Sunday 14 November 2010

رسالة أوربا : مرحبا ... ولكن



أجمل الأفلام لا تتناول بالضرورة قضايا كبرى


ينتظر عشاق السينما بانوراما الفيلم الأوربى بلهفة تزايدت مع دورته الثالثة لهذا العام، أتاحت أفلام مصر العالمية لنا فرصة متابعة آخر ما وصلت إليه السينما فى بلدان أوربية تشارك أفلامها فى المهرجانات الكبرى الثلاث كان وبرلين وفينيسيا . 

اتفق المتابعون على تقدير أفلام لم تصلنا أصداء سابقة عنها، أفلام بديعة لا تتناول قضايا كبرى ولا تخوض فى الشأن السياسى. ليست فى شهرة فيلم بيوتيفل، ولا رجال وآلهة. سعدنا بفيلم " قريبا منك " الألمانى الذى يتناول تغييرا طرأ على موظف بنك لديه هوس بالنظام والانضباط عندما يلتقى صدفة بعازفة تشيللو عمياء النظر، لديها بصيرة قادرة على فهم الآخر والتواصل معه. التناول الكوميدى للموضوع مع إنسانيته العالية تدهش المشاهد الذى لا تفارقه الابتسامة طوال متابعته للفيلم. أبطال " قريبا منك" محدودين وأماكن الأحداث أيضا، إدارة الممثل وبراعة السيناريو تبعد أى إحساس بالملل . معانى عميقة خلف أشياء تبدو عادية جدا. فبعدما يسرق مجهول محتويات منزل فيليب، وضمنها سلحفاه باول، يكون هذا الحدث بداية لتحول عميق فى شخصيته واكتشافه لسخف التعلق بالأشياء، وبعد دخول عازفة التشللو حياته تتباعد قيمة الأشياء نهائيا، ويفاجئنا المخرج بكرة عملاقة تجمعت فيها محتويات المنزل فى الطريق أمام البيت يصطدم بها فيليب والضريرة وعندما تسأله يقول لها أنها أشياء بلا قيمة. وفى النهاية يصل البوليس للسارق وهى جارة فيليب الحسناء التى سرقت سلحفاته كنوع من الدعابة وأخذتها وتركت له كراكيبه الأخرى. الأشياء المادية فى الفيلم ليست لها المدلولات الشائعة فالسرقة ليست سرقة، بل يكسبها المخرج معنى التمرد على الرغبة فى الامتلاك. يسرق فيليب رزمة نقدية فى نوبة حراسته البديلة بدلا من ابن المدير الذى تتصادف دروس التمثيل لديه مع نوبات الحراسة فيقوم فيليب الطيب بها بدلا منه. سرقة فيليب كانت نوعا من التمرد على المثالية وعقابا للابن المدير الذى يستغله، يعطى المال للعازفة لتحقق حلمها بامتلاك تشيللو خاص بها وخاصة بعد أن باعت السيدة التى تتدرب على آلتها المكان بما فيه. يتعامل المخرج مع الإعاقات بشكل طريف فى رسالة مفادها أنها لا يجب أن تضعف من البشر، فيليب وإعاقته النفسية، العازفة وإعاقتها البدنية، صاحبة التشلو ويدها اليمنى المقطوعة كلها أمور يمكن تجاوزها وخاصة فى وجود شخص محب " قريبا منك ". السينما الألمانية لها أكثر من عمل فى البانوراما وهناك إضاءة خاصة على فاتح أكين التركى الذى يضيف للسينما الألمانية عددا من الأعمال الهامة وكأنه شخصيا ينفى الفكرة التى ترددت فى عدد من الأفلام عن عدم جدوى الهجرة ، ونجاحه يعد ردا عمليا على رسالة وصلتنا من أفلام أخرى بالبانوراما يقول فيها الأوربى مرحبا للمهاجر ولكن لاجدوى من المجيء والأفضل البقاء فى بلادكم. يقولها الفيلم الكبير "بيوتيفل" الأعلى مشاهدة فى البانوراما ضمن رسائله العديدة ، فالبطل الذى يقترب من الموت لإصابته بالسرطان، يعانى من مشكلة كبرى من أم طفليه غير السوية نفسيا ومن مشاكل تورطه فى أعمال غير مشروعة مرتبطة بمهاجرين غير شرعيين، صينيين وأفارقة وصلتنى رسالة الفيلم تطلب من المهاجرين الرحيل، وتوضح أن وجودهم يضيف إلى مشاكل أهل البلاد، بمعنى" نحن فينا اللى مكفينا ، مش ناقصينكم" ، الأجيال المسيسة من المشاهدين التقطوا الرسالة المعادية ضد الأجانب من بيوتفل، أما الجيل الأكثر شبابا فالرسالة الوجودية التى تتناول الموت وفلسفة الوجود كانت الأقرب إليهم. وهكذا السينما الكبيرة تتعدد بها الرسائل ويجد فيها كل مشاهد جانبا يتواصل معه، تفتح نقاشا وجدلا كبيرا يتواصل لأسابيع بعد انتهاء المهرجان المكثف للسينما الأوربية الذى شهد تزاحما على أفلام تسجيلية كبيرة كفيلم المخرجة الفرنسية من مجموعة الموجة الفرنسية الجديدة أنييس فاردا فى عملها العبقرى " شواطئ أنييس " تظهر فيه بشخصها مع ذكرياتها الشخصية والسينمائية بخفة ظل وإصرار على الحياة ومواصلة الإبداع.
والتسجيلى الرائع لفاتح أكين عبور الجسر صوت اسطنبول الذى تتأكد فيه هويته التركية ويصبح بمثابة رد على دعاوى صدام الحضارات.
قضية الساعة الخاصة بالهجرة إلى أوربا التى تؤرق الأوربيون يتم تناولها بشكل مباشر فى الفيلم الفرنسى مرحبا الذى شارك بمهرجان الإسكندرية الأخير وحاز جائزته الكبرى، يتناول بشكل مثالى شخصية مدرب سباحة يقع مصادفة مع شاب كردى أتى من العراق يرغب فى تعلم السباحة ليعبر المانش، بلال كان رياضيا تحت العشرين بطلا فى سباق الجرى يشعر الفرنسى تجاهه بأبوة ولا يكتفى فقط بتدريبه، بل يعطيه بذلة غطس ليتمكن من العبور المستحيل، ينتهى الفيلم بغرق بلال وإعادة شرطة السوائل الإنجليزية جثته للفرنسى الذى ينوى تدريب مهاجرين آخرين، هنا يبدو التعاطف معهم فرديا ولكن الحكومة وغالبية الناس لا تريدهم . نعم مرحبا بكم ولكن تواجدهم هنا مستحيل. يصل الفيلم الألمانى عندما نرحل إلى أبعد من هذا فى تناوله العنصرى لأسرة تركية مهاجرة فى ألمانيا، وقسوتهم الشديدة على ابنتهم التى زوجوها لتركى فى اسطنبول يضربها كما يضرب ابنه، وعندما تتركه محتمية بأسرتها فى ألمانيا يرفضونها ويعتبرونها عارا على الأسرة. الفيلم ميلودرامى ردئ، ينحاز للشخصيات الألمانية ويصورهم كملائكة يتعاطفون مع المرأة ويصور الأتراك كوحوش حتى أن الأخ يقتل ابن أخته بالسكين، وهذا التناول يعكس جهلا شديدا بالشخصية الشرقية التى تقول بأن الخال والد، وتبالغ ككل الأعمال المتخلفة فى الرسم الأحادى للشخصيات. وسواء كان العمل كبيرا مثل فيلم بيوتيفل، أو متوسطا كفيلم مرحبا أو ردئيا كفيلم عندما نرحل فالرسالة واضحة، ليس لكم مكان بيننا، أيها الصينيون، أيها الأفارقة ، أيها الأتراك ، ارحلوا إلى بلادكم.
بانوراما الفيلم الأوربى ليس فقط ساحة لعروض الأفلام بل مؤتمرا سينمائيا تعقد فيه محاضرات وتتم فيه لقاءات بين صناع الأفلام ومتلقيها، وتتم لقاءات عفوية أخرى بين المشاهدين يتبادلون الآراء حول الأفلام ورسائلها. كان عرض فيلم زنديق للمخرج الفلسطينى ميشيل خليفى فرصة للالتقاء به والاستماع لتجربته مع السينما، زنديق إنتاج فلسطينى بلجيكى مشترك يواصل فيه خليفى التزامه تجاه قضية بلده فلسطين، وزنديق يقوم فيه محمد بكرى بدور خليفى نفسه وقد وصل الناصرة لحضور جنازة أحد أقاربه، يصطدم بالخلاف الفلسطينى الفلسطينى، يقضى ليلته فى متاهة مطرودا من كل الأطراف، وعندما يكفر بالعودة ويلقى بمفتاح البيت فى النار، يقابل صبى فلسطينى يهرب مع زميل له من الفاسدين الذين يستغلونهم، يقرر بكرى البقاء حاملا سلاح الكاميرا ويصور صراع أطفال فلسطين من أجل البقاء. من الذاكرة الخصبة أول وأهم فيلم لميشيل خليفى مرورا بعرس الجليل وطريق 181 انتهاء بزنديق يواصل خليفى دوره فى المقاومة بالسينما. لا شك بذل مجهودا كبيرا وامتلك قدرة على البقاء تقاوم دعوات الترحيل سواء فى بلده فلسطين، أو فى موطن هجرته بلجيكا،وهو كفاتح أكين رسلا حية للتواصل والتعايش بين الشعوب. مكنهم فن السينما وموهبتهم التى يمتلكونها من التعامل بندية مع الآخر الأوربى الذى تجعلنا البانوراما نقترب من تفكيره وتعرفنا بمشاكله، فلا يصبح ذلك الغريب المجهول الذى نخشى التعامل معه.
استجابت ماريان خورى لما طلبناه من عرض البانوراما فى دار عرض قريبة من وسط البلد، فكانت البانوراما بدارى عرض مكنت القاهريين على اتساع أماكنهم من المتابعة من أقرب مكان إليهم. ونضيف هذا العام طلبا بتخصيص دار عرض واحدة صغيرة لعروض دائمة للفيلم الأوربى تغطى تعطشنا لسينما جميلة شكلا، تتناول قضايا إنسانية هامة وجادة تقرب المسافات بيننا وتحقق سلاما بين الشعوب. تخلق حالة من الجدل وتعبر الجسر بين الثقافات المختلفة.

Sunday 7 November 2010

أيام قرطاج السينمائية الدورة 23 JCC





 
المهرجان تونسى
 والعرس مصرى عربى أفريقى



ميكرفون :فيلم تونسى بلهجة مصرية


أهم ما يميز مهرجان قرطاج ،عفوا "أيام قرطاج السينمائية" هو الحضور الطاغى للجمهور التونسى رفيع الثقافة المحب للسينما الذى تزاحم لمشاهدة عروض الأفلام كلها دون تفريق بين الروائى الطويل والتسجيلى والروائى القصير. هذا الجمهور هو الذى منح الجائزة الكبرى للفيلم المصرى ميكرفون فقد كان التجاوب معه طاغيا وخاصة بين الشباب، بعد العرض قابلت شبابا تونسيا قال لى أحدهم هذا فيلم تونسى بلهجة مصرية، مضيفا كيف أنه يعبر عن الشباب من خلال هذه الفرق الموسيقية التى تقدم رؤية فنية جديدة بكلمات ونغمات مختلفة، وتصادف نفيا من مؤسسات رسمية تمنح وتمنع طبقا لما تراه.
كم صفق الجمهور التونسى فى مشاهد يتعنت فيها مسئول "المركز الوطنى " ويمنع الشباب من الغناء ويقدم بدلا منهم فتاة تغنى لأم كلثوم. توحد الجمهور التونسى مع نماذج فيلم ميكرفون وشعروا بأن مشاكله هى مشاكلهم. من مزايا أيام قرطاج أيضا حضور لجنة التحكيم الرسمية العروض مع الجمهور ففى الصف الأول من البلكون جلس أعضاء اللجنة وعلى رأسهم مخرج هايتى الذى ترأس لجنة دعم الجنوب راؤول باك، والنجمة إلهام شاهين والكاتب عتيق رحمى من أفغانستان والموسيقى التونسى أنور ابراهيم الذى وضع الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام التونسية الهامة كصفائح من ذهب لنورى بوزيد وحلفاويين لفريد بوغدير، وصمت القصور لمفيدة تلاتلى، كما ضمت اللجنة أيضا المخرج السنغالى جوزيف راماكا الحاصل على الأسد الفضى من مهرجان فينيسيا عام 1997 عن فيلمه"هكذا يكون"وأيضا المخرجة الفرنسية ديان بارتيه التى قدمت فيلما تسجيليا عن والدها المخرج جاك بارتيه. أدهشنى التصفيق الحار من رئيس اللجنة بعد انتهاء ميكرفون متجاوبا ومتأثرا بالجمهور التونسى ناسيا التحفظ الذى يجب أن يبديه كرئيس للجنة التحكيم. قبل العرض كنت اقترحت على الزملاء من النقاد العرب والأجانب مشاهدة الفيلم ذاكرة أنه يمثل موجة جديدة للسينما المصرية لشباب تعاملوا مع الديجيتال كوسيط ليمكنهم تقديم أعمالهم بعيدا عن السينما السائدة، ولكن شيوخ النقاد عربا وأجانب تحفظوا على الفيلم ووجده بعضهم مشابها لفيلم " نحن لا نعرف شيئا عن القطط الفارسية " الإيرانى حتى أن كثيرين من الصحفيين وجهوا للمخرج أحمد عبد الله سؤالا حول تأثره بالفيلم الإيرانى الذى لم يشاهده. وكان ردى على هؤلاء النقاد أن الفيلم يرصد واقع جديد فى مصر وخاصة فى الإسكندرية لشيئين هامين أولها الرغبة فى التعبير عن أنفسهم وامتلاك ميكرفون خاص بهم ، والثانى التواجد فى الاسكندرية ومحاولة تغيير صورة أن كل شيء يتم فى القاهرة فقط. ميكرفون عمل طموح يعبر عن أجواء التغيير فى مصر الآن، وفى الاسكندرية تحديدا وقد انتفض شبابها ثورة على أن كل شيء يتم فى العاصمة فتكونت فرق موسيقية، وفنانين تشكيليين ومتمردين صغار عل القيود العائلية، نسج أحمد عبد الله فى فيلمه الثانى بين خطوط الفيلم وضفرها ببراعته المونتاجية وبأسلوب سرد يشرحه على لسان منة شلبى فى نهاية الفيلم والتى كان مشهدها مع خالد أبو النجا عصب الفيلم وعموده الفقرى معبرا عن أزمة الوجود للشباب المصرى وحيرته بين الهجرة والبقاء فى البلد. متوازيا ومتقاطعا مع أحمد مجدى ويسرا اللوزى يقدمان مشروع تخرجهما ويشرف عليهما المخرج يسرى نصر الله. باستثناء البطلين خالد أبو النجا ومنة شلبى تعبر شخوص الفيلم عن دورها الحقيقى فى الحياة التى رصدها أحمد عبد الله وترك لها مساحة التعبير والميكرفون لتقول نحن هنا. الفرق الغنائية مقدمة فى الفيلم بأسمائها الحقيقية، الحس التسجيلى بالفيلم يذكرنا بأمجاد خيرى بشارة، وخاصة نهايته ، لماذا نتذكر القطط الفارسية وننسى فيلم آيس كريم فى جليم . ميكرفون فيلم مبدع فى كل تفاصيله الصغيرة بداية من كتابة اسم الفيلم وانتهاء بتترات النهاية مكتوبة على صخور شاطيء الإسكندرية . طالت أحيانا المقاطع الغنائية لأنها جزء أساسى فى الفيلم الذى يوثق لفرق شابة تصرخ للتعبير عن نفسها ويرفضها المركز الوطنى ، تجاوب الجمهور التونسى فى السخرية منه. مشاهد الشاب الذى يحرس لافته الدعاية الانتخابية مكتوب عليها رجل المستقبل، تفاصيل أخرى يحفل بها فيلم ميكرفون مثل الشعار كن مع الله وقد أصبح كن مع الفن على واجهة دكان الجرافيك الذى مات صاحبه وتصر ابنته وابنه على إدارته ومواصلة رسالة الفن. تفاصيل يمكن التقاطها من الصورة التى تطورت كثيرا عن هليوبوليس.
لا توجد ندوات للأفلام تعقب العروض ولكنها تقام فى صباح اليوم التالى للعرض، وأعتقد أن هذا الأمر يجب تجاوزه وتغييره فى قرطاج، فالندوة بعد سخونة العرض تكون أكثر حميمية وهو ما حدث – ولا أعرف سببا لذلك – مع الفيلم التسجيلى "شيوعيون كنا " للبنانى ماهر أبى سمرا، حيث أدارتها الناقدة نورا بورصالى بعد عرض الفيلم بدار عرض مخصصة لمسابقة الأفلام التسجيلية، وكانت ندوة هامة طرحت فيها نقاشات هامة حتى أن واحدة من الجمهور التونسى -وهى محجبة- ناقشت المخرج حول موقفه من حزب الله بالفيلم وأوضحت اتفاقها معه رغم الخلاف الأيدولوجى. وبهذه المناسبة أذكر أن الحجاب نادر جدا فى تونس والنسبة الطاغية فى الشارع تذكرنى بمصر-والقاهرة تحديدا فى بداية السبعينيات حيث النساء سافرات بعضهن بجيبات قصيرة، مظهرهن أوروبى والمنطقة كلها التى تدور فيها فعاليات المهرجان أوربية الطابع كمنطقة وسط البلد بالقاهرة أو كمصر الجديدة قبل زحام العشوائيات.
توزع عروض أقسام المهرجان على دور عرض متقاربة تحيط بفندق أفريقيا حيث المقر الرسمى للمهرجان ومركزه الصحفى. الأفلام الروائية طويلة وقصيرة فى سينما الكوليزى وهى سينما عريقة تذكرنى بدار عرض ديانا بالقاهرة. هناك باب لدخول أصحاب البطاقات وآخر للتذاكر، التذكرة بدينار ونصف،أى ما يعادل سبعة جنيهات مصرية تقريبا، بينما تبلغ تذكرة السينما حاليا فى القاهرة بين خمسة عشر وثلاثين جنيها. المهرجان لأهل تونس هذه هى فلسفة المهرجان منذ أسسه الطاهر الشريعة رغبة فى تثقيف الجمهور والترويج لسينما فنية عربية وإفريقية.
كرم المهرجان الطاهر الشريعى وقدم فيلما تسجيليا عنه من إخراج محمد شلوف، فيلم تكريم الشريعى كان أيضا مصريا إذ يبدأ بمخرجنا الكبير توفيق صالح يقدم شهادته عن الطاهر الشريعى وكيف دعاه لعرض فيلمه بقرطاج، كيف اصطحبه لنوادى السينما المنتشرة والمزدهرة بتونس مع فيلمه، يقول توفيق صالح فى الفيلم ، كانت المرة الأولى التى أعرف فيها معنى مهرجان سينمائى. تظهر فى الفيلم أيضا مخرجة السينما التسجيلية عطيات الأبنودى التى حصلت على الجائزة من مهرجان قليبية بتونس أيضا. الفيلم التسجيلى عن الشريعى يحوى مقابلات حديثة مع توفيق صالح وعطيات الأبنودى وعدد من رموز السينما العربية والإفريقية كما يحوى وثائق نادرة منها لقطات أرشيفية من أيام قرطاج ظهر فيها يسرى نصر الله شابا يتسلم جائزة أيضا. كرمت عطيات الأبنودى من قبل منظمة المرأة العربية التى ترأسها السيدة ليلى بن على قرينة الرئيس التونسى. تذكرت ما صرحت به عطيات الأبنودى فى حوار لى معها نشر بالف السابع المصرية –التى أسسهها محمود حميدة- بأن مصر ليست دولة نامية بل هى دولة كبيرة تمر بأزمة. نعم مع كل الحضور المصرى فى أيام قرطاج السينمائية والذى توج بحصول فيلم ميكرفون على التانيت الذهبى وحصول الفيلم القصير أحمر باهت على جائزة لجنة رئاسة منظمة المرأة العربية، وحصول آسر ياسين على جائزة التمثيل عن دوره فى رسائل بحر لمخرجنا الكبير داوود عبد السيد. شعرت بالفخر وأحببت التواجد المصرى فى تونس وسط شعب يحبنا. حضور مصرى مشرف فى فعاليات المهرجان ومؤتمراته، التمثيل المصرى فى مؤتمرى النقاد الدوليين وملتقى النقاد العرب، مشاركة الناقد أسامة عبد الفتاح فى لجنة تحكيم الفيبرسي بقرطاج وهى اللجنة التى تعقد بأيام قرطاج للمرة الأولى وتعقد مثيلتها فى مهرجان القاهرة للمرة الخامسة. كما أعلن كلاوس إدر السكرتير العام للفيبرسي أنها ستعقد فى مهرجان أبو ظبى فى دورته القادمة أيضا. يسرى نصر الله فى يلقى محاضرة فى السينما، أحمد رشوان وشريف المغازى وتامر السعيد فى ورش تطوير المشروعات. نجومنا إلهام شاهين فى اللجنة الرسمية وخالد أبو النجا فى لجنة القصير والمسابقة الوطنية. د.خالد عبد الجليل رئيسا للجنة تحكيم جائزة رئاسة منظمة المرأة العربية ،ومعه فيولا شفيق عضوا فى نفس اللجنة، داوود عبد السيد مع فيلمه رسايل بحر تألقت معه بسمة بطلة العمل. منى أسعد مع فيلم جيران منتجة الفيلم ومخرجته المنفذة. أشعر بالسعادة لحب الجمهور التونسى الذى يتهافت لتحيتى بمجرد سماعهم للهجة وأنا أتحدث مع زميل. يلتقطون الكلمة ويرددونها كأنها أغنية. كنت مع الناقد الليبى رمضان سليم فى انتظار بداية عرض فيلم محمد بكرى زهرة وقلت "هوه ده " رددتها خلفى فتاتين تونسيتين جميلتين بدلع.
كنت أحي داود عبد السيد أهلا أستاذ داوود ،التفت محمد بكرى مبتسما حييته، وقبل عرض فيلمه قدمت له ناقدة تركية ترغب فى التحاور معه سألته أى لغة تتحدث فقال أتحدث اللغة العربية، كان يريد تأكيد هويته وياليت الأخوة التونسيون يفعلون مثله بدلا من تمسكهم بالفرنسية.
فيلم بكرى الجديد "زهرة " تسجيلى 63ق بورتريه عن الجدة زهرة مستعرضا حياتها منذ النكبة عام 1948 وحتى الآن وعائلتها الكبيرة التى عملت على تمسكهم ببعضهم وبأرضهم، فى الفيلم يأتينا صوت بكرى مرددا شعر محمود درويش، سجل أنا عربى. أبكانى الفيلم وشعرت بفرحة إلقاء الضوء على جانب مقاوم للتمسك بالحياة دون تنازل. تقابلت أيضا مع المخرجة الفلسطينية مى مصرى التى ابتسمت بفرحة لملاقاتى وبادرتها ، لم نعد نراك فى الإسماعيلية، قالت إن مستوى التكريم الذى حظيت به لا يمكن تكراره. هنا فى تونس هى مع ورش تطوير المشروعات، واحدة مثلها مثل شباب المخرجين الذين تمنحهم أيام قرطاج السينمائية فرصة تطوير المشروعات والحصول على دعم جزئي لاستكماله. أيام قرطاج السينمائية لم تكن فقط تونسية ، بل مصرية وعربية وإفريقية، يحق لدرة أبو شوشة وفريق عملها آنى جميل والمخرج طارق بن شعبان وباقى فريق العمل، يحق لهم الفخر لأنها ليست مخازن أو علب لعرض الأفلام ، بل برامج مدروسة وفعاليات متنوعة وتنظيم جيد لا يدلل المشاركين، بل يعطيهم كل شيء منذ اللحظة الأولى، خريطة بأماكن العروض، والمطاعم والفنادق، يتركك لتتحرك بحرية متجولا فى البرنامج المكثف لأيام قرطاج السينمائية ويمنحك مساحة لالتقاط الأنفاس قبل حلول دورته التى تأتى عام 2012 يكون عندها الجمهور التونسى قد طال شوقه لسينما العالم على أرض بلده الخضراء. وعندها أتمنى أن تكون الموجة المصرية التى ظهرت مع البطوط وأحمد عبد الله قد امتدت وأصبحت هى السينما المسيطرة التى تجمع بين الإقبال الجماهيرى والنقدى.

Tuesday 19 October 2010

اتجاه جديد للفيلم التسجيلى يشارك فى حركات تغيير المجتمع



المخرجة منى عراقى
ومدرسة التحقيق الاستقصائى


كشف مهرجان الإسماعيلية فى دورته الأخيرة  2-9 أكتوبر 2010عن ظهور اتجاه جديد فى السينما التسجيلية المصرية وهى  مدرسة التحقيق الاستقصائى الذى تتبعه المخرجة منى عراقى فى أفلامها. فى دورات سابقة للمهرجان شاهدنا نماذج فرنسية لهذا الاتجاه وتمنينا أن نشاهد عملا مصريا أو عربيا على شاكلته.  فى اليوم قبل الأخير لعروض المهرجان شاهدنا "طبق الديابة " الذى يكشف عمليات الاتجار فى مخلفات المستشفيات وإعادة تدويرها بدلا من حرقها كما ينص القانون. خاضت منى عراقى مغامرة خطرة للتظاهر بأنها جاءت لشراء هذه المخلفات، تقول فى الفيلم وللأسف نجحت. تشرك المخرجة المشاهد فى عملية البحث وتطلعه على نيتها قبل التحرك، تقدم شخصيات الفيلم بصوتها، تتحرك فى أماكن الأحداث، تصورها كاميرا محمولة يدويا ،أحيانا تميل الصورة أو تنقلب، بحماس المغامرين لا يهمها ثبات الصورة ولا جماليات التكوين، بل التقاط اللحظة ساعة وقوعها متبعة أسلوب السينما المباشرة. ولأن رئيسة لجنة التحكيم الدولية المخرجة الألمانية جيزيلا توختنهاجن من رواد هذه المدرسة يحصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم فى فرع الفيلم التسجيلى القصير-أقل من ساعة- منافسا أفلاما أجنبية أخرى بعضها يتبع نفس مدرسة التحقيق الاستقصائى كفيلم " رجل الفياجرا" الذى أثار اهتماما لجرأة موضوعه وكشفه عن استغلال شركات الدواء الكبرى بالترويج للقرص الأزرق دون اعتبار للآثار الجانبية ومدى تأثيرها على المتعاطين. طوال مشاهدة فيلم منى عراقى" طبق الديابة" غلبنى هاجس أن يكون بيضة الديك لمخرجته المجهولة لنا –قبل الإسماعيلية- ولكن بعد مشاهدة فيلمها " الصومال... أرض الأرواح الشريرة " ابتعد هذا الهاجس وتأكدت أن منى عراقى اختارت أسلوب الفيلم التسجيلى بالتحقيق الاستقصائى عن وعى وإصرار للكشف عن فساد الرأسمالية الجديدة واستغلالها للفقراء لتنفيذ مخططاتها الشريرة. وجدت فيلم "الصومال .." مغامرة أخرى لمنى عراقى قدمت فيه خلال 21 دقيقة فقط تحليلا وافيا عن القرصنة فى الصومال، تبدأ فيلمها بتساؤل "حد سأل ليه الناس دى بتعمل كده؟". قرأنا وشاهدنا تغطيات إخبارية دون الكشف عن دوافعها ودون تحليل يكشف تعقيدات موضوع أعمال القرصنة فى الصومال والتى تتعرض لها بعض السفن المصرية ويتم احتجاز أفرادها حتى يدفعون الفدية، فى فيلم منى عراقى تعلن عائشة وهى من قبيلة القراصنة "دول مش قراصنة، هذا عمل تديره العائلة لكى يحافظوا على أرضهم من أى معتد خارجى" ، عائشة تتحدث لمنى وهى بزى شعبى ثم تلتقيها وهى فى ملابس أفريقية بزيها الوطنى تذكر لنا أنها تعلمت فى أمريكا وهى المرأة الوحيدة التى رشحت نفسها لرئاسة الصومال ، تقول عائشة أن لاسكوراى- وهى مدينة القراصنة- مدينة غنية ولكن مواردنا تسرق، لا يريدون منا أن نستخرج بترولنا إلا بعد أن يجف بترول العرب. تكشف أيضا عن قدوم سفن إيطالية بنفايات ذرية تدفنها فى أرض الصومال، ثم تعود بصيد من مناطق غير محددة لذلك، فيهاجم من يسمونهم القراصنة هذه السفن. تلتقى منى عراقى بزعيمهم وبمسئول آخر كلهم يؤكدون أنهم أصحاب حق وأن القراصنة الحقيقيون هم الأجانب وأن الصوماليون مجرد رد فعل. بعض هؤلاء يتحدث لغة عربية سليمة. تنقلنا المخرجة من مصرى احتجز القراصنة ابنه وهو يناشد الرئيس حسنى مبارك للتدخل، إلى لقاء بين الرئيس المصرى والصومالى اتفقا فيه على أن الاستجابة لطلبات القراصنة بدفع الفدية يشجع القراصنة فى الاستمرار فى أعمالهم التى أسماها بالإجرامية. تكشف منى عن أن القراصنة هم صناعة حكومية ليبقى التدخل الأجنبى بقواعده، وبدفن النفايات الذرية لقاء مبالغ مالية كبيرة. تختم منى عراقى فيلمها ذاكرة أن الصومال أرض البترول والذهب، ولهذا حضر الغرب والأرواح الشريرة وعندما تؤذيهم يسمونهم بالقراصنة.
أنتج الفيلم قناة أو تى فى المصرية بإشراف ياسمين عبد الله وكانت منى عراقى مخرجة العمل ومصورته، انطلقت من بحثها عن إجابة السؤال حول القرصنة وخلافا لأى تقارير إخبارية، حللت ودعمت وجهة نظر تؤكد أسلوبها فى عدم الوقوف عند ظواهر الأشياء بل الحفر بعمق لجلب الحقائق التى تبقى مرهونة بوجهة نظر من قابلتهم وخاصة السيدة عائشة التى ساعدتها فى الخروج من منطقة القراصنة وفى الخروج بحقيبة بها الكاميرا وشرائطها المصورة بوضعها فى حقيبة تراثية يعتقد الصوماليون بأن فتحها يخرج الأرواح الشريرة. اختارت لجنة المشاهدة فيلم " طبق الديابة " الذى يفضح عمليات الاتجار بمخلفات المستشفيات، وفضلته على فيلم " الصومال " وكان من الممكن للجنة أخرى أن تفضل فيلم الصومال. وهكذا الوضع دائما تختلف النتائج باختلاف أعضاء لجان التحكيم والاختيار. وهى حقيقة لا يدركها بعض المشاركين فيغضبون بشدة لعدم حصول فيلم لهم على جائزة، أو لعدم اختياره للمشاركة فى المسابقة، يشعر النقاد أيضا بالغضب إذا جاءت نتائج التحكيم مخالفة لتوقعاتهم كما حدث هذا العام مع نتائج تحكيم اللجنة الدولية، بينما شعروا بالارتياح لنتائج تحكيم جماعة السينمائيين التسجيليين التى منحت جائزة صلاح التهامى لأفضل فيلم تسجيلى عربى لفيلم منى عراقى "طبق الديابة " بينما منحت جائزة حسام على لفيلم " صمود " للمخرج المصرى الألمانى فيليب رزق. وخرج فيلم متى المسكين من سباق الجوائز رغم تميزه ودخوله منطقة شائكة حول علاقة السلطة بالدين.
نجح مهرجان الإسماعيلية فى الكشف عن عدد من الأفلام المصرية تقوم بدور فى حركات تغيير المجتمع وفى الكشف عن مواهب واعدة مثل المخرج إياد صالح صاحب متى المسكين، والمخرج شكرى ذكرى شكرى بمشروع تخرجه قطر الحياة الحاصل على تقدير خاص من لجنة تحكيم جمعية نقاد السينما المصريين وقبلها من مسابقة الديجيتال بمهرجان الإسكندرية.
الدورة الرابعة عشر لمهرجان الإسماعيلية كانت الدورة العاشرة لرئاسة الناقد على أبو شادى للمهرجان بعد أن أعاده المخرج محمد كامل القليوبى بعد توقف لعدة سنوات، ككل مهرجان لايخلو من ملاحظات وإن ظل الأفضل تنظيما على مستوى المهرجانات المصرية. وهو مهرجان المركز القومى للسينما تتعاون إداراته المختلفة والعاملين فيها على إقامته وإنجاحه، تتعاون إدارات المهرجانات والمشتروات والمشروعات والإدارة المالية بادئة عملها بعد انتهاء كل دورة دون راحة، وإن كانت له ميزانية مخصصة فإنها تبقى فى حدود الميزانية العامة للمركز القومى للسبينما، يتغير الأفراد لسبب أو لآخر، وتبقى الكيانات، ومهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة كيان راسخ يتحدى البقاء مهما تعاقبت عليه القيادات.  
    



Sunday 8 August 2010

بيت من لحم 2009



أحمد الهوارى
وعودة إلى عالم يوسف إدريس


" ضجيج الحياة دب، الزوج زوجها وحلالها وعلى سُنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟ وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار، حتى والليل يجيء وهم جميعًا معًا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات والأجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن يحبسن الحركة والسعال، تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات، كان نهارها "غسيل" في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يئوب إلى الحجرة ظهرًا، ولكن لما الليل عليه طال والسهر أصبح يمتد، بدأ يئوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى، واستعداد لليل قادم، وذات مرة بعد ما شبعا من الليل وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هي منطلقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها؟ ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن؟ إذ هو كل ما كلفه الزوا جمن دبلة ومهر وشبكة وهدايا"

هذا المقطع من قصة "بيت من لحم" العبقرية يفسر سبب تحويلها لعدد كبير من الأفلام القصيرة، فالجمل قصيرة ونافذة، دون جناس ولا سجع لغوى، لغة وصفية محملة بالدلالات وكأن كل جملة لقطة، وكل فقرة مشهدا سينمائيا يحفل بكل فنون السينما من رسم شخصيات، ووصف المكان والتفاصيل الصغيرة، تفصيلة الخاتم التى استخدمها كل من حول القصة لفيلم سينمائى فيما عدا أحمد الهوارى الذى تجاهلها تماما لتصبح قراءته لبيت من لحم قراءة تناسب العصر، الذى تجاوز الصمت بحجة الخاتم إلى التواطؤ الصريح غير المحتاج لأى حجة كالخاتم.
إذا سُئل شخص لا يعرف القصة فسيخبره من قرأها أنها عن أرملة تزوجت مقرئ القرآن على روح زوجها المتوفى بموافقة بناتها الثلاث، كانت تضع خاتم الزواج فى إصبعها فيتعرف عليها الرجل من بين كوم اللحم الذى تمتلئ به الحجرة الواحدة التى يسكنها الجميع، وأصبحت من تضع الخاتم هى الزوجة فى نظر الضرير فيواقعها إذ ليس على الأعمى حرج. الخاتم إذن هو حجر الزاوية فى الموضوع، كل الأفلام التى تعاملت مع القصة كان الخاتم أحد أبطال العمل وحجة هذه اللخبطة الشنيعة. أحمد الهوارى لم يلتفت للخاتم نهائيا، ونفى أن يكون الأعمى غير مدرك لما يحدث، إنه على الأقل غير متأكد فقط فى المرة الأولى حين تتسلل الوسطى ريم حجاب وترقد بجواره وهو فى قيلولة النهار. فى المساء يقول للأم "عايزك تظبطينى زى الصبح" لتصعق الأم وتظل تفكر أيهن التى أقدمت على فعلها. وبعدها يصبح التناوب شبه علنى ولعبة متفق عليها بين جميع الأطراف.

القصة تبدأ بالصمت ، والخاتم ولكن الفيلم يبدأ بصخب الواقع، ويحتفى بالمكان، مقابر 6 أكتوبر بعض الأحواش يتخذه الناس مسكنا وهو مختلف عن حجرة القصة التى تتكدس فيها النساء الأربع ومنها استمدت القصة اسمها بيت من لحم. لم يلتزم الهوارى حرفيا بكل هذه التفاصيل ولكنه حافظ على جوهر العلاقات:" ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة" العيون المتلصصة للبنات الجائعات تنظرن من فتحات الحائط  تعبرعن الجملة الأدبية وبصورة جديدة تناسب المكان ومنازله من الحجارة المتراصة وبينها شقوق .  أدت ريم حجاب دور الابنة الوسطى الجريئة ، وكانت بصمتها ونظراتها ترجمة للكلمات والجمل القصيرة التى أطلقها يوسف إدريس والتقطها المخرج الموهوب لتصبح فيلما ناريا تمكن فى زمنه الذى لم يتجاوز 17 ق أن يعبر عن كل الأطراف مضيفا إلى القصة الصارمة روحا فكهة مرحه زادها أداء الممثل محمود حافظ لدور الكفيف، وما منحه له من تجلى بالغناء بعد الشبع والرضا من الحياة، هنادى الابنة الممتلئة البارعة فى المطبخ وعمل المحشى تُكافأ بعد وجبة طعام أعدتها"يللا يا تعالى اغسلى لى ايدى" تنهض وسط صمت الأخريات. بدون الخاتم قرر الهوارى والشيخ الكفيف منحهن قسمته العادلة، الصغرى أيضا لها نصيب والأم سوسن بدر استسلمت.

قرأت الفيلم كقسمة للحق فى الحياة، يأتى من  تبادل العطاء فكل له دوره وكل له نصيب.
مخرج قادم يقود فريق عمله ،مدير التصويركريم أشرف، والمونتير حسام المصرى، ومصممة الملابس فاطمة عبد السلام،وواضع الموسيقى عمر شاكر، ومهندس الصوت إبراهيم عبد العزيز، وقبلهم جميعا كاتب السيناريو والحوار تامر أنور الذى قدم إبداعا موازيا للقصة الأصلية محاقظا على جوهرها غير ملتزم حرفيا بتفاصيلها وطوعها ليصبح الفيلم بيت من لحم 2009.

قصة فنان القصة القصيرة يوسف إدريس، التى كتبها قبل أربعين عاما ظلت منهلا يشد صانعى الأفلام القصيرة وخاصة مشروعات التخرج لطلبة معهد السينما.  قدمها رامى عبد الجبار السينمائى المستقل فى فيلم غلبت عليه الشكلانية دون أن يعكس أهمية الموضوع ، وحتى طالب موسكوأشرف سمير عبد الباقى قدم مشروع تخرجه بموسكو عنها بممثلين روس . وأخيرا فى  مشروع تخرج أحمد الهوارى صاحب التجارب التسجيلية والقصيرة وقبلها تجارب مع المسرح
حيث أخرج 6 مسرحيات وحصل على جائزة أحسن عرض لمسرحية عفريت لكل مواطن من المعهد العالى للفنون المسرحيه فى مهرجان المسرح العربى 2004، وجائزة لجنة التحكيم الخاصه عن مسرحية العار فى مسابقة الجامعات والمعاهد العليا 2005. قد يفسر هذا قيادته للممثلين وتفوقهم جميعا قى الأدوار المركبة لشخصيات بيت من لحم.
فى مهرجان بورسعيد، حصل "بيت من لحم"على الجائزة الذهبية من لجنة تحكيم مكونة من داوود عبد السيد وكاملة أبو ذكرى ويرأسها محمد كامل القليوبى، ورأس دورة المهرجان لهذا العام المخرج البورسعيدى سيد سعيد، تعدد المهرجانات أمر صحى ويسمح لتعدد الرؤى والأفكار حول الأفلام وتلقيها، تعدد يشبه القراءات العديدة لعمل فنى يحول إلى فيلم. اختلفت جوائز المهرجان القومى عن جوائز مهرجان الساقية، عن جوائز مهرجان بورسعيد وغيرها فكل مهرجان له توجهه وله لجنة تحكيم مختلفة، كل لجنة يكون لديها تصور عن الفن وعن ماهية السينما، بعض اللجان تضع الشروط الفنية كأولوية لها، والبعض الآخر له اعتبارات أخلاقية، والبعض الثالث يقيم توازنات مؤثرا السلامة مع كل الأطراف. تعدد المهرجانات والمسابقات فى صالح الإبداع والمبدعين وسنجد من بين الأفلام المنتجة لعام 2009 رؤى مختلفة وشديدة التباين سواء لمشروعات التخرج من معهد السينما المصورة بخام السينما 35 مللى، أو مشروعات لجهات تعليم جديدة فى مصر يصورون بالديجيتال بجودة عالية، أو أفلام مستقلة تستخدم ديجيتال بتقنيات أقل وكلها عند التنافس تحصل على فرص للمشاهدة وتختلف حولها الآراء بما يؤكد أن ساحة الإبداع تتسع أكثر لتسمح بالتنافس العادل دون احتكار أو نفى لنوعية على حساب أخرى. ستحاول العربى الكشف عن هذه التنويعات الإبداعية التى تزخر بها مصر إبداعا ونقدا من مختلف الأجيال.  



Wednesday 21 July 2010

التكثيف فى الفيلم التسجيلى


داود عبد السيد 
الصراع ، وليس مجرد تراكم الصور

تخرج داود عبد السلام فى معهد السينما عام 1967، ولد عام 1946، وقدم من إنتاج المركز القومى للسينما فيلم " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " عام 1976، وفى عام 1979 قدم " العمل فى الحقل " يدور الحوار بين الصديقين ، الزميلين خيرى وداود ، العاشقين لفن السينما :
" انا حأعمل سينما جديدة ، أفلام تكسر الدنيا " .
" انت مش حتعمل حاجة أبداً. أنا حغير شكل الدنيا . من هنا حنبدأ موجة جديدة .... "
المضمون هو الأهم، والمضامين تعكس القلق و الرغبة فى التعبير، دون الالتجاء لتكوين جماعة، وبدون شعارات. ويمكننا أن نتحدث عن جيل يقدم سينما أخرى، تبدأ إرهاصاتها مع السينما التى لاتكذب، ومع ذلك تتجمل. من خلال الوظيفة فى المركز القومى للسينما التسجيلة تظهر البدايات.

بين مولد خير بشارة وداود عبد السيد عام واحد فقط ، ويبدو أن دواد يكن تقديراً للمثل الشعبى " أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة " فيتعامل من هذا المنطق ويتصرف كحكيم للدفعة المشاغبة التى تخرجت عام 67، ويسلك طريق الحكماء فيقدم فيلمه التسجيلى الثانى بعنوان " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " الذى لم ينبذ فيه التعليق الذى تعامل معه المجددون كشر مطلق، بل اٍستخدمه بشكل جديد يحقق جدلا بين فريق يعارض تعليم أبناء القرية ويعتقد أن تعليم الفلاحين يهدد سلامتهم ، وفريق آخر منحاز إليه بقوة، ويدافع عن  قضية تعليم الفلاحين وتطوير القرية إلى حد يعرضه للقتل.
" وصية رجل حكيم "
بعد أن يُهدى المخرج فيلمه إلى الدكتور طه حسين و تلامذته، يبدأ باستعراض لقرية مع موسيقى هادئه. ونشاهد لقطات ممتنوعة لممارسات الفلاحين اليومية ، ويأتينا صوت المعلق " الممثل جميل راتب ": " تبدو القرية المصرية بلا تغيير، الهدوء و السكينة .. منذ آلاف السنين.. الفلاح الفقير وخالى البال ، يملك مالا يمكن شراؤه بالمال، السلام والهدوء و السكينة و المحبة " ثم يغير من طريقة أدائه ويقول بلهجة تمثيلية : " كل الحياة الآمنة مهددة بالانهيار، فتحت الجلد يجرى تغيير خطير فى حياة القرية "، يمضى التعليق على هذا النحو ليكتشف المشاهد أن التغيير الذى يخشاه المعلق ويتبناه فريق من القرية، هو تعليم الصغار فى المدارس، وتعليم الكبار فى برامج محو الأمية، ويكشف داوود فى فيلمه عن القوى التى لا تريد أن يتعلم الفلاحون، ونراهم فى زاوية من أسفل أمام منازلهم التى تعتبر قصورا مقارنة بمنازل الفلاحين الفقراء المحتاجين للتعليم لكى يحافظوا على حقوقهم ويعرفون كيف يطالبون بها . ويقدم المخرج شخصية المعلم ابن القرية ودوره فى توعية الفلاحين الكبار وتبنيه لبرامج محو الأمية، وتواجده فى جلسات مناقشة مع الفلاحين فى قضايا عامة.
ونسمع المعلق يقول : مال الفلاح و السياسة ؟، ويستمر المخرج فى توضيح ربط التعليم بالتطور من خلال المدرس ، بينما الرأى الاخر مستمر من خلال التعليق : " يريد تغيير ما خلقه الله ، اعزلوه .. فهو مفسد شرير" . الصورة للمدرس فى لقطة عامة يسير مع تلاميذه الصغار ممسكا بحنو يد أحدهم وحوله باقى التلاميذ و التمليذات.
المدرس مع فلاح يحكى كيف عرضوا عليه مبلغ " 500 جنيه " لكى يقتل المدرس، لكن الفلاح يُعجب به ويصبح صديقا حميما له.
يستمر داوود فى عرض فوائد التعليم من وجهة نظر الفلاحين، ويقاطعه المعلق الذى يمثل القوى المعارضة، يقول عنهم فلاح: " الناس اللى مش من مصلحتها إن الفلاحين يتعلموا " .
يضرب بهم مثلا بلقطة مأخوذة بزاوية من أسفل لرجل من الأثرياء فى بيته الفخم وبعده موكب المدرس حاملا- الكلوب– مصباح الاضاءة يعمل بالكيروسين، كرمز لنور العلم الذى يحمله المدرس إبن القرية، فى عدة لقطات له سائرا فى ليل القرية مارا على منازلها حاملا الكلوب .
يستخدم دواد رسومات ثابتة تدعو لمقاومة التعليم وشنق الداعين له ، تُذكرنا بشقاء الفلاحين وهم يحفرون القناة بالسُخرة، هذه اللوحات طلبها خصيصا من الفنان التشكيلى فخرى الليثى، خريج فنون جميلة دفعة 1964 من نفس جيل داوود وصديقه وقتها، اللوحات وهى بطريقة الجرافيك حفر بالأسود، يقدم بعدها مشهدا لتعليم الكبار فى فصول محو الأمية، يقرأون سورة " إقرأ " من القرآن الكريم فى صمت نرى شفاه الفلاحين تردد الآية الكريمة ، ثم عودة لمجموعة لقطات لتعليم الصغار ، وينتهى الفيلم بمشهد يضم الفلاحين من الكبار و الصغار يشيرون لقافلة الفيلم مودعين .
يقول داود : لكل منا طريقته فى التفكير ، كنت أكره التعليق الغالب على أفلام الفترة التى سبقت عملى فى الفيلم التسجيلى ، كان التعليق عادة رسمياً جدا ، أقول عنه " صوت ربنا ".. صوت لا يأتيه الباطل أبداً، وهو يناسب المنهج الإعلامى و الأنظمة الشمولية، وحدث تغيير لجأ إليه عدد من المخرجين بأن يستنطقوا الناس العاديين، جعلوا الشخصيات العادية تتحدث، كانت هناك صعوبات تقنية كثيرة، وكان العمل يتم بوسائل بدائية ويخرج الصوت رديئا وغير متزامن مع الصورة، ثم ظهرت أفلام تستغنى تماما عن التعليق كرد فعل لمشاكله، وظهرت محاولات لعمل شكل جمالى بعيدا عن التعليق، أما فى فيلم " وصية رجل حكيم " فان طبيعة الموضوع فرضت وجهتى نظر، فكرت فى استخدام التعليق للتعبير عن وجهة النظر المسكوت عنها ، لتظهر بشكل واضح وفج، وفى نفس الوقت أردت اللعب على تراث السينما التسجيلية الذى يظهر فيه التعليق معبراً عن وجهة نظر ربنا– الحقيقة المطلقة– وأترك المشاهد للحظات يُصدق فيها هذا المنطق، بعدها يرى وجهة النظر، فما هو موقفك؟".
يحصل الفيلم على جائزة التحكيم الخاصة من مهرجان الأفلام المصرية التسجيلية والقصيرة لعام 1977، وجائزة اتحاد النقاد المصريين فى نفس العام مناصفة مع فيلم زميله خيرى بشارة " طائر النورس ".
يقول دواد : اخترت لعمل فيلم " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " محافظة كفر الشيخ ، فوضعها متوسط، ليست نائية تماما، ولا تكون المشكلة فيها محلولة مثل محافظة المنوفية، بل محافظة تجمع عدة بيئات، صحراوية وساحلية وريفية، تجولت بها حتى وصلت إلى هذه القرية حيث وجدت " الصراع " وهذا هو المنسى فى السينما التسجيلية. فى المهرجان الأخير شاهدت مجموعة أفلام تسجيلية عبارة عن تراكم بالصور، الفيلم التسجيلى يعنى القبض على صراع موجود فى الواقع، و السينما التسجيلية تبحث عن صراع موجود فى المجتمع، قد يكون صراعا مع الطبيعة ، بين الناس ... دراما، لابد من وجود صراع يجذب المتفرج لمتابعة الفيلم مهما بلغ طوله، الدراما هى البعد الغائب عن الأفلام التسجيلية الحالية، وهى مشكلة تقنية وليست مشكلة أفكار ".
" العمل فى الحقل "
ورغبة فى الابتعاد عن قضايا إجتماعية قد تثير المشاكل فى مجتمع يتغير، فكر المخرجون فى تقديم أفلام عن الفنانين التشكيليين، اختار داود المصور حسن سليمان فكان فيلم "العمل فى الحقل " الذى يبدأ بصوت المعلق على شاشة سوداء : " أمس قال لى حسن أنه سيحدثنى عن نفسه ، وسيشرح لى ما كان غامضا على ، وتركنى فى الحجرة وحدى ، وفجأة .... " – عند كلمة " فجأة "نرى لوحة فى العمق وتتحرك الكاميرا عبر الشاريوه مقتربة من لوحة " الحساب الأخير" حتى تصبح اللقطة متوسطة بعدها – وفى حركة " بان " – تستعرض الكاميرا اللوحة ، و التعليق يقول " كان كل التلاميذ مقنعين إلا المسيح، حسن يقول إن كل البشر مقنعين إلا الأنبياء و الفنانين، إن القناع إذا تمزق أسفر عن وجه واضح، أما خلف وجه الفنان فأعماق ليس من السهل الغوص فيها – التعليق يمثل رأى ذاتى للمخرج، وبصورة مركبة تتداخل أراء حسن سليمان التى قالها للمخرج مع ما كتبه فى مقالاته، فالفنان حسن سليمان لا يرسم لوحات رائعة فقط بل هو فنان مفكر، حفر اسمه فى ذاكرة داود بعد أن شاهد لوحته " العمل فى الحقل " التى يقدمها لنا المخرج فى لقطة عامة ثابتة : النورج تسحبها بقرتان و الفلاح فى خلفية الصورة أعلى منتصف اللوحة.

الموسيقى السيمفونية تربط المشاهد معا، الكاميرا تستعرض الحوائط ، رفوف عليها تماثيل، ثم فى العمق يتم القطع على لقطة أخرى للوحة، أنابيب الألوان و الفرش ( أدوات الرسم ) تثبت الكاميرا متأملة هذه التفاصيل ثم تتحرك فى بان حتى تصل إلى الفنان متأرجحا على كرسيه فى وضع متأمل تنقلنا نظرته المتأملة للوحة – عارى – وحركة رأسية من أعلى إلى أسفل " تلت دوان Tilt Down " ثم تفاصيل اللوحة، ثم لوحة أخرى، وعند هذا الحد يتدخل صوت المخرج، ويقوم بدورة المعلق عبد الرحمن على : " كنت قد شاهدت بعض لوحاته الحديثة وذهبت ليوسف صبيح أحد مقتنيى أعمال حسن " .. هنا يتم القطع على الرجل الذى يحكى لنا عن حسن شارحا أسلوبه الفنى .
فى الشرح الذى قدمه المقتنى لأعمال حسن سليمان يذكر بداياته الأكاديمية واستعماله للألوان الذى تطور بعد ذلك وتسيدت الرماديات لوحاته، ينقل لنا داود عبر كاميرا علي الغزولي هذا الجو الرمادي أثناء تقديمهم لمنزل الفنان في بدايات الفيلم ، وعندما نصل للنهاية وتزامنا مع التعليق : " حسن هو الذي يقول أن الفنان يمتلك الشرط الإنسانى الذى يأبى الهزيمة والحزن، لذلك فان حسن في لوحاته دائما يحفر مساحة صغيرة من الضوء"،عندها نرى نفس اللقطة وقد طغى ضوء برتقالى على المشهد الذى كان رماديا.

الصورة التي صورها الفنان علي الغزولي وهو المخرج التسجيلى الكبير والفنان التشكيلى ومدير التصوير السينمائى في فيلم داود عبد السيد"العمل في الحقل" لا تقل جمالا عن أعمال الفنان نفسه، حركة الكاميرا باستخدام الشاريوه تنقل المنزل بتفاصيله أحجام اللقطات تعطي تنوعا للمشهد وتشكل إيقاعا موسيقيا بين اللقطات الاستعراضية واللقطات الثابتة، الموسيقى المستخدمة ليست دخيلة على المشهد، ففي مشهد لاحق نرى الفنان يضع أسطوانة، ثم نراه في شرفة مرسمه سارحا في حالة من السكون التى تسبق عاصفة الإبداع ، الموسيقى تُسلم للتعليق والتعليق ينتهي ليبدأ حوار الشخصية، لا توجد في الفيلم لحظة واحدة أو خلجة يمكن الاستغناء عنها ، داوود يحقق في فيلمه التسجيلي ( 23 ق ) شرط نجاح القصة القصيرة : لا ثرثرة، ولا تزيد من أى نوع وعلى المشاهد أن يكون يقظا حابسا أنفاسه لتصل إليه رسالة الفيلم كاملة.
يقول داود : تعليق فيلم " العمل في الحقل " ذاتى وليس موضوعيا، ذاتى بمعني أنه يمثل وجهة نظر مخرج يحاول عمل فيلم تسجيلي عن المصور الرسام ، ووصف معاناته الشخصية لعمل الفيلم ، الحوار الدائر بين تعليق المخرج وكلمات حسن سليمان أسلوب يحقق الجدل بين ما يفكر فيه المخرج وبين الواقع والهواجس والأسئلة الشخصية لدي الفنان، عملت بهذا الأسلوب لانني أحب التكثيف في الفن لا أحب السينما المسطحة– بعيدا عن الأيديولوجيات– فليس الفيلم الذي يقدم وجهة نظر تقدمية هو هدفى، ولكنني أقصد بالتكثيف عمل فيلم له عدة مستويات ويحتاج لتفكير وانتباه المشاهد".
نعود للفيلم لنري كيف يضفر المخرج مشاهده : الفنان في لقطة عامة يدير أسطوانة، نسمع موسيقي كلاسيكية، لقطة قريبة للأسطو انة وهي دائرة كوسيلة إنتقال، ثم حسن سليمان جالسا في شرفة مرسم، تتمهل الكاميرا عنده قليلا ثم تتسحب لتنقل أجواء المنزل، ويؤكد التعليق على عزلة الفنان وينقل لنا أسئلته وإجاباته من مقاطع من كتاباته التى درسها داود بعناية : " يدرك الفنان أن الفن صعب والعمر قصير " يأخذنا التعليق إلى عالم الفنان الداخلي أثناء التجول مع محتويات المرسم، الكاميرا تدور في إحساس دائرى، ونفاجأ بالفنان يعمل في لوحة.
المشهد السابق تجمعه وحدة الفكرة، فكرة عزلة الفنان التي يناقشها المخرج دون ثرثرة سينمائية وعبر تكثيف للقطات في إيقاع مشدود للغاية مع غنى تفاصيل الصورة وشريط الصوت ، وأهمية كل كلمة.
تسود الموسيقي مع نهاية المشهد وتستمر علي المشهد اللاحق حيث يسير حسن وحيدا في شوارع القاهرة، يتناول الأيس كريم ، ثم يتوقف ليشتري لعبة، وينتهي المشهد بلقطة قريبة له ممسكا باللعبة سعيدا مثل طفل، ونرى بعدها بداية وحدة مشهدية جديدة، تبدأ بصورة لحسن وهو طفل رضيع ثم صورة له وهو أكبر وصورة ثالثة مع والديه، ويأتينا صوت الشخصية تتحدث لأول مرة :" الواحد عاوز يفتكر طفولته .... ".
وهكذا لا يتم القطع بشكل متعسف، فكل شي خاضع للمنطق، والشخصية لا تقول أى كلام، كلمات مختارة متفق عليها في جلسات سابقة، حكي حسن يصل بنا الي سر شخصيته المتمردة : كل ده إدى الطفل الصغير التمرد والعناد علي المقاييس اللي كانوا عاوزين يحطوها، وإللى فضل بس هو حب الواحد لمصر ".
قطع على مشهد في حواري القاهرة، وحسن سائرا وخلفه بائع العرقسوس ثم صانعوا النحاس ... جو كامل تتحرك فيه الشخصية وينقلها لنا المخرج لنقترب من عالم الفنان حسن سليمان .
مشهد يناقش معني إلتزام الفنان الذى لا يرسم سوى الورود والكمثرى، وشرح من الفنان عن درس أعطاه له أستاذه عن الإقتراب من أبناء بلده – لا ليرسمهم بالضرورة، ولكن لتكون هناك مساحة للتعبير بتلقائية عن معان كالحب والحرية والعدل والكرامة، أثناء حديثة يقدم لنا داود مشهدا بديعا للعجوز يعمل علي نول يدوى في الهواء الطلق، ويبدو كحكيم يغزل في الأساطير، وقبل ان تندهش من سحر اللقطات لا تنس أن علي الغزولى المصور والمخرج التسجيلى فنان تشكيلى في الأساس نجح مع المخرج وعبر لغة السينما أن يقدما تنويعات من اللقطة العامة والقريبة والمتوسطة لشخصية حقيقية وجدت بالصدفة في طريق العاشقين فنقلاها لنا بكل الحب، وكانت خير تعبيرعن آراء حسن سليمان النظرية. كل هذا الثراء ولم يمض من الفيلم سوى بضع دقائق، وما زال لدينا المشهد الذى يرسم فيه أمامنا إحدى لوحاته بعد أن شحنته مشاهد الحياة التي رأينا بعضا منها. يسكت التعليق والحوار وتصاحبنا الموسيقي فقط لنحبس أنفاسنا ونحن نشاهد عملية الخلق الفني البديع للوحة من الطبيعة الصامتة لثمار الكمثرى الخضراء على نسيج حريري بنفسجي، إيقاع المونتاج الرائع للمونتير أحمد متولى لتنويعات اللقطات التي قدمها له كل من المصور والمخرج بسخاء ، يتصاعد مع لقطات حسن القريبة مندمجا في عمله بكل تركيز.
أجهدنا المشهد ولا توجد مساحة لالتقاط الأنفاس، خاصة أن الفيلم ينقل لنا الحاضر عبر تحركات الفنان وممارسته لعمله وحياته والزمن الماضي بالاستعانة بالصور وحكي حسن، نشعر بأن حسن لا يكف أبدا عن العمل حيث نراه يخطط بقلمه أثناء تناول إفطاره، ونقترب من النهاية وداود يتساءل : " جُهد ما زال علي أن أبذله ... وتذكرت قول حسن إن خلق عمل فني في حد ذاته رحلة مميتة ".
ينتهي الفيلم بمشهد لاستحمام الخيول في نيل القاهرة ، الحصان الجامح يصهل سعيدا بعد الحمام ويسوقه صاحبه المستحم أيضا، ونسمع التعليق في لغة شعرية : الحياة دائما كدورة النورج في الحقل – كذلك هو دائم العمل لا يكل – الحصان يصهل – لا يتوقف لأن بقاءه في العمل .. في الحقل ".
ومن بحر النيل إلى بحر حسن المرسوم في لوحات خضراء رمادية ، عدة لوحات للبحر يتساءل معها المخرج : لماذا يرسم حسن البحر ؟.
السؤال أجاب عنه الفيلم كله الذى لم يتوار فيه المخرج ، بل قدم حوارا أشبه بجدل مع فنان يعمل في حقل فني آخر، فنان مصور رسام رأى فيه السينمائي نفسه.
يقول داود :" نتيجة عدة جلسات مع حسن سليمان والتحضير للفيلم، قرأت ما كتبه من مقالات وتناقشا واتفقنا علي الحديث عن أجزاء معينة، وما حكاه لي سابقا أعيد تصويره، وحتي التعليق كان جاهزا طبعا تكون هناك مقترحات أثناء التصوير وفي المونتاج .. والوعي في الفيلم التسجيلي يكون بعدم تزييف الواقع، بإحضار شخصية تمثل مثلا أو يجعل الشخصية تقوم بأداء ما لا تقوم به في حياتها الحقيقية، ومن الطبيعي أن يعمل المخرج تحت أي ظروف ، لكن لابد من المعاينة والتحضير ".
يكتب داود السيناريو لفيلمه التسجيلي علي الورق بعد المعاينة، فلا تكون هناك مشاكل فى التصوير ولا فى المونتاج إلا فيما يتعلق بتقنيات جودة الصوت المسجل وتزامنه مع الصورة– وقتها كانت توجد مشكلة فى المعدات – وهناك جهود مع المعمل لتحقيق أعلي جودة للصورة بالإضافة لبعض المشاكل الإنتاجية.
فريق عمل فيلمه "وصية .." ...21 ق – إنتاج 1976، المكون من سعيد شيمي للتصوير، عادل منير للمونتاج ، وجهاد داود للموسيقى،فخرى الليثى للوحات ، سيتغير بالكامل مع فيلم " العمل في الحقل " ..23ق... إنتاج 1979، فيعمل معه علي الغزولى في التصوير وأحمد متولى فى المونتاج، ويوسف عزيز في الموسيقى. ومع تغير فريق العمل لا يتغير المنهج الذى اختاره الفنان السينمائى أسلوبا لعمله، المنهج الجدلى المكثف الذى يعمل على إثارة العقل ودفع المشاهد للتفكير فى القضايا المعروضة.
يقول داود : " عمل الأفلام التسجيلية كان سلاحي ووسيلتي لأعرف بلدى وناسى ... وأنا مخرج صغير لا يعقل أن أقعد مع حسن سليمان على قهوة مثلا، وكان عمل فيلم عنه هو وسيلة لمعرفته. العمل في حقل الفيلم التسجيلي يمثل طُرقا مختلفة للدخول في عوالم أخرى، عالم الفلاحين فى " وصية رجل حكيم " وعالم كبار الفنانين فى " العمل في الحقل "، لم تكن رغبتى فقط أن أكون مخرجا، بل أن الذهاب لرؤية أماكن وشخوص كانت متعتي ".
                                                                  
حاشية: عملت فى فيلم " العمل فى الحقل " بعد تخرجى بعام أو أكثر كمساعد مونتير، وكانت متعة العمل الذى كان يجرى فى حجرات المونتاج باستديو الأهرام على جهاز الموفيولا متعة لا توصف، وبعد أكثر من عشرين عاما حين اتجهت للنقد وفكرت فى الكتابة عن الأفلام التى لايعرفها أحد بتشجيع من محمود الكردوسى رئيس تحرير مجلة الفن السابع وبتشجيع من رئيس مجلس إدارتها محمود حميدة تذكرت بدايات خيرى بشارة وداوود عبد السيد، كانت المشاهدة صعبة لعدم وجود DVD ، وكان لزاما التقدم بطلب للمركز القومى للسينما لكى يسمح لى باستعارة نسخة فيديو من الأفلام، أو مشاهدتها بالقاعة ، ثم مقابلة المخرج وتسجيل حوار معه، ألتقط صورا بكاميرا متواضعة لدى، وأبحث عن صور ثابتة للفيلم، الملف الصحفى للفيلم التسجيلى لا وجود له، فهو صنف مهمل ولا يشاهده أو يكتب عنه أحد، بعدها أدمجت الحوار مع عرضى للفيلم، لست صحفية دارسة لفن المقال، ولكنى عرفت بعدها أن ما أكتبه هو نوع من المقال الصحفى يسمى French article بالمقال الفرنسى، وكدنا نتوقف فى الفن السابع عن باب "جماليات السينما التسجيلية المصرية " اعتقادا من مديرة المجلة مها درويش أنها ليست محل اهتمام، حتى جاء أفراد عديدون يطلبون أعداد المجلة وخاصة التى تحوى هذا الباب فاستمرينا وتوسعنا ليصبح تحت مسمى "السينما الأخرى" ليضم كل أنواع الروائى القصير، التحريك والتسجيلى. يمتلك المركز القومى كنوزا منها ولكن نسخ العرض قد تحولت ألوانها بفعل الزمن. ولدى الباحث المدقق مجدى عبد الرحمن مشروع كبير لعمل ألبومات لكل مخرج يبدأ بطبع نسخ جديدة ونقلها على أسطوانات مدمجة. كنوزنا كثيرة، ولكنها ضائعة ولا معنى للتفكير بى مقر للأرشيف دون الاهتمام بنسخ الأفلام التى توضع فى هذا الأرشيف، أو السينماتيك، فحتى المدافن تحتاج جثثا لكى يصبح لوجودها معنى.

Sunday 18 July 2010

" لعبة " 7ق وجائزة لجنة التحكيم من المهرجان القومى للسينما المصرية أبريل 2010


                 مروى زين
هوية عربية مركبة
فى تقديمها لشخصية فيلمها التسجيلى " راندا " وصفتها بأنها تحمل " هوية عربية مركبة" فهى فلسطينية الأب لأم مصرية ، تعيش فى القاهرة بعد دراستها فى بيروت. المخرجة السودانية مروى زين خريجة معهد السينما بالقاهرة تحمل نفس الصفة فهى ذات هوية عربية مركبة. تشغلها فكرة الانتماء العربى وترغب فى أن تكون أول مخرجة سودانية تحقق فيلما يحمل هموم أهلها وناسها فى السودان. حصل مشروع تخرجها "لعبة" من المعهد العالى للسينما فى مصر على جائزة لجنة التحكيم من المهرجان القومى الأخير. جنسية الأفلام وهوية المخرج لم تكن أبدا محل نقاش فى مصر إلا فى السنوات الأخيرة، حتى أن البعض تساءل عن أحقية السودانية مروى زين فى الحصول على جائزة من المهرجان القومى للسينما المصرية. مشروعات التخرج هى إنتاج يخص المعهد والأكاديمية المصرية رغم ما يُسهم به الطلبة فى ميزانية الإنتاج، وعليه فإن فيلم " لعبة " هو إنتاج مصرى خالص يستحق المشاركة والحصول على الجوائز. دعم المواهب العربية فى مجال الفنون دور كبير تقوم به أكاديمية الفنون بمصر وقد تخرج من معهد السينما المصرى عدد كبير من فنانى السينما على مستوى العالم العربى، بعضهم عاد لبلده وشارك فى حركتها السينمائية، وبعضهم بقى مثل المخرج سعيد حامد السودانى الجنسية، مصرى الهوى صاحب أفلام الحب فى الثلاجة، ورشة جريئة، وصعيدى فى الجامعة الأمريكية. منخرطا فى صناعة السينما المصرية كواحد من أبنائها.
عملت مروى زين ضمن ورشة الأستاذ على بدرخان الذى يفضل أن يعتمد الطالب على نص قصصى يبنى عليه سيناريو مشروعه ليضمن حدا أدنى من التماسك الدرامى الموجود بالقصة الأصلية. اختارت مروى قصة "لنلعب لعبة" للإيطالى ألبرتو مورافيا، وقامت بتمصيرها لتدور اللعبة بين أم وابنتها، الأم مطلقة ولها علاقة متوترة بآخر. 

تبدأ مروى فيلمها من لحظة توتر حادة تتعارك فيه الأم مع الصديق ابراهيم خارج الكادر قبل أن تدخل بيتها حيث ابنتها المنتظرة.
الأم وتقوم بالدور ليلى سامى عصبية جدا وغير متجاوبة فى الحوار مع الطفلة التى تعرض على أمها لعبة تبادل الأدوار، أنا انت وانت أنا، توافق الأم وتندمج الطفلة فى اللعبة لتكشف مروى عن حجم الأخطاء الذى تقوم بها الأم عادة، وتنتهى اللعبة وقد أعطت الطفلة درسا لأمها ولنا نحن المشاهدين من الكبار تنبهنا إلى ما نرتكبه من أخطاء تضر بنفسية الصغار. زمن عرض الفيلم 7 ق وهو من أقصر مشروعات التخرج التى تتراوح عادة بين عشر دقائق وربع الساعة مصور بخام السينما 35 مللى إذ يُعد الطالب للعمل فى سوق صناعة السينما وبتقنيتها. 
يدورفيلم " لعبة " فى شقة الأم والابنة فقط دون مكان آخر، وفى زمن لا يتخطى الساعة. وحدة المكان والزمان تمثل عادة تحديا للمخرج ليكثف أفكاره، وفيها يتم الاعتناء بالتمثيل، وكانت الطفلة روفينا عزت شديدة البراعة فى أداء دورها وكأنما وُلدت لتمثل. تقول مروى زين أنها قبل تصوير الفيلم فشلت فى العثور على من تقوم بدورالطفلة وكادت تيأس تماما إلى أن التقت صدفة بطفلة تسير مع أمها فى منطقة وسط البلد، سار كل منهم فى طريقه وعادت فالتقتها ،ابتسمت لها الطفلة سألتها مروى هل ترغبين فى التمثيل؟ فقالت نعم. دارت عدة جلسات مع روفينا فى حضور والديها وأصبحت مروى مقتنعة بأنها مناسبة تماما للعب دور رنا فى لعبة. حتى أن أدءها طغى على أداء هالة الأم وتفوق عليه مما خدم الفكرة عن الطفلة التى لقنت أمها درسا فى الحياة. أدار تصوير الفيلم وليد جابر وقامت بعمل المونتاج رضور على وهما زميلى مروى فى الدفعة من معهد السينما يحكمون على عملهم فى المشروع ومعهم ابراهيم شامل الذى مازال طالبا فى معهد الكونسيرفتوار ويقوم بالتأليف الموسيقى لعدد كبير من الأفلام القصيرة لزملائه مستخدما عازفين أكاديميين، فريق العمل، المخرجة ومدير التصوير والمونتيرة ومؤلف الموسيقى، كلهم أجادوا عملهم القصير" لعبة" كنموذج لما يمكن أن يقدموه فى سوق السينما لو أتيحت لهم الفرصة.
حين سئلت مروى فى ندوة جرت بجمعية النقاد عن اهتمامها بالأدب، أجابت وهى محرجة عفوا اعذرونى أنا أفضل الأدب الغربى وأقرأ لكتاب عرب وكاتبات أحب كتابات هدى بركات..كانت تتردد وكأنه لزاما عليها أن تحب يوسف إدريس، وغيره من الكتاب المصريين كأغلب زملائها. وهى صادقة مع نفسها ومعنا، وطموحها لتقدم فنا سودانيا ليس حقها فقط بل واجبها تجاه وطن به من المثقفين والأدباء المبدعين، ما يشى بوجود قدرت إبداعية يمكنها أن تظهر فى السينما أيضا إذا ما توفرت الشروط والرغبة لتحقيق ذلك. 
ونعود للفيلم التسجيلى "راندا " عن المصورة راندا شعث . 
تعرفت مروى زين عليها من خلال معرض 
لها أقيم فى القاهرة، اقتربت منها، نمت بينهما صداقة ظهرت فى مشروعها التسجيلى المقدم ضمن دراستها بمعهد السينما، به مادة ثرية من صور راندا، وعرض قريب لشخصيتها المقتحمة غناها بالروافد الثقافية المتعددة. استخدمت مروى زين فى الفيلم موسيقات عربية مختلفة جزائرية ومصرية ولبنانية للتعبير عن التناغم العربى كما يتضح من صور راندا شعث نفسها التى تقترب فيها من الناس فى أمكان عربية مختلفة من ريف مصر،إلى مخيمات فلسطين، إلى الجزائر. فى الفيلم تطالعنا راندا شعث بابتسامتها الصافية وخجلها من أن تكون موضوعا لعمل مصور وهى التى اعتادت على الوقوف خلف الكاميرا.
قدمت مروى فيلما آخر"سلمى " عن شخصية تضيع فى الإدمان، لا يرقى للعملين السابقين كانت تجرب فيه فقط أدواتها كمخرجة سينمائية.
تندمج مروى فى سوق صناعة الفيلم، تدربت وساعدت فى أعمال فنية بمصر ولبنان، تجمع خبراتها لتكون قادرة على تحقيق طموحها لعمل أول فيلم روائى سودانى عن قصة سودانية.

صفاء الليثى

Sunday 11 July 2010

أبناء بينوشيه: الجيل الذى أزاح الديكتاتور

الفيلم التسجيلى
وسيط معرفى
ومحفزعلى النضال

فى نهاية الثمانينيات تدعو الحكومة لاستفتاء -لا أو نعم- للجنرال ليبقى ثمانى سنوات أخرى فى الحكم، اتحدت المعارضة وقالت لا .
ليس هذا حلم يقظة بل هو ما ترصده المخرجة باولا رودريجيث فى الفيلم التسجيلى "أبناء بينوشيه " 80 ق والذى عرض بمصر فى إطار مهرجان "بين سينمائيات " لقاء المرأة العربية اللاتينية فى دورته الثالثة لهذا العام. أسسته المخرجة المصرية الشابة أمل رمسيس ونجحت فى أن تعرض أفلامه مصحوبة بترجمة عربية –قامت بها بنفسها- فبلغت الاستفادة من مشاهدة الأفلام مداها، وأعيد عرض الفيلم ضمن نشاط النقاد كونه نموذج لما يجب أن يكون عليه الفيلم التسجيلى الذى لا يكتفى بعرض شهادات لمن عاصروا أحداثا ما، بل بمزجه الفنى بين الوثيقة الحية واللقاء مع من شاركوا فى الأحداث فى بناء درامى كفيلم روائى يبدأ بمقدمة ويصل إلى ذروة ثم نهاية منطقية لما حدث لثلاث رفاق جمعتهم المخرجة بعد ثلاثين عاما من الأحداث التى أطاحت بسيطرة الدكتاتور بينوشيه . 
                                                                   المخرجة باولا رودريجو
استعرضت المخرجة وهى واحدة من هذا الجيل نفسه حقبة هامة فى تاريخ تشيلى بادئة بيوم الانقلاب على سلفادور الليندى أول رئيس يسارى منتخب فى حكومات العالم. 
فى البداية نسمع صوت كارلا على لقطات للبحر، جيل كامل هو جيلنا، أرانا كما كنا كارلا بولى وجويك. إنهم جيل الثمانينيات فى تشيلى نما وعيهم فى سنوات الدكتاتور. كل يحكى عما عاصره وكان جزءا منه، ستخرج بعد مشاهدة الفيلم وقد امتلأت بالمشاعر، وازددت معرفة، هل حقا انتحر سلفادور الليندى، يصحح الفيلم ما قد تكون تعتقده إذا كانت لديك بعض المعلومات. وستحصل على المعلومات كلها مرتبة ومحققة بالوثائق الحية إذا كنت صفحة خالية لا تعرف أى شيء مسبق عن نضال المعارضة التى قادها اليسار فى تشيلى. تحت عنوان تمرد الثمانينيات تسمع غناء ثورى ممتزجا بهتافات من مشاهد حقيقة. صور التمرد وقنابل تفريق المظاهرات. وثيقة حية تبدو كلقطة من فيلم جبار لثائر يقرأ بيان الثوار، استخدم الشعب حقه الشرعى فى الاحتجاج على النظام، وتمتد يد لتخبئه خلف باب قبل وصول البوليس، يخرج من باب آخر ليكمل البيان، حميمية الثورة تنتقل إليك، انضموا إلى حلبة الرقص مقطع من أغنية شبابية للثوار. بعد وقفة موسيقية فى إيقاع مثالى، قطع فنى ويدخل صوت كارلا الجوع وعدم الرضا بسبب القمع يتحدان فينفجر البلد ، إنها سنوات الثمانينيات حيث بدأ الثلاثة كارلا ابنة وزير داخلية حكومة سلفادور الليندى، وبولى ابن القائد الشيوعى وطبيب الليندى الخاص، وفوجيك بمظهر يشبه جيفارا، ابن 16 عاما عند حدوث الانقلاب العسكرى على حكومة الليندى المنتخبة. 
وبداية عملهم الطلابى ونضالهم السياسى، كيف تحررت الجامعات من الديكتاتورية بانتخاب العمداء وليس تعيينهم قبل أن تتحرر البلد. مشاهد حية لنضال الثمانينيات فى جامعة تشيلى الحرة هكذا يهتفون فى الوثيقة. لا تتعجب من أين حصلت المخرجة على هذه الوثائق، فهى التى خرجت من تشيلى إلى ألمانيا وعملت فى التلفزيون واكتسبت خبرة جعلتها لا تُقدم على عمل فيلم وثائقى بدون جمعها لوثائق حقيقية. كوجيك يحكى كيف كان كره الديكتاتورية يمنح الثوار القوة. مرة أخرى غناء ثورى بمزج عبقرى مع لقطات للثوار الثلاثة الآن بعد 30 سنة من الأحداث. فن المونتاج فى أروع صوره مازجا الصوت والصورة . تستعين المخرجة بمحلل سياسى اسمه مانويللا من جريدة معارضة لبينوشيه، يعلق ويزيد الشرح شرحا. إنه الجيل الذى تشكل أيديولوجيا من خبرة الدكتاتورية، بمعنى أن مصدر وعيه السياسى نشأ من المعايشة الشخصية للظلم. ويكمل جويك شبيه جيفارا كيف أن ثلاثتهم تخلصوا من الصيغ الجامدة لليسار الماركسى فتجاوزوا كونهم قيادة للشيوعية ليصبحوا قيادة للمعارضة كلها. يؤكد المحلل السياسى أن كارلا ووبولى كانا رمزين لحكوة الليندى، وأن كوجيك بمثابة الروح الحرة التى توقظ داخلك عاطفة كبيرة. نكتشف من التحليل أمورا مشتركة بين الناس فى تشيلى ومصر، كحبهم لمن يأمر، واستخدام بينوشيه لخبثه الفلاحى يذكرك بالسادات، وخاصة عند جزء تورده المخرجة من خطاب لبينوشيه يتحدث فيه عن دولة القانون التى ستختل إذا مسه أحد. تكمل كارلا أن هدفه هو البقاء فى الحكم فقط بينما يشاركه اليمين ووزراء الاقتصاد والمال الحكم الفعلى للبلاد. وعن استراتيجيتهم التى توجت بالخصخصة. لا تغفل باولا رودريجيث مخرجة الفيلم عرض مؤيدى بينوشيه من البرجوازيين أصحاب المصالح، تعرض مظاهرت تأييدهم رافعين الأعلام. كمدخل لذروة الفيلم وذروة الأحداث فى الفصل المعنون بصيحة الرفض لا ، عندما تدعو الحكومة للاستفتاء كمخرج ديمقراطى لأزمة الدكتاتورية وتكون النتيجة لصالح المعارضة. كما تُظهر إحدى المؤيدات تكاد حنجرتها تنفجر وهى تصرخ نحن أبناءك المخلصين لا نريد شيوعيين فى هذه البلاد. إيقاع الفيلم يتوازن بين مشاهد اللقاءات مع الأبطال الثلاثة وخاصة وهم يسيرون على البحر، وبين الوثائق والتعليق عليها. يحكون عن القبض عليه فى انجلترا وتوجيه تهم الإبادة الجماعية له، كيف عاد على كرسى متحرك ليثير الشفقة ويدعى أنه ضعيف وغلبان،كوجيك يقول إنه عار على القوات المسلحة التشيلية كيف اختاروه قائدا، يفلت من العقاب فى بلده فقد نجح فى أن يمنح نفسه حصانة مدى الحياة قبل أن يترك الحكم .
كل المعلومات السابقة نسمع شرحا لها ونشاهد الوثائق الدالة عليها، وتنهى المخرجة الفيلم بشرح الدور الحالى الذى يقوم به كل منهم، كارلا تعود للسياسة بعد أن فهمت روح الاشتراكية فى احترام الإنسان، بولى يترك تجارته الناجحة ويعود للسياسة، كوجيك ممثلا ومخرجا مسرحيا لأعمال من تأليفه، الثلاثة سائرين على البحر متطلعين إلى المستقبل. تهدى المخرجة فيلمها لابنتها تأكيدا لتوجهها نحو المستقبل. أبناء بينوشيه إنتاج عام 2002 مشترك بين تشيلى وألمانيا العمل الرابع لمخرجته، يثير غيرتنا على المستوى الفنى والنضالى ويعيد للفيلم التسجيلى دوره المعرفى والتحريضى.


Friday 9 July 2010

" بحلم يادنيا بجد " فيلم روائى قصير


 بساطة الفكرة
وخصوصية الأسرة المصرية

فى إطار نشاط نقابة الصحفيين تقام عروض فيلمية وندوات،  وفيها شاهدت الفيلم القصير " بحلم يا دنيا بجد" للثنائى الكاتب ماهر زهدى والمخرج سامح الشوادى وهو عملهما الثالث بعد البداية القوية بفيلم " هوه النهاردة إيه" الذى تناول علاقة عنصرى الأمة من خلال شخص أقرب للالتزام الدينى الإسلامى، ومسن مسيحى هاجر أبناؤه وعاش وحيدا على كرسيه المتحرك، وعن طريق اتصال تليفونى خاطئ تنشأ علاقة إنسانية بين "كمال أبو رية" وحسن عبد الحميد بطلى العمل القصير الذى ينتهى نهاية حالمة بالشاب المسلم يحقق حلم العجوز بالذهاب للكنيسة كما يصحبه فى جولات بأماكن هامة فى القاهرة . جاء العمل الثانى"نجاملكم فى الأفراح " أقل تألقا وكان أقرب لجو المسلسلات التلفزيونية شكلا وموضوعا.
أما الثالث" بحلم يادنيا بجد" فيرتكز بفكرته الرئيسية على حلم لفتاة مثالية تعول أسرتها وترعى أمها المريضة، ووالدها المتمارض وأشقائها الأصغر، وبعد استعراض لتفاصيل من حياة الأسرة ندخل فى حلم الفتاة بقضاء يوم فى مدينة الإسكندرية مثل بطلات فيلم " أحلى الأوقات " الذى يقدم له الكاتب والمخرج التحية بجعله ملهما للفتاة لتحلم بجد بقضاء عدة ساعات فى المدينة الساحرة. 

تقوم المطربة ميس حمدان بدور الفتاة بأداء تمثيلى جيد ولكن بشكل تقليدى بالطريقة المعروفة فى الميلودراما المصرية، يتوافق مع بناء الشخصية التى رسمها ماهر زهدى والتى تجد قبولا لدى المشاهد الذى تربى على الفن السائد. وشخصية الفتاة المثالية المضحية والمتفانية فى سبيل أسرتها قد تجعلنا نطرح تساؤلا "هوه لسه فى حاجة كده؟" أغلب الظن أن البطل المضاد هو الأقرب للعصر والمعبر عن غالبية الناس وهى النماذج التى يكثر تناولها الآن فى السينما التجارية التى تعرض بدور العرض، ولكن زهدى والشوادى فضلا أن يقدما لنا بطلة نقية نتعاطف مع حلمها المشروع بقضاء يوم مختلف تقابل فيه رجلا يمنحها حبا وحنانا، ولا يسرفان فى الحلم الذى يتبين أنه حلم للفتاة يفيقها منه خبر سار بنهوض الأم المريضة من سرير المرض بما يشى بإمكانية تحسن الظروف وتخفيف قدر من العبء على الفتاة المخلصة. وهذا التناول يناسب عملا ينتجه التلفزيون بغرض العرض على شاشته لكل أفراد الأسرة. تحفل تفاصيل العمل بالكثير من تفاصيل الأسرة المصرية والشخصية اللافتة فى " بحلم يا دنيا بجد" هى شخصية الأب التى قام بها الممثل على حسنين والتى أضفت بعدا قويا على أحد سلبيات الأسر المصرية التى يتخلى فيها ذكور الأسرة عن واجباتهم تاركين تحمل المسئولية للنساء. والرسالة هنا غير مباشرة جعلت من شخصية الرجل المتخيلة الذى ظهر فى حلم الفتاة بالإسكندرية هو النموذج الذى ينحاز إليه صانعا العمل لشخصية الرجل كما يجب أن تكون حنونا وحاميا للمرأة.
أجاد المخرج سامح الشوادى عمله وكذلك كل فريق فيلمه، مما يجعلنا نتساءل أين السهرات الفيلمية التى كانت تصور بخام السينما 35 مللى وقدمت فيها أعمال هامة لابراهيم الشقنقيرى، وعلوية زكى، وإنعام محمد على وأحمد صقر، برع فيها كتاب مثل عاطف بشاى وآخرين، وهى أعمال فنية غير صادمة للقطاع العريض من مشاهدى التلفزيون.  
الفيلم الروائى القصير مجال يتسع لتناول قضايا متنوعة بأساليب فنية شديدة التباين، فبينما يغلب على مشروعات التخرج من معهد السينما قيمة التكثيف الذى يجعلها تضاهى القصص القصيرة لمبدعيها وعلى رأسهم يوسف إدريس ومحمد المخزنجى، يغلب الشكل الغنائى والملحمى على الأفلام القصيرة المنتجة فى التلفزيون. والشكل الغنائى لا يعنى بالضرورة وجود أغانى بالأفلام، ولكن أقصد به القيمة التعبيرية والأسلوبية التى تجعلها فى منطقة أقرب للقصص الشعبى والتراثى، مثل أعمال عز الدين سعيد، وأعمال للكاتب عطية الدرديرى، ومثل عملنا هذا " بحلم يا دنيا بجد " الذى تضمن أغنية واحدة تؤكد تناوله الرومانسى ورغبة صانعيه فى تخطى الواقع ومحاولة تغييره ولو فى الحلم.
صفاء الليثى