داود عبد السيد
الصراع ، وليس مجرد تراكم الصور
تخرج داود عبد السلام فى معهد السينما عام 1967، ولد عام 1946، وقدم من إنتاج المركز القومى للسينما فيلم " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " عام 1976، وفى عام 1979 قدم " العمل فى الحقل " يدور الحوار بين الصديقين ، الزميلين خيرى وداود ، العاشقين لفن السينما :
" انا حأعمل سينما جديدة ، أفلام تكسر الدنيا " .
" انت مش حتعمل حاجة أبداً. أنا حغير شكل الدنيا . من هنا حنبدأ موجة جديدة .... "
المضمون هو الأهم، والمضامين تعكس القلق و الرغبة فى التعبير، دون الالتجاء لتكوين جماعة، وبدون شعارات. ويمكننا أن نتحدث عن جيل يقدم سينما أخرى، تبدأ إرهاصاتها مع السينما التى لاتكذب، ومع ذلك تتجمل. من خلال الوظيفة فى المركز القومى للسينما التسجيلة تظهر البدايات.
بين مولد خير بشارة وداود عبد السيد عام واحد فقط ، ويبدو أن دواد يكن تقديراً للمثل الشعبى " أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة " فيتعامل من هذا المنطق ويتصرف كحكيم للدفعة المشاغبة التى تخرجت عام 67، ويسلك طريق الحكماء فيقدم فيلمه التسجيلى الثانى بعنوان " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " الذى لم ينبذ فيه التعليق الذى تعامل معه المجددون كشر مطلق، بل اٍستخدمه بشكل جديد يحقق جدلا بين فريق يعارض تعليم أبناء القرية ويعتقد أن تعليم الفلاحين يهدد سلامتهم ، وفريق آخر منحاز إليه بقوة، ويدافع عن قضية تعليم الفلاحين وتطوير القرية إلى حد يعرضه للقتل.
" وصية رجل حكيم "
بعد أن يُهدى المخرج فيلمه إلى الدكتور طه حسين و تلامذته، يبدأ باستعراض لقرية مع موسيقى هادئه. ونشاهد لقطات ممتنوعة لممارسات الفلاحين اليومية ، ويأتينا صوت المعلق " الممثل جميل راتب ": " تبدو القرية المصرية بلا تغيير، الهدوء و السكينة .. منذ آلاف السنين.. الفلاح الفقير وخالى البال ، يملك مالا يمكن شراؤه بالمال، السلام والهدوء و السكينة و المحبة " ثم يغير من طريقة أدائه ويقول بلهجة تمثيلية : " كل الحياة الآمنة مهددة بالانهيار، فتحت الجلد يجرى تغيير خطير فى حياة القرية "، يمضى التعليق على هذا النحو ليكتشف المشاهد أن التغيير الذى يخشاه المعلق ويتبناه فريق من القرية، هو تعليم الصغار فى المدارس، وتعليم الكبار فى برامج محو الأمية، ويكشف داوود فى فيلمه عن القوى التى لا تريد أن يتعلم الفلاحون، ونراهم فى زاوية من أسفل أمام منازلهم التى تعتبر قصورا مقارنة بمنازل الفلاحين الفقراء المحتاجين للتعليم لكى يحافظوا على حقوقهم ويعرفون كيف يطالبون بها . ويقدم المخرج شخصية المعلم ابن القرية ودوره فى توعية الفلاحين الكبار وتبنيه لبرامج محو الأمية، وتواجده فى جلسات مناقشة مع الفلاحين فى قضايا عامة.
ونسمع المعلق يقول : مال الفلاح و السياسة ؟، ويستمر المخرج فى توضيح ربط التعليم بالتطور من خلال المدرس ، بينما الرأى الاخر مستمر من خلال التعليق : " يريد تغيير ما خلقه الله ، اعزلوه .. فهو مفسد شرير" . الصورة للمدرس فى لقطة عامة يسير مع تلاميذه الصغار ممسكا بحنو يد أحدهم وحوله باقى التلاميذ و التمليذات.
المدرس مع فلاح يحكى كيف عرضوا عليه مبلغ " 500 جنيه " لكى يقتل المدرس، لكن الفلاح يُعجب به ويصبح صديقا حميما له.
يستمر داوود فى عرض فوائد التعليم من وجهة نظر الفلاحين، ويقاطعه المعلق الذى يمثل القوى المعارضة، يقول عنهم فلاح: " الناس اللى مش من مصلحتها إن الفلاحين يتعلموا " .
يضرب بهم مثلا بلقطة مأخوذة بزاوية من أسفل لرجل من الأثرياء فى بيته الفخم وبعده موكب المدرس حاملا- الكلوب– مصباح الاضاءة يعمل بالكيروسين، كرمز لنور العلم الذى يحمله المدرس إبن القرية، فى عدة لقطات له سائرا فى ليل القرية مارا على منازلها حاملا الكلوب .
يستخدم دواد رسومات ثابتة تدعو لمقاومة التعليم وشنق الداعين له ، تُذكرنا بشقاء الفلاحين وهم يحفرون القناة بالسُخرة، هذه اللوحات طلبها خصيصا من الفنان التشكيلى فخرى الليثى، خريج فنون جميلة دفعة 1964 من نفس جيل داوود وصديقه وقتها، اللوحات وهى بطريقة الجرافيك حفر بالأسود، يقدم بعدها مشهدا لتعليم الكبار فى فصول محو الأمية، يقرأون سورة " إقرأ " من القرآن الكريم فى صمت نرى شفاه الفلاحين تردد الآية الكريمة ، ثم عودة لمجموعة لقطات لتعليم الصغار ، وينتهى الفيلم بمشهد يضم الفلاحين من الكبار و الصغار يشيرون لقافلة الفيلم مودعين .
يقول داود : لكل منا طريقته فى التفكير ، كنت أكره التعليق الغالب على أفلام الفترة التى سبقت عملى فى الفيلم التسجيلى ، كان التعليق عادة رسمياً جدا ، أقول عنه " صوت ربنا ".. صوت لا يأتيه الباطل أبداً، وهو يناسب المنهج الإعلامى و الأنظمة الشمولية، وحدث تغيير لجأ إليه عدد من المخرجين بأن يستنطقوا الناس العاديين، جعلوا الشخصيات العادية تتحدث، كانت هناك صعوبات تقنية كثيرة، وكان العمل يتم بوسائل بدائية ويخرج الصوت رديئا وغير متزامن مع الصورة، ثم ظهرت أفلام تستغنى تماما عن التعليق كرد فعل لمشاكله، وظهرت محاولات لعمل شكل جمالى بعيدا عن التعليق، أما فى فيلم " وصية رجل حكيم " فان طبيعة الموضوع فرضت وجهتى نظر، فكرت فى استخدام التعليق للتعبير عن وجهة النظر المسكوت عنها ، لتظهر بشكل واضح وفج، وفى نفس الوقت أردت اللعب على تراث السينما التسجيلية الذى يظهر فيه التعليق معبراً عن وجهة نظر ربنا– الحقيقة المطلقة– وأترك المشاهد للحظات يُصدق فيها هذا المنطق، بعدها يرى وجهة النظر، فما هو موقفك؟".
يحصل الفيلم على جائزة التحكيم الخاصة من مهرجان الأفلام المصرية التسجيلية والقصيرة لعام 1977، وجائزة اتحاد النقاد المصريين فى نفس العام مناصفة مع فيلم زميله خيرى بشارة " طائر النورس ".
يقول دواد : اخترت لعمل فيلم " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " محافظة كفر الشيخ ، فوضعها متوسط، ليست نائية تماما، ولا تكون المشكلة فيها محلولة مثل محافظة المنوفية، بل محافظة تجمع عدة بيئات، صحراوية وساحلية وريفية، تجولت بها حتى وصلت إلى هذه القرية حيث وجدت " الصراع " وهذا هو المنسى فى السينما التسجيلية. فى المهرجان الأخير شاهدت مجموعة أفلام تسجيلية عبارة عن تراكم بالصور، الفيلم التسجيلى يعنى القبض على صراع موجود فى الواقع، و السينما التسجيلية تبحث عن صراع موجود فى المجتمع، قد يكون صراعا مع الطبيعة ، بين الناس ... دراما، لابد من وجود صراع يجذب المتفرج لمتابعة الفيلم مهما بلغ طوله، الدراما هى البعد الغائب عن الأفلام التسجيلية الحالية، وهى مشكلة تقنية وليست مشكلة أفكار ".
" العمل فى الحقل "
ورغبة فى الابتعاد عن قضايا إجتماعية قد تثير المشاكل فى مجتمع يتغير، فكر المخرجون فى تقديم أفلام عن الفنانين التشكيليين، اختار داود المصور حسن سليمان فكان فيلم "العمل فى الحقل " الذى يبدأ بصوت المعلق على شاشة سوداء : " أمس قال لى حسن أنه سيحدثنى عن نفسه ، وسيشرح لى ما كان غامضا على ، وتركنى فى الحجرة وحدى ، وفجأة .... " – عند كلمة " فجأة "نرى لوحة فى العمق وتتحرك الكاميرا عبر الشاريوه مقتربة من لوحة " الحساب الأخير" حتى تصبح اللقطة متوسطة بعدها – وفى حركة " بان " – تستعرض الكاميرا اللوحة ، و التعليق يقول " كان كل التلاميذ مقنعين إلا المسيح، حسن يقول إن كل البشر مقنعين إلا الأنبياء و الفنانين، إن القناع إذا تمزق أسفر عن وجه واضح، أما خلف وجه الفنان فأعماق ليس من السهل الغوص فيها – التعليق يمثل رأى ذاتى للمخرج، وبصورة مركبة تتداخل أراء حسن سليمان التى قالها للمخرج مع ما كتبه فى مقالاته، فالفنان حسن سليمان لا يرسم لوحات رائعة فقط بل هو فنان مفكر، حفر اسمه فى ذاكرة داود بعد أن شاهد لوحته " العمل فى الحقل " التى يقدمها لنا المخرج فى لقطة عامة ثابتة : النورج تسحبها بقرتان و الفلاح فى خلفية الصورة أعلى منتصف اللوحة.
الموسيقى السيمفونية تربط المشاهد معا، الكاميرا تستعرض الحوائط ، رفوف عليها تماثيل، ثم فى العمق يتم القطع على لقطة أخرى للوحة، أنابيب الألوان و الفرش ( أدوات الرسم ) تثبت الكاميرا متأملة هذه التفاصيل ثم تتحرك فى بان حتى تصل إلى الفنان متأرجحا على كرسيه فى وضع متأمل تنقلنا نظرته المتأملة للوحة – عارى – وحركة رأسية من أعلى إلى أسفل " تلت دوان Tilt Down " ثم تفاصيل اللوحة، ثم لوحة أخرى، وعند هذا الحد يتدخل صوت المخرج، ويقوم بدورة المعلق عبد الرحمن على : " كنت قد شاهدت بعض لوحاته الحديثة وذهبت ليوسف صبيح أحد مقتنيى أعمال حسن " .. هنا يتم القطع على الرجل الذى يحكى لنا عن حسن شارحا أسلوبه الفنى .
فى الشرح الذى قدمه المقتنى لأعمال حسن سليمان يذكر بداياته الأكاديمية واستعماله للألوان الذى تطور بعد ذلك وتسيدت الرماديات لوحاته، ينقل لنا داود عبر كاميرا علي الغزولي هذا الجو الرمادي أثناء تقديمهم لمنزل الفنان في بدايات الفيلم ، وعندما نصل للنهاية وتزامنا مع التعليق : " حسن هو الذي يقول أن الفنان يمتلك الشرط الإنسانى الذى يأبى الهزيمة والحزن، لذلك فان حسن في لوحاته دائما يحفر مساحة صغيرة من الضوء"،عندها نرى نفس اللقطة وقد طغى ضوء برتقالى على المشهد الذى كان رماديا.
الصورة التي صورها الفنان علي الغزولي وهو المخرج التسجيلى الكبير والفنان التشكيلى ومدير التصوير السينمائى في فيلم داود عبد السيد"العمل في الحقل" لا تقل جمالا عن أعمال الفنان نفسه، حركة الكاميرا باستخدام الشاريوه تنقل المنزل بتفاصيله أحجام اللقطات تعطي تنوعا للمشهد وتشكل إيقاعا موسيقيا بين اللقطات الاستعراضية واللقطات الثابتة، الموسيقى المستخدمة ليست دخيلة على المشهد، ففي مشهد لاحق نرى الفنان يضع أسطوانة، ثم نراه في شرفة مرسمه سارحا في حالة من السكون التى تسبق عاصفة الإبداع ، الموسيقى تُسلم للتعليق والتعليق ينتهي ليبدأ حوار الشخصية، لا توجد في الفيلم لحظة واحدة أو خلجة يمكن الاستغناء عنها ، داوود يحقق في فيلمه التسجيلي ( 23 ق ) شرط نجاح القصة القصيرة : لا ثرثرة، ولا تزيد من أى نوع وعلى المشاهد أن يكون يقظا حابسا أنفاسه لتصل إليه رسالة الفيلم كاملة.
يقول داود : تعليق فيلم " العمل في الحقل " ذاتى وليس موضوعيا، ذاتى بمعني أنه يمثل وجهة نظر مخرج يحاول عمل فيلم تسجيلي عن المصور الرسام ، ووصف معاناته الشخصية لعمل الفيلم ، الحوار الدائر بين تعليق المخرج وكلمات حسن سليمان أسلوب يحقق الجدل بين ما يفكر فيه المخرج وبين الواقع والهواجس والأسئلة الشخصية لدي الفنان، عملت بهذا الأسلوب لانني أحب التكثيف في الفن لا أحب السينما المسطحة– بعيدا عن الأيديولوجيات– فليس الفيلم الذي يقدم وجهة نظر تقدمية هو هدفى، ولكنني أقصد بالتكثيف عمل فيلم له عدة مستويات ويحتاج لتفكير وانتباه المشاهد".
نعود للفيلم لنري كيف يضفر المخرج مشاهده : الفنان في لقطة عامة يدير أسطوانة، نسمع موسيقي كلاسيكية، لقطة قريبة للأسطو انة وهي دائرة كوسيلة إنتقال، ثم حسن سليمان جالسا في شرفة مرسم، تتمهل الكاميرا عنده قليلا ثم تتسحب لتنقل أجواء المنزل، ويؤكد التعليق على عزلة الفنان وينقل لنا أسئلته وإجاباته من مقاطع من كتاباته التى درسها داود بعناية : " يدرك الفنان أن الفن صعب والعمر قصير " يأخذنا التعليق إلى عالم الفنان الداخلي أثناء التجول مع محتويات المرسم، الكاميرا تدور في إحساس دائرى، ونفاجأ بالفنان يعمل في لوحة.
المشهد السابق تجمعه وحدة الفكرة، فكرة عزلة الفنان التي يناقشها المخرج دون ثرثرة سينمائية وعبر تكثيف للقطات في إيقاع مشدود للغاية مع غنى تفاصيل الصورة وشريط الصوت ، وأهمية كل كلمة.
تسود الموسيقي مع نهاية المشهد وتستمر علي المشهد اللاحق حيث يسير حسن وحيدا في شوارع القاهرة، يتناول الأيس كريم ، ثم يتوقف ليشتري لعبة، وينتهي المشهد بلقطة قريبة له ممسكا باللعبة سعيدا مثل طفل، ونرى بعدها بداية وحدة مشهدية جديدة، تبدأ بصورة لحسن وهو طفل رضيع ثم صورة له وهو أكبر وصورة ثالثة مع والديه، ويأتينا صوت الشخصية تتحدث لأول مرة :" الواحد عاوز يفتكر طفولته .... ".
وهكذا لا يتم القطع بشكل متعسف، فكل شي خاضع للمنطق، والشخصية لا تقول أى كلام، كلمات مختارة متفق عليها في جلسات سابقة، حكي حسن يصل بنا الي سر شخصيته المتمردة : كل ده إدى الطفل الصغير التمرد والعناد علي المقاييس اللي كانوا عاوزين يحطوها، وإللى فضل بس هو حب الواحد لمصر ".
قطع على مشهد في حواري القاهرة، وحسن سائرا وخلفه بائع العرقسوس ثم صانعوا النحاس ... جو كامل تتحرك فيه الشخصية وينقلها لنا المخرج لنقترب من عالم الفنان حسن سليمان .
مشهد يناقش معني إلتزام الفنان الذى لا يرسم سوى الورود والكمثرى، وشرح من الفنان عن درس أعطاه له أستاذه عن الإقتراب من أبناء بلده – لا ليرسمهم بالضرورة، ولكن لتكون هناك مساحة للتعبير بتلقائية عن معان كالحب والحرية والعدل والكرامة، أثناء حديثة يقدم لنا داود مشهدا بديعا للعجوز يعمل علي نول يدوى في الهواء الطلق، ويبدو كحكيم يغزل في الأساطير، وقبل ان تندهش من سحر اللقطات لا تنس أن علي الغزولى المصور والمخرج التسجيلى فنان تشكيلى في الأساس نجح مع المخرج وعبر لغة السينما أن يقدما تنويعات من اللقطة العامة والقريبة والمتوسطة لشخصية حقيقية وجدت بالصدفة في طريق العاشقين فنقلاها لنا بكل الحب، وكانت خير تعبيرعن آراء حسن سليمان النظرية. كل هذا الثراء ولم يمض من الفيلم سوى بضع دقائق، وما زال لدينا المشهد الذى يرسم فيه أمامنا إحدى لوحاته بعد أن شحنته مشاهد الحياة التي رأينا بعضا منها. يسكت التعليق والحوار وتصاحبنا الموسيقي فقط لنحبس أنفاسنا ونحن نشاهد عملية الخلق الفني البديع للوحة من الطبيعة الصامتة لثمار الكمثرى الخضراء على نسيج حريري بنفسجي، إيقاع المونتاج الرائع للمونتير أحمد متولى لتنويعات اللقطات التي قدمها له كل من المصور والمخرج بسخاء ، يتصاعد مع لقطات حسن القريبة مندمجا في عمله بكل تركيز.
أجهدنا المشهد ولا توجد مساحة لالتقاط الأنفاس، خاصة أن الفيلم ينقل لنا الحاضر عبر تحركات الفنان وممارسته لعمله وحياته والزمن الماضي بالاستعانة بالصور وحكي حسن، نشعر بأن حسن لا يكف أبدا عن العمل حيث نراه يخطط بقلمه أثناء تناول إفطاره، ونقترب من النهاية وداود يتساءل : " جُهد ما زال علي أن أبذله ... وتذكرت قول حسن إن خلق عمل فني في حد ذاته رحلة مميتة ".
ينتهي الفيلم بمشهد لاستحمام الخيول في نيل القاهرة ، الحصان الجامح يصهل سعيدا بعد الحمام ويسوقه صاحبه المستحم أيضا، ونسمع التعليق في لغة شعرية : الحياة دائما كدورة النورج في الحقل – كذلك هو دائم العمل لا يكل – الحصان يصهل – لا يتوقف لأن بقاءه في العمل .. في الحقل ".
ومن بحر النيل إلى بحر حسن المرسوم في لوحات خضراء رمادية ، عدة لوحات للبحر يتساءل معها المخرج : لماذا يرسم حسن البحر ؟.
السؤال أجاب عنه الفيلم كله الذى لم يتوار فيه المخرج ، بل قدم حوارا أشبه بجدل مع فنان يعمل في حقل فني آخر، فنان مصور رسام رأى فيه السينمائي نفسه.
يقول داود :" نتيجة عدة جلسات مع حسن سليمان والتحضير للفيلم، قرأت ما كتبه من مقالات وتناقشا واتفقنا علي الحديث عن أجزاء معينة، وما حكاه لي سابقا أعيد تصويره، وحتي التعليق كان جاهزا طبعا تكون هناك مقترحات أثناء التصوير وفي المونتاج .. والوعي في الفيلم التسجيلي يكون بعدم تزييف الواقع، بإحضار شخصية تمثل مثلا أو يجعل الشخصية تقوم بأداء ما لا تقوم به في حياتها الحقيقية، ومن الطبيعي أن يعمل المخرج تحت أي ظروف ، لكن لابد من المعاينة والتحضير ".
يكتب داود السيناريو لفيلمه التسجيلي علي الورق بعد المعاينة، فلا تكون هناك مشاكل فى التصوير ولا فى المونتاج إلا فيما يتعلق بتقنيات جودة الصوت المسجل وتزامنه مع الصورة– وقتها كانت توجد مشكلة فى المعدات – وهناك جهود مع المعمل لتحقيق أعلي جودة للصورة بالإضافة لبعض المشاكل الإنتاجية.
فريق عمل فيلمه "وصية .." ...21 ق – إنتاج 1976، المكون من سعيد شيمي للتصوير، عادل منير للمونتاج ، وجهاد داود للموسيقى،فخرى الليثى للوحات ، سيتغير بالكامل مع فيلم " العمل في الحقل " ..23ق... إنتاج 1979، فيعمل معه علي الغزولى في التصوير وأحمد متولى فى المونتاج، ويوسف عزيز في الموسيقى. ومع تغير فريق العمل لا يتغير المنهج الذى اختاره الفنان السينمائى أسلوبا لعمله، المنهج الجدلى المكثف الذى يعمل على إثارة العقل ودفع المشاهد للتفكير فى القضايا المعروضة.
يقول داود : " عمل الأفلام التسجيلية كان سلاحي ووسيلتي لأعرف بلدى وناسى ... وأنا مخرج صغير لا يعقل أن أقعد مع حسن سليمان على قهوة مثلا، وكان عمل فيلم عنه هو وسيلة لمعرفته. العمل في حقل الفيلم التسجيلي يمثل طُرقا مختلفة للدخول في عوالم أخرى، عالم الفلاحين فى " وصية رجل حكيم " وعالم كبار الفنانين فى " العمل في الحقل "، لم تكن رغبتى فقط أن أكون مخرجا، بل أن الذهاب لرؤية أماكن وشخوص كانت متعتي ".
حاشية: عملت فى فيلم " العمل فى الحقل " بعد تخرجى بعام أو أكثر كمساعد مونتير، وكانت متعة العمل الذى كان يجرى فى حجرات المونتاج باستديو الأهرام على جهاز الموفيولا متعة لا توصف، وبعد أكثر من عشرين عاما حين اتجهت للنقد وفكرت فى الكتابة عن الأفلام التى لايعرفها أحد بتشجيع من محمود الكردوسى رئيس تحرير مجلة الفن السابع وبتشجيع من رئيس مجلس إدارتها محمود حميدة تذكرت بدايات خيرى بشارة وداوود عبد السيد، كانت المشاهدة صعبة لعدم وجود DVD ، وكان لزاما التقدم بطلب للمركز القومى للسينما لكى يسمح لى باستعارة نسخة فيديو من الأفلام، أو مشاهدتها بالقاعة ، ثم مقابلة المخرج وتسجيل حوار معه، ألتقط صورا بكاميرا متواضعة لدى، وأبحث عن صور ثابتة للفيلم، الملف الصحفى للفيلم التسجيلى لا وجود له، فهو صنف مهمل ولا يشاهده أو يكتب عنه أحد، بعدها أدمجت الحوار مع عرضى للفيلم، لست صحفية دارسة لفن المقال، ولكنى عرفت بعدها أن ما أكتبه هو نوع من المقال الصحفى يسمى French article بالمقال الفرنسى، وكدنا نتوقف فى الفن السابع عن باب "جماليات السينما التسجيلية المصرية " اعتقادا من مديرة المجلة مها درويش أنها ليست محل اهتمام، حتى جاء أفراد عديدون يطلبون أعداد المجلة وخاصة التى تحوى هذا الباب فاستمرينا وتوسعنا ليصبح تحت مسمى "السينما الأخرى" ليضم كل أنواع الروائى القصير، التحريك والتسجيلى. يمتلك المركز القومى كنوزا منها ولكن نسخ العرض قد تحولت ألوانها بفعل الزمن. ولدى الباحث المدقق مجدى عبد الرحمن مشروع كبير لعمل ألبومات لكل مخرج يبدأ بطبع نسخ جديدة ونقلها على أسطوانات مدمجة. كنوزنا كثيرة، ولكنها ضائعة ولا معنى للتفكير بى مقر للأرشيف دون الاهتمام بنسخ الأفلام التى توضع فى هذا الأرشيف، أو السينماتيك، فحتى المدافن تحتاج جثثا لكى يصبح لوجودها معنى.