نبوءة سمير عوف في " أيام الراديو"
مرثية للقاهرة من عوف الأصيل
أخرج الفنان سمير عوف عملا تسجيليا يوثق فيه
الإذاعة المصرية وأثرها على تنشئته الثقافية أنتجه المركز القومي للسينما 2009، اختار
الصور الغنائية للمخرج الإذاعي الكبير عبد الوهاب يوسف الذي أهدى إليه فيلمه. ورغم
أن الفيلم عن هذا الحنين لماضي الإذاعة المصرية إلا أنه في بعده الأعمق يقدم مرثية
للقاهرة. شرفت بأن كنت المنتج الفني للعمل وقت أن أسند لي خالد عبد الجليل مهمة
الإدارة العامة للإنتاج بالمركز القومي للسينما، تحمست للفيلم كفكرة وبالطبع كان
الحماس الأكبر للفنان سمير عوف، وأعتقد أننا كمجموعة إنتاجية نفذنا له كل ما طلبه،
لم أكن أعلم عن الموقع الخلاب الذي اختاره عوف وكان يعرفه جيدا عن سطح عمارة قديمة
تطل على هذه المآذن وبينها مأذنة جامع السلطان حسن ومسجد الرفاعي. قدمت السيدتان
جورجيت عازر وسلوى عبد الرحمن بتلبية طلبات الفنان ومنها بناء ديكور على سطح
البناية بديكور من خشب الأرابيسك نفذه روماني النجار، وتم اختيار الطفل علاء
إبراهيم ليؤدي دور الفنان في طفولته التي
يتذكرها في بيت جدته بالقلعة. اختار سمير غوف مقاطع من صور إذاعية لتكون شريط صوت
الفيلم وحدها دون أي شوشرة من تعليق شارح أو مؤثرات، فقط الصور الإذاعية بالمزج
الأصلي لها مع قليل من أصوات الطبيعة، وهي مختارات من الصور الغنائية للإذاعة
المصرية في الخمسينيات، ملاح النيل، خوفو، عوف الأصيل، والسيرة العطرة. كلها من
إخراج عبد الوهاب يوسف مقاطعها تربط القاهرة وأسوان والأقصر عبر مواقع اختارها سميرعوف
بسابق معرفة بكل تفاصيلها) اختار سعيد شيمي الذي كان يفهم ما يطلبه دون شرح، فقط
يشير بيده إلى رأسه، يفرك أطراف أصابعه ويفهم شيمي ما يريد. رؤية الفيلم وشكله
النهائي في رأسه وعلى من يعمل معه أن يلتقطها وينفذ. كان اختارني لعمل مونتاج
الفيلم ولم أكن قد عملت معه سابقا، وجدت أنه يقوم بالمونتاج فنيا ـ معتمدا فقط على
من ينفذ رؤيته ، فتركته للعمل مع طارق سامي المونتير الشاب وقتها والذي يجيد
التعامل مع فنيات المونتاج الحديثة على الكومبيوتر. كان سمير عوف يقول القاهرة
الخديوية وكنت أجهل أن منطقة وسط البلد حيث قلب القاهرة اسمها العلمي الخديويةـ في
مقابل القاهرة الفاطمية حيث القلعة ومناطق القاهرة القديمة التي كان يحفظ كل شبر
منها واستخدم هنا القاهرة من الإذاعة. ومن سطح المنزل المطل على مآذن القاهرة
ينتقل بسلاسة إلى معابد الأقصر، ليس أي معبد بل معبد هابو الذي يعرفه جيدا، واختاره
من بين معابد الأقصر الأكثر شهرة، يصوره سعيد شيمي ومع شاريوه مصري الصنع مبدعا
حركات هادئة بالكاميرا المتمهلة كما ايقاع سمير عوف نفسه. ينفذ المخرج رؤيته بلا
ضجيج في التصوير والمونتاج . قدرت طريقة عمل أحد خريجي مدرسة شادي عبد السلام
الفنية شاعرة بالفخر أنني كنت أحد المتحمسين لعودة سمير عوف لإنجاز أفلامه الفنية
الاسثنائية والرائعة. أعدت مشاهدة الفيلم من نسخة باهتة وفرها لي الباحث القدير أ.
مجدي عبد الرحمن من مجموعة شادي عبد السلام أيضا. متعلما منه الإخلاص الشديد والهوس
بالتراث في كل أشكاله من المعمار إلى فنون التصوير. في القراءة الجديدة لفيلم
" أيام الراديو" يملؤني الشعور بأن العمل يتجاوز الإذاعة إلى مصر كلها
من القاهرة إلى أسوان. يؤدي سمير عوف دوره الحقيقي بتواجده على سطح منزل ملأه
بالكراكيب بجوار طبق الإرسال التلفزيوني الذي يغطي منظر القلعة ويضعها في الخلفية،
مازجا بينه وبين الطفل على خلفية مآذن القاهرة، بصمت ودون أي شرح تشرح المقارنة
نفسها معبرا عن غضبه وهو يتوسط كراكيب السطح مستعيدا صورته طفلا على خلفية منزل
جدته وبجواره الراديو القديم وفي الخلفية مآذن
وقباب القاهرة ذات الألف عام. سمير عوف فنان متصوف قدم في أفلامه التسجيلية رؤيته
وعالمه الممتد من مصر الفرعونية إلى مصر الإسلامية معتزلا الحياة العامة مجترا
تاريخه الفني الطويل مساعدا بل شريكا لشادي عبد السلم في بعض أعماله، ندا له في
أعماله التسجيلية. تشكل أفلام سمير عوف ( القاهرة 1980، مسافر إلى الشمال مسافر
إلى الجنوب، وجهان في الفضاء، أيام الراديو ) توثيقا لمصر التي في خاطره، فرعونية
إسلامية معاصرة مليئة بالجمال وبالصوفية الحقة.
صفاء الليثي القاهرة
2023
No comments:
Post a Comment