فاصطحبت صديقا وكانت متحمسة لتجربتها الأولى، مجموعة خلفى يشبه أداؤهم أداء شباب فى رحلة جماعية، وحين بدأ منسق المشروع أحمد نبيل فى تقديم أسماء أصحاب الأفلام ارتفعت الصيحات وكأنهم يشجعون فرقا متبارية تتنافس فى رياضة ما أو فى مسابقة ما. تمنيت أن يصمتوا ويركزوا مع الأفلام ولكن الميل للتفكه كان سائدا وبدأ مع الفيلم الأول الذى يحتاج فى رأى إلى تركيز لنفهم الرمز الذى عبر عنه المخرج" العيش نوما الموت وقوفا" باسم يحمل صبغة أدبية تتأكد مع اختياره للأبيض والأسود ومع الترميز الذى يحمله الحدث الوحيد في الفيلم، موت المتشرد الذى أمضى حياته نائما فى الطل، واختار أن يموت واقفا وسط حيرة نماذج من الناس عليهم التصرف فى الأمر. المجموعة التى تبادلت الآراء حول ما العمل مع الميت تقلصت إلى ثلاثة قرروا دفن الميت إكراما له. الصورة جيدة والكادرات تشي بعين لديها حس جمالى بالتكوين، رغم الأداء الضعيف للممثلين إلا أن المخرج نجح فى المحافظة على إيقاع فيلمه وأوصلنا بعد دقائقه العشر إلى نهاية مفتوحة فالصدفة وحدها خلصتهم من المشكلة بسقوط النعش فى مياه النيل. تجربة أولى لشاب من بنها تظهر بها بذور قوية للقدرة على الإيجاز والترميز، حاملة وجهة نظر نقدية فى طريقة تصرف المصريين في مشكلة ما تواجههم. حين يقدم المخرج نهاية مفتوحة دون أن يحاول شرحها أو تفسيرها بجملة تعليق نسمعها، أو بكتابة على الشاشة فإنه يترك للمشاهد حرية التلقى ويتيح له تفسير الأمر كل حسب مرجعيته. المخرج أحمد عصام يؤدى خدمته العسكرية فلم يتمكن من الحصول على ردود أفعال الشريحة الأولى من مشاهدى فيلمه الذين تنوعوا بين الراغبين فى التسلية وانتظار ما يثير شهيتهم للضحك، وبين الراغبين فى التواصل الحقيقى المنفتحين على تقبل رسائل من الأعمال التى يشاهدونها.
" العيش نوما والموت وقوفا " يضع صانعه على بداية طريق الإبداع لأعمال تحمل قيمة فكرية وجمال فنى خاص مع رؤية نقدية واضحة، بقي أن ينجح فى إيصال فكرة واضحة للقصة التى يحكيها، نعم كل مخرجينا المبدعين يتحدثون عن أن الفيلم يحكى قصة ما ولابد أن يفهم المشاهد تماما ماذا جرى. هذه المقدرة على إيصال الفكرة تحتاج خبرة ونقاشات لم يترفع عنها كبار مخرجينا، " كتبت قصة الفيلم وعرضتها على كمال سليم وبركات " هكذا تحدث صلاح أبو سيف عن فيلمه الأول الذى نجح مع الجماهير وحقق له سمعة طيبة مع النقاد " دايما في قلبى " .
حاجة ساقعة والمعاناة من برودة الوحدة
العمل الثالث والأخير الذى عرض فى مجموعة بلازا السادسة للشاب عمروش بدر الذى يوقع باسمه المفرد على مشروعاته التى دأب على تقديمها مع فريق تشكل معه وخاصة من مبدعى الأداء التمثيلى- أكتبهم حسب ترتيب ظهورهم على الشاشة- وهم نبيل نور الدين ومحمد خميس والطفل زياد وعبير على ثم محمد صلاح مودى بوجوههم المنحوتة وعبر تميز خاص فى الأداء يضعهم عمروش فى سياق مواقف يعرضها بخطوط متوازية ستتجمع فى المشهد الأخير ملخصة حالة عامة من الشقاء والعيش فى كبد، تختلف تفاصيلها مع كل شخصية ويبقى الهم واحد.
طريقة بناء الفيلم بخطوط متوازية بينها رابط وحيد سبق أن قدمها عمروش فى عمل سابق له بعنوان " الفائز" وهو بناء يسمح له باستعراض قدراته فى اختيار الممثلين وتقديم تنويعات تعبرعن نماذج مختلفة من الناس، مثل الحالم والكسول، المريض والمعافى، الكبير والصغير، يختلف أداؤهم للأدورا فهناك من يمنحها صبغة كوميدية، أو ميلودرامية أو واقعية، حتى أنه يختار مكوجى حقيقى – عم سيد- ليؤدى أحد الأدوار. 
يبدو عمروش كمن يرغب فى خوض مدارس متعددة في فيلم واحد فينتقل بين الكوميدى والفارس والواقعى، فى فيلم " حاجة ساقعة " يبدأ عمروش مع عزت وهو رجل كهل يبدو فاقدا لوعيه متحدثا عن زوجته التى لا تسمح له بدخول البيت، المشهد الافتتاحى به قدر من حوار مبتذل ننساه مع تحرك عزت والكاميرا تصحبه على سلالم مكان عتيق يضعنا فى حالة فنية تشوقنا للمتابعة وتجعلنا نتأمل الحوائط المتآكلة وظلال المكان التى برع تصوير مونى محمود فى إظهار عمل الإدارة الفنية لكل من أحمد مرسي البربرى وأحمد شريف ومنه إلى دور المخرج بالطبع فى اختيار الأمكنة وأزمنة التصوير حيث تظهر درجات الإضاءة مع الفجر ثم الرماديات لمدينة ساحلية نشعر بالمطر وآثاره دون أن يهطل فعليا أو قبل أن يحدث ، يحقق هذه الرغبة فى التعبير عن محلية مدينة الإسكندرية مدعوما من شريط صوت معبر عن حى قديم من أحيائها. المشد الافتتاحى يعكس براعة الاستهلال مع قدرة على رسم الشخصية التى تصحبها كاميرا محمولة يدويا بحركات مدروسة وإيقاع يسلمنا للشخصة الثانية أب على دراجة بخارية يصحب ابنه إلى المدرسة، وفى الشارع تتركه الكاميرا وتنحرف مع ميكروباس وخناقة بين فتاة متحرش تنزل الفتاة وتصحبها الكاميرا وعند منتصف الطريق تتركها لتتابع الشخصية الرابعة لشاب أسمر بمظهر رياضى. نبقى معه لنعرف جانبا من حكايته ونعود للمسن عزت يفطر على عربة يحكى حكاياته الوهمية ومن جملة حوار ننتقل الى ردها في مكان آخر ومع الفتاة التى يتبين أنها سيدة تدير محل كوافير تنفس عن غضبها فى عاملتين بالمحل. يمتلك الفيلم براعة الاستهلال وحرفية الانتقالات بين الخطوط باستخدام حركة كاميرا مع الشخصيات وعن طريق المونتاج والجمل الحوارية التى تكمل بعضها بسلاسة .
هناك اقتصاد كبير فى استخدام الموسيقى التعبيرية من خارج الكادر فقط  للتعبير عن مكنون ما فى نفوس الأبطال. وتتراوح المشاهد بين القوة والضعف، فالاستهلال القوى والإيقاع المتوازن يختل في عدة مناطق يصل لأقصاه فى النهاية مع المشهد الذى تتجمع فيه الشخصيات بمصادفة محسوبة من المخرج بدأها فى الكتابة ولم ينجح بالكامل فى تنفيذها مع المونتاج والمكساج. وهو أمر يمكن تداركه وخاصة أن عمروش لا يكابر ويستفيد من كل الآراء التى سمعها من الحضور فى عرضه الأول ومنهم المخرج المسرحى حمدى عبد العليم الذى أشاد بالفيلم كونه الأقرب والأحق بتسمية فيلم مع تحفظه على النهاية التى بدت مبهمة لخلل الإيقاع.
تلاعب المخرج بالاسم "حاجة ساقعة" معبرا عن البرودة التى تعانى منها شخصياته مع وجود الحاجة الساقعة فعليا ضمن تفاصيل الحدث، يطرح عمروش عددا من  المشاكل  السائدة فى المجتمع المصرى، مشكلة ترمل الرجل وعجزه عن مواصلة الحياة بدون رفيقة حياته، ومشكلة الانفصال مع وجود طفل يعانى نتيجة هذا الأمر، ومشكلة عنوسة المرأة أو وحدتها بلا رفيق، وأخيرا مشكلة البطالة بين الشباب وبحثه عن عمل يناسبه لنصل إلى مشهد زفة نوبية شارك فيها الشخصية الرابعة وهو يرقص ويوزع زجاجات حاجة ساقعة  أمام محل الكوافيرة فى مصادفة وجود الرجل بالدراجة مع ابنه وعم عزت الذى بدأ الفيلم به يطلب زجاجة حاجة ساقعة لزوجته. انتوى المخرج تجميع الأبطال فى مشهد زفة العرس ولكن الخلل الإيقاعى سبب تشوشا لدى المتلقى وهو ما يمكن تداركه عن طريق المونتاج.
عمروش مخرج مؤلف يرسم شخصياته جيدا، لديه حس حميم بالناس، يكون فريقا يعمل معه بتفهم ومشاركة حقيقية، يتعلم من حضور عدد من الورش التعليمية ومن المشاهدة المكثفة للأفلام التى تظل منبعا للمعرفة واكتساب الخبرات، يدرس السينمائي الذكى قوالبها ويستوعبها ليجدد فيها مطورا وسائل التعبير لدية لينجح في  إيصال فكرته وإلى التواصل مع الناس . شاهدت أفلام الدورة السادسة لمشروع بلازا بمكتبة الإسكندرية، ووجدت أن فيلم " حاجة ساقعة " الأفضل والأكثر اكتمالا مع امتلاكه لذوق رفيع فى جماليات الصورة دون إغفال التعبير عن قضايا مجتمعية هامة. والفكرة مع هذه الكوكبة من الفنانين أمام الكاميرا ووراءها صالحة لتمثيل مصر فى أعرق المهرجانات الدولية وممكن أن يتحول إلى عمل روائى طويل بتفاصيل تشبع المشاهد الباحث عن حقه كاملا فى المتعة بكل أنواعها.

كان الطقس دافئا والحضور حميم، زاده نقاش حاد جرى فى الندوة التى أدارها باقتدار منسق المشروع المخرج أحمد نبيل، استمر النقاش خارج القاعة وتحولت شوارع الثغر الجميل إلى ساحة تواصل فيها الحضور على وعد بلقاءات متجددة مع كل إنتاج جديد لمشروعات قسم الفنون بمكتبة الإسكندرية.  
                              نشر المقال بجريدة القاهرة الثلاثاء 15 ديسمبر 2015 رئيس التحرير سيد محمود