كابوريا والبقاء على
شاطيء الواقعية
عن تجربتي مع الفيلم
كنت أعمل على الموفيولا، أركب شرائط المؤثرات
الصوتية، وقتها كانت هذه المهمة مسئولية فريق المونتاج لكل فيلم، أتبع مدرسة
المونتير الكبير أحمد متولي في تغذية شريط الصوت المساعد بتنويعات غنية من
المؤثرات الصوتية، المونتير الأول يقوم بمونتاج الفيلم صورة وحوار ثم يقيس
الموسيقى على مشاهد الفيلم ويركبها وعندها تنتهي مهمته، ويكمل المونتير المساعد
المهمة بتجهيز باندات المؤثرات، كنت محظوظة بما أمده خيري بشارة من تسجيلات صوتية
غنية جدا ومختلفة عن تلك الأصوات المعتادة من مكتبة المؤثرات، لكمات لعبة البوكس
سجلها بشارة وقمت بتركيبها، قد تكون المرة الأولى حسب علمي ألا نسمع في المعارك
هذه الأصوات المزيفة التي تقترب من صوت القنابل وتسبب الضحك لدى المشاهدين في
مواقف يجب أن يشعروا بجديتها وبتعبيرها المتقن عن فن المعارك، لكمات حقيقية تشعر
فيها بملامسة اليد على اللحم وليس بصوت نحاسي أو بدقات على طبل أجوف. صوت يسجله
بشارة وينقل على شريط الماجنتيك 35 مللي ويركب على الصورة، ليست اللكمات فقط بل
عديد من أغنيات أجنبية، ومؤثرات حية أخرى أعدها خيري وتم تركيبها على مشاهد
الفيلم.
وعلى خلاف العمل في العديد من الأفلام كان
بشارة يفضل أن يقدم للمونتير النسخة التي يعمل عليها مونتاجه ليس فقط بالصورة
والحوار بل بشريط ثالث مساعد ليحصل على الإيقاع الذي يريده، الموفيولا تكون عادة
بها ثلاث تارات واحدة للصورة واثنتين للصوت، كنا في مجمع المونتاج بمدينة السينما
نعمل على موفيولا بها أربع تارات بحيث يمكن أن نعرض الصورة ومعها ثلاث أنواع من
الأصوات. ذات مرة وكنت مندمجة في تجهيز شرائط المؤثرات لأحد الفصول، مندمجة فلم أشعر
بوجود خيري بشارة جنبي صامتا يراقب عملي، وحين أوقفت الموفيولا وأنرت الأباجورة
وجدته يبتسم ويقول، اللي بتعمل الشغل ده ازاي فصل كذا أصواته ملخبطة ومزعجة، كانوا
يقومون بعمل المكساج هو والمونتير أحمد متولي ومهندس الصوت جميل عزيز في استديو
نحاس، ذهبت معه لأعرف سبب اللخبطة التي وجدها بالفصل، وكانت المشكلة سببها المكساج
الأولي ( بري مكساج) الذي مزجه عزيز بالشرائط التي أعددتها ومعها ما نسميه باند أنفني
من الزغاريد وآخر للصيحات، أراد عزيز أن يخفف عبء التحكم في شرائط صوت لا تقل عن
ستة شرائط بإجراء المكساج الأولي، فتم عجنه- حرفيا- وأصبح الضجيج مزعجا دون وسيلة
للتحكم فيه. سألوني رأي فقلت البري لازم يتعاد وقد كان.
العمل في فيلم كابوريا كان يدور في أجواء
سينمائية لو تم تصويرها لكانت عملا لا يقل درامية عن الفيلم نفسه، وقتها كان مبنى
المجمع يتم طلاؤه فكان حجرتي الموفيولا والتقطيع تشبه بيتا في حالة تنظيف، وكان
خيري يعجب بهذه الأجواء ويشعر بحميميتها حين يحضر باكرا ليركب معي الفصول ويراجعها
قبل أن يتولى المونتير أحمد متولي عملية المونتاج الفنية. بشارة كان يذكر أنه
اختار متولي ليعمل معه مونتاج هذا الفيلم تحديدا لفتونته، ولهما معا صورة يتصارعان
أمام صف العلب في محبة وندية، عملا معا في الفيلمين التسجيليين "صائد
الدبابات" و"طبيب في الأرياف"، وعاد للعمل مع متولي في كابوريا بعد
عمله مع عادل منير ورحمة منتصر، يختار خيري فريق عمله طبقا لمن يراه مناسبا لنوعية
الفيلم الذي يعمل عليه، وبالطبع تتحكم بعض ظروف الإنتاج في تكوين فريق الفيلم. قبل
أن أتجه إلى النقد كنت أحببت فيلم "كابوريا" كثيرا وما زلت أجده تجديدا
شجاعا أقدم عليه خيري دون أن يهتز بحملة الهجوم عليه من نقاد لا يحترمون إلا أفلام
الواقعية قديمها وحديثها، ويعلون هذا النوع الفيلم على ما عداه، خيري بشارة كان
مجددا في التعاون مع حسين الإمام فحين يطرح عليه فكرة أغنية ما يقوم الإمام بتركيب
كلماتها وتلحينهاوقد فهم ما يريده تماما، يجمعهما حب الطعام كرمز من رموز الإقبال
على الحياة، فيطلب منه أن تكون أغنية عن حب المأكولات مثلا فتكون ( بيكاتا
بالشامبيون ..طعمية .. شكشوكة.) كان مجددا في اكتشافه لمحمد لطفي الملاكم الشعبي
وتقديمه بعبله، على الفطرة، يخايلني تعبير( بطينه ولا غسيل البرك) هذه الحكمة
الشعبية كانت أسلوبا لخيري في قيادته لممثليه يصف لهم الشخصية ويطلب من الممثل أن
يؤديها بإحساسه هو، لا يمثل الشخصية ويطلب من نجمه أن يفعلها مثله، أجد خيري بشارة
مجددا حقا في الأغنية الفيلمية التي تدخل في نسيج العمل، مطورها من أفلامنا القديمة
ومكسبها روحا عصرية بكلمات ولحن غير تقليديين. أثناء العمل كان خيري يسمي الفصول
بأسماء المشاهد، مشهد السبق، مشهد الحجز في القسم، مشهد الحظيرة، وأحدد أنا رقمها
ونبدأ العمل، لا أعتقد أن أحدا كسر نمطية مشهد الحجز في أقسام البوليس مثلما فعل
خيري، هذا الحجز وبه الخواجة الذي يعزف الهارمونيكا، ومشهد الغزل بين حسن هدهد/
أحمد زكي والثرية/ رغدة في حظيرة الاسطبل. قصة شعر كابوريا انتشرت بين الشباب بعد
الفيلم مثلما انتشرت قصة شادية بين فتيات مصر بعد "روعة الحب". أغنية أحمد
زكي وطريقة أدائه، زكاوة كما كان يلقبه خيري بشارة. يأتي أحمد زكي مع مدير الإنتاج
فتحي يسري، يدعوا منتج الفيلم والمخرج والمونتير على أكلة سمك في خريستو، يهمس لي:
تيجي معانا ناكل سمك، أجيبه أنا سأبقى هنا مع المساعدين، كنت زوجة المعلم، الأسطى
الكبير ولكني لا أترك فريق مساعدي المونتاج المكون من إكرام يونس ومحمد الأسمر،
أحمد زكي يحضر تتملكه الرغبة في التلصص على الفيلم عله يشاهد مشهدا فيستريح قلقه،
ليس واردا عند خيري بشارة أن يحضر نجمه المونتاج ولن يسمح له بالمشاهدة إلا في عرض
نسخة العمل مع الجميع. اكتفى أحمد زكي بحضوره
وبكرمه الزائد كان يدعو الفريق على تناول الطعام، مختلفا عن نجوم آخرين كانوا
يوقفون التصوير إذا لم تلبى طلباتهم من أصناف طعام مخصصة له منفردا ولا يكترث بأن
ترهق ميزانية الإنتاج.
كتبت كثيرا عن خيري بشارة وأفلامه، أشعر
تجاهه بشعور المعجبين (الفانز) على الطريقة المعاصرة، أعجب بأفلامه ويزداد إعجابي
مع أفلام حضرت مونتاجها وأجدها بعد مشاهدات تالية ممتعة ، والمؤكد أنني لم أجد
خيري قد غادر شاطيء الواقعية الآمن على مستوى المضمون، فقط ابتكر شكلا جديدا
للتعامل مع هذا الواقع، متسلحا بتراث السينما المصرية الغنائية عاملا على دمج
الأغنيات في نسيج العمل فتكون بديلا عن الحوار وتؤكد على روح بطله ومجموعته من
ملاكمي اللعبة الشعبية في مقابل غناء يعبر عن شراهة طبقة برجوازية عليا لا تخسر
أبدا مهما أنفقت. في النصف ساعة الأولى من الفيلم يعرض لنا صناعه خيري بشارة ومؤلف
الفيلم عصام الشماع ومنتجه حسين الإمام ، يحكون عن الأثرياء وهم يلهون على
طريقتهم، وفقراء في فلوكة على النيل، وفي لقائهما الأول تحدث معركة وحجز في القسم
، بعده مشهد ملاكمة في المنطقة الشعبية لبطولة محلية نتيجتها خسارة لبطلنا في
اللعبة ورفض والد حبيبته تزويجها له. فيفكر مع صديقيه في فاتنات مركب الأثرياء
ورائحتهم الجميلة. 17 ق من زمن الفيلم مضت وقد تحددت أطراف الحكاية وتكتمل حتى
تلاحمها في قصر الأغنياء حيث مزرعة الخيل وجناحين منفصلين للبيه سليمان/ حسين
الإمام، والهانم روحية/ رغدة، واستغلالهما للآخرين للتسلية والرهانات. يتم الانتقال
بين المواقع المختلفة يقودنا فيها صوت هارمونيكا يعزفه خواجه هيبي في الحجز، أو
عازف أكورديون في الحارة التي تستعد لعرس ما، استخدام الموسيقى أقرب إلى مدرسة
الدوجما لا نسمع موسيقى في الفراغ بل آتية من مصدر واضح نشاهده في الصورة. باستثناء
مشاهد الليل في منطقة حسن هدهد الإضاءة أيضا طبيعية ومصدرها واضح. حميمية تفاصيل
بشارة، مع غسيل في الشرفة التي تتجمع فيها نساء تراقب خناقة شلة حسن هدهد مع مالك
الشقة، وملابس داخلية منشورة على منشر بشباك مدربه في مشهد قرب النهاية يعري فيه
البطل أهل منطقته دفاعا عن اتهامهم له (لا تعايرني ولا أعايرك الهم طايلني وطايلك)
لا شيء مجاني في مكونات الصورة المحملة بدلالات تصل إلى المشاهد ويفك شفرتها دون
الحاجة إلى زرع صديق للبطلة لنعرف ما تشعر به. التعبير عن صداقة الذكور في الطبقة
الشعبية، هو بينهم قدوة يتبعونه، ولكنهم معا بندية وحب حقيقي. حسن هدهد ومصطفى
ومحمود زملاء اللعبة الشعبية وينضم إليهم عنتر، يتحركون معا كأطفال ضخام الحجم،
والآيس كريم، يلحسونه في مشهدهم الأول وقد ذهبوا لطلب يد قمر من أبيها، يلعقونه
بالشارع بعد أن قاموا بتسلية الأثرياء وكسبوا بعض النقود. المرة الأولى آيس كريم
في القرطاس هدية على قد الحال للفتاة قمر، والمرة الثانية من أكواب يأكلونه في
شوارع القاهرة بعدما تغيرت أحوالهم واشتروا ثيابا جديدة. في النصف ساعة الأولى
يتحرك حسن هدهد بجاكيت من قماش خشن، أنيق وبسيط يضمه إلى جسده وكأنه يتسلح بثوبه، ونعرف
الاختلاف حين يعيش حرفيا في ثوب غير ثوبه، مسليا للأثرياء، مضحك الملك. في
العناوين سنقرأ ديكور القصر لنهاد بهجت، ونستنتج أن بقية الأماكن من اختيار خيري
بشارة من خبرته مع الفيلم التسجيلي، منطقة أقام بها ساحة ملاكمة، وفرن بدائي يصنع
فيه والد حسن الزجاج المنفوخ يدويا، حارة خلفيتها جامع قديم، مصر الحقيقية
بمعمارها ونوافذ منازلها الخشبية العالية. سنسمع أغاني الفترة من الأصدقاء الأربعة
( لولاكي لولا لولا ) وهم يمرحون كصبية مترابطين. وتتوالى أغنيات الفيلم مزروعة مع
المشاهد، ارهاصة كابوريا في مشهد فلوكة النيل في البداية، أغنية (الهجر لا لا ..)،
في فرح الحارة وحركات جسد يتقنها زكي، في اهتزازات الملاكم الذي لا تستقر قدميه
على الأرض، تعود على هز كتفيه لكي يتفادي الضربات ويحجل. (يالي وسطك وسط كمانجه،
والمانجا ..) التلاعب بالكلمات على الطريقة الشعبية، أغنية مهرجانات مبكرة لخيري
بشارة وحسين الإمام وزكاوة بظرف شديد وبلا ابتذال. أغنية كلماتها تشرح ما جرى
بواقعية موجهة للأب الرافض الارتباط ( حبيناهم، ومشينا معاهم، ورحنا السيما ..) في
القصر يتركون صراع الديكة مؤقتا وتجري مباراة الملاكمة الأولى، يكسبها الفقير وهو
مازال في الحلبة بثوبه الخشن، بعدها تراوده روحية الهانم زوجة الرأسمالي عن نفسه
وتغازله كما لو كان حيوانا ترغب في اقتنائه ( انت جميل ، حصان جميل ، ملاكم تجنن) ولكنه
يتقرب من نور/سحر رامي وصيفتها التي سيتبين أنها من الجمالية وترسم معه خطة ليكسبا
بعض النقود ويغادران.
نصف ساعة تجمعت فيها خيوط الحكاية ثم ندخل في
الصراع الحقيقي بين الطبقتين، ومن الذي افترض أن خيري بشارة قد غادر شاطيء
الواقعية، قد يكون فعلها شكلا ولكن المضمون باق، بل أقوى من كل أعماله السابقة. سينما
خيري بشارة ليست منقطعة تماما عن السينما المصرية التقليدية، اعتماده على أدوار
السنيدة الذي تكتمل بهم الصورة لرسم شخصيات الطبقة الشعبية، وأنزعج لو طال
الابتعاد عنهم، أستريح حين يعود ظهورهم، في مشهد ملاكمة مع عنتر لكسب المراهنات،
ونسمع حوار مباشر من سليمان( فينيتوا اشتراكية، جورباتشوف عمل بيروسترويكا، وسور
برلين بقى بيتباع تذكار) تسبق اندماج هدهد في اللعبة، ويقدم تحويرا لأغنية الفلوكة
، أغنية الفيلم ( أنا في اللابوريا.. ) وتشتعل حلبة الرقص في القصر، يتعرض لتحرش
من صديقة الهانم التي تطردها، هدهد بتاعي أنا، مشهد شاهدنا مثيله في أفلام قديمة لنا
تنتقد الطبقة الثرية وتظهر عهرها، ولن يكتفي بشارة بل سيعري طبقة هدهد ويفضحها في
مشهد فائق آخر قرب النهاية. هناك مجموعة مشاهد عن مغازلة حورية لهدهد تتراوح بين
الهزل كما في مشهد إلقائها للشعر الركيك الذي تؤلفه ( تعال أغني وأطلق جنوني..)
وبين الجد في مشهد آخر تشكو له من خيانة زوجها لها ورغبتها هي فيه. قدم بشارة
للفنانة رغدة دور عمرها تظهر فيه جميلة وقادرة على التعبير عن مشاعر متباينة، هي
وزكي سيعيدان التعاون في فيلم لا يمكن مقارنته بفيلم "كابوريا " في عمق
تناوله لموضوعه وفي الشكل الفني الذي طوره خيري بشارة من أفلام مصر الغنائية في
عصرها الذهبي. يقدم بشارة كمخرج محترف لكل بطل مشهدا أو عدة مشاهد يطلق فيها
إمكانياته، فقدم إلى حسن الإمام مشهدا في المطعم الصيني يشرح فيه فلسفة رأس المال
وكيف أن أي نقود ينفقها تعود إليه خلافا للفقير الذي يكسب نقودا وتضيع منه. وفي حركة
شعبية ترضي جمهور المشاهدين يلقي حسن هدهد بنقود جائزة مباراته الأخيرة بعد أن
ألقى خطبة عصماء (أنا محتاج الفلوس دي لكن دلوقت ما تلزمنيش)، أتصور أن جمهور
الترسو صفق بعد هذا المشهد عند عرض الفيلم وتحرك المراهقون في كراسيهم شاعرين
بانتهاء الفيلم قبل أن يختمه بشارة بمشهد يحمل فيه أصدقاء البطل ليصل إلى شرفة
الحبيبة قمر ويعرض عليها مهره، دراعه وعمله. ماكياج محمد عشوب متقنا على وجه البطل
الذي خاض حربا كسبها بهزيمة الملاكم المحترف وعودته إلى منطقته وإلى حبيبته ليبدأ
من جديد.
" كابوريا " تنويعة على فكرة إغواء
الطبقات المستغلة بكسر اللام للمستغلة بفتحها، كما في "الأسطى حسن "
تنتصر لصمود الطبقة الفقيرة وتحتفي بذكورها، بفحولتهم وجدعنتهم.
رغم أن خيري استعان بمؤلف كتب سيناريو
الفيلم، إلا أنه " كابوريا" يصنف كفيلم من أفلام سينما المؤلف الذي يحمل
توقيع مخرجه على رؤيته، وسرده، ورسم شخصياته وكل تفاصيل العمل الذي استعان فيه
بنجوم المهنة، محسن أحمد في التصوير وأحمد متولي في المونتاج. فيلم لخيري بشارة
القادر على تقديم رؤيته الخاصة عن قضايا كبرى كصراع الطبقات وأحلام الصعود، عن
الأصالة وحكمة التمسك بتراث الآباء بلا خطابة وبقدر كبير من المتعة الفنية.
صفاء الليثي
نشر بمجلة نقد 21 العدد التاسع أغسطس 2022
رئيس التحرير محمود الغيطاني ، مدير التحرير والمخرج الفني ياسر عبد القوي, نسخة pdf
https://drive.google.com/file/d/1n_rTVgrw1uf8YdoRlUb9uKTBAgKZPdjc/view?fbclid=IwAR1_ESv6eCwG7NoEPFhGoa7HzuSWXrJ5ZFufmCcCG6tvsgjtb-VASAbPntE