Saturday 24 November 2018

فيلم روسي "يمكن للفيلة أن تلعب كرة القدم" مهرجان القاهرة 40

          ديمتري الملاك الحارس  
                                  
اختار المخرج ميخائيل سيجال عنوانا محيرا لفيلمه " يمكن للأفيال أن تلعب كرة القدم" ورد على لسان ابنة صديق البطل بعد مضي حوالي ربع الساعة من الفيلم، تقولها كمزحة لصديق والديها ، الجملة المحملة بالدلالات عن اتساع المكان الذي يسمح له بالنوم إلى جوارها بدلا من نومة الأرض بعد أن فاجأته بالحضور إلى حجرة فندقه باكية، عنوان محمل بالانفتاح على كافة التفسيرات عن اهتمام البطل ديمتري بابنة صديقه الذي التقاها صدفة، إحدي فتيات ثلاث سيلتقي بهن على مدار الفيلم ، ابنة صديق ثاني وفتاة ثالثة يبدو أن لقاءه معها لم يكن صدفة، دعوني أقدم لكم البطل ، أربعيني ناجح في عمله، شديد الدقة والإجادة آت من موسكو حيث النجاح والتميز إلى البلدة التي عاش بها مع زملاء لم يحققوا نفس نجاحه وعملوا وعاشوا في بلدتهم دون أن يغادروها. لحظة وصوله يكون الصديق مع زوجته على وشك القيام برحلة تاركين ابنتهم ذات السبعة عشر ربيعا بمفردها في البيت، كان الوالد بعد أن دعاه إلى حفل عيد ميلادها طلب من  ديمتري أن يتحدث معها ليساعدها في تحديد طريقها الذي ستسلكه، هل ستدرس الاقتصاد أم الفنون؟. منذ الوهلة الأولى يضعنا المخرج في حيرة لفهم نوايا بطله، هل هو محب للفتيات الصغيرات؟ هل يمر بأزمة منتصف العمر عن الرجال التي تدفعهم إلى الاهتمام بفتيات من عمر ابنتهم ؟ ومع ذلك فإنه يضع في طريقنا مفاتيح لفهم هذه الدوافع في اللقطة التي ينام فيها البطل في وضع الملاك عاقدا ذراعيه على صدره تاركا مسافة بينه وبين الفتاة على السرير . هذه اللقطة سيختارها لتكون صورة الأفيش الملخصة لحكاية الفيلم والمعبرة عن بطله، الملاك الحارس لبنات مختلفات عبر ثلاث سنوات بدأت مع عيد ميلاد الأولى وقد أكملت 17 عاما، ثم الثانية التي لم يحدد لها عمرا، والثالثة التي بلغت عشرين ربيعا. يتخذ المخرج الورود تعبيرا عن العمر فيما يبدو أنها ضمن الثقافة الروسية، كل وردة تعبر عن سنة من حياة المحتفى بعيد ميلاده. في المشهد الافتتاحي ديمتري عند محل زهور في حيرة لاختيار ورود لفتاة لعيد ميلادها، البائعة تشرح له ولنا أنه من المناسب أن يشتري وردا بعدد سنوات عمر الفتاة التي تعتقد أنها حبيبته، في عيد الميلاد يحضر شاب 17 وردة للفتاة ، نفس ما اقترحته بائعة الورد.


هناك حالة من التوقع تنتاب المشاهد هل سيمارس البطل الحب مع الفتاة التي أكملت ربيعها السابع عشر، ثم ينفي هذا الاحتمال تماما، يترك البلدة ويعود إلى موسكو لندخل في الحكاية الثانية حيث يطلب منه صديقه أن يعيره كاميرا تصوير فوتوغرافي، حين يصل بالكاميرا سينادي الصديق على ابنته تخرج فتاة نتوقع أن تكون لها معه حكاية، هذه المرة الفتاة تمارس رياضة الجري، يتأمل حذائها القديم ، يشترى حذاء جديدا لها ويحضره إلى بيتها بحجة أنه نسي عدسة الكاميرا، كان اصطنع الحجة فقد اشتراها توا من محل عامدا أن تكون رخيصة الثمن فهي ليست أكثر من حجة. حين يقدم لها هدية عيد الميلاد تندهش كيف عرفت عن عيد ميلادي فيقول ببساطة لابد أن هناك عيدا لميلاد أي شخص في وقت ما. تمارس رياضة الجري وهو يتابعها بالسيارة، الآن الثلوج تغطي الشوارع، هو وقد ترجل من السيارة في لقطات متوازية معها، تصاب بتعب وتسقط يهجم عليها شقيان فيسرع ديمترى لإنقاذها، يُضرب بشدة من الشابين المعتديين، مرة ثانية يمارس دوره كأب بديل، أو كملاك حارس لا يرغب سوى في حماية الفتاة غير مستوعبة لحقيقة نواياه. بعض مشاهد تؤكد درجته في العمل كرئيس ناجح ودقيق جدا في عمله قبل الدخول في القصة الثالثة، هذه المرة عشرون وردة بيضاء وسطها وردة وحيدة سوداء يقدمها لفتاة يبدو أنه كان تابعها، يسقط  وفي جسده قطع سكين حدث أثناء المشاجرة لإنقاذ ابنة الصديق في الغابة الثلجية، مشهد ساحر لورود بيضاء، ودماء حمراء وفتاة في العشرين ربيعا توقف له تاكسي وتصحبه إلى مستشفى. يلجأ المخرج إلى سرد غير خطي يتقدم إلى الأمام ويعود للخلف مع حركة كاميرا بطيئة مع ازدياد لاستخدام الضوء المنتشر الواضح على مدار الفيلم . لنتأكد أنه وجد ضالته وينتابنا شبه يقين أنه هذه المرة رجلا وجد حبيبته، وسينفي المخرج هذا الظن تماما، يمارس ديمتري دورالحماية فيلجأ الى تهديد حبيب الفتاة، هذا الثوري المدعي الذي سبب لها الاكتئاب الذي يفوق اكتئاب صديقتها التي تعيش معها ، صديقة الفتاة الثالثة تبدو شخصية مزروعة في الفيلم للتخفيف حيث يثير وجودها، شكلها واكتئابها ضحكا لطيفا يخفف الأجواء الجادة التي وضعنا الفيلم بها أغلب الوقت. الفتاة التي تعاني من إهمال الحبيب لا تفهم دوافع ديمتري، تسأله لم لا يقبلها، تقترب منه فيشيح بوجهه، ويتألم فجأة من جراء جرح السكين، هي تُملس على الجرح، تذكر اقتراب حضور والدها، يتغير وجه ديمتري، وندرك انتهاء القصة الثالثة عن الابنة البديلة  التي منحها عطفا مختزنا وكأن المخرج يريد أن ينفي حقيقة أن الأمومة غريزة والأبوة تكتسب بالممارسة، الرجل لديه عاطفة أبوة فطرية كعاطفة الأم ، واذا كان مازال هناك قدر من الشك لدي المشاهد سيتأكد من مشهد في الطائرة حيث ديمتري يتوقف أمامه زميل ينادي عليه، لم أرك منذ عشرين عاما، كيف حالك في موسكو، تعال لأعرفك على شخص عزيز حدثه عن الجامعة وناقش معه اختياراته ، يعرفه هذه المرة على ابن له ويبدأ ديمتري في طرح أسئلته عن اهتمام الشاب. ببساطة شاعرية يعبر الفيلم  ديمتري الذي حقق نجاحا عمليا، ولكن فاته أن  يتزوج وينجب، يشعر فجأة برغبة في ممارسة دور الأب لابنة أو ابن بعد أن أصبح لديه الكثير ليقدمه، هدايا ثمينة أو نصائح غالية. تيمة بعيدة عن أفكار اعتدنا توانلها في أفلام دول الاتحاد السوفيتي السابق التي تتناول معاناة الحرب والمشاكل الاقتصادية، هذا الفيلم مثل الفيلم الروسي البديع " بلا حب" يعبر عن مشاعر إنسانية في روسيا اليوم بعيدا عما يسمى بالقضايا الكبرى.


مخرج الفيلم المشارك بالمسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته 40 مولود بموسكو عام 1974 وقت الاتحاد السوفيتي السابق، هو الآن في روسيا التي ظهرت كبلد أوربي غني، عمره من عمر بطله تقريبا، نجح في التعبير عن شخصيته وملامح تميزه، وهو ككاتب قصة قادر على رسم مختلف الشخصيات، وعلى استخدام الرموز  والدلالات، لديه تنوع في الحكي المعتمد على تفاصيل صغيرة ترسم صورة للبشر والأماكن، تستخدم حكما شعبية محملة بالصور البليغة " الأفيال يمكنها أن تلعب كرة القدم" تعبيرا عن القدرة على تجاوز الأنماط السائدة والانفتاح على عالم رحب يتسع لكافة الاحتمالات دون الحاجة إلى الكثير من الكلمات. تميز التصوير الذي قام به إدوارد موسكوفيتش اعتمادا على إضاءة منتشرة وقدم صورة ناعمة دون ظلال حادة أو تضادات لونية مما ناسب تقديم شخصيات الفيلم البعيدة عن الصراخ كما رسمها المخرج الذي قام بالمونتاج أيضا ونجح في جذا المشاهد طوال زمن الفيلم الممتد عبر ساعتين إلا الربع.

قاد ميخائيل سيجال بطله قيادة بارعة، ونجح في اختيار نماذج الفتيات باختلافات تتجاوز الشكل إلى التنوع في الشخصيات، الفتاة الموهوبة المنطلقة بشعرها المموج، والرياضية محددة الأهداف، الرومانسية الحالمة التي تصمم فساتين كزي الأميرات، وأخيرا الشاب الذي يتفاخر به والده والذي يتمنى مثله بطلنا وكل من يشاهد هذه الكوكبة من الأبناء. فيلم يحتفي بالأسرة ويتعاطف مع من مضت به الحياة محققا نجاحا عمليا وفاته تحقيق ما يحققه عامة الناس من زواج وإنجاب أطفال يرعاهم ويفرح بنموهم ككل البشر في أي مكان وزمان.   

صفاء الليثي
نشر بالعدد الرابع من نشرة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي
رئيس التحرير : خالد محمود