الباب المفتوح بين الفيلم والرواية
تبدأ الرواية فى تاريخ 21 فبراير 1946 بحدث التظاهر فى
ميدان الإسماعيلية_ التحرير الآن- بمظاهرة من أربعة آلاف شخص ، قامت أساسا ضد
الإنجليز، " يقوم الإنجليز يخرجولها خمس عربيات مسلحة تمر وسطها.... أنا
شخصيا أعتقد أن المظاهرة دى كانت مرحلة جديدة من مراحل كفاحنا الوطنى... أول حاجة
الجيش امتنع عن تفريق المظاهرة، ومش بس كده ، عربيات الجيش كانت ماشية فى البلد
وعليها شعارات وطنية... واشتراك العمال مع الطلبة والشعب كله، بقولك أنا دى بلد
الجدعنة، دا حتى النسوان خرجت من بيوتها، شفت النسوان فى باب الشعرية ، أنا شخصيا
لو عشت ميت سنة مش هأنسى المنظر اللى شفته فى سليمان باشا، أعلام من دم"
الجمل السابقة من الرواية التى كتبت فى الستينيات عن أحداث ماقبل ثورة يوليو 1952
حتى عام 1956 .
وهكذا من العام إلى الخاص حيث عائلة محمد أفندى سليمان
الموظف بالمالية بالسيدة زينب، عائلة ليلى 11 سنة وهى رايحة تفتش على محمود أخاها
طالب الثانوى صغيرا ولم يدخل الجامعة بعد. فى رابعة ثانوى وعنده 17 سنة، وابنة
الخالة جميلة وأخاها عصام، احتفظ الفيلم بأسماء شخصيات الرواية وملامحها الأساسية
، فقط تحركت البداية عدة سنوات لتتحدث عن الآنى والهام فى الفترة الناصرية. حيث
يبدأ الفيلم قبل العدوان الثلاثى بسبع سنوات فقط مع عام 1949 .
البدأ بليلى 17 سنة وليس 11 سنة كما فى الرواية مكن
المخرج من التركيز فقط مع فاتن المقنعة جدا فى دور طالبة الثانوى، واستخدم كل
تفاصيل ملامح الشخصية التى كتبتها الرواية فى رسم ملامح الشخصية وتتبع حركتها،
ليلى فى الفيلم ابنة 17 سنة التى تمتلك حماس وانطلاقة وبراءة ليلى فى الرواية 11 سنة، تصف لطيفة الزيات بطلتها: "
اندفعت تجرى... متفاخرة بأخيها ومتابعة للأحداث التى تجرى فى مقابل جميلة "
اللى ما بتعرفش حاجة أبدا، تهتف أنها تريد السلاح لتحارب الإنجليز. وعند اندفاعها
تصطدم بالوالد..." شخصية مرسومة
جيدا بالكلمات نقلها المخرج معبرا عن هذا
الحماس وهذه الفرحة بالنصر على الأعداء، فى الرواية يعلق الأب على أن كل شيء ينكسر
فى يدها" أنا قلت دى مش بنت دى فتوة" . يحتفظ المخرج بجمل حوارية هامة
مرتبطة بحركة الشخصية ولغته السينمائية من ميزانسين فى الكادر وأحجام لقطات وأداء
للشخصية.
تتطرق الرواية إلى تفاصيل تجاوزها الفيلم مثل رغبتها فى
نيل رضا كل من بالمدرسة، وحدث البلوغ والدورة الشهرية ( الأم لم تعنف ليلى هذه
المرة، بل قالت لها ، ما تخافيش يا بنتى انت كبرت ،كبرت، ومن هنا ورايح خروج لوحدك
مفيش، من المدرسة للبيت) . ولكن يبقى دخول عصام ابن الخالة مشروعا ومفسرا من
الرواية ( عصام مش غريب، عصام ابن خالتك،اتفضل يا ابنى هى ليلى هتتغطى على ابن
خالتها) وهو ليس رأى الأم وحدها بل يؤكد الأب على ذلك ( عصام معلهش، عصام مننا
وعلينا) ويكون رأى ليلى( أنا فى الحقيقة احترت معاكى يا ماما، كل حاجة أعملها
تطلع غلط فى غلط، فترد الأم ( اللى يمشى على الأصول ما يغلطش..) ثم تشرح ما هى الأصول. وسنة بعد سنة نمت ليلى، .تجاهل الفيلم الفصل الأول كحدث ولكن تمت الاستفادة منه فى التعرف على ملامح
الشخصية وطبيعة العلاقات داخل الأسرة. سيبدأ الفيلم مع ليلى وهى فى السابعة عشرة
وسيتم استغلال وصف الرواية لحجرة ليلى وطبيعة حركتها مثل ما كتبته الزيات عن
انطلاقها وفتح الشباك واحتضانها للعالم يوظفه السيناريو مع مشهد اكتشاف حبها لعصام
. .
قلل السيناريو من ازدحام الشخصيات التى ترد فى الرواية،
مثل صديقات الأم وخاصة سامية هانم وسيتم استخدام جمل حوارية من هذه الفصول لتوضع
فى موضع آخر بالفيلم حيث تعنف الأم ليلى (انت إزاى تقولى الكلام الفارغ ده؟ فترد
ليلى(الكلمة اللى جت على لسانى، اللى بحسه ولا يمكن أكدب) إذن تم حذف صديقات الأم
وقصة ابنة سامية هانم المنتحرة ، وتم الإبقاء فقط على الأسرتين فى بناية واحدة،
وأصدقاء المدرسة والجامعة، تكثيف الشخصيات والأماكن جاء فى صالح الفيلم الذى
شاركت كاتبة الرواية الأصلية فى صياغة السيناريو له مع المخرج والسيناريست
المحترف.ركز الفيلم على ليلى والرجال الثلاثة فى حياتها عصام ابن الخالة وجار
السكن، وصديق الأخ وزميل النضال الأقرب لروحها، ثم أستاذ الجامعة الذى يمثل
التناقض فى الرجل الشرقى. الإيجاز السينمائى الناجح الذى قدم أحداثا وأماكن
وشخصيات فى ساعتين كتبت فى رواية طويلة فى 300 صفحة. جمع السيناريو كل الشخصيات فى
رباط مع الشخصية المحورية ليلى ولم يخرج عنها.
دون أن يتفرع كثيرا إلا ليدلل على تبنى صناع الفيلم ومنهم الكاتبة لطيفة الزيات نفسها لأفكار ليلى الفتاة
التقدمية التى اتخذت من الأخ المناضل محمود قدوة ومثلا وليس الأب كما تفعل غيرها
من الفتيات. تتطابق الفيلم كثيرا مع الرواية مثلما نجده فى البداية مع اندماج ليلى
فى الحياة العامة والاحتفاظ بنص الحوار ، تقول ليلى معارضة زميلاتها : أهلى أهلى
.. زاندفعت مع مجموعة الطالبات. دعم الفيلم شخصية ليلى وتم الاستغناء عن أحلام
اليقظة فى الكتاب وظهرت ليلى قوية لا تخشى شيئا ، انحاز بركات ويوسف جوهر وفاتن
حمامة لليلى كما فى هذا الجزء: ( لم تحلم ليلى هذه الليلة، كان كل جزء من جسمها
ينبض بالحياة، وقضت ليلتها ساهرة وهى مستلقية على ظهرها وكأنها تنتظر شيئا) وفى
المدرسة تزعمت رفض البنات للتفرقة بينهن وبين الطلبة، البلد كلها قايمة على رجل،
وكل المدارس هتخرج، واشمعنى احنا اللى ما نعبرش عن شعورنا) .
مشهد المدرسة ( تقدمت الناظرة إلى الميكرفون، وقالت إن
وظيفة المرأة هى الأمومة، ومكان المرأة هو البيت.. وأن السلاح والكفاح للرجال) فى
الرواية عارضت الناظرة فتاة سمراء ، فى الفيلم التى عارضت هى ليلى "البطلة
فاتن حمامة" وقد تم تدعيم شخصيتها منذ البداية ، هى فى الرواية معجبة وتحلم
بأن تكون مثل الفتاة السمراء، حالمة بهذه " البنت الهايلة" ولكنها فى
الفيلم هى التى قالت وهى التى قادت المظاهرة. وهكذا السينما حين تحمل البطل الذى
يتوحد معه الجمهور بكل الصفات الإيجابية
فيزداد التأثير وتصل الرسالة إلى الجموع.
تعود الكاتبة لتصف تحولا فى شعور ليلى ( اندفع الدم فى
رأس ليلى ، انتشت.. ارتفعت على أكتاف الطالبات .. وانطلقت من جديد تهتف بصوت غير
صوتها، صوت وحد كيانها وكيان الكل) يتخلص السيناريو من كل ما يعوقه فلا عودة إلى
الوراء- فلاش باك- بل اندفاع وتقدم بالسرد محتفظا بكل جملة حوار ممكن أن تخدم
الشخصية ( كان حد قالك تعملى العملة السودة اللى عملتيها، تفضحينا وتجرسينا فى
الحته، هى جميلة مش بنت زيك، اشمعنى ما عملتش عملتك؟) ويستمر الحوار يكاد يكون
متطابقا فى الفيلم والرواية يعكس صداقة مبنية على الإيمان بنفس الأفكار بين ليلى
وأخيها محمود، ويتحول الوصف الأدبى إلى انتقالات بين محمود وليلى وإلى جمل حوارية
واضحة لا تترك أى لبس وتوجز المشهد، ويدخل ابن الخالة عصام فى التزام بالتتابع من
المخرج ويدور كما كتب بالرواية ومنها ( انت مش أختى الصغيرة؟) واقترابه وتدليله لها
كأخت صغرى، غضبها واتجاهها إلى النافذة، وعند جملة ( أنا مش عيلة) يحدث التحول
والاكتشاف، تحول العلاقة إلى توتر بين شاب وفتاة بسبب الانجذاب الجنسى، واكتشاف
الرغبة – الحب من جانب ليلى وعصام، يقطعه دخول الأم . تطابق تام ولكن الفيلم أكثر
رومانسية وجمالا وأكثر فهما للتحول ففى الرواية وبعد انصراف عصام ستشعر بالبرد
وتغلق النافذة، فى الفيلم ستفتح الشباك، وتحل عقدة كرافت المدرسة وتنفتح شهيتها
إلى الطعام، تغيير استعاره المخرج من وصف الشخصية فى الفصل الأول الذى استغنى عن
أحداثه. الحب الوليد عبر عنه فاتن حمامة وحسن يوسف دون حوار مباشر بأداء تمثيلى
وبلغة السينما بينما فى الرواية ( عصام بيحبنى وأنا بحب عصام) والوصف فى الرواية
غاب لمدة أربعة أيام، أما فى الفيلم فقد نجح المخرج عبر إيقاع الانتظار وحوار
شخصياته فى إشعارنا بمرور الوقت عبر تدفق سردى واستخدام رائع للمونتاج المتوازى
الذى ضفر حدثين يحدثان معا وهو خطوبة جميلة إلى ثرى لاتحبه بشكل رسمى وتحول
المشاعربين عصام وليلى. ومن المؤكد أنه دارت مناقشات وعصف ذهنى بين صناع الفيلم
أثناء الكتابة ليحفظ الاحترام الدائم لشخصية فاتن حمامة وما تمثله أمام جمهورها.
ومتوافقا أيضا مع طبيعة الشخصية القوية صاحبة المبادئ والحرة أيضا. وستم تقديم
حلول فى السيناريو تشرح كل الصياغات الأدبية بتقديم وتأخير يعيد بناء المشاهد التى
لجأ فيها بركات إلى تقنية المونتاج المتوازى ، رابطا بين الحبيبين وحاذفا الحلم –الكابوس-
كما حذف أحلام اليقظة من قبل ليتمكن وهو مخرج الواقعية الرومانسية التى تعيد بناء
الواقع بأسلوب شعرى وجمالى يحتفظ بأجمل ملامح بناء الشخصية مع الاستخدام الأمثل
للغة السينما فى تكوينات الكادر- إطار الصورة- والإضاءة والانتقالات ، وأحجام
اللقطات، والأهم عبر الأداء التمثيلى البديع ، مستخدما كاميرا تتحرك بحساب، ويقطع
المونتير الفنان فتحى قاسم فى الحركة، رغم أنها إحدى المحاذير المونتاجية،
يمارسها بحرفية فيحقق تدفقا وتموجات فى تتابع اللقطات وانسيابها. وهكذا يغير
المخرج ومعه يوسف عيسى الذى كتب معه السيناريو ولطيفة الزيات مشاركة لهم، يغيرون
ما يلزم ليحافظ على نقاط القوة فى تتبع الشخصية فى الأماكن التى أحسن استخدامها رغم محدوديتها لتتنوع المشاهد بين صالة البيت وحجرة ليلى والممرات أمام السلالم
والمصعد المفتوح، شقة الخالة وحديقة المدرسة والجامعة. اختصر الفيلم كثيرا من الثرثرة
الكلامية ( نظرة العتاب من ليلى... التى استقبلت بها عصام وهو متردد فى الدخول إلى
الشقة) اختصرها الفيلم بأداء ممثليه وجمل حوار منتقاة بعناية جواهرجى ولم لا وهو
حفيد الصائغ أنطوان بركات. يمكننى المضى هكذا بين الرواية والفيلم لنستدل على تفوق
الفيلم على الرواية فى البناء والإيقاع.
صفاء الليثى
نشرت بكتالوج معرض مئوية هنرى بركات ( 1914-2014)
فى إطار مهرجان القاهرة السينمائي الدولى 36 برئاسة سمير فريد