Saturday 30 September 2023

السورية الرائعة أنطوانيت عازرية

 

جمال الروح والعقل معا

صديقتى السورية الرائعة أنطوانيت عازرية التي أصبحت مونتيرة كبيرة في سوريا، تزاملنا في المعهد العالي للسينما قسم المونتاج وتخرجنا عام 1975. سافرت أنطوانيت على سوريا، وبدأت العمل في المؤسسة العامة للسينما وشاركت عددا من أهم أفلام جيل يمكن أن أقارنه بجيل الواقعية الجديدة في مصر. انقطع بيننا الاتصال لسنوات، ثم جاءنى اتصال منها وأخبرتني عن تواجدها بالقاهرة  مع فيلم "ليالى ابن آوى" بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كان العام 1989، ما أذكره جيداً أنه كانت قد مرت 17 عاما بين آخر لقاء لى مع أنطوانيت قبل تخرجنا بعام واحد، كانت هناك فترة توقف بين انتهاء الدراسة النظرية ومشروعات التخرج التي تأخرت عاماً كاملاً. لذا تفرّقَتْ بنا السبل. تواصل الحديث بيننا وكأننا كنا معا طوال هذه السنوات. وكانت عينا أنطوانيت النجلاوتان تبرقان بنفس الحماسة وكنتُ أنا اتهديت، مجهدة برعاية ثلاثة أبناء مع العمل في المونتاج.

 سرنا في الطريق إلى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر حيث كان يقام المهرجان وقتها، كانت المرة الأولى لى بعد انقطاع أن أحضر عرضاً يجمعنى مع الزملاء. يحكي فيلم "ليال بن آوي" عن أسرة تعيش في بيت وسط الجبال، تعمل في زراعة الأرض، الأب مسيطر، يعيش ابنه الأكبر في المدينة من أجل الدراسة، وهو في الحقيقة هارب من جبروت الأب، ويلجأ الإبن الأوسط إلى جيرانه في الحقل وإلى الهروب بين أحضان جارته، بينما الابن الثالث الأصغر بلا طموح، أمّا الزوجة فهى قليلة الكلام. أسلوب المخرج يعتمد على اللقطات الطويلة بحركة كاميرا بانورامية، يلجأ إلى القطع عندما يتوتر الحدث وتصبح اللقطات القريبة معبّرة في صمت عن العلاقة بين الأب المتسلّط وباقي أفراد العائلة، تتدخل المونتيرة أنطوانيت عازرية لضبط الإيقاع بالقطع في اللحظة المناسبة، في الربع ساعة الأولى تم تقديم الأسرة حتى مشهد العرس وزواج الابنة. التفاصيل مدروسة بعناية فمثلاً يركب الأب القوي الحمار قائداً موكب العمل وباقي أفراد الأسرة يسيرون خلفه مقهورين، كان قراءة اسم صديقتي التي أحبّها وأقدّرها على عناوين الفيلم أمراً محفّزاً ومُفرِحاً لي.

 وجدتْ أنطوانيت مناخاً لتميّزها في سوريا فور تخرجها معنا من المعهد العالي للسينما دفعة 1975 محققة المرتبة الأولى علينا، في السنة الثالثة  سنة ما قبل التخرج قُمنا فيها بالثورة على الأساتذة والمناهج، بادئين برفض الانتظام في محاضرات الفنان التشكيلى يوسف فرنسيس وكنا نجده غير كفء، كانت عميدة الأكاديمية الكاتبة التقدمية لطيفة الزيات، والأديب يوسف السباعى وزيراً للثقافة، وقد تقابلنا معهما نحن المحتجّين من المعهد أنا وأنطوانيت في الصف الأول من المسيرة، تحدثتْ أنطوانيت بلكنتها المحببة وكانت نوعاً خاصا من الفصحى، قاطعها يوسف السباعى: "إنت منين؟" قالت: من حلب، قال: "وأنا بقول العيون الحلوة دى منين"، ضحكنا جميعاً وتفرّقتْ المظاهرة على وعد بالاستجابة لمطالبنا، وفعلاً أُلغيت مادة لا أذكر اسمها الآن، كل ما أذكره أن يوسف فرنسيس قد خرج باكياً، وكنا كوحوش صغار تأخذنا الحماسة في هذه الفترة ونحن نقاوم السادات وسياساته، ولم تكن مجموعة "دكاترة موسكو" قد وصلت المعهد بعد تخرجنا مباشرة قبل أن يتولوا مسئولية معهد السينما في مصر.

 عملتْ أنطوانيت مع دكاترة موسكو السوريين، وطبقاً لموقع المؤسسة العامة للسينما السورية فهى من مواليد حلب 1948، درستْ في المعهد العالي للسينما في القاهرة وتخرجتْ من قسم المونتاج سنة 1976 بعد أن قدمتْ ثلاثة أفلام عملية كمشاريع تخرج، وفاز فيلمها "حكاية ما جرى في مدينة نعم" الذي أخرجه المخرج محمد كامل القليوبي بجائزة مونتاج وإخراج بمهرجان السينما التسجيلية..
أول الأفلام التي عملتْ فيها بعد عودتها إلى سورية كان فيلم (الدجاج) للمخرج عمر إميرلاي، وفي عام 1977تم تعيينها في المؤسسة العامة للسينما ولا تزال تعمل فيها، قامتْ بمونتاج عدد كبير من الأفلام السورية الهامة منها: "نجوم النهار" لأسامة محمد، "ليالي ابن أوى" لعبد اللطيف عبد الحميد، "الطحالب" لريمون بطرس، "اللجاة" لرياض شيا وغيرها، كما قامتْ بعمل مونتاج فيلم "المنام" التسجيلي للمخرج الكبير محمد ملص . وقد نالتْ جائزتي مونتاج عن فيلم "نجوم النهار" في مهرجان قرطاج السينمائي وعن فيلم "اللجاة" في مهرجان الإسكندرية، وكرّمها مهرجان دمشق السينمائي عام 1995 عن مجمل أعمالها.

(المونتيرة أنطوانيت عازرية ولدت في حلب عام 1948 ودرست فيها، ثم درست في القاهرة وتخرجت من المعهد العالي للسينما عام 1975، باختصاص مونتاج. عادت إلى دمشق لتعمل في مجال تخصصها السينمائي في المؤسسة العامة للسينما بدمشق منذ عام 1977. حصلت خلال عملها على ثلاثة جوائز تخصصية في مهرجانات دولية. جائزة عام 1976 عن الفيلم المصري "حكاية ماجرى في مدينة نعم"، حصلت على جائزة عام 1988 عن الفيلم السوري "نجوم النهار" من مهرجان قرطاج الدولي، وحصلت على جائزة عام 1996 عن الفيلم السوري "اللجاة" من مهرجان الإسكندرية الدولي. كُرّمت في مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 1995 عن مجمل أعمالها. وكرمتها نقابة الفنانين في عيد الفنانين عام 1999. من أبرز الأفلام التي قامت عازرية بمونتاجها: "حادثة النصف متر" لـ سمير ذكرى بالاشتراك مع زهير داية، و"نجوم النهار" لـ أسامة محمد، و"ليالي ابن آوى"، و"الطحالب"، و"صهيل الجهات"، و"اللجاة". وقامت بإخراج الفيلم القصير "الأطفال ليسو دائماً حمقى" و"أبيض".)

لم يتاح لي زيارة سوريا ولكن أنطوانيت زارت مصر منذ عدة سنوات وقضت بعض أيام في بيتي ، أنطوانيت شخصية محببة، خفيفة الظل وفنانة في عملها، ساهم الفيسبوك في تدعيم تواصلنا في الفترت الأخيرة، وأصبحنا نتواصل عبر الواتساب. كما قلت سابقا قد نغيب عن بعضنا ولا نلتقي وجها لوجه، ويبقى تفهمنا وتواصلنا قويا كما كان دائما. أجرت أنطوانيت جراحة في القلب واستردت صحتها، مؤخرا عاودها التعب ودخلت في أزمة أتمنى ألا تطول ويعود وجهها مشرقا كما عرفتها دائما ، ذكية دافئة وصديقة حميمة.

Thursday 21 September 2023

"بعيدا عن النيل" لشريف القشطة تسجيلي طويل

مشروع النيل فن يتجاوز الحدود

أفراد الفرقة أثناء التصوير 
في فيلمه الوثائقي " بعيدا عن النيل " 98 ق يصحبنا المخرج شريف القشطة ومعه كاميراته وقد أصبح عضوا مشاركا في جولة لفرقة موسيقية تكونت من سبع دول على حوض النيل، الموسيقى تجمعهم ويتعانون رغم اختلاف الثقافات واللغات والأمزجة لصياغة أعمال موسيقية يقدمونها لجمهور متنوع في بلدات أمريكية. المصري مينا جرجس صاحب المشروع ومعه مساعدته نازلي من مصر و11 عضوا من البلدان الإفريقية يجمعها النيل وتفرقها الثقافات.  حاول المشروع أن يذيب هذه الفوارق ونجح نسبيا في ما لمسناه من عروض ناجحة تجاوب معها جمهور أمريكي متنوع بين جمهور مدارس أطفال، أو سكان مدينة ما، أو طلاب وطالبات حضرت الفرقة إليهم وتجاوبوا معها ضمن أنشطتهم الثقافية. الجمهور الأمريكي متنوع بطبعة مكون من البيض والسود تجاوبوا مع ايقاعات فرقة مشروع النيل وخاصة تلك الزاخرة بالطبول والإيقاعات الراقصة.

ما لفت انتباهي أن صانع الفيلم مخرجه ومصوره، ومنتجه ومن قام أيضا بالتوليف لم يزيف الواقع الذي صوره بل قدم جوانبه الإيجابية الذي بدا في أوقات المرح وما عكسته محاولات التعاون في البروفات، وركز بل أسرف في إظهار جوانب سلبية من خلافات عكست تنوع الأمزجة وكثير من الذاتية والإحساس بالأنا الذي عليهم أن يقاوموه لكي ينجح المشروع الجماعي وفكرته عن إمكانية تخطي الحدود وتقديم معزوفات إفريقية تذوب فيها النغمات والكلمات والإيقاعات. نجح شريف القشطة في خلق إيقاع فيلمه الذي ينقل للمشاهد حالات التناغم والتنافر بين أفراد الفرقة ووصل في عدد من الوحدات المشهدية التي صاغها بالانتقال بين عدة أمكنة وأزمنة لا على طريقة المونتاج المتوازي ولكن بشكل من التشظي كاسرا التتابع الزمني الذي يسير في تتابع زمني منطقي يشرح خطوات تحقيق المعزوفة بدءا بالاستعداد في البروفات ثم العرض على المسرح ثم الانتقال إلى مدينة أخرى.  قام بمزج كل هذه الأحداث بتقديم وتأخير بعض اللقطات وكأنه يقدم معزوفته الخاصة التي تتماهى مع قطعهم الموسيقية معتمدا على مونتاج الصورة مختلفة الزمن والموقع على صوت متصل لواحدة من قطعهم الموسيقية. ليصل إلى حالة فنية عالية عبرت عن كل معاني الانسجام ومحاولات التلاقي.

لم يكن القشطة محايدا بل لمست انحيازه لشخصية ما، واهتمامه بها حتى في لحظات تنفرد فيها بنفسها وهي تتزين بحرفية قبل الحفل، هي الكينية كاتينا عازفة الدرمز التي أعطاها مساحة للبوح أعرض من أخريات وآخرين، تحدثت عن تحدي التقسيم الجندري للمهمات بإصرارها على عزف الدرمز الذي يقوم به الذكور فقط في بلدها، وكان على مسافة من صليب الصعيدي المصري وأظهر ابتعاده عن المجموعة وانشغاله عنهم بمحادثات مع ابنته عبر الشات أو بمتابعة مباراة للكرة. أضاف القشطة جانبا من حديثه مع كاتيا بدا تعليقا مناسبا على مشكلة عدم اندماج صليب فقالت ان التعاون يحتاج وقتا، عند التعامل يجب أن تحافظ على تون معين وأن تختار كلماتك. بعدها يعقد مينا مؤسس المشروع اجتماعا لمناقشة تصرفات صليب الذي يشعر أنه نجم ويصعب أن يندمج مع الجميع. يقطع المخرج على صليب بلباسه الصعيدي يؤدي موالا صوفيا ويردد خلفه فانوس والفتاة الإثيوبية كجوقة، فهمت من العلاقة المونتاجية أن لصليب الحق في إحساسه بالتميز حتى لو تضايق الآخرون. حقق صليب قبل اشتراكه بالمشروع نجاحات في الغناء الصوفي القبطي ( تحت عرش الله ينبع أصلهم خالدا يبكي نبيا ). لا يتطرق الفيلم إلى مشرع صليب الفردي " مشروع صليب صوفي" الذي يمزج فيه أغاني صوفية اسلامية مع ترانيم قبطية. والمعلومة عرفتها من خلال البحث بعيدا عن الفيلم.

كان الموسيقيون المصريون الأكثر عددا في الفرقة فبالإضافة إلى صليب فوزي صاحب الموال المتفرد هناك عازف الكولا والمزمار نادر الشاعر، وهناك عازف العود محمود أبو ذكري الذي ظهر كملحن أساسي وجامع للمقطوعات ،وهناك النوبي عادل ميخا في مقابل عضو واحد يمثل بلدا افريقيا، السودانية آسيا مدني والإريتري ابراهيم فانوس والإثيوبية سلاماني، ومن كينيا دافيانو وآخر من بوروندو.

بدأ شريف فيلمه من الحفل في أمريكا ومقدمه يقدم البلدان المشاركة لينتهي بمصر ومنها ينتقل إلى أسوان حيث بداية التجمع لتكوين الفرقة والتدرب على المشروع، ينتقل بلقطة بانورامية للحقول الخضراء حول النيل ثم للمراكب وصخور أسوان دون إسراف في لقطات سياحية فالناس وتعاونهم همه الأكبر وعمود فكرته عن تخطي الحدود. وينهي فيلمه في أسوان أيضا مع المراكبي العجوز الذي ينشد بحلاوة موالا صعيديا حزينا ( أمانة يا طبيب شوف جراحي ) بينما يحرك شراع مركبه.

بعيدا عن النيل يبدأ من مصر من أسوان تحديدا، وينتهي بها وكأن القشطة يحكي أيضا عن النيل الذي عرفه المختلف عن نيل صور شاطئه مغمورا بالطمي في السودان مع آسيا مدني وهي تزور مسقط رأسها وتستقبل كنجمة وتجري لها مقابلات بتلفزيون الخرطوم. يقفز السؤال إلى رأسي متى كان هذا ؟ مؤكد قبل الأحداث الحالية والحرب في السودان، ويحدوني الحنين إلى ما تم التعبير عنه بمقطوعة دنجي دنجي، سوداني عنده كرامة مصري طول عمره أخينا الذي عرفت من الفيلم أن الشاعر كتبه عام 1920 حين كان السودان ومصر موحدين (والحيطة جنب الحيطة)، وهي المعزوفة التي تكررت بالفيلم مرات منها على المسرح ومنها في حفل خاص وقد اندمجت السودانية تغنيها في حلقة ضمت المصري صليب والاريتري فانوس والإثيوبية سلاماني كلهم يغنون دنجي دنجي بحماس وحنين لهذا الترابط الذي حاول مشروع النيل أن يحققه. كانت مهمته صعبة مع تصوير 400 ساعة واستغرق المونتاج عاما كاملا ليختار الساعة ونصف التي انتهى الفيلم إليها بهذه الصياغة الممتعة. 

كانت شخصيات فرقة مشروع النيل حاضرة دون تدخل من صانع الفيلم وجرت بينها صراعات وحدثت تحولات درامية تفوقت على غيرها من الأفلام الروائية عن جولات لفرق موسيقية. نجح فيلم " بعيدا عن النيل " بتجاوزه لتوثيق مشروع فكرة موسيقية إلى التعبير عن محاولات التعاون وصعوبة تحقيقها رغم وحدة هذا النهر العملاق، وبعد هذه الرحلة الحلم في تجاوز الحدود نعرف من لوحة مكتوبة أنهم عادوا إلى حياتهم الطبيعية.

فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم واقعي بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 44، كما فاز بالجائزة الفضية من مهرجان الأقصر الأفريقي الثاني عشر. وحاز جوائز أخرى من مهرجات دولية خارج مصر. أدعو إلى عرضه على نطاق واسع لأنه يوثق لتجربة ملهمة ويؤكد على دور الفن في إمكانية إصلاح ما تفسده السياسة.

صفاء الليثي

 

Tuesday 19 September 2023

فيلم " أيام الراديو" 2009 من انتاج المركز القومي للسينما

نبوءة سمير عوف في " أيام الراديو"

مرثية للقاهرة من عوف الأصيل

أخرج الفنان سمير عوف عملا تسجيليا يوثق فيه الإذاعة المصرية وأثرها على تنشئته الثقافية أنتجه المركز القومي للسينما 2009، اختار الصور الغنائية للمخرج الإذاعي الكبير عبد الوهاب يوسف الذي أهدى إليه فيلمه. ورغم أن الفيلم عن هذا الحنين لماضي الإذاعة المصرية إلا أنه في بعده الأعمق يقدم مرثية للقاهرة. شرفت بأن كنت المنتج الفني للعمل وقت أن أسند لي خالد عبد الجليل مهمة الإدارة العامة للإنتاج بالمركز القومي للسينما، تحمست للفيلم كفكرة وبالطبع كان الحماس الأكبر للفنان سمير عوف، وأعتقد أننا كمجموعة إنتاجية نفذنا له كل ما طلبه، لم أكن أعلم عن الموقع الخلاب الذي اختاره عوف وكان يعرفه جيدا عن سطح عمارة قديمة تطل على هذه المآذن وبينها مأذنة جامع السلطان حسن ومسجد الرفاعي. قدمت السيدتان جورجيت عازر وسلوى عبد الرحمن بتلبية طلبات الفنان ومنها بناء ديكور على سطح البناية بديكور من خشب الأرابيسك نفذه روماني النجار، وتم اختيار الطفل علاء إبراهيم ليؤدي دور الفنان في طفولته  التي يتذكرها في بيت جدته بالقلعة. اختار سمير غوف مقاطع من صور إذاعية لتكون شريط صوت الفيلم وحدها دون أي شوشرة من تعليق شارح أو مؤثرات، فقط الصور الإذاعية بالمزج الأصلي لها مع قليل من أصوات الطبيعة، وهي مختارات من الصور الغنائية للإذاعة المصرية في الخمسينيات، ملاح النيل، خوفو، عوف الأصيل، والسيرة العطرة. كلها من إخراج عبد الوهاب يوسف مقاطعها تربط القاهرة وأسوان والأقصر عبر مواقع اختارها سميرعوف بسابق معرفة بكل تفاصيلها) اختار سعيد شيمي الذي كان يفهم ما يطلبه دون شرح، فقط يشير بيده إلى رأسه، يفرك أطراف أصابعه ويفهم شيمي ما يريد. رؤية الفيلم وشكله النهائي في رأسه وعلى من يعمل معه أن يلتقطها وينفذ. كان اختارني لعمل مونتاج الفيلم ولم أكن قد عملت معه سابقا، وجدت أنه يقوم بالمونتاج فنيا ـ معتمدا فقط على من ينفذ رؤيته ، فتركته للعمل مع طارق سامي المونتير الشاب وقتها والذي يجيد التعامل مع فنيات المونتاج الحديثة على الكومبيوتر. كان سمير عوف يقول القاهرة الخديوية وكنت أجهل أن منطقة وسط البلد حيث قلب القاهرة اسمها العلمي الخديويةـ في مقابل القاهرة الفاطمية حيث القلعة ومناطق القاهرة القديمة التي كان يحفظ كل شبر منها واستخدم هنا القاهرة من الإذاعة. ومن سطح المنزل المطل على مآذن القاهرة ينتقل بسلاسة إلى معابد الأقصر، ليس أي معبد بل معبد هابو الذي يعرفه جيدا، واختاره من بين معابد الأقصر الأكثر شهرة، يصوره سعيد شيمي ومع شاريوه مصري الصنع مبدعا حركات هادئة بالكاميرا المتمهلة كما ايقاع سمير عوف نفسه. ينفذ المخرج رؤيته بلا ضجيج في التصوير والمونتاج . قدرت طريقة عمل أحد خريجي مدرسة شادي عبد السلام الفنية شاعرة بالفخر أنني كنت أحد المتحمسين لعودة سمير عوف لإنجاز أفلامه الفنية الاسثنائية والرائعة. أعدت مشاهدة الفيلم من نسخة باهتة وفرها لي الباحث القدير أ. مجدي عبد الرحمن من مجموعة شادي عبد السلام أيضا. متعلما منه الإخلاص الشديد والهوس بالتراث في كل أشكاله من المعمار إلى فنون التصوير. في القراءة الجديدة لفيلم " أيام الراديو" يملؤني الشعور بأن العمل يتجاوز الإذاعة إلى مصر كلها من القاهرة إلى أسوان. يؤدي سمير عوف دوره الحقيقي بتواجده على سطح منزل ملأه بالكراكيب بجوار طبق الإرسال التلفزيوني الذي يغطي منظر القلعة ويضعها في الخلفية، مازجا بينه وبين الطفل على خلفية مآذن القاهرة، بصمت ودون أي شرح تشرح المقارنة نفسها معبرا عن غضبه وهو يتوسط كراكيب السطح مستعيدا صورته طفلا على خلفية منزل جدته  وبجواره الراديو القديم وفي الخلفية مآذن وقباب القاهرة ذات الألف عام. سمير عوف فنان متصوف قدم في أفلامه التسجيلية رؤيته وعالمه الممتد من مصر الفرعونية إلى مصر الإسلامية معتزلا الحياة العامة مجترا تاريخه الفني الطويل مساعدا بل شريكا لشادي عبد السلم في بعض أعماله، ندا له في أعماله التسجيلية. تشكل أفلام سمير عوف ( القاهرة 1980، مسافر إلى الشمال مسافر إلى الجنوب، وجهان في الفضاء، أيام الراديو ) توثيقا لمصر التي في خاطره، فرعونية إسلامية معاصرة مليئة بالجمال وبالصوفية الحقة.  

صفاء الليثي القاهرة 2023   

فيلم " كليفتي " قراءة أولية كتبت بعد المشاهدة الأولى

 

"كليفتي" فيلم لمحمد خان في زمن كامننا

صفاء الليثي

يؤكد سيد سعيد الناقد والمخرج على أن الإبداع يأتي على غير مثال، وهذا التعريف يحصر الإبداع في أعمال قليلة جدا، ليس على مستوى مصر فقط ولكن على المستوى العالمي . الفيلم الأخير لمحمد خان " كليفتي " نوع من الإبداع يحاكي الواقع بدرجة تقترب من الطبيعية، يستعير أفكارا ومشاهد من عدة أعمال للفنان نفسه، ولفنانين آخرين. أثناء المشاهدة يصعب استبعاد "المدينة " ليسري نصر الله، ولا شخصية أحمد زكي في فيلم "أحلام هند وكاميليا"، ولا مونولوجات خيري بشارة التي يحادث فيها الأبطال أنفسهم ويتفلسفون . "كليفتي" الذي ينتظره عشاق السينما المصرية المختلفة لأنه أولا فيلم لمحمد خان ولأنه ثانيا صور بالديجيتال، سينما المستقبل حسب رأيه . كليفتي نوع من أفلام الطرق لا يستقل البطل فيه مركبة ما، حصانا أو سيارة، ولا يرتحل في البلدان المختلفة، ولكنه، وهو الصعلوك الذي بلا بيت يأويه، يتحرك عبر الأمكنة داخل وخارج مدينة القاهرة، وطن الصعلوك الذي لا اسم له، كاشفا عن كثير من مظاهر حياة الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، سائقي الميكروباس، صغار التجار والبائعين، صاحب عربة الكبدة، والخرتية، لا نستطيع أن نبعد عن ذاكرتنا "رومانتيكا" زكي فطين عبد الوهاب، أول من قدم تشريحا لهذا النمط من شباب العاصمة الذي يسترزق من مصاحبة السائحات الأجنبات ويتصعلق معهن. فرضت الأجواء العشوائية التي يتنقل فيها البطل حوارا شديد السوقية، لاينتمي لسينما محمد خان التي عرفناها. السينما التي تقدم الفقر والتهميش دون أن تتورط في أي نوع من الابتذال، أو السوقية. ودون أن تتهم مع ذلك بأنها تزيف الواقع، سينما محمد خان التي يمثل "أحلام هند وكاميليا" أحد صورها المشرقة، خالية تماما من كل ابتذال أو أي لفظ سوقي، تلك اللهجة التي تسيطر على حوار كليفتي، ويكثر فيها استخدام اسم الأم دون احترام، مما يضع الفيلم في سياق الظرف التاريخي للسينما المصرية في نماذجها الأخيرة، ليعود السؤال هل السينما هي انتشار وتبديل اللغة إلى مفردات أكثر فجاجة؟ أم أن الواقع المتغير هو الذي يفرض هذه اللغة؟  قد يكون تحديا من المخرج محمد خان الذي أصر عن طريق الإنتاج لنفسه وبالديجيتال أن يكون على الساحة، وأن يتواجد بفيلمه، ولسان حاله يقول (ها أنذا بفيلم لا يشبه السائد ولكن يشبه أفلامي وأفلام من أجبرتموهم على الانسحاب، الاحتجاب، أو التحرك في هامش ضيق) . فيلم كليفتي يعبرعن رغبة لدى فنان يتوقع منه الجميع عملا يتسم بالخصوصية والتميز، في أن يدلي بدلوه في كل تلك القضايا والأشكال الفنية المطروحة، فيلم يستمد نماذج السينما السائدة ويخضعها لقالبه الفني الخاص، كليفتي فيلم لمحمد خان في زمن كامننا . محمد خان لم يخذل محبيه وقدم فيلما يشبه أفلامه مع قدر من التغيير المتماشي مع واقع القاهرة ومصر الآن.  

كانت هذه قراءة أولى لفيلم "كليفتي " تستوجب قراءات أخرى تحليلية لا أتذكر أنني نشرت المقال أم لا وجدت مسودته أثناء تقليبي في ملفات قديمة.

ومن موقع السينما العربية : كليفتي 2004

تدور أحداث الفيلم حول رجل يستطيع أن يصرف كافة أموره في ظل الحياة الصعبة بالنصب والإحتيال، ويرتبط بفتاة تسعى للزواج منه ويخيب ظنها لترتبط برجل أخر حتى يجد نفسه وحيدًا مما يدفعه للاستمرار في النصب مرة أخرى.

ﺇﺧﺮاﺝ: محمد خان (مخرج) نسرين الزنط (مخرج مساعد)

ﺗﺄﻟﻴﻒ: محمد ناصر علي (قصة وسيناريو وحوار) ومحمد خان

طاقم العمل: باسم سمرة ، رولا محمود ، سناء يونس ، أحمد كمال ، محمد عبدالعظيم ، خيري بشارة