Wednesday 23 December 2020

المخرج علي رضا وثورة يوليو

 توثيق فرقة رضا على شرائط السينما 35 مللي

في تركيبة ناجحة تم تقديم فرقة رضا في الفيلم المرح " أجازة نص السنة " 1962 الذي تحمس لإنتاجه مدير التصوير الفنان عبد العزيز فهمي، صور بالكامل في قرية حيث المثقفة الريفية زينب، النجمة ماجدة التي تملك مزرعة ريفية على وشك الإفلاس من ضغوط زوج خالتها، يحضر أخوها الطالب الجامعي مع مجموعة تمثل فرقة الرقص ومدربهم أحمد/ محمود رضا، لنشهد صراع قيم بين فريقين . منحنا الفيلم فرصة لنعرف مصادر رقصات تقدم على مسارح الدولة وتحي وتوثق لموسيقى وأزياء فلاحات وفلاحي مصر ، على موسيقى مقتبسة من أغاني فلاحية فولكلورية يصدح بها المطرب الشعبي المرتبط بالفرقة محمد العزبي. وجمال فريدة فهمي في رقصة على كولاج من الأغاني المصرية بتوزيع جديد.ومعها محمود رضا المعبر عن علي رضا نفسه وحلمهم في فرقة للرقص الجاد توثق تراث الفولكور المصري . في قالب من الكوميديا الرومانسية وقليل من تراث الواقعية يمتعنا الفيلم وبه توثيق بشريط السينما 35 مللي لفرقة رضا وفنها وقد صور على مسرح الطبيعة في الريف المصري.

نجاح لم يستثمر الا بعد خمس سنوات وقد تحمست شركة القاهرة للإنتاج والتوزيع السينمائي لفيلم بطولة نجمي الفرقة فريدة فهمي ومحمود رضا دون الاستعانة بنجم أو نجمة ومن بطولة فرقة رضا. في نسخة ملونة عالية الجودة هذه المرة تذهب الفرقة الى الأقصر حيث آثار مصر القديمة ولم تمض ربع الساعة حتى يقدم أغنية العمل التي تميزه والتي أصبحت تتردد في كل رحلة يقوم بها شباب المصريين، في زفة بالحناطير يغني محمد العزبي " الأقصر بلدنا " وفي ميزانسين رائع لعلي رضا يتم الانتقال بين لقطة متوسطة عامة فيها العزبي وبجواره الحوذي وبين لقطات عامة واسعة للفرقة يقودهم محود رضا وعلى صقفة مدوية وموسيقى علي اسماعيل مصرية الهوي، يرقصون وفي الخلفية معبد الأقصر بأعمدته الشاهقة، خلال ثلاثة دقائق فقط تم تقديم أهم لوحة فنية من لوحات فرقة رضا. سيستعين علي رضا بنجمي الكوميديا عبد المنعم ابراهيم وأمين هنيدي وسيوظفهما في أدوار تثير الابتسامة وتخدم الدراما، هذه المرة في قصة سينمائية من تأليفه مع كاتب السيناريو المرتبط به محمد عثمان . سيمضي الفيلم خطوات أبعد ليوثق تقريبا كل لوحات فرقة رضا التي نحفظها عن ظهر قلب، ويختتم الفيلم باستعراض كبير يلخص مصر من شمالها مع الصيادين وفنون بحري حتى الصعيد عبر التحطيب والنوبة برقصاتها الإفريقية، توثيق نادر لفرقة رضا ونجمهيا فريدة فهمي ومحمود رضا في عمل لا يقل عن أفلام الميوزيكال الأمريكية ، في غرام في الكرنك، تصبح الأغنيات حوارا منغما وجزء من دراما الفيلم بداية من ساحة محطة مصر، محطة القطار الرئيسية لمصر وانتهاء بمسرح أقامه أفراد الفرقة على خلفية معابدنا الفرعونية في الأقصر بلدنا.  الفيلم في قالب فيلم الرحلة ونسمع صلاح/محمود رضا يقول لأمينة/ فريدة مرعي ، الرحلة لي بداية الفرقة بتاعتنا اللي طول عمري بأحلم بيها، وكأنه يعبر عن المخرج علي رضا وحلمه الذي تحقق.  وبداية من العناوين على لوحات للفنان ايهاب شاكر صاحب تصميم أفيش الفيلم يعد الفيلم درة  من درر سينما الستينيات وفخرا لإنتاج فيلمنتاج في إنتاج رسمي كبير يحتضن التجربة ويوثق لها.  


 مواكبة سياسة الدولة والتغير معها

استمر النجاح المدوي للمخرج علي رضا وأعماله التي تعد بدرجة ما سيرة ذاتية له ولأخيه ولزوجته راقصة الفرقة الأولى ، ولكنه في أفلامه التالية توجه إلى واقع البلاد وأصبحت فرقة رضا جزءا من هذا الواقع المتغير معبرا عنه في أفلامه  الأربعة الأخيرة ، آخرها قضية عم أحمد (1985) وقبله أسياد وعبيد (1978)، آه يا ليل يا زمن (1977) ورابعهم يارب توبة (1975) كلها توضح بدرجة أو بأخرى علاقة علي رضا بثورة يوليو و فرقته الراقصة مع أخيه محمود رضا وزوجته فريدة فهمي .

قضية عم أحمد 1985

ينهي علي رضا فيلمه الأخير بكلمة البداية بدلا من النهاية، قصد بها سياسة جديدة لا تظلم الملاك ولا تحابي المستأجرين، إلا بالقانون. يقدم على رضا رؤية  متوازنة بين أولاد الذوات وأولاد البلد. بين سكان الفيلات والقصور من أصحاب الأملاك، وبين سكان الأحياء الشعبية ، بين طبقة البهوات وطبقة العمال ، بين عم أحمد والبيه. حتى ثلثي الفيلم بدا انحياز صناع الفيلم إلى أهل البلد، ثم يكشف في مشهد فارق في منحنى الفيلم عن تعثر الثري السابق وهو يوضح لابنه حقيقة موقفه المالي. ثم يعود إلى عم أحمد ، النجم الكبير فريد شوقي واختياره في حد ذاته انحياز إلى الطبقة العاملة الكادحة، إلى الفتوة والأسطى حسن، في مقابل جمال اسماعيل الذي لا يتمتع بنجومية تؤهل للتعاطف معه ولا مع مشكله تعثره المالي.

بالطبع هناك قصة حب بين الابن الثري العائد من دراسة بألمانيا( فاروق الفيشاوي) وبطة ( معالي زايد) نوارة الحتة حفيدة عم أحمد. قصة تغازل أحلام رواد السينما ومشتري التذاكر. تيمة تقليدية بها جانب واقعي  أن تكون الابنة الصغرى متعلمة وجدعة ومحبوبة من الجميع ، وكفيلم مصري أصيل، تحدث تعقيدات لا توجد صعوبة في حلها، بداية من قضية طرد المستأجر بحجة مخالفة القانون، ومرافعة شعبية تعتمد على المنطق وليس على بنود القانون من عم أحمد تذكر بمرافعة عبد الفتاح القصري في الأستاذة فاطمة. السيناريو لبهجت قمر المخضرم ، أحد كبار مؤلفي السينما المصرية منذ زمن. بمشاركة المخرج الذي نعرفه فقط  بأفلام فرقة رضا الستعراضية . كانت مفاجأة لي بأن يكون لمؤسس فرقة رضا ومديرها أفلام تسير على منهج السينما المصرية الشعبية ، وخاصة سينما حسن الإمام الذي عمل معه مساعدا في فيلم لواحظ (1957) وسنجد في " قضية عم أحمد" نفس فريق التمثيل المفضل عند (مخرج الروائع ) حسن الإمام. ونوع السرد بين الواقعية والكوميديا وقدر من التشويق ومغازلة أولاد البلد.

تحول علي رضا في مسيرته الفنية مع تحولات السياسة المصرية ، إدانة لطبقة باشوات واقطاعيي ما قبل الثورة في " يارب توبة 1975" ، إدانة لمراكز القوي في " آه يا ليل يا زمن1977 " و أسياد وعبيد 1978 ضمن سلسلة أفلام تنتقد ما سببته الدكتاتورية في عصر عبد الناصر،  ليصل في " قضيةعم أحمد 1985" لموقف تبني سياسة السادات وعودة الحقوق إلى أصحابها. قدم في عدة مشاهد دفاعا عن الملاك من واقع معرفته بمشاكلهم وإمكانية فقدهم لثرواتهم التي كونوها بالكفاح والعرق أيضا.

" قضية عم أحمد" ختام لمسيرة المخرج علي رضا بها صعود نجمه من مساعد مخرج وممثل أدوار ثانية إلى مخرج أفلام في نوعية الفيلم الاستعراضي الغنائي ، هي المعادل المصري لأفلام الميوزيكال الأمريكية، والأفلام البوليودية الهندية. قدم مع السيناريست محمد عثمان سلسلة أفلام تناقش التحولات في السياسة المصرية من قبل ثورة يوليو مرورا بها وحتى ما سمي بثورة التصحيح.

أسياد وعبيد 1978

تعمد على رضا تجهيل الفترة الزمنية التي يقصدها في عمله ، ففي قسم البوليس خريطة مصر معلقة خلف مكتب الضابط بدلا من صورة الرئيس، وفي بيت خطيبة البطل د. أحمد صورة الوالد حسين رياض. الأسياد المقصودين هم رجالات الحكم ، مراكز القوى من أمن الدولة، والعبيد هم أفراد الشعب بكل طبقاته، وخاصة الطبقة الوسطى، طبيا كان أو صحفيا أو أستاذا جامعيا، ومعهم أهل الفن الشعبي نانا صاحبة الكازينو وسعاد الراقصة وأبوها الملحن القديم ، طبقة يمكن اعتبارها في أفلام السينما معادل لطبقة البروليتاريا مطحونين ، تعاملهم مع الأسياد ليتمكنوا من العيش ، وقلوبهم مع العبيد. هدى سلطان ، نوال نانا كبيرة قبيلة العبيد تتعامل مع رفعت بيه وقلبها متعلق بد. أحمد. سعاد مع حسن ، ود.فاطمة سيتبين أنها ابنة نانا من محمود تركتها وربتها الزوجة التقليدية ....صناع السينما في مصر يقدمون تعاطفهم دائما مع أهل هذا الفن الشعبي، ولكنهم يرغبون في الارتقاء مع مهنيي الطبقة الوسطى المتعلمة والمثقفة. وخؤلاء وهؤلاء يطحنهم رجال الرئيس ( الغامض) البوليس السياسي الذي يعتقل ويعذب بقضايا ملفقة وتهمة جاهزة، قلب نظام الحكم. في الفيلم مزيج من الدراما المصرية وقدر من الغنء والاستعراض بفرقة محمود رضا، كازينو علي رضا ترقص فيه فريدة فهمي رقصات أقرب الى طريقتها الخاصة وليس على طريقة الراقصة الشرقية، تعني هدى سلطان أغنيات تحسب كفن يصفق له الجميع، في الحقيقة لم تكن بينها أغنية واحدة تشبه روائع قدمتها هدى سلطان في أفلام أخرى" وان كنت ناسي أفكرك" أو غيرها من أفلام الخمسينيات الرائعة مع الملك.  هناك محاولة للتعبير في مشاهد تم تنفيذها بأسلوب قريب من السينما التعبيرية ، فاطمة تحاول إقناع زملاءها بالدفاع عن المعتقلين ، تخطب فيهم بحماس، عبر لقطة مقبرة يختفي الصوا ويتم القطع على تربيزة الاجتماع وقد انصرف عنها الجميع. وفي مشهد آخر فاطمة جالسة في مكتب خطيبها في لقطة عامة بعيدة، المكان فارغ وهي في حديث هامس لنفسها، تعبيرا عن العجز عن التصرف. لمحات إخراجية تختفي وسط ركام من مشاهد ضعيفة ومكررة للتعذيب والتحقيق مع جمل حوارية نمطية يرددها رفعت بيه ، مشاهد مسلوقة نفذت على عجل ولم ينقذها عادل أدهم الذي لم يصل لمستوى أداء كمال الشناوي في الكرنك.

نسخة علي رضا من أفلام الكرنكة تظهر حقيقة علاقة أهل السلطة بأهل الفن ( الرخيص إذا جاز التعبير) مقدم فيها الخلطة التقليدية لفيلم مصري، به دراما، ميلودراما، قليل من السياسة وكثير من توابل الفواجع كإدمان سعاد، فقد نوال لابنتها وتركها للزوجة الشرعية ومفاجأة تعرفها على ابنتها في نهاية الفيلم، حب يكاد يصبح زنا محارم باحتمال علاقة بين نوال وخطيب ابنتها ، ووسط هذا إعلان موقف أن صناع الفيلم ضد الاغتيالات وقتل المعارضين، ضد التعذيب والشخصيات الفاسدة من رجال الرئيس. لم يقل الفيلم صراحة أن الرئيس وطني ومن حوله هم المخطئون ولكن يمكن استنتاج ذلك من السياق العام . 

آه يا ليل يا زمن 1977

المشهد الافتتاحي لتنفيذ الحراسة على إقطاعي من ( العهد البائد) تستقبل فيه فاتن هانم الضابط المسئول ويقدمه لنا من خلال الفلاش باك كأحد الثوار في مواجهة البوليس السياسي قبل ثورة يوليو.  الفيلم من سلسلة أفلام سميت أفلام مراكز القوى، تنتقد سلبيات العصر الناصري بالطبع بعد موت عبد الناصر وقت رئاسة السادات. اختيار رشدي أباظة النجم المحبوب في ثوبه الجديد بعد مرحلة الدونجوان تجعلني أميل إلى رغبة علي رضا في التركيز على رجال الحكم المحترمين وليس على صنف صلاح نصر . واختيار وردة الجزائرية المطربة في زهوها يحقق هدفين ، الهدف الأول يرسم صورة محترمة للهانم سليلة الباشوات ووالهدف الثاني الدفاع عن الفن الذي يمكن أن يكون بلا تنازلات، هدف طالما سعى إليه كبار رواد السينما المصرية، وجعله حسن الإمام تيمته المفضلة التي قدمها عبر تنويعات مختلفة. وردة الجزائرية في دور ابنة العز التي قسا عليها الزمن تضطر للعمل بداية من ممرضة في عيادة طبيب ثم في مطعم وأخيرا يلتقطها إلياس، لتغني مع الحفاظ على شرفها ودون تنازلات.

في الثنايا هناك طرح لفكرة العيش بدون زواج دون أن يتم الحكم أو انتقاد ذلك من صناع الفيلم، لا من كاتبه ولا من مخرجه، وجود فاتن هانم والطبيب يوسف شعبان في باريس يسمح بتصديق هذا الوضع، ومع ذلك لا يمكن الإفلات من وسوستنا المصرية والعربية  فيتبين أن الطبيب خدعها بحجة سفره الى بلده تونس التي سيصعب معها تقبلهما هناك دون زواج، وسيتضح أنه ارتبط بأخرى فرنسية ولم يسافر. السياق الميلودرامي لمسيرة حياة الهانم ضحية الثورة سيمضي من كارثة إلى أخرى حتى تكاد تلبي لالياس طلبه بمواقعة الأمير العربي الذي يرغبها، وسينقذها في اللحظة الأخيرة الفارس المغوار محمود شوقي الثوري القديم ورجل الحكم الحالي . رحلة فاتن مع المآسي انتقل بها المخرج من مصر إلى باريس إلى المفرب، وسينتهي ككل فيلم مصري بحكمة ينطق بها البطل: انت لازم ترجعي مصر، بلدك أولى بيك. في ملهى إلياس تغني وردة ليلة تساوي ألف ليلة ، مع استعراض راقص بفرقة دبكة مصاحب للغناء. وحين تقابل رشدي تصفه  لزميلتها في الملهى وصديقتها المقربة بأنه (واحد من اللي سرقوا أموالي وأرضي)، وتنهره، أظن صدفة مش كده!.. يقول حكمته (مصر اتغيرت يا فاتن هانم ، ثورة التصحيح قضت على مراكز القوى.) يا خسارة يا علي رضا، مسافة كبيرة بين مشاركته فيلما يظهر رشدي اقطاعي فاسد قبل الثورة، بملابس خديوية في فيلمه " يارب توبة 1975"، ورشدي في "آه يا ليل يا زمن 1977 " ، منتقدا عصر عبد الناصر ومدافعا عن سياسات السادات.

أعترف أنني لم أكن أدقق في العناوين وكنت كمشاهدة غبر مدققة أحسبه فيلما لحسن الإمام. بعناصر تجمع كل الأبطال في مشهد واحد رشدي أحد بهوات العصر، القواد يمثله عادل أدهم والشخصية الكاريكاتورية لأمير الخليجي يمثلها سمير غانم ، اختيار ممثل كوميدي ليؤديها لتقليل من شأنه والسخرية منه. شوشو الممثلة خفيفة الظل سهيى الباروني بطلة  دائمة في أفلام حسن الإمام ومريم فخر الدين زوجة البيه هانم ساذجة، كزوجة تقليدية  في الأعمال الثلاث لعلي رضا.

التحول لدى علي رضا يظهر ما بين "أسياد وعبيد 1978 و" آه ياليل يا زمن 1977 "، وبين يارب توبة 1975 كمخرج حرفي يتبع التيار السائد ولا يقوده، مع الثورة وضد العهد البائد في أسياد وعبيد، ضدها ومتعاطفا مع الباشا وابنته في آه ياليل يا زمن. ولكنه يقدم رؤية متوازنة في عمله الأخير" قضية عم أحمد 1085"  قبل أن يقابل ربه ، مع قصة لفريد شوقي وسيناريو محمد عثمان ترزي الكتابة الفيلمية الذي يتلاعب بعناصر الدراما متأثرا بالمناخ العام. وعلي رضا ممارسا لمهنته بروح المخرج المنفذ دون أن يسبق اسمه فيلم ل.. بل بتواضع يكتفي بعنوان إخراج علي رضا. فقط في " قضية عم أحمد " سيشارك في التأليف ويقدم ما يشبه المراجعة على أفكاره السياسية، فلا انحياز مبالغ فيه للثورة وفقرائها، ولا هجوم على سادتها وملاكها، والخطأ موجود لدى كل جانب والمصالحة مطلوبة بين فئات الشعب. تطهر علي رضا من آفة الأبيض والأسود، والنظرة الأحادية ليقدم عملا بشخصيات مدروسة ، بشر خطاؤون أيا كان الجانب الذي يقفون عليه، عمال في الحواري وسادة في القصور. يمثلون أطياف الشعب المصري ، ولابد من تعاونهما بالقانون مع بداية عهد جديد.

يارب توبة 1975

يستوقفني عنوان في التترات ، عن مسرحية أولاد الفقراء لفنان الشعب يوسف وهبي ، والقصة السينمائية وسيناريو وحوار محمد عثمان، اإنتاج لتاكفور أنطونيان. يوسف وهبي ومحمد عثمان اسمهما يفرض مقولة فنان الشعب " ما الدنيا إلا مسرح كبير " أكاد أسمه صوته بها في أذني.

المشهد الافتتاحي يقدم حسنية بطلة العمل سهير المرشدي، بعيون جريئة وحيوية مفرطة، والهانم مريم فخر الدين تناقش تفاصيل  حفل زار ستقيمه، في تقديم يقلل من ثقافتها ويسخر منها، هرج ومرج لاستعدادات الزار، ومطاردة من زكي ابن الباشا لحسنية ، سهير المرشدي في دور كبير ، زكي بلباس طالب كلية بوليس بطربوش ثم يدخل الباشا ويتسمر الجميع ، رشدي وقد أصبح ملائما في دور رجل سلطة في عصر ما قبل الثورة. يصرخ فيهم ، العالم في حالة حرب وانتوا بتعملوا زار، لترد الهانم، هتلر وموسوليني لو عرفوا هيسيبوا الحرب وييجوا معانا. سنعرف أن حسنية وأمها أم أحمد يعيشون في بدروم الفيلا ، هم أسرة محمد أفندي الأخ الشقيق لمراد باشا صديق رئيس الوزراء ويهدد الفلاحين بضرورة دفع إيجار الأرض قبل المحصول. تقديمه كفاسد كبير يصرخ، الفلاحين لازم يدفعوا، طول ما همه مديونين لنا نقدر نسيطر عليهم ونخليهم يعملوا اللي احنا عاوزينه، تقديم صريح لما سيتم بالفعل حيث سيعرض على ابراهيم تزويجه من حسنية بعد ثبوت حملها من ابنه زكي، المشاهد تتسارع ودراما ساخنة محتدمة على طريقة السيناريست محمد عثمان بكل عناصر الفيلم المصري كما يعرف في القواميس، سلسلة من الفواجع على رؤوس الفقراء، واستغلال لهم من الأغنياء يصل إلى نهايته مع تحول حسنية لمومس تكتم أنفاس ابنتها من زكي، وقد أصابها مرض لا تملك ثمن علاجه.

محمد عثمان دراماتورجي بارع ، يؤلف الدراما ويلونها حسب العصر ، شرير "يارب توبة" من رجالات أحزاب ما قبل ثورة يوليو، والضحية ابنة الطبقة الوسطى الكادحة، قد يقصد بها مصر ما قبل الثورة. سيصل أخيها الثوري وزوجها المخدوع الذي سامحها ، هم حُماتها المهتمون لأمرها ، سيصلان بعد قضاء مدة سجنهما حين تورطا في قتل زكي ، سيصلان دون أن يتمكنا من إنقاذ حسنية التي تورطت في قتل الابنة غير الشرعية وكأنهما، علي رضا ومحمد عثمان لايكفيهما مصير العاهرة لتصبح قاتلة أيضا في لحظة جنون. "يارب توبة " نموذج صارخ لقالب السينما السائدة في مصر، بعناصر الميلودراما بواقعية فجة، اغتصاب وشروع في قتل ، زواج مرتب قائم على الخداع وتورط في قتل. الباشا شخصية سادية ليس بها أي جانب خير، يجعل أخيه مقيما في بدروم فيلته يذله وأسرته، رغم نجاح أحمد في مقابل فشل ابنه ، حسنية رغم وعيها الفطري تتورط في علاقة تمارس فبها الحب على قش في حظيرة خيول الباشا، تفشل في رعاية ابنتها فتمارس البغاء. الوصول لحافة المآسي وقتل أي بادرة أمل، لايهم تفوق أحمد، حسين فهمي وحب ابنة باشا آخر له، نورا، رئيفة هانم، ولا يهم حب نشأ بين ابراهيم وحسنية بعد سبق رفضها له واعترافها ليلة الدخلة أنها تحب آخر. قليل من الحلو سيدمره مر علقم في مناخ فاسد لحقبة حددها صناع الفيلم بالحرب العالمية قبل ثورة 23 يوليو  1952.

أحسب هذا المنهج أقرب إلى المذهب الطبيعي الذي يعمد إلى تسجيل الواقع بكثير من الصراحة والقسوة ، كما يذكر د. نعيم عطية المترجم وأستاذ المسرح، عن أصحاب المذهب الطبيعي وقد شغفوا بتقليب الحجارة للكشف عن الحشرات والديدان التي تقبع تحتها. في مقابل منهج الواقعية بتنويعاته التي أفضل منها واقعية صلاح أبو سيف التي تكشف عن فراشات تشق الشرنقة التي نسجتها الدودة حولها، وتخرج لتساعد على إكمال دورة حياة تخرج العبير من ورود الطبيعة.

نشر المقال بعدد خاص عن فرقة الرضا بالفنون ديسمبر 2020 رئيس التحرير حاتم حافظ 



 

 

عنها وجاجارين ومؤتمر ثلاثة أعمال جيدة تنطلق من شخصية متفردة في القاهرة 42

 إبداع رسم الشخصية 

في عنها وجاجارين ومؤتمر

على الرغم من أن عددا من الأفلام التي حصدت الجوائز لفتت انتباهي وخاصة الفيلم الروسي مؤتمر، كما كان أداء الممثلة ناتاليا بافلينكوفا خاصا واستحقت عنه الجائزة مناصفة إلا أن هناك أفلام تميزت بصورة بديعة وخيال جامح وتعبير ممتاز عن الشخصيات وخرجت من سباق الجوائز ، الفيلم المصري "عنها" والفرنسي "جاجارين" مع اختلاف نوعيهما. يجمعهما التركيز على شخصية نتعاطف معها ونشعر بأزمتها، السيدة درية التي فقدت زوجها الحبيب ولم تتمكن من مواصلة الحياة بعده، والصبي يوري الحالم بالفضاء والرافض لترك مسكنه في مجمع سكني حكموا عليه بالهدد. جاجارين يقاوم ويخلق لنفسه عالما يمارس فيه أحلامه ويحقق اكتفائه الذاتي من غذاء لمزروعات ينميها في صوبة ويمدها بأشعة حمراء وبنفسجية، احتماء بالعلم الذي يفهمه جيدا، ودرية التي حبست نفسها في بيتها تحاول فهم ما حدث دون أن تتمكن من تجاوز الواقع. وفي السيناريو الذي كتبه العزازي بنفسه، نحتار مع البطلة في سبب اغتيال زوجها، وسنعرف الحقيقة معها قرب النهاية . الفيلم كله يدور في مكان واحد لم نخرج منه، هناك بذور لتفاصيل تحمل دلالة مثل حبها للخرشوف وتقشيرها له وكأنها تريد أن تعرف سرا ما، سرا دفينا لعمل زوجها، حبيبها، أشاهد معجبة بالتفاصيل ، في هذا السجن الفخيم الذي نشعر بقسوته على درية ، منزل متسع كمتاهة للبطلة، تلعب فيه استغماية مع الزوج والخادمة وتسكن فقط وتهدأ مع الأخ الحامي، الديكور لفنان هندسة المناظر أنسي أبو سيف، ديكور سينما يسمح بحركة البطلة في لحظات المرح ولحظات الضياع ، قامت المونتيرة الفنانة دينا فاروق بإحداث انتقالات خلاقة وخاصة بين مشاهد الحاضر والعودة للخلف بنعومة بدت كلقطة واحدة صورت بلا توقف، كما لعبت الإضاة دورا في تحقيق هذه الانتقالات البارعة، دينا فاروق هي أيضا منتجة فيلم "عنها" الذي  ينتمي لتيار مخرجي السينما المستقلة عن شروط السوق ونجومه وما يشغله آنيا من قضايا يتميز بالصورة الرائعة لمدير التصوير عبد السلام موسى، بإضاة الشمس المباشرة أو من وراء ستار، الإخراج الفني الجميل وكل العناصر الفنية فيه بشكل ممتاز، التمثيل  للوجه الجديد ندى الشاذلي في أداء وحشي وامتلاك للكادر وتعبير حركي وغنائي، ممثلة تمتلك قدرات شاملة أضفت عليها إضاءة عبد السلام موسى ألقا وأبرز تعبيراتها القوية، تطل علينا بوجه جميل، بلا مساحيق، بشعر حقيقي دون شعر مستعار، قمصان نومها ولمسات مصممة الملابس  في ذوق الفترة، نعم الفترة كلها تعكس ذوقا جميلا في ملابسها وأثاث البيت ، البيت الفسيح بممراته المفتوحة على بعضها ، تفاصيل فنية جميلة ولكن ما هي مشكلة درية ؟ ومتى حدث ما يبدو خللا في نفسيتها، فجأة أم له جذور، ويبقى سر شخصية درية مغلقا علي،  ويصبح الاستمتاع بصورة المخرج الذي يمتلك عينا تشكيلية  قادرة على صياغة الجمال وتكثيفه على مدار الفيلم، اختياره فدوى عابد في دور الخادمة، وجه جديد أيضا وأداء تمثيلي عظيم، "عنها " فيلم جميل يتجاوز الحكايات لنعيش معه في الأجواء النفسية لسيدة من طبقة عليا، تخسر حبيبها ويقينها باستحقاقه لحبها ،الحوار كان معبرا عن عامية مثققي الأربعينيات في كثير من أجزائه، تحية لفيلم يوسف وهبي "غرام وانتقام " أسمع صوت أسمهان أثناء متابعتي للحوار وأبتسم،  أسماء الشخصيات، عباس وفهمي ودرية وفاطمة، ، حلول فنية ذكية وأفلام تتغذي على أفلام وتتعلم منها.

تجاوز الواقع الخارجي وتجسيد الواقع الداخلي للشخصية كما في " عنها " وجدته في "جاجارين"، رغم أن فكرة  الفيلم تغري بتناول مغرق في الواقعية إلا أن المخرجين الفرنسيين فاني لياتارد، وجيريمي ترويله قدما لنا الواقع بعين الحالم الصغير، ويصل الجمال إلى قمته مع مشهد يجعله يدور في الحيز الذي خلقه لنفسه وكأنه رائد الفضاء وقد وصل على القمر، الموسيقى تدعم حركة يوري التي تظهر بطيئة منفذة بالتقنيات الحديثة تنجح في جعلنا نتعايش داخل حلم يوري، الذي يقاتل وحيدا من أجل إنقاذ المدينة السكنية وذلك بعد أن بدأت السلطات الفرنسية في إزالتها.

منذ المشهد الأول في " مؤتمر " يمكنك أن تتعرف على شخصية الراهبة ومدى عنادها وإصرارها على إقامة المؤتمرً التذكاري داخل نفس المسرح وتدعو الناجين للحضور واستعادة ذكرياتهم، يطول المشهد مع الموظف المسئول دون أن يغير المخرج الشاب ايفان تفردودسكي من حجم لقطته ، هي قائدة وحازمة وتصل الى ما تريد ، هي تدير الأمر وكأنها تخرج مسرحية وابنتها تواجهها أنت تبحثين عن خلاصك ، يبدو أنها الحقيقة فصديقتها المقربة تخبرها بمعنى مشابه بعد انهاء مهمة الحفل وقبل عودتها الى الدير، أنت تعذبين الجميع، علينا أن نكف عن تعذيب أنفسنا وأن نمضي في حياتنا، وتتأكد رسالة الفيلم على أهمية النسيان ومحاولة العيش في سلام. عمل صعب أغلبه يدور في المسرح واقتصاد شديد في الانتقالات بين اللقطات، ومحاكاة لما تم في ليلة الحادث الإرهابي، ومعنى عميق عن هذه الباحثة عن خلاصها التي أتت بفعل أشد عنفا من فعل الإرهابيين. فيلم آخر يعتمد بالأساس على شخصية ويجيد رسمها وتجيد الممثلة التعبير عنها، هذه المرة أتفق مع لجنة التحكيم على منح الفيلم جائزة التمثيل والهرم الفضي للمخرج .

صفاء الليثي

نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 15 ديسمبر 2020 رئيس التحرير عماد الغزالي



 

 

 

 

 

Thursday 10 December 2020

فاوست 2011 فيلم ألكسندر سوكوروف الحاصل على أسد فينيسا الذهبي

المعالجة الروسية لفاوست 

واستخدام الأدب لتطوير السينما

عن فاوست الألمانية قدم المخرج الروسي رئيس لجنة التحكيم الدولية لمهرجان القاهرة رؤيته الروسية عنها واستحق أسد فينيسيا الذهبي عام 2011، ألكسندر سوكوروف. كان تاركوفسكي وقد أصبح صديقًا له لاحقًا أول من لاحظ موهبة سوكوروف وأخبره أنه سيحظى بمهنة رائعة شريطة أن يجد أسلوبه الخاص. وقد وجد أسلوبه مع فاوست 2011، فاوست سوروكوف عمل مدهش عن قصة للكاتب يوري نيكولايفيتش أرابوف، وهو رفيق سوكوروف في مسيرته الفنية حقق معه أعمالا رائعة منها السفينة الروسية ورباعية القوة.  


معالجة أربوف لفاوست وعمل المخرج سوكوروف تذكران بعمالقة السينما في العالم بازوليني في أوديب ملكا، بازوليني في ساتيركون ، ليس للتشابه معهم بل لمستوى الإبداع الفريد الذي يميز مبدعين يقدمان أعمالا تكتب باسمهم ولا تشبه أي عمل لمبدع آخر.  أثناء تسليم جائزة الأسد الذهبي  الى سوكوروف ، قال المخرج السينمائي الأمريكي دارين أرونوفسكي ورئيس لجنة تحكيم مهرجان البندقية السينمائي 2011 عن فيلم فاوست "هناك أفلام تغيرك إلى الأبد وهذا واحد منهم". اعتبر فاوست ثاني أفضل فيلم للمؤلف لعام 2011.

فاوست لسوكوروف هو مثال للسينما التي تستخدم الأدب كقاعدة لتطوير فيلم يقدم تطورًا جديدًا للحكاية المقبولة. فاوست الروسي الذي قدمه سوكوروف مع شريكه في كتابة السيناريو يوري أرابوف ، اندماج عملين أدبيين ، أحدهما ليوهان فولفجانج فون جوته والآخر لتوماس مان ويساهم بإضافات القيمة المضافة للمنتج الخاص به. يقدم Faust ، في المقابل ، قصة غير عادية تتعلق بكل من الخير والشر في الحياة. في البداية ، يتخبط فاوست لسوكوروف في تسلسلات من الأفكار المظلمة ، القبيح والبشع الذي يتصارع مع تأملات رائعة في الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة ، بينما يأخذك الفيلم في الأجزاء اللاحقة إلى مشهد غريب الجميل وغير الواقعي .

بالفيلم العديد من المشاهد الفائقة ، مثل مشهد لقائهما في منزله، بسقفه المنخفض وأثاثه الفقير، بعد أن وصلت مارجريتا معلومة أن فاوست هو من قتل أخيها، تذهب اليه مسرعة، هو في بيته منحني على أوراق يرتبها، الشمس تغمر الحجرة ، تدخل مارجريتا يرتبك ، هي مرتبكة تزيح العباءة تسقط الشمس كاملة على وجهها ينير كملاك ، هو يتأمل، يبتسم، منير هو أيضا ، تبتسم هي وتنسى السؤال الذي جاءت من أجله، تعمد سوكوروف أن يخرس كل الأصوات في المشهد الساحر، صمت تام مع لحظة الحب هذه، طاقة نور يهون بعدها أي شيء، تسأله، هل حقا قتلت أخي يرد على الفور نعم. .

مشهد فائق آخر في النهاية  حين اصطحب الشيطان فاوست إلى دار الآخرة ليقبض روحه، هكذا قرأت المشهد، هناك بركان طبيعي في أيسلندا، يصور سوكوروف المشهد في الموقع الطبيعي، لايدخل الواحد منا أي شك في أن هذه هي الآخرة، يلمس ماء البركان الفوار يصرخ فرحا نتأكد من انتصاره على المرابي ، على الشيطان .

يتساءل أي من مشاهدي فيلم Faust لسوكوروف عن سبب اختيار المخرج لاستخدام العدسات المشوهة من وقت لآخر لتحريف رؤيتنا عن قصد. يتم تذكير المشاهد باستمرار بعقل الشخص الذي يظهر على الشاشة من خلال صورة الجسد. تبدو المرأة الناضجة الجميلة وكأنها طفولية ، ويصبح الرجال المهووسون غيلانًا لأن عنصرًا من أجسامهم يتضخم. يلعب الضوء والظلام (ليس جديدًا في سينما صانعي الأفلام الجيدين) دورهم كالمعتاد ، مع قلب نقي باللون الأبيض المبهر ، بينما الأشرار في الظل. تدور الحكاية بأكملها حول ميثاق وقع عليه فاوست بالدم. لكن العلاج الحقيقي للعيون هو مشاهد حقيقية من المناظر الطبيعية للبراكين في أيسلندا والينابيع الحارة القاحلة للحياة النباتية التي تشكل أساس المطهر / ما يعادل الجنة الذي يشكل الخلفية لمواجهة فاوست / الشيطان.

اعتبر العديد من النقاد حقيقة أن فيلم Faust لسوكوروف معقد للغاية بالنسبة للمشاهد العادي. يستكشف سبب حدوث الشر اليوم. في الوقت نفسه ، بالنسبة إلى سوكوروف ، يستكشف الفيلم السؤال الجدلي من يكسب من الاتفاقية ، فاوست أم الشيطان ، حتى بعد أن أظهر الفيلم وجهة نظر واضحة أن فاوست يفوز. فاوست سوكوروف هو عرض أساسي لأولئك الذين يقدرون كتابة السيناريو الذكي جنبًا إلى جنب مع الاستخدام الإبداعي للموسيقى والإخراج الفني والتصوير السينمائي – لمن يقدرون جميع عناصر السينما الجيدة.

صفاء الليثي

نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 8 ديسمبر 2020 رئيس التحرير عماد الغزالي



 

 

 

                                               

Tuesday 24 November 2020

نظرة على أعمال كريستوفر هامبتون المكرم بجائزة الإنجاز الإبداعي الهرم الذهبي في CIFF 42

سيناريست كلاسيكي ينطلق من أعمال أدبية

رغبة في التعرف على أعمال كاتب السيناريو " كريستوفر هامبتون"  الذي اختاره محمد حفظي واللجنة العليا 

لمهرجان القاهرة ليكون الشخصية الأجنبية المكرمة بجائزة الإنجاز الإبداعي الهرم الذهبي في الدورة 42، أعدت مشاهدة أفلامه وأولها " علاقات خطرة " 1988 ووجدت تميزه الأكبر في صياغة الحوار بشكل يوجز المعاني ويضع تحتها خطوطا للتوكيد. فكرة الانتقام المبنية على خداع شخصية سيئة شعارها في الحياة " اربح أو مت " الحبكة عن فساد الطبقة الأرستقراطية ، صراع الطبقات العليا من البرجوازية العفنة كما يسميها اليسار، استخدام النساء وإخلاص الخدم واستخدامهم لكل شر. العمة الثرية والقريب الشاب الفاسد والمفلس ، يمثله جون ملكوفيتش ببراعة، قدرته الفذة على خداع النساء عملا وحيدا يتعيش منه، إغواء الثريات، يغوى السيدة " مدام دورفيل " التي ترغب الماركيزة البطلة في تحطيمها، يستهويه إذكاء المعركة بين العشق والفضيلة ، هكذا يحدد هامبتون بكلمات موجزة راسما شخصياته ويستمر مؤكدا على لسان بطله، كل النصائح عديمة الجدوى.  وعبر الخطابات يتم فيها عرض الإغواء والانتقام، نقف عند الجملة المفتاح، هذا فوق سيطرتي، تلك الحياة تماما فوق سيطرتي، يجن جنون الماركيزة وتدفعه لاستخدام الكلمة ليتخلص من العاشثة المسكينة، هذا الذكر الداعر تتلاعب به الماركيزة ولكنه يقع في شباك صنعها حيت يتعارض غروره مع سعادته، حين تتأزم الأمور ونصل إلى إحدى مشاهد هذه الطبقة بالمبارزة ، يصرح وهو مقبل على الموت، حبها كان السعادة الحقيقية الوحيدة التي عرفتها. يعرض الفيلم كثيرا على قنوات الأفلام، لم أنتبه مسبقا الى الكاتب المولع بفضح الأثرياء وبتناول فترات تاريخية قديمة مازجا الحب بالحرب كما سيظهر في عمله " كفارة"  2007 الذي تبدأ أحداثه في انجلترا عام 1935 لمست فيه ازدراءه للطبقة العليا وفضح أكاذيبها، عبر سيناريو بحبكة قوية تظهر الحقائق تدريجيا ولن تتضح الا مع اقتراب النهاية بتقديمه لشخصية الكاتبة التي كتبت العمل كله لتكفر عن خطيئتها في شهادة الزور التي أفسدت حياة حبيبين، أختها الأكبر وحبيبها الذي رغبت فيه وهي طفلة فاسدة ومغرورة.

يبدو أن كريستوفر هامبتون مقتنع تماما بأن الناس معادن ، وبأن هناك بشر أشرار مؤذيون غير قادرون على المضي قدما في حياتهم دون أن يدمروا حياة من يغارون منهم. العمل أيضا مبني على رواية من تأليف إيان ماكيوان للمخرج جو رايت الذي قدم مشاهد مؤثرة لنهايات الحرب التي تلت معركة دانكريك الشهيرة، بتركيز على البطل الذي اختار الجندية بديلا عن سجنه عقب شهادة الزور للفاسدة الصغيرة كاتبة كفارة.  

وبعيدا عن أجواء الطبقات الاجتماعية الفاسدة يأتي عمله " الأمريكي الهاديء" عام 2002 فاضحا هذه المرة الدور الأمريكي في فيتنام وتقسيمها الى شمال وجنوب. اعتمادا على رواية للكاتب جراهام جرين والبداية مع تعليق المراسل الصحفي الذي يقوم بدوره مايكل كين وهناك حرب وحب وعلاقات انسانية ، بطل طيب هو طوماس فايلر ، يعشق الفيتنامية فونج ولكنه لايستطيع الزواج منها، لرفض زوجته الانجليزية الكاثوليكية منحه الطلاق، والشرير بايل الذي يتكشف دوره المخابراتي ببطء، يعلن أن الأمريكيون ليسوا مستعمرين ، هم فقط يساعدون الناس، مقارنة بالمستعمر الفرنسي الذي لا يقوم بفظائع رجال المخابرات الأمريكية التي تقوم بأعمال ارهابية وتلصقها بالشيوعيين رغم ادراك المراسل أنه ليس من مصلحتهم قتل السكان المحليين. رغم اختلاف عناصر فيلم الأمريكي الهادئ الا أن جمل كريستوفر هامبتون الحوارية لا تفارقنا، وسنسمع على لسان بطله، عاجلا أو آجلا على المؤء أن ينحاز إلى جانب ما إذا أراد الحفاظ على آدميته، كما بدأ الفيلم بتعليق من مايكل كين على مشهد المراكب في النهر ليلا متغزلا في سايجون وفيتنام حيث يوجد شبح في كل منزل بها ، فيلم مركب عن الحرب والحب، وعناصر مرتبطة بهما في بيوت الهوى ونوع غريب من العاهرات. عبث الأمريكان في فيتنام وحقائق تاريخية تكتب مع نهاية الفيلم ، سيحكم الشيوعيون الشمال بينما تعزز أمريكا انفصال الجنوب ، عمليات برية للأمريكان وموت الآلاف.  

في عام 2020 يحول كريستوفر هامبتون مسرحية فلوريان زملر إلى فيلم " الأب"  ويكون عملا  سينمائيا أول لزملر بعد عرض المسرحية عدة سنوات على المسارح ، لا شك أنه احتاج كاتبا قديرا للسيناريو كي يصبح العمل فيلما بكل عناصر السينما ، الأب" رحلة تجريبية شاهقة ومذهلة ومؤلمة حقًا في كابوس الخرف ولكل من يشاهد الفيلم سينتابه شعور بالألم وستنتقل حالة التشوش والمعاناة التي يشعر بها المسن ويشعر بالتعاطف مع آن العاجزة عن حل مشكلة والدها ومعاناته مع الخرف. 

وهكذا سنجده في كل أعماله ، من علاقات خطرة إلى الأب ، ينطلق بداية من نص أدبي به غنى في رسم الشخصيات وثراء في التفاصيل وتحليل نفسي لدوافع أبطاله مع انعكاس واضح للخلفية الاجتماعية وربط زمن العمل بالتاريخ، باستثناء الأب الذي يكون على المشاهد اكمال الصورة عن الحياة المعاصرة وخاصة في الدول المتقدمة التي ارتفع فيها معدل حياة الفرد واهتزت الروابط الاجتماعية وأصبح إعالة المسنين عبئا لا يمكن لأي من عائلته تحمله ويأتي دور موظفون يقومون بالمهمة، ممرضون ومساعدون يرفضهم " الأب " كما يرفض الاعتراف بمرضه المؤلم الذي أثر على عقله وأربك حساباته التي عُرف قديما بدقتها.

صفاء الليثي

نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 24 نوفمبر 2020 رئيس التحرير عماد الغزالي



 

تكريم فنان المناظر أنسي أبو سيف بالجونة الرابع GFF4

 قراءة صوفية عن أنسي أبو سيف

ها هو الفتى الذي يصنع من خلاء البلاتوه الموحش مدناً وسفناً ومقاهي وحواري وقصوراً وحانات " . هكذا يصف سيد سعيد فنان المناظر السينمائية أنسي أبو سيف في كتاب تكريمه الصادر عام 2004  مواكبا للمهرجان القومي للسينما المصرية، وهي كلمات- كما يقول الناقد أحمد يوسف   تذكرك على نحو ما ببعض من روح نجيب محفوظ ، لكن المهم أنها تصوغ فكرة الصراع بين الخلاء والبناء ، بين العدم والوجود ، فالفنان في هذا الشأن خالق في مجاله ، منشيء لواقع لم يكن موجوداً أبداً

كتب الناقد الراحل عن كتاب واحد من البنائين لسيد سعيد  أنه وجد التكليف  بالكتابة - عن فنان المناظر أنسي أبو سيف طوق النجاة ، حيث يمكن له أن يغوص بكل حرية في عالم يجسد أكثر عناصر االفن السينمائي اعتماداً على الإحساس البصري المجسد ، وحيث يمكن له أن " يرى " ذاته من خلال " الآخر " سيد سعيد من خلال أنسي أبو سيف ، وفيما يشبه الفلاش باك الخاطف – تلك الأيام الخوالي حينما تقابل – في حلقة شادي عبد السلام – وأنسي أبو سيف ، الذي كان آنذاك شابا أقرب إلى الخجل والانهماك في العمل . يواصل أحمد يوسف عرضه المختلف للكتاب الذي كان فارقا عن كل كتب التكريم السائدة، أشبه بمحاورات في معاني الأشياء وعوالم الفن صورة ومعنى وفلسلفة. فيقول أن " حبكة " الكتاب تولد وتنمو كما لو كانت فيلماً يصنعه سيد سعيد ، جاء " المشهد " الأول – بعد " الأفان تتر " – في جلسة على مقهى ريش ، " الذي أصبح خلفية بلا روح " ، وهكذا يصبح الديكور وكل عناصر " المنظر " – أو الواقع – البصرية خلفية محايدة ، منبتة الصلة بما يدور في مقدمة الكادر ، وخلافا مع " الطريق " الصوفية في توطيد العلاقة بين الذات والموضوع دون وسيط ، يتدخل طرف ثالث هو داود عبد السيد الذي يقوم بدور فاعل في تحفيز طرفي العلاقة ، بما له من خبرة تؤهله لكي يدفع الكتاب – كأنه فيلم – إلى الأمام : " لدينا الزمان والمكان ، فلنبحث عن الحدث " !

والحدث الحقيقي  هنا هو الرغبة العميقة في اكتشاف أنفسنا في سياق الزمان والمكان ، والماضي والحاضر ، وهكذا تتداخل الذكريات الماضية والتجارب المعاصرة بين كوم أمبو أنسي أبو سيف ، وبورسعيد سيد سعيد ، وشبرا ، وشوارع القاهرة . إن حديث أنسي عن مدينته الجنوبية كوم أمبو ، والتغيرات الفيزيقية الاجتماعية فيها خلال العقود الماضية ، يجعل سيد سعيد ، وفي جملة واحدة وبلا فاصلة تفصل بين العالمين ، يقفز إلى مدينته الساحلية الشمالية بورسعيد ، يصنعها كلوحة سينمائية هادئة تحولت مع الأيام إلى كابوس ومتاهة !

وخلال رحلة أنسي أبوسيف في تذكر مدينته الجنوبية الصغيرة، نتعرف شيئاً فشيئاً على معنى أن تكون " فناناً للمناظر السينمائية " ، الذي نصفه خطأ بمصطلح " مصمم الديكور "  ، ودون كلمات متفلسفة يجسد لك أنسي الأماكن بعين الفنان ، مثلما فعل عندما رسم لنا – بالكلمات – معمار البيوت في المدن الجنوبية الصغيرة ، وسوق كوم أمبو ، ويتلقف منه سيد سعيد الخيط ليكمل بنفس الطريقة – وهو الفنان السينمائي – وصفه لشقة أنسي المعاصرة في الضاحية القاهرية . إن " المناظر " تكتسب حياة مع رؤية الفنان ، أو أن الأماكن حية بطبيعتها ، وقدرة الفنان الموهوب تتجلى في الإمساك بها في لحظة من لحظات حياتها ، بدلا من تحويلها إلى " ديكور " مكون من قطع أثاث ميتة . وبكلمات بسيطة بليغة يوضح أنسي كيف أن للأماكن  أو لعناصر المنظر ، علاقة تفاعل لا تنتهي مع الإنسان الذي يسكن فيها . نرى العلاقة الحية بين عناصر النمط المعماري ، والجوانب المناخية والاجتماعية : الفرق بين المشربية والشيش ، وفتح النافذة أو غلقها ، وبين الحارات الضيقة ذات البيوت المتقابلة دون مسافة تفصل بينها والفضاءات الممتدة إلى المجهول والوحشة . تأمل على سبيل المثال وصف أنسي أبوسيف لمدينة كوم أمبو ، من خلال الصورة والمعمار والاكسسوار ، حيث يتلاحم البناء المعماري مع البناء الاجتماعي والاقتصادي ، وحيث لكل شيء في " المنظر " علاقة لا تنفصم بين ما هو جمالي وما هو وظيفي .

هذا التفاعل الحيوي بين المكان / المنظر ، والإنسان / الوظيفة الحيوية يعطي له أنسي أبو سيف مثالاً كاشفاً إلى درجة هائلة : الفرق بين معمار السوق ومعمار " المول " ، والفرق بين العلاقات الاجتماعية في كل منهما، يقول أنسي : " المكان الذي نراه على الشاشة يخص الشاشة وحدها ، وفيلماً معيناً بالذات ، حتى لوكانت ملامحه تشبه الواقع ، فأنا أخلق ، المكان مرتبطاً بالخصائص الذاتية للسينما ، والمكان في الفيلم يدخل في علاقات مع عناصر الفيلم الأخرى " .

 ويستمر الناقد موضحا ما لفن السينما من علاقة وثيقة مع التجارب الصوفية زأنه بمعنى ما كل تجربة فنية  بها قدر من الصوفية ، فهي ذوبان الكل في واحد ، وليس تصميم المناظر إلا جزءا من هذا الكل . إنك تجد تأكيد وجهة النظر تلك في  صفحات الكتاب ، على نحو صوفي صاف وشفاف.

ويستمر أنسي أبو سيف ويقااطع معه  داود عبد السيد ، لكي يجسد لك هذا الفن : " عندما تنتهي من كتابة سيناريو وتبدأ رحلة تحقيقه ، ستجد ثلاثة فراغات كبيرة عليك أن تملأها ، الأول هو اختيار الممثلين ... أما الثاني فهو الجانب المرئي أو التشكيلي ، يجب أن تبحث عن الشمس التي ستضيء هذا الفيلم ، شدة الضوء ولونه ومساحة الظلال ودرجاتها ، ولحظات أو مراحل اليوم من الفجر حتى الغسق والليل ، وألوان الحوائط والأثاث والاكسسوار والملابس ، ثم الطرز المستخدمة والمختارة سواء في الملابس والإكسسوار والعمارة والديكور، وهذا الجانب من أصعب جوانب تحقيق الأفلام ، خاصة في ظل الإنتاج المصري . والثالث هو التكوين الصوتي .. " .

يخبرنا داود عبد السيد بصفات ومواهب فنان المناظر السينمائية كما يجب أن يكون ، مجسداً في أنسي أبو سيف أهمها : ذاكرة بصرية تاريخية حضارية شاملة ، وجذور تضرب في الواقع الراهن ، إدراك العلاقة بين المعماري والتشكيلي من جانب ، والاجتماعي والنفسي من جانب آخر ، إدراك العلاقة بين الجمالي والنفعي ، وبين الإنسان والمكان ، وبين الواقع المادي والخيال الجامح !وهي شروط يجب توافرها في كل فنان مثقف .

هناك مبدع لفن المناظر في السينما المصرية هو أنسي أبو سيف، يكتب عنه بندية المخرج والباحث عن نظرية نقدية سيد سعيد ويكتب عن تجربة هذه التجربة ناقد أكاديمي يتبع منهجا صعبا في نقد النقد. حاولت جاهدة أن أوجز هذه العلاقة الثلاثية الشائكة التي أثارها تكريم أنسي أبو سيف في دورة مهرجان الجونة الرابعة. تكريم يجعلنا نقترب أكثر من فن هذا الفرع من فروع الفيلم والتي تبقى في عمق الصورة لا تدرك الا بالحس السليم ولا يتمكن من توصيفها الا مثقف كبير وفنان موسوعي مثلهم هؤلاء البنائيين والمحللين والمفككين العظام سعيد ويوسف وأنسي أبو سيف. 

المقال عن دراسة للناقد أحمد يوسف عن كتاب سيد سعيد بمناسبة تكريمه بجمعية نقاد السينما المصريين احتفالا بالكتاب.

صفاء الليثي

  مقال نشر بجريدة القاهرة أكتوبر 2020 رئيس التحرير عماد الغزالي