أجمل الأفلام لا تتناول بالضرورة قضايا كبرى
ينتظر عشاق السينما بانوراما الفيلم الأوربى بلهفة تزايدت مع دورته الثالثة لهذا العام، أتاحت أفلام مصر العالمية لنا فرصة متابعة آخر ما وصلت إليه السينما فى بلدان أوربية تشارك أفلامها فى المهرجانات الكبرى الثلاث كان وبرلين وفينيسيا .
اتفق المتابعون على تقدير أفلام لم تصلنا أصداء سابقة عنها، أفلام بديعة لا تتناول قضايا كبرى ولا تخوض فى الشأن السياسى. ليست فى شهرة فيلم بيوتيفل، ولا رجال وآلهة. سعدنا بفيلم " قريبا منك " الألمانى الذى يتناول تغييرا طرأ على موظف بنك لديه هوس بالنظام والانضباط عندما يلتقى صدفة بعازفة تشيللو عمياء النظر، لديها بصيرة قادرة على فهم الآخر والتواصل معه. التناول الكوميدى للموضوع مع إنسانيته العالية تدهش المشاهد الذى لا تفارقه الابتسامة طوال متابعته للفيلم. أبطال " قريبا منك" محدودين وأماكن الأحداث أيضا، إدارة الممثل وبراعة السيناريو تبعد أى إحساس بالملل . معانى عميقة خلف أشياء تبدو عادية جدا. فبعدما يسرق مجهول محتويات منزل فيليب، وضمنها سلحفاه باول، يكون هذا الحدث بداية لتحول عميق فى شخصيته واكتشافه لسخف التعلق بالأشياء، وبعد دخول عازفة التشللو حياته تتباعد قيمة الأشياء نهائيا، ويفاجئنا المخرج بكرة عملاقة تجمعت فيها محتويات المنزل فى الطريق أمام البيت يصطدم بها فيليب والضريرة وعندما تسأله يقول لها أنها أشياء بلا قيمة. وفى النهاية يصل البوليس للسارق وهى جارة فيليب الحسناء التى سرقت سلحفاته كنوع من الدعابة وأخذتها وتركت له كراكيبه الأخرى. الأشياء المادية فى الفيلم ليست لها المدلولات الشائعة فالسرقة ليست سرقة، بل يكسبها المخرج معنى التمرد على الرغبة فى الامتلاك. يسرق فيليب رزمة نقدية فى نوبة حراسته البديلة بدلا من ابن المدير الذى تتصادف دروس التمثيل لديه مع نوبات الحراسة فيقوم فيليب الطيب بها بدلا منه. سرقة فيليب كانت نوعا من التمرد على المثالية وعقابا للابن المدير الذى يستغله، يعطى المال للعازفة لتحقق حلمها بامتلاك تشيللو خاص بها وخاصة بعد أن باعت السيدة التى تتدرب على آلتها المكان بما فيه. يتعامل المخرج مع الإعاقات بشكل طريف فى رسالة مفادها أنها لا يجب أن تضعف من البشر، فيليب وإعاقته النفسية، العازفة وإعاقتها البدنية، صاحبة التشلو ويدها اليمنى المقطوعة كلها أمور يمكن تجاوزها وخاصة فى وجود شخص محب " قريبا منك ". السينما الألمانية لها أكثر من عمل فى البانوراما وهناك إضاءة خاصة على فاتح أكين التركى الذى يضيف للسينما الألمانية عددا من الأعمال الهامة وكأنه شخصيا ينفى الفكرة التى ترددت فى عدد من الأفلام عن عدم جدوى الهجرة ، ونجاحه يعد ردا عمليا على رسالة وصلتنا من أفلام أخرى بالبانوراما يقول فيها الأوربى مرحبا للمهاجر ولكن لاجدوى من المجيء والأفضل البقاء فى بلادكم. يقولها الفيلم الكبير "بيوتيفل" الأعلى مشاهدة فى البانوراما ضمن رسائله العديدة ، فالبطل الذى يقترب من الموت لإصابته بالسرطان، يعانى من مشكلة كبرى من أم طفليه غير السوية نفسيا ومن مشاكل تورطه فى أعمال غير مشروعة مرتبطة بمهاجرين غير شرعيين، صينيين وأفارقة وصلتنى رسالة الفيلم تطلب من المهاجرين الرحيل، وتوضح أن وجودهم يضيف إلى مشاكل أهل البلاد، بمعنى" نحن فينا اللى مكفينا ، مش ناقصينكم" ، الأجيال المسيسة من المشاهدين التقطوا الرسالة المعادية ضد الأجانب من بيوتفل، أما الجيل الأكثر شبابا فالرسالة الوجودية التى تتناول الموت وفلسفة الوجود كانت الأقرب إليهم. وهكذا السينما الكبيرة تتعدد بها الرسائل ويجد فيها كل مشاهد جانبا يتواصل معه، تفتح نقاشا وجدلا كبيرا يتواصل لأسابيع بعد انتهاء المهرجان المكثف للسينما الأوربية الذى شهد تزاحما على أفلام تسجيلية كبيرة كفيلم المخرجة الفرنسية من مجموعة الموجة الفرنسية الجديدة أنييس فاردا فى عملها العبقرى " شواطئ أنييس " تظهر فيه بشخصها مع ذكرياتها الشخصية والسينمائية بخفة ظل وإصرار على الحياة ومواصلة الإبداع.
والتسجيلى الرائع لفاتح أكين عبور الجسر صوت اسطنبول الذى تتأكد فيه هويته التركية ويصبح بمثابة رد على دعاوى صدام الحضارات.
قضية الساعة الخاصة بالهجرة إلى أوربا التى تؤرق الأوربيون يتم تناولها بشكل مباشر فى الفيلم الفرنسى مرحبا الذى شارك بمهرجان الإسكندرية الأخير وحاز جائزته الكبرى، يتناول بشكل مثالى شخصية مدرب سباحة يقع مصادفة مع شاب كردى أتى من العراق يرغب فى تعلم السباحة ليعبر المانش، بلال كان رياضيا تحت العشرين بطلا فى سباق الجرى يشعر الفرنسى تجاهه بأبوة ولا يكتفى فقط بتدريبه، بل يعطيه بذلة غطس ليتمكن من العبور المستحيل، ينتهى الفيلم بغرق بلال وإعادة شرطة السوائل الإنجليزية جثته للفرنسى الذى ينوى تدريب مهاجرين آخرين، هنا يبدو التعاطف معهم فرديا ولكن الحكومة وغالبية الناس لا تريدهم . نعم مرحبا بكم ولكن تواجدهم هنا مستحيل. يصل الفيلم الألمانى عندما نرحل إلى أبعد من هذا فى تناوله العنصرى لأسرة تركية مهاجرة فى ألمانيا، وقسوتهم الشديدة على ابنتهم التى زوجوها لتركى فى اسطنبول يضربها كما يضرب ابنه، وعندما تتركه محتمية بأسرتها فى ألمانيا يرفضونها ويعتبرونها عارا على الأسرة. الفيلم ميلودرامى ردئ، ينحاز للشخصيات الألمانية ويصورهم كملائكة يتعاطفون مع المرأة ويصور الأتراك كوحوش حتى أن الأخ يقتل ابن أخته بالسكين، وهذا التناول يعكس جهلا شديدا بالشخصية الشرقية التى تقول بأن الخال والد، وتبالغ ككل الأعمال المتخلفة فى الرسم الأحادى للشخصيات. وسواء كان العمل كبيرا مثل فيلم بيوتيفل، أو متوسطا كفيلم مرحبا أو ردئيا كفيلم عندما نرحل فالرسالة واضحة، ليس لكم مكان بيننا، أيها الصينيون، أيها الأفارقة ، أيها الأتراك ، ارحلوا إلى بلادكم.
بانوراما الفيلم الأوربى ليس فقط ساحة لعروض الأفلام بل مؤتمرا سينمائيا تعقد فيه محاضرات وتتم فيه لقاءات بين صناع الأفلام ومتلقيها، وتتم لقاءات عفوية أخرى بين المشاهدين يتبادلون الآراء حول الأفلام ورسائلها. كان عرض فيلم زنديق للمخرج الفلسطينى ميشيل خليفى فرصة للالتقاء به والاستماع لتجربته مع السينما، زنديق إنتاج فلسطينى بلجيكى مشترك يواصل فيه خليفى التزامه تجاه قضية بلده فلسطين، وزنديق يقوم فيه محمد بكرى بدور خليفى نفسه وقد وصل الناصرة لحضور جنازة أحد أقاربه، يصطدم بالخلاف الفلسطينى الفلسطينى، يقضى ليلته فى متاهة مطرودا من كل الأطراف، وعندما يكفر بالعودة ويلقى بمفتاح البيت فى النار، يقابل صبى فلسطينى يهرب مع زميل له من الفاسدين الذين يستغلونهم، يقرر بكرى البقاء حاملا سلاح الكاميرا ويصور صراع أطفال فلسطين من أجل البقاء. من الذاكرة الخصبة أول وأهم فيلم لميشيل خليفى مرورا بعرس الجليل وطريق 181 انتهاء بزنديق يواصل خليفى دوره فى المقاومة بالسينما. لا شك بذل مجهودا كبيرا وامتلك قدرة على البقاء تقاوم دعوات الترحيل سواء فى بلده فلسطين، أو فى موطن هجرته بلجيكا،وهو كفاتح أكين رسلا حية للتواصل والتعايش بين الشعوب. مكنهم فن السينما وموهبتهم التى يمتلكونها من التعامل بندية مع الآخر الأوربى الذى تجعلنا البانوراما نقترب من تفكيره وتعرفنا بمشاكله، فلا يصبح ذلك الغريب المجهول الذى نخشى التعامل معه.
استجابت ماريان خورى لما طلبناه من عرض البانوراما فى دار عرض قريبة من وسط البلد، فكانت البانوراما بدارى عرض مكنت القاهريين على اتساع أماكنهم من المتابعة من أقرب مكان إليهم. ونضيف هذا العام طلبا بتخصيص دار عرض واحدة صغيرة لعروض دائمة للفيلم الأوربى تغطى تعطشنا لسينما جميلة شكلا، تتناول قضايا إنسانية هامة وجادة تقرب المسافات بيننا وتحقق سلاما بين الشعوب. تخلق حالة من الجدل وتعبر الجسر بين الثقافات المختلفة.