حادث أليم يؤدي إلى حياة ثانية
آدم وحواء في تيه صحراء مغاربية
مونتير واحد، مدير
تصوير واحد وثلاثة كتاب أولهم المخرج ديمتري دى كليرك في عمل من إنتاجه يبدأ
بالعناوين على لقطة جانبية لامرأة جميلة هادئة، وأغنية رومانسية، بعده قطع حاد على
نهاية حادث سيارة مصور بالتصوير البطيء، سائقها توفى وامرأة بفستان أحمر تجاهد
للخروج من السيارة المقلوبة، حيث صحراء برمالها الصفراء وفستان المرأة نقطة حياة
في قلب هذا التيه، حيث لا أحد سوى الشمس والرمال وبئر تعجز عن أن تطول مياهه. 11 ق
تمضي في وحدة مشهدية ملخصها الحادث ورجل يتجول بسيارته فينقذ المرأة من كارثتها،
يستعين بطبيب عربي يخبره أن المرأة فاقدة للذاكرة ولا تعرف حتى اسمها. أوربيان
غريبان في صحراء عربية وحيدان، هي وجيك الذي قرر أمرا ساعده إليه تأكيد الطبيب
أنها لن تسترد ذاكرتها..غالبا. حين تسأل من أنت يقول جيك، ثم ... زوجك، هي
مرتابة والمشاهد معها يحاول الفهم. الارتياب ينتقل إلينا مع إخفائه لأشيائها،
ساعتها وبوصلة طريق، وإلباسها خاتما متسع على اصبعها قليلا. الحوار دقيق جدا، ماذا
لو سميتك كيتي، نعم فليس هذا اسمها، وإذا كان زوجها فمن هو الرجل الذي مات ؟.
كادرات الفيلم لوحات ساكنة يلعب فيها الضوء والظل دورا جماليا بديعا، اللون الأصفر
ليس برمال الصحراء فقط، في زجاج النافذة أيضا حيث يقف جيك مفكرا، ثم ناظرا للمرأة
النائمة، يقترب منها ويتشممها. هناك بالتأكيد سوء تفاهم مربك حول الحقيقة ومصير المرأة
مع منقذها الكريم في بيته الفريد بإضاءته البيضاء حيث لا توجد حواجز للضوء سوى
ستائر خفيفة. لونان فقط مسيطران على المشهد الأبيض، ولون الخشب الخام وهو نفسه لون
وجه المرأة وذراعها الظاهران تحت أغطية السرير البيضاء. قبل إحضارها إلى البيت قام
بحرق فستانها الأحمر وكأنه يريد إخفاء أي معالم تربطها بماضيها ويعيد خلقها هنا في
بيته مع حمام السباحة بسلالمه البيضاء، تصحب المشهد موسيقى كورالية مع كاست أزرق
لمشهد فائق فيه تسير كالمنومة تردد أسماء الأشياء كمن يحاول اختبار ذاكرته،
الكاميرا تصحبها حتى تصل إلى زجاج تنعكس فيه صورتها فتردد في شك، كيتي. سيعيد
المخرج المشهد تقريبا حين تعود إليها الذاكرة فتنطق اسمها الصحيح دافن. الممثلة
دلفين بافورت تقوم بدور كيتي / دلفين بأدائين مختلفين قادها المخرج ليتضح لنا
صورتها الجديدة مع شخصية كانت برأس جيك هذا المعماري الحالم الذي أنقذها واستغل
فقدانها للذاكرة ليشكلها على هواه، حين تسأله ماذا كنت أفعل يقول لها تخلقين عالمك
وتلهمينني. وجدها واتخذها بديلا لصورة ملأت رأسه كملهمة تتحرك بجمال في بيت ابتكره
وبناه، عاش فيه وحيدا منتظرا لعبة القدر بظهورها العارض.
الفيلم الذي قارب
الساعتين يمضي سلسلا دون مفاجآت غير متوقعة، في وحدات مشهدية مشبعة بالتفاصيل
ومرضية لنا حيث لا يوجد شرير في الحكاية، تناول مختلف تماما عن فيلمنا المصري
" الليلة الأخيرة " للمخرج كمال الشيخ في فكرة مشابهة، لا يوجد شرير
هنا، لا محمود مرسي، ولا الضحية فاتن حمامة، بل شخصين أرادا فرصة ثانية للحياة
فوجداها، فبدون تعمد، يصادف جيك امرأة وحيدة في تيه الصحراء فينقذها من الموت
ومعها يعيد حياته التي أوشكت على الضياع وكاد يبيع بيته، فيلغي صفقة البيع، ويبني
بيتا لآخرين، تدب فيه الحياة فيصحبها في رحلات يكشف لها عالمه البديع، يمارسان الحب
في الطبيعة كآدم وحواء، بعد ساعة كاملة من الفيلم ، فقط بعد ما يزيد عن 60 دقيقة
يتقاربان وتحبه، وتستمر رحلاتهما معا يمارسان حبا في الفراش وهو بوجهه العجوز الذي
يعبر عن عمر أكبر من حقيقته يبدو وكأنه معها يبدأ ميلادا جديدا. هي تعلق، وكأنه
شهر عسل ثان لنا . تأتي حكمة الفيلم بجملة عجوز عربية والدة عامل الفندق الذي تعرف
البطلة الحقيقة عن طريقه، العجوز تقول حكمتها والعامل يترجم، تقول لك أن كل شيء
بسبب، وما يحدث لنا في الحياة ليس صدفة. ما يعني أنه مقدر ومكتوب. نعم موقع الفيلم
وديكور البيت أيضا ليس صدفة، حوض السباحة هو غرفة المعيشة بمياهه التي تغسل المرأة
من حياة سابقة، وعزلتها في المكان يعيدان اكتشاف ذواتهما، الأصفر لون الحياة
الجديدة لها في مقابل الأحمر المرتبط بكل أشياءها، الفستان، وحقيبتها التي تتخلص
منها بعد معرفتها بحقيقة حادثها مع هذا السائح الأمريكي الذي غيبه الموت، تلقي
الحقيبة في النهر وكأنها قررت أن تتخلص من كل ما يربطها بماض لا تريده. في مشهد
قبل النهاية جيك يسكر بعد إدراكه لعودة ذاكرتها وخوفه من فقدانها، يسقط في الحوض السباحة
ومياهه غير مكتملة فيصاب في رأسه ويسقط في غيبوبة، يتبادلان الأدوار فتطببه هذه المرة،
وتأخذ دورها سيدة للبيت فتطلب أثاثا وتطعمه، تنظم له مواعيد العمل، تقول مبتسمة
هيا استرد صحتك لنحقق مشروعنا، الطفل الذي حلمنا به معا. يبكي في صمت وتعبيرات
وجهه المقتصدة تخبرنا عن مدى امتنانه للمرأة التي وضعتها الأقدار في طريقه، فاكتملا
معا، آدم وحواء كما بدأ الخليقة.
الحوار في الفيلم
كثيرا ما يكون تفكيرا منهما بصوت عال، جيك يقول كمن يقنع نفسه أولا، أحبك يا كيتي،
مهما كنت بالنسبة لي، أرجوك تذكري هذا، وحين نسمعه تدق قلوبنا هل اقترب موعد
المكاشفة؟. الفيلم يجيب على سؤال واضح، ماذا يحدث لو تقابل اثنان مُحيت ذاكرتهما،
هو بإرادته ورغبته في حياة جديدة ، وهي رغما عنها نتيجة حادث. هناك تماهي بين
المخرج وبطله يظهر واضحا حين يراقبها وهي ترقص على أنغام عربية ، بمزيج من الإعجاب
والتوجس، يشعر من غرابة تصرفتها أن ذاكرتها عادت إليها، ينجح في إيصال مشاعره
المختلطة، فالممثل المقتصد في تعبيراته يدخرها للحظات الارتياب، العشق، والقلق من
فقدانها. نظرات عينيه تمتلأ بكل هذه المعاني فيزداد تفهنا لتصرفه ونغفر له كذبته
الكبرى بالادعاء أنه زوجها. تمثيل مقتصد تفوقت فيه الممثلة دلفين بافورت في
شخصيتيها بالفيلم، هادئة ومرتابة حين تكون كيتي، وغاضبة وممتلئة بالحيوية حين تكون
دافن. امرأة في أوج أنوثتها في الخامسة والثلاثين. عُريها بعيد تماما عن إثارة
رخيصة، بل إعادة لصورة حواء في بدء الخليقة، وخاصة في مشاهد تواجدها بحوض السباحة،
غالبا عارية تماما، وأحيانا بلباس بحر أحمر لونها في شخصية دافن.
الموسيقى المؤلفة
تعبر عن المعنى من وراء كل مشهد فتكون كورالية أحيانا، أو عزفا منفردا بآلات وترية
أحيانا أخرى، تشكل مع أصوات الطبيعة، كصوت قطرات الماء والطيور شريطا صوتيا معبرا
عن الحياة البكر في منزل جيك وكيتي في غربتهما الاختيارية بالصحراء المغاربية. أتوقع
أن يشكو البعض ممن تعود على الإيقاع السريع للأفلام أن يجد المشاهد بطيئة ولكنه
بطء مقصود للتأمل والإحساس بإيقاع الحياة في صحراء تحتاج جهدا من مبدعين مثل جيك
وملهمة مثل دافن لتتفجر فيها الحياة.
عنوان آخر مقترح: حادث أليم يؤدي إلى حياة ثانية