Tuesday 30 September 2014

عفاريت الأسفلت وحارة التسعينيات



عفاريت الأسفلت وحارة التسعينيات
مصطفى ذكرى 
وسرد جديد غير منقطع مع التراث

يمثل " عفاريت الأسفلت " بالنسبة لى نموذجا لسينما ما بعد الحداثة لجمعها بين الكلاسيكى المتعارف عليه فى السينما المصرية مع مزجها بسرد مركب من صوت الراوى الذى يحكى لنا الفيلم وأصوات أبطاله المتعدده فى بوحهم بمكنون صدورهم للرفيق المحبوب، الآخر المختلف عن نصيبه وقدره الذى لا مفر منه. جمل الحوار المحمل بمعانى تتجاوز وظيفته المباشرة أهم الملامح التقليدية فى العمل الذى عرض عام 1996 من تأليف الأديب " مصطفى ذكرى" صاحب " جنة الشياطين الأكثر إغراقا فى التجريب على حساب التقليدى والمتعارف عليه. استمد " عفاريت الأسفلت" اسمه من حوار سيد بطل العمل وهو يدفع النقوط فى فرح زميله السائق " شرابين الحشيش على الريق،السواقين تيمان، عفاريت الأسفلت، ميت مليون مرة " فى الفرح أحد أعمدة المشهد السينمائى المصرى الذى لا يخلو فيلم منه. الفرح والمأتم ، عناوين رئيسة لمشاهد أساسية، ومعهما موقع البيت حيث تتجمع فيه الشخصيات وحارة تنفتح هنا على موقف الميكروباس.
يبدأ الفيلم بمشهد الصباح وفيه تقديم الشخصيات عند الاستيقاظ من النوم، الأسرة من ثلاثة أجيال حيث الرجال وجملة من الأب عبد الله/جميل راتب" أبويا قالى الدخان للرجالة واللى يحافظ على صحته يبقى راجل خسيس" هكذا يقدم مصطفى ذكرى رجال العائلة الابن سيد/ محمود حميده/ والأب عبد الله ، والجد محمد توفيق الممثل القدير فى أداء صامت رائع. أما المرأتين فهما تفيدة / عايدة عبد العزيز وانشراح/ سلوى خطاب بين اشباع الرغبة والحاجة إليها. نظرة ذكورية جدا من الكاتب والمخرج والأبطال للعالم حيث الرجال مهزومين ومرضى – وبرضه رجالة- ونساء عفيات قادرات Femme Fatale  على الطريقة الفرنسية. 

هذا التصور الشعبى عن (الستات الهايجة) الابنة والزوجة وتنضم اليهما بطة/منال عفيفى الجارة عشيقة الابن سيد وهى زوجة محمد / حسن حسنى الحلاق الذى يعشق تفيدة زوجة عبد الله وأم انشراح وسيد فى صمت. دوائر العلاقات المتشابكة تفضح ما يمكن التعبير عنه بالتواطؤ بين الشخصيات أو بالمسكوت عنه، بينما الظاهر علاقات رسمية غير مشبعة للجميع وأخرى تجرى فى عالم سرى بين الحلم والواقع. بين تصور شعبى مدعم بثقافة غربية غير منقطع الصلة مع أفلامنا القديمة الرائعة الى أسست ملامح لسينما مصرية عن مجتمع مصرى شديد الخصوصية، من عوالم الأفلام والقصص الشعبى والحكايات التراثية يقدم لنا الكاتب مصطفى ذكرى والمخرج أسامة فوزى عالم الشخصيات ومهنة سائقى الميكروباس فى فيلمهما الأكمل بعد جنة جنة الشياطين.

الأسطى سيد يبدأ يومه باختراق السكون فيقطع بمطواه غطاء عربة فاكهة سارقا برتقالة يقشرها ويلقى القشر خلفه وكأنه يبصق على العالم كطقس صباحى قبل استلامه العربة والطيران بها على أسفلت الشارع. يذكرنى تقديم الشخصية بتعبير سمعته من المونتير الراحل عادل منير عن " صياعة البلكونات" مصطفى ذكرى الذى لا أشك لحظة فى أنه يركب الميكروباس فى رحلة متكررة من حى حلوان الذى يقبع فيه حيث وسط البلد قلعة المثقفين الذين يعيشون صعلكة اختيارية تختلف عن صعلكة مفروضة على الأسطى سيد سائق الميكروباس وتوأم روحه رنجو/ عبد الله محمود. وبينما يختار المثقف /ذكرى وفوزى صعلكتهم لمعرفة العالم، يحاول الأسطى سيد الخروج من طبقته بملابس فاخرة يشتريها من وكالة البلح، تكون سببا فى انجذاب طالبة جامعية له فيصطحبها حيث يشترى لها ملابس فاخرة بأسعار زهيدة. لا يخبرنا فوزى ولا ذكرى عن مصير العلاقة بشكل واضح ولكنهما يتركان للمشاهد أن يدرك بنفسه استحالة أن يتزوج سيد من أمانى الجامعية وخاصة حين وضع شرطا أن يتوزج عادل أخوها من انشراح. محاولة الهروب من قدر طبقة عفاريت الأسفلت تبدو حلما مستحيلا وأملا بعيد المنال لا يمكن أن يتحقق حيث الواقع والشخصيات التى تعيش فى قذارة فُرضت عليهم واختاروها بعد يأس.
مثل هذه العلاقة كنت شاهدة على شبيهات لها عندما أهم بركوب المقعد المجاور للسائق فى ميكروباس يتحرك داخل العاصمة، فيطلب منى السائق الشاب العائق المستحم والنظيف أن أجلس فى الخلف وينتظر فتأتى فتاة جامعية جميلة يتهلل لها وتجلس بجواره هى وزميلة أخرى غالبا أقل جمالا كمحلل للعلاقة ومستفيدة منها أيضا. لا أعلم كيف تتطور العلاقة فى الواقع المعيش ولكن فى الفيلم يجعلها الكاتب مصطفى ذكرى تستغل السائق وتقيم معه علاقة فى مقابل مشوار وكالة البلح وركوب العربة دون دفع الأجرة غالبا. حكم قاس من الكاتب على فتيات من طبقته الاجتماعية بقدر من التناول الذى يتجاوز الواقعية إلى المذهب الطبيعى الذى يقدم الشخصيات بكل فجاجتها دون أى تجميل وأيضا بدون ميلودراما ولا أى قدر من الرومانسية، هناك علاقة مصلحة واشتهاء من جانب الفتاة وومن جانب الأسطى سيد تطلع لحياة تبدو أجمل على السطح فقط كما يعبر عنها صناع الفيلم.
سيمضى الفيلم بين بيت الأسرة وموقف الميكروباس ومقهى السواقين فقط فى عوالم أبطاله "عفاريت الأسفلت" ووكالة البلح . فقط شرفة أمانى الفتاة الجامعية حين يذهب إليها باقتراح زواج البدل بينه وأخته وبين أمانى وأخيها عادل. هذا الاقتراح الذى تقابله الفتاة باستهانة ودون غضب أيضا. السماء تحمل ملامحها الطبقية النمطية، سيد وعادل، امانى وانشراح.
ما حيرنى عند المشاهدة الأولى للفيلم كانت شخصية الحلاق محمد/ حسن حسنى الذى يحكى لزبائنه قصصا من ألف ليلة وليلة عن هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكى. وخاصة أنه لا توجد علاقة مباشرة بين ما اختاره مصطفى ذكرى من حكايات وبين أحداث فيلمنا ، إذا جاز أن نطلق على السرد وما فيه من علاقات بالحدث. فلا يوجد حدث بالمعنى المفهوم بل تجرى أمور حياتية يومية للشخصيات الثانوية حيث يتزوج سائق ما ويموت الجد وتمضى الحياة فى مشاهد تنتهى بالحلاق يحكى حكاية طويلة يستمع إليها كل أبطال العمل وهم يتناولون العشاء رحمة على المرحوم الجد، وكل منهم يسرح فى خيال خاص به حالما بالحبيبة التى تمناها لنعود إلى ثنائيات للعشاق فى تبديل مختلف عن واقعهم الذى يهربون منه على خلفية موسيقى راجح داوود التى تدعم خيالهم المرتبط بحكايات ألف ليلة وليلة. فكرة رفض بيع بيت العائلة شديدة التقليدية ممتزجة مع مشاهد بديعة من لقطة واحدة طويلة جدا للحكاء محمد الحلاق وقد حوله خيال الكاتب من كراهية لنمط الحلاق الثرثار الذى يصدع زبائنه بحكايات مملة إلى العكس تماما مع شخصية ساحرة تحكى حكايات مدهشة بينما يقتلها الشوق إلى تفيدة ست الستات غير منتبه إلى خيانة زوجته الشابة له مع ابن تفيدة. تراوح مصطفى زكرى بين التقليدى والحداثى يخلق فيلما شديد التميز منفتح على قراءات عدة لكل مشاهد حسب مرجعايته وحسب حالته الآنية. فى قراءتى الجديدة له بعد مرور ما يزيد عن خمسة عشر عاما أجده واحدا من أهم أفلام السينما المصرية منبثق عنها ومنطلقا إلى آفاق أرحب تكسر الأنماط الجاهزة وتعيد خلقها من جديد.
نشر المقال بموقع الكتابة الأحد 28 سبتمبر 2014 فى ملف عن الكاتب مصطفى ذكرى

Wednesday 24 September 2014

العصفور فى زاوية



العصفور

والفساد الذى مازال مانعا للنصر

تواصل ماريان خورى عروضها المختلفة فى زاوية والتى تعوض عدم وجود أرشيف قومى للسينما " سينماتك" ومكتبة سينمائية تعرض كلاسيكيات الأفلام كما هو متاح فى كل بلدان العالم. كنا ننتظر بدأ العرض وحكى لى الناقد الشاب فتحى أمين عن سينماتيك السويد –بلده الثانى بعد زواجه من سيدة سويدية – لم يكن هناك وجه للمقارنة مع حالتنا المصرية التى تخلت فيها الحكومات المتعاقبة عن دورها فى أغلب المجالات ، وعزاؤنا هذه المبادرات الفردية هنا وهناك للتعويض.

فيلم " العصفور" الذى مضى على عرضه أربعون عاما بالتقريب ، اذ عرض 26 أغسطس 1974 بعد عامين من إنتاجه وبعد انتصار أكتوبر فى 1973 . فهل أدركت السلطة وقتها أن الفيلم لم يكن ضد ثورة يوليو ورجالها ولا ضد عبد الناصر، بل يلقى أسباب الهزيمة على مافيا الفساد التى تتخذ من شقى الصعيد " أبو خطوة" ستارا لتغطية جريمتها الكبرى بسرقة المال العام وتحويله لصالح القطاع الخاص المستغل. لطفى الخولى اليسارى الذى نجح عبد الناصر فى ضمه إلى التنظيم الطليعى –حظيرة عبد الناصر لليسار المصرى- كتب السيناريو ومعه يوسف شاهين مدافعين عن عبد الناصر وشارحين لأسباب الهزيمة نتيجة الفساد. فى الجزء النهائى من الفيلم تصرخ بهية رافضة تنحى عبد الناصر، بهية محسنة توفيق التى جعلاها لطفى الخولى ويوسف شاهين رمزا لمصر . تصرخ لا وهنحارب ويصرخ الشعب بكل طوائفه لا .. وفى الشارع تكون سيارات أبو خطوة فى موكب يزاحم الرافضين للهزيمة ومجبرهم على التنحى جانبا ليخترق الفساد صفوف الجماهير.  مشهد مازال معروضا فى مصر المحروسة حتى بعد مرور سنوات على ثورته الجديدة فى 25 يناير 2011 .

شاهدت الفيلم وقد أوشكت على التخرج من معهد السينما ونسيت كل ما به من سياسة مباشرة، وبقيت معى مشاهد حميمة بين سيف ضابط البوليس الشاب وفاطمة ابنة بهية، بقيت معى دمعة رجاء حسين ترجو الشيخ على أن يحيا لها ويترك تاره مع أبو خطوة، بقيت معى نظرة بهية، محسنة توفيق تلك الرائعة الأرملة المحبة فى الأربعين تعشق يوسف الصحفى المناضل عشقا موصولا بعشق الوطن والرغبة فى الانتصار، عشقا موصولا برفض الهزيمة والتعلق بحلم لا ينهزم. بقيت معى نظرة مريم فخر الدين تستعطف رؤوف الابن ليسامح خيانتها لوالده. العصفور بعد 40 سنة ما زال محتفظا برونق السينما الجميلة التى تربط الخاص بالعام والتى تقدم سردا مختلفا يتداخل فيه الذاكرة مع الواقع، وتتشابك فيه شخصيات معبرة عن طوائف الشعب بنماذجه الطيبة والفاسدة . الحالمة والشريرة غير العابئة بانكسار الحلم. 

صالة زاوية ممتلئة بشباب وفتيات لم يعشن المرحلة، غالبا وجدوا الفيلم متواضع المستوى الفنى مقارنة بما حدث للسينما من تقدم، لم أشعر بتعاطفهم مع الحدث العام ، ولكنهم أحبوا وتفهموا مشاعر الشخصيات التى عبر عنها ممثلين بارعين، ليسوا نجوما للشباك ولكنهم امتلكوا روح الشخصية وعبروا عنها بجمال آسر. للمثل على الشريف مشاهد فائقة شديدة الجمال مرة مع بهية محسنة توفيق الحبيبة والرمز، ومرة مع رؤوف والطفل،
ومرة ثالثة مع كل شخصيات العمل الذين اجتمعوا فى مقهى محملين بالرغبة فى الحتفال بالنصر. محمود المليجى ، محسنة توفيق، على الشريف، صلاح قابيل ، سيف عبد الرحمن وجلاديس اللبنانية فى دور فاطمة – حبيبة كاسم فنى اختاره لها يوسف شاهين. الأبطال فى كادر مزدحم متوسط ملتحمين ومنتظرين أن يتحقق النصر.

فى المقعد المجاور فى دار العرض كان قاضى شاب محب للسينما ، تجاذبنا أطراف الحديث حول السينما قديما وحديثا قبل عرض " العصفور" وازداد احترامى لأفلام مصر العالمية ورثة شاهين لتقديمهم خدمة ثقافية يحتاجها مثل هذا المصرى الذى أكد لى أنه حضر أسبوع أفلام يوسف شاهين رغم توفرها بجودة عالية على اليوتيوب ، رغبة فى التمتع بنسخة عرض على شريط سينمائى، وتمنى لو كان ما يعرض من أفلام من النوادر غير المتوفرة على الشبكة الدولية. بعد انتهاء العرض كانت دموعى الحبيسة مانعة لى لمواصلة الحديث معه. وتأملت الصالة والشباب المتواجدين، ولاحظت للأسف أنهم نفس " الجيتو" من شباب وسط البلد المتابعين للعروض الخاصة وليسوا من الجمهور العادى الذى تجذبه السينما الشعبية المصرية. أقول للأسف لا يذهب دعم ماريان خورى للسينما المختلفة لمستحقيه، وتبقى السينما وجمهورها منقسمة بين الصفوة وذوقهم الخاص، وبين العامة برغبتهم فى التسلية.

مع أول فيلم أحضره فى زاوية وهو الفيلم السعودى للمخرجة هيفاء المنصور وبين العصفور يبقى حلمى باندماج نوعى السينما التى أتراوح بينها ، وما زلت أحلم بأن نحقق سينما جميلة قادرة على الوصول للجميع. 
نشر بصفحة السينما اشراف حسام حافظ  
بجريدة الجمهورية الأربعاء 24 سبتمبر 2014