Friday 28 March 2014

فتاة المصنع وتحليل للطبقة الوسطى الفقيرة

قصة حزينة وبهجة ربيعية
ياسمين رئيس هيام فتاة المصنع
19 درجة فى الثانوية العامة كانت فارقة ليصبح صلاح ابن حى المنيرة مهندسا وليس عامل ميكانيكا، موت الأب كان فارقا لتصبح هيام عاملة فى مصنع صغير للملابس، وتنشأ قصة حب محكوم عليها بالفشل بين الحالمة هيام فتاة المصنع وبين المهندس المستسلم لضغوط طبقته ممثلة فى الأم التى تزوجه لفتاة مناسبة. الغوص فى أحلام مجهضة وحكايات الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى بدا هدفا لمحمد خان فى فيلمه الأخير المهدى إلى سعاد حسنى، معتمدا على سيناريو كتب مباشرة عن شريحة العاملات الشابات فى مصنع خاص صغير لصناعة الملابس. تكتب وسام جملا حوارية دالة تفتح أقواسا لفهم الفيلم والتفاعل معه فتعيد لحوار الفيلم أهميته التى فقدها فى أفلام لا يتم فيها الاعتناء بكتابة خاصة بالحوار تترك فيه الشخصيات تعبر بلغة الحوار اليومية الآنية. أتذكر وأنا أشاهد الفيلم للمرة الثانية بعد مشاهدة أولى له ضمن إطار مهرجان الأقصر للأفلام المصرية والأوربية ما شرحه لى الراحل العظيم توفيق صالح على أن جملة من الحوار قد تختصر كثيرا من مشاهد لا لزوم لها وثرثرة تعطل السرد وتحدث خللا فى الإيقاع. منها الجملة المفتاح "19 درجة" ومنها ما جاء على لسان خالة هيام- سلوى محمد على عن أهل الحارة التى لا تخفى عليهم خافية.
رسمت الشخصيات بعناية تضع خطوطا حادة بين الأخيار والأشرار فى قصة الفيلم، عيدة أم هيام القوية والحنون المزواجة الأنثى التى لا  تضر أحدا بل تشع بهجة على من حولها، وجدة هيام السيئة التى ينتشر نكدها وسوء نظرتها لعيدة وتسبها دائما ويظهر شرها على الابنة التى تحلق لها شعرها عقابا لذنب لم تقترفه بدلا من احتضانها ومحاولة مساعدتها. والخالة سيئة الحظ التى تعانى من كراهية ابنتها وسوء طباعها مدفوعة بنصائح الأب الذى تزوج غيرها فتسميها " يا بنت مرات أبوك"  فى جملة وصفية تختصر الأمر وتشرح الكثير. وتظل الجدة وعددا آخر من زميلات المصنع مع هيام تمثلن الجانب السيء فى عدد من النساء تتطهدن بعضهن أكثر مما يفعل الرجال وتكن أكثر ذكورية من مجتمع يسيطر عليه الرجال رغم قلة حيلتهم.   
عند منتصف الفيلم تشعر هيام بطلة فتاة المصنع بتوعك، تدخل الحمام وتغيب تنتظر خرجها فتاة أخرى بحجاب وعباءة، وتدخل بعد أن تنظر إليها بارتياب. وحين تثار غلبة حول صاحبة اختبار الحمل الذى وجدت آثاره فى القمامة تتجه الشكوك إلى هيام صاحبة قصة الحب مع الباشمهندس صلاح. يقطع خان على لقطة للفتاة المحجبة ذات العباءة فى إشارة إلى أنها صاحبة الاختبار الحقيقية. لا يركز خان ولا وسام سليمان كاتبة السيناريو على الأيرونى المعروف فى كتابة الدراما السائدة وفيها الجمهور يعلم والأبطال لايعلمون بل يمضيان عليها مرور الكرام، ولايلحظها الكثير من المشاهدين ويستمر اللإبهام هل هيام حامل من صلاح أم أن كل ما حدث لم يتخطى قبلة بريئة . لماذا لم تدافع هيام عن نفسها، لماذا لم تعلن أنه لم يحدث بينها وبين الشاب شيء سوى قبلة وحيدة؟
الإطار الرومانسى الذى صيغ به الفيلم يبدأ مع سعاد حسنى وفقرات من أغنياتها تعلق على المشاهد أو تمهد لها، ويختتم برقصة ندرتها الفتاة المكلومة فى حبها لحبها الأول يوم فرحة فترقص رقصة الطير الذبيح التى تذكر برقصة سعاد حسنى فى فيلم خللى بالك من زوزو، رقصت زوزو ثأرا لإهانة أمها رقصتها الشهيرة، وهيام رقصت ثأرا لنفسها والفتاتان تحيلنا إلى جملة حوارية نحفظها عن ظهر قلب: مش دى اللى كنت عاوزه تهزأيها، اللى مفيش حد ما أعجبش بيها، تنحنى العروس التى اختارتها أم صلاح تسأله عن هيام يوشوشها بأمر لم نسمعه، وهنا نعود إلى الجمهور الذى يعلم أنها حبه الذى لم يحافظ عليه وفتاته التى خذلها استجابة لضغوط مجتمع يضع فوارق طبقية بين شرائح من نفس الطبقة تجعل من المستحيل أن يرتبط المهندس بالعاملة التى أحببانها جميعا.
رغم القصة الحزينة فهناك بهجة تملأ صدور من يشاهد العمل الأخير للمخرج محمد خان واستمتاع بالإيقاع وشريط الصوت الغنى بموسيقى فرحة وضجيج الآلات . استمتاع بأداء تمثيلى لشخصيات أجاد اختيارها وتسكينها كل فيما يلائمه، ياسمين رئيس وهانى عادل، وابتهال الصريطى، فاطمة عادل وسلوى محمد على والعظيمة سلوى خطاب. الحارة المصرية تعود بمفرداتها وحيويتها الذى بدأ مع أفلام الثمانينيات مع خيرى بشارة الذى يظهر فى مشهد الافتتاح، ومع خان المستمر فى عطائه لأن الكبير كبير.
نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 18 مارس2014

Friday 14 March 2014

حصاد 2013 السينمائى فى دور العرض



سينما بديلة تجاهد للبقاء
 والسائدة مستمرة
حتى كتابة هذه السطور مضت عشرة أشهر من العام 2013 ، وبلغ عدد الأفلام التى عرضت رسميا بدور العرض 22 فيلما، حصيلة لابأس بها نظرا للظروف السياسية التى تمر بها مصر. بعضها يهدف لجذب جمهور المشاهدين وأمرها معروف، وبعضها الآخر تدخل المهرجانات فى دائرة إنتاجها منذ البداية، ظاهرها مستقل وحقيقتها تعتمد على منح نظير احتكار عرضها الأول فى مهرجان دولة الدعم. القاسم المشترك بين أغلب الأفلام فى النوعين الكبيرين هو البطولة الجماعية والاعتماد على مواهب جديدة أمام الكاميرا وخلفها. لا بأس ما دامت عجلة الصناعة تدور والفنيين يعملون ، القسم الأول يسعد بالبيوت التى فتحتها أفلامهم، والقسم الثانى يسعد برفع اسم بلده فى المحافل الدولية.

 فى حوار دار مع كاتب السيناريو مصطفى ذكرى قال إن الهامش ضيق جدا بين الأفلام السائدة التى تهدف إلى الربح والانتشار وبين السينما التى يسعى أصحابها إلى تقديم عمل يرضون عنه فنيا وينافسون به فى المهرجانات الدولية، مصطفى ذكرى صاحب عفاريت الأسفلت وجنة الشياطين عاد إلى قواعده سالما كأديب وكاتب مختلف أيضا. ورغم مرور السنوات على ما ذكره إلا أننى أجده مازال صالحا للتطبيق ،فسواء كانت الأعمال للتسلية أو كانت أعمالا طموحة فالسيناريو ضعيف والعمل غير متكامل، ينقصه الإجادة ولا يقترب من الكمال.

ثلاثة أفلام بدأ بها الموسم، مخرجين شباب نشاهد عملهم الأول، محمد بكير بعد ظهور جيد فى مسلسل تلفزيونى المواطن اكس يقدم " على جثتى" وأحمد علاء الديب الذى تخرج من المعهد العالى للسينما ونجحت أعمال تخرجه فى لفت الانتباه، يعمل مساعدا فى السوق ثم يقدم " الحفلة" هذا النوع من الأفلام الاجتماعية الخفيفة التى لا تضر ولكنها لا تبقى أيضا فى الذاكرة، والثالث حسنى صالح الذى ارتبط اسمه بمسلسلات للنجم نور الشريف فى عمل يمر مرور الكرام، كما نقول بالعامية عمل يعدى، أيضا للأسف لا توجد بصمة أو لمحة عن موهبة يمكن للمتخصص أن يتتبعها وينتظر ما يليها. يتميز الحفلة مقارنة بالعملين الآخرين بطله نجم محبوب، بل بطليه أحمد عز ومحمد رجب، قدما دورين يتنافسان فى الأهمية فى سياق الفيلم، وطبقا لموقع السينما العربية تجاوزت الإيرادات السبعة ملايين من العرض الأول، يطلق على هذا الفيلم غطى تكاليفه، ويبقى حقوق التوزيع فى عدد من البلدان العربية، وحقوق العرض التلفزيونى وما استجد من وسائل.  الفيلم الرابع للمخرج محمد أمين الذى قدم " فيلم ثقافى" جامعا بين الفكاهة والتعبير عن قضية اجتماعية تخص قطاع الشباب ثم" ليلة سقوط بغداد"، وبعده بنتين من مصر، ثم فبراير الأسود، يعتمد محمد أمين على الكتابه بنفسه فهل يملك حقا تلك الموهبة؟ إنه يمسك بخيط هام ولكن عند المضى فى العمل لا نجد جديدا أو تفاصيل تحفز على الاستمتاع بالمشاهدة. رغم العنوان الجذاب والتوقع لمخرج ملتزم يخيب أملنا فى العمل تماما. لا توجد بيانات عن الإيرادات وهى مشكلة تواجه الباحث الذى يريد التحقق من علاقة تلقى العمل والتباين بين إقبال الجمهور دافع التذكرة وبين الناقد المدقق.

يأتى الشتا اللى فات والتوقعات الكبيرة فى انتظاره، فصاحب عين شمس والحاوى يدلى بدلوه عما جرى فى التحرير قبل 25 يناير وأثناءها، تحمس عمرو واكد – أحد ثوار التحرير- ودخل العمل منتجا وممثلا للدور الأول، السينما التى يقدمها البطوط مختارا لها طريقة مختلفة فى إنجازها ، لا يوجد مشروع مكتوب ومنتهى تماما قبل التصوير، الأدوار لممثلين غير تقليديين، حسابات السوق غير واردة لديه نهائيا، لا زمن عرض الفيلم، ولا البناء ، ولا التوابل من أغانى وإيفيهات. الشتا اللى فات عن الثورة بدون فرحتها التى يشعر بها من يشاركون بها، وهذا تناول ذاتى يخص المخرج أكثر مما يخص أيا ممن شاركوا بالفيلم الذين أعرف بعضهم شخصيا وأجد لديهم تلك الفرحة بمحاولة التغيير التى قام بها المصريون حتى لو لم تكتمل. هل نحاسب صاحب العمل على رؤيته التى تختلف عن رؤيتنا، لا بالطبع ولكن الرؤية تبقى فى حالة تباعد عن المزاج العام وعما نأمل أن يتحقق من رغبتنا فى التغيير. قد تكون الفرحة بلهاء لا تستند إلى منطق أو دليل ولكنها تبقى دافعا للاستمرار مهما كانت التحديات. هل خالف البطوط أسلوبه الذى لمسناه فى فيلميه السابقين؟ كلا ولكن توقعاتى كانت أكبر مما استطاع أن يحققه . يذكر موقع السينما العربية أن الإيراد من عرضه بالداخل بضع آلاف، أمر مؤسف رغم طموح العمل وتحمس صانعيه.

ستتوالى الأفلام التى تفتح البيوت وتجعل عجلة الصناعة تدور، لاتحقق أيضا أرباحا تذكر ولولا البيع المسبق للقنوات الفضائية ما أمكن لها أن توجد أيضا. 4أفلام قبل أن يعرض " هرج ومرج " فيلم لنادين خان بعد جولة مع المهرجانات، وسط أحداث ثورة 30 يونيو ، ثم حظر التجوال، بالكاد يعرض لعدة أسابيع دون ترحيب من أصحاب دور العرض الذين لا يميلون بطبيعتهم لأفلام تختلف عما عهدوه من سينما التسلية.ثلاثة أفلام أخرى ثم يعرض عشم، الخطوط المتقاطعة وانعدام النجوم وخلو الفيلم من التوابل المعروفة هل كانت عائقا لكى ينصرف الجمهور عن عشم؟، أم ضعف الدعاية والتصور المسبق عن علاقة العمل بالجمهور. يتحمس منتج طموح لمثل هذا العمل، ولكنه لا يدافع عن اختياره، فيفشل فى الترويج له والدعاية له. هل تختلف أفلام اسماعيل يس وغيرها من أعمال الأسود والأبيض عن هذا الشكل من الأفلام المعتمدة على البطولة الجماعية وعلى تنوع الطبقات والحكايات. هل سيأتى اليوم الذى لا نمل فيه مشاهدة عشم كما يحدث مع أفلام خفيفة بعضنا يلجأ إليها حاليا عند عرضها بقنوات التلفزيون لينعس على مرح صوتيات ممثليها وظرفهم.

أتصور أن " عشم" سيكون حنينا لماض جميل عاش فيه الناس بحب رغم مشاكل حياتهم لأجيال انصرفت عنه الآن وسيعاد اكتشافه والتقدير لجمال شخصياته ونبلها .

لا أعتقد أنه بدون قيام ثورة 25 يناير كان لفيلم "هرج ومرج" العمل الروائى الأول لنادين خان ليخرج إلى النور ، بل ويعرض فى دور العرض المصرية مع غيره من كوميديا الفارس الحالية. بل ويلحقه أيضا العمل الأول لماجى مورجان " عشم" بعد مشاركتهما فى المهرجانات الدولية. يمكننا القول أن " هرج ومرج" وعشم يعبران عن سينما ما بعد ثورة 25 يناير.


هرج ومرج ما بعد الواقعية

الصورة فى " هرج ومرج" كأنها متربة خماسينية تضعنا منذ اللحظة الأولى فى جو عام وأسلوب مميز يسيطر على المشاهد والشخصيات، نحن الآن لسنا فقط فى حى عشوائى ولكنه حى مجرد تماما بلا ملامح واضحة، إنه عالم افتراضى تماما وتقدم المشاهد مفصولة بتاريخ اليوم ، البداية مع فجر الاثنين، غالبا نحن فيما بعد انهيار الدولة، إذاعة داخلية وفتوات يفرضون سيطرتهم وسطوتهم. الخصمين الشابين زكى ومنير، محمد فراج ومنير لينير ) والكبير صبرى عبد المنعم وبنت الحتة (أيتن عامر) كل شئ مختلف شكلا ولكن يظل الصراع الأبدى على السلطة، على الثروة وعلى استحواذ الأنثى. كما بدأ الخليقة ذكور فى صراع وتنافس على قلب الأنثى الخائنة التى تميل إلى الأقوى. التجريد فى المكان والديكورات ناجح فى رسم عالم افنتراضى متصور، عالم مستقبلى يذكرنى برواية يوتوبيا مع اختلاف التفاصيل. نادين خان ليست بعيدة تماما عن عالم سينما محمد خان وإن تجاوزته فى الشكل. هناك تماس مع " الحريف" وتقديم للواقع بشكل خلاق، الواقع ليس كما سمى نقديا بالواقعية الجديدة بل يتجاوزها إلى ما يشبه المذهب الطبيعى فى الفن. واقع مستقبلى بدأت ملامحه ونتوقع وصوله إلى شكل قريب مما عرضته المخرجة. تبقى العلاقات الإنسانية كما هى منذ الأزل، رجال عاجزون ونساء فائرات أو مضحيات تخشين فقط رأى الآخرين. هناك خط درامى قوى وتشويق وبناء دائرى يبدأ من مشهد تقليب القمامة والمعلم زكى يحفز العمال  على سرعة العمل، ثم كرسى للمنتصر منير بعد انتصاره فى الماتش ونجاحه فى ابتزاز كبير المنطقة.

فيلم نادين خان محاولة جيدة فى إطار سينما المستقبل تحتاج جمهورا تصقله الثورة المستمرة وتنفض عنه تراث المشاهدة الذى ينمط الأشخاص والأشياء ويحيلها إلى الماضى.    
 

 "عشم " حيث الهامش أهم من المتن 

الخلاف الأكبر بين السينما السائدة والسينما البديلة أو الموازية  يكمن فى نظام النجوم الذى تجاوزنه تماما ماجى مورجان فى فيلمها الروائى الطويل الأول " عشم" معتمدة على حوالى عشرين من الممثلين والممثلات من غير صفوف النجوم، البعض له تجارب سابقة قليلة فى الدراما التلفزيونية أو على المسرح والبعض الآخر يمثل للمرة الأولى- على حد علمى- كما نهى الخولي في دور نادية. نجحت ماجى فى قيادتها لممثليها فأدوا جميعا أداء جيدا، وتخطى بعضهم الإجادة إلى التميز وأهمهم نجلاء يونس فى دور رضا، وشادى حبشى فى دور عشم، ومنى الشيمى فى دور ابتسام. وهم رضا عاملة نظافة فى حمام سيدات بمول كبير، عشم مروج دعائى ثم عامل أسانسير، ابتسام تومرجية ترقت لتصبح ممرضة وتحقق حلمها بالحصول على بطاقة بها وظيفة ممرضة. حملت المخرجة وهى أيضا الكاتبة  أسماء نماذجها الإنسانية بما يعبر عنهم مما سهل وصول رسالتها إلى المتلقى، والأسماء الثلاثة عشم ورضا وابتسام هى سلاح المهمشين لمواجهة الحياة ولصعود سلم الترقى المشروع دون أحقاد طبقية بل بتمنى مشفوع بابتسامة الرضا. قدمت ماجى حلولا إخراجية غير تقليدية أبعدت مواقف – قد تبدو مألوفة- عن التنميط، أتوقف عند مشهد يقوم فيه
سيف الأسواني في دور شريف بفك الارتباط مع والد خطيبته، سلمى سالم في دور داليا. والأهم أن تطوير المشاهد أبعدتها عن المسار التقليدى المتوقع وخاصة فى علاقة د. شريف بابتسام، تقليديا هناك حلم طبقى بين الممرضة والطبيب أوحت به محاولات ابتسام للاقتراب ولكن قصتهما سارت فى مسار آخر لتصبح فقط استفادتها من توصيته للحصول على وظيفة ممرضة واستفادتها منها لترعى والدته المريضة أثناء سفره، اتفاق المصالح لم يتم بشكل انتهازى من أى طرف، ولكنه تم بتوافق وكأن المخرجة تريد أن تؤكد على ضرورة التعايش بين الطبقات لصالح الجميع. اسناد ماجى دور الجار عادل لمحمد خان ودور أم عطية لسهام عبد السلام أكد على تفرد فيلمها واختلافه عن السينما التقليدية التى تستعين بنجوم ثابتين يتم تنميطهم للقيام بأدوار مساعدة تنبه المشاهد أنه يشاهد فيلما ككل الأفلام،  اختيارات ماجى تعيد الشخصيات إلى مشابهاتها فى الواقع وليس لأنماطها فى السينما السائدة. كما تساوى فى الأهمية بينهم وبين الشباب بحيث لا يصبح هناك أدوار أولى أو أدوار ثانية. عادل محمد خان وأم عطية سهام عبد السلام  ونادية نهى الخولى وعماد محمود اللوزى مكسب للسينما المصرية أخشى عليهم من الانتشار فى أفلام السينما وفى الدراما التقليدية . لا يوجد في " عشم" أدوار هامشية سنيدة، كل الأدوار مهمة، لم تحققه بتعسف، وأتصور أنها تلقت فهما واعيا ممن قاموا بالأدوار الثمانية عشر للفيلم من مثقفين وفنانين واعين يدركون أنهم يشاركون فى عمل مختلف تطلب منهم ارتجال حوارهم أو التعبير عنه طبقا لما يرونه ملائما للدور، والدعم الهام من المخرج المونتير أحمد عبد الله الذى أنجز مهمة شاقة لربط القصص العديدة والمنفصلة فعليا فيحقق مع ماجى سردا متوافقا غير معتمد على انتقالات حادة ومتلاشيا تماما المزج – وحسنا فعل- الذى يلجأ إليه بعض المونتيرين للتغلب على مشكلة قد تبدو فى صعوبة القطع. القطع سيد الانتقالات، حكمة يدركها المونتير القدير ويعمل بها. أحمد عبد الله فى "عشم" يقف فى مصاف نجوم كبار فن المونتاج الأساتذة عادل منير وأحمد متولى.   
سينما مصرية جديدة تتشكل ملامحها، وتكون نجومها فى التصوير والمونتاج وفنون الصوت وهندسة المناظر، تثور على قواعد الإنتاج وشروط السوق، لتتواصل صناعة السينما المصرية مستوعبة جيشا من المواهب الجديدة، شيوخا وشبابا يقاومون محاولات البطش بقوة مصر الناعمة فى الفنون وعلى رأسها فن السينما الذى يجدد شبابه هذا العام مع المخرجات هالة لطفى ونادين خان وماجى مورجان. يرصد موقع السينما العربية  إيرادات هزيلة جدا للفيلمين من عرضهما الأول بالقاهرة، وهو تقدير غير منصف لأن ما يحققه الفيلم من دخل يضاف إليه حقوق التوزيع فى الخارج وفى القنوات الفضائية العديدة، وأتصور أن مقوله أنه لا يوجد فيلم خاسر هى مقولة حقيقية تنطبق على أفلام خاصة كهذه يعاد اكتشافها يوما بعد يوم.
مضى فقط نصف العام وظهرت أفلام يصر أصحابها على السباحة ضد التيار واثقين أنهم فى النهاية سيصلون إلى هدفهم وقد عبروا عن ذواتهم وعن نماذج من المصريين عاشوا فى ظروف صعبة ولكنهم فضلوا البقاء ولم يهاجروا بل تحملوا، متعشمين فى يوم يحققون فيه سلامهم النفسى.

الأفلام الثلاث، الشتا اللى فات، وهرج ومرج، وعشم، مصورة بكاميرا الديجيتال ثم منقولة على شريط السينما لتعرض على الجمهور وتحافظ على جودتها. طريقا اختاره صناعها حتى لا يقدموا تنازلات لمنتج تقليدى لا يهدف إلا للربح، مهما طالته سهام النقد وهجوم الصحفيين والنقاد.

يأتى فيلم " توم وجيمى" يستكمل فيه أكرم فريد أفلامه الخفيفة مستمرا فى طريق تجاهل موهبته التى أبداها فى أعماله القصيرة، منتحرا فى السوق، فلا هو حقق سمعة كبيرة كمخرج فى السينما السائدة، ولا حاول أن يقدم عملا منتظرا منه كموهوب درس بالمعهد العالى للسينما ويدرس لطلاب أيضا. هذا اختياره ومادام لا يشكو فعلينا أن نتركه فى حاله أو نحاول نسيان المخرج الذى كان، قانعين بأنها ليست مشكلته وحده بل هى مسئولية سببها سوء التعليم وانعدام الثقافة الراقية حيث لا يؤهل المشاهدين لتلقى أعمال تتطلب انتباها ومشاركة فى حل شفرتها.

حصاد أراه فى مجموعه جيدا رغم تباكى الصحافة والصراخ على قلة الإيرادات، ظهور موهبيتين جديدتين وهما المخرجة نادين خان والمخرجة ماجى مرجان لتنضمان إلى كتيبة مخرجى السينما البديلة الذين يقاتلون ضد آليات السوق، أحمد عبد الله ، ابراهيم بطوط ، وقبلهما من حاولوا التكيق وإحداث التوازن مثل هالة خليل وسعد هنداوى، ومع المبدعين نرصد مواهب جيدة فى النقد السينمائى يتعاملون بحرفية ومتابعة محترمة لكل ما يظهر على الساحة من أفلام سائدة أو بديلة، أتابع باهتمام جهد الناقد محمود عبد الشكور والناقد رامى عبد الرازق، فى متابعات جادة للسينما المصرية فى مشوارها المستمر، منضمان أيضا إلى نقاد أعطوا للنقد السينمائى مهنيته واحترامه، ينضم محمود عبد الشكور ورامى عبد الرازق إلى جيل وسط تابع واهتم وأشار على المواهب المضيئة للسينمائيين المصريين، عصام زكريا، طارق الشناوى، د. وليد سيف. لتستمر مسيرة النقد السينمائى المتخصص الذى ترسخ مع سامى السلامونى وسمير فريد، مع على أبوشادى وكمال رمزى، مع أحمد يوسف الذى يتفوق على الجميع فى الاستمرار الدؤوب فى المتابعة والتحليل.

صناعة السينما مستمرة فى مصر كما ثورة شعبها، بين الإخفاقات والنجاحات ، بتواجد أكبر فى المهرجانات والمحافل الدولية، بالقدرة على الاستمرار رغم مناخ التراجع الثقافى وكل معوقات خروج الأسر لدور العرض للمتعة عابرين زحاما للسير، واختلاف القيم. صناعة السينما مستمرة يرصد هذا المقال تواجدها فى دور العرض فقط، دون التوقف عند الأعمال القصيرة والتسجيلية والمشاركة فى المهرجانات الدولية ولها حديث آخر نستكمل فيه الصورة عن السينما فى عام شهد أحداثا جسام ، من ثورة شعبية لملايين المصريين الذين ثاروا تمسكا بحلمهم فى تغيير حياتهم إلى الأفضل.



نشر بمجلة " الفنون " الفصلية التى تصدر عن اتحاد النقابات الفنية

العدد 108 –خريف 2013 شتاء 2014   

رئيس التحرير: عبد الجليل الشرنوبى

   




Wednesday 12 March 2014

أريج: رائحة الثورة


شوارع فيولا شفيق الخلفية لثورة 25 يناير
 
منذ اللحظة الأولى تشركنا الباحثة فيولا شفيق فى حيرتها لعمل الفيلم الذى بدأ معها بتتبع مجهود لرجلين من الأقصر أحدهما جامع للمقتنيات والصور القديمة، والثانى جامع لوثائق دفاعا عن حقوق الإنسان، تدرك فيولا أنه لا توجد علاقة مباشرة بين ما تصوره وما ذهبت لتتبعه وبين ثورة 25 يناير، قادتها حيرتها لمقابلة الأديب علاء الديب صاحب رواية زهر الليمون التى تقرأ فيها تفاصيل تحدث الآن فى مصر، فرانسيس راهب محارب، وصفوت سمعان مسيحيان مصريان من الصعيد ومثقف ثورى قاهرى، ينقصها شخص صاحب ثقافة إسلامية ليكتمل نسيج الفيلم، وجدت فيولا ضالتها مع عواطف  محمد مصممة برامج كومبيوتر، التى صممت برنامج "حياة تانية" فى العالم الافتراضى على شبكة تواصل اجتماعى من خلال عملها فى مؤسسة مدى. تبدو النماذج الأربعة بلا رابط مباشر يربطها إلا فى ذهن المخرجة التى ترى أن إهمال التاريخ، وغباء التعامل مع التراث، أسباب هامة للثورة على الانحدار الذى تشهده مصر من هدم للفيلات، وتناقص المساحات الخضراء وانعدام العدالة، يتساءل الأديب علاء الديب، كيف تبنى مجتمعا اشتراكيا بعد القضاء على اليسار، وكيف تحبس الإخوان فتزيدهم شراسة، العصف بالمعارضين من اليمين واليسار، مثل غباء لا يقل عن غباء اللواء سمير فرج الذى حول الأقصر لساحة حرب لكى يكشف طريق الكباش فى شهور بدلا من السنوات العشرين التى حددتها اليونسكو. أثر مصمم المناظر وفنان الديكور أنسى أبوسيف يلقى بظلاله على الفيلم ليس فقط فى الأماكن البديعة التى صورتها فيولا ولكن أيضا فى وجهة نظر فنان مهتم بالمصريات منذ عمله فى فريق شادى عبد السلام وجهة النظر الرافضة لما قام به محافظ الأقصر فى عهد مبارك اللواء سمير فرج للقضاء على القرنة القديمة ومهزلة بناء مساكن بديلة آلية للسقوط يخشى ساكنيها أن تنهار عليهم فى أى وقت. الانهيار المحسوس للمبانى، انعدام العدالة فى دفع التعويضات، إفراغ المدينة من سكانها عبر قرارات غبية لتحقيق المشروع على جثث البشر ، يقول محارب أن اللواء حول المنطقة إلى ساحة حرب مثل غزة، شهادة على واقع مرير يقاومه صفوت سمعان بتوثيقه لجرائم تتم باسم التحديث، ونجد نوع آخر من المقاومة  يقوم به محارب باقتناء بقايا الهدم والبيع من نوافذ وبلاطات القصور والمبانى القديمة الرائعة المهدمة، وتكون المقاومة عبر الكتابة فى روايات علاء الديب القصيرة والمقاومة بالهرب إلى الواقع الافتراضى الذى تقوم به عواطف وصديقتها فاطمة 25 يناير. يحتل محارب وسمعان بداية الفيلم حتى 20 دقيقة وبعد فاصل جمالى لمعمار بالمعادى نتعرف على علاء الديب الذى حملت له فيولا نسخة من رواية زهر الليمون ليتذكر. وحتى الدقيقة الخمسين نبقى مع الديب ومع عواطف وننسى تماما الأقصر ونخبتها المثقفة، يستهوينى اللقاء مع علاء الديب مما جعلنى أتساءل ولماذا لم تقدم فيولا عنه فيلما منفصلا، وعندما يصل بحديثه عن الخضرة التى نعم بها صغيرا واختفت الآن ننتقل مع عواطف وحلمها بالعيش فى جزيرة خضراء محاطة بالمياه، والربط مع رأى علاء الديب فى تغير منطقة المعادى وهدم فيلات بها ينقلنا إلى محارب الذى تمكن من إنقاذ مجموعة نيجاتيف لصور ألقيت فى منور فيلا تم بيعها وهدمت، فى الصور جانب هام من تاريخ مصر مع يسى باشا ونصل إلى  سعد زغلول. علاء الديب يحكى تجربته مع ثورة 1952 ، حتى نصل إلى هزيمة 1967 التى تورد فيولا وثيقة لها ويعلق الديب، الانفتاح كان أكثر غلظة من الهزيمة، فتدمير قيمة العمل والكفاءة واتباع سياسة الانفتاح كانت موازية للنكسة فى ثقلها على النفس. تقطع فيولا على مشهد لزوجة الديب تعد قهوة ونلمح بصعوبة أنها للضيف أنسى أبو سيف شريك حياة المخرجة وشريكها فى اختيار مواقع تصوير الفيلم، فيولا ليست متعجلة لا تلقى فى المونتاج بلحظات قد يراها غيرها معطلة للسرد. يغلق أنسى نافذة يأتى منها برد، ونشاهد علاء وقد بدل ملابسه، نشعر أن وقتا مر وااللقاء مستمر ليتفرع لحكى مأساة شخصية حول مرضه وعجزه عن سداد نفقات المستشفى لدرجة الحكم عليه بالسجن. ومن الشخصى إلى العام مع لقطات نادرة للثورة التى تحدث بينما فيولا تصور فيلمها ومشغولة بهمها.

أن يحتوى فيلم تسجيلى على فقرات متعددة ليس اختراعا ولا غريبا، المهم هل نجح المخرج فى الربط بينها وإيصال فكرة واحدة متسقة تجمعها معا. أتصور أن فيولا نجحت فى جمعها لأمثلة عن الانهيار الذى سببته أنظمة غبية يرصدها الفيلم بداية من الانفتاح الذى أتى به السادات وتعاظم ضرره مع مبارك المنحاز للرأسمالية الغبية الفاقدة لأى حس وطنى أو حضارى. وهى لا تفترض علمنا بما تسوقه من أحداث، بل تضيفها إلى الفيلم مصحوبة بكتابة توضح المكان والزمان، تؤجل هذا التلخيص بعدما تكون قد تركت العنان لشخصياتها للتعبير عن شجونها، بادئة بإدخالنا معهم لنتشمم الأريج العطر لمظاهر الثورة ثم نتعرف على الثائر الذى يقاوم العفن، ثم تعرض العفن أو التجاوز أو الممارسة المرفوضة، سواء كانت قطع أشجار، العبث بالآثار، العصف بالثوار وقتل المعارضين فى حوادث معروفة لنا تورد مقاطع منها بمستوى ممتاز من جودة الصورة.

حين تعود إلى الأقصر مع صفوت سمعان تفصح عن توجهه المسيحى للمرة الأولى عبر حركة كاميرا من أيقونة للمسيح حتى مجلسه على جهازه الشخصى وصور ما يوثقه من أحداث ضد أقباط مصر، سمعان يرفض تسميته بناشط قبطى، فالحقوق لا تتجزأ كما يقول، ويعرض علينا أكثر من مشهد نراه معه ثم ينتهى الفيلم برحلة معه إلى أسرة مسيحية تحتفل بشهيدها، يقول طفل " بتوع النصارى قتلوا خالى، ذبحوه بالسكين" أفهم أنه يقصد السلفيين الذين يصرون على تسمية مسيحى مصر بلفظ النصارى الذى لا يحبونه. ولكن طفل أكبر منه يقول له المسلمون هم من قتلوه. قبل المشهد تعود فيولا للتعليق بعد اختفائه لفترة وتذكر أنها تخشى العودة إلى هناك. فيولا أيضا مسيحية لأب مصرى وأم ألمانية وفى دفاعها عن الحقوق لا تفرق بين حق المسيحى والمسلم فى العيش فى حرية وفى نظام تسوده العدالة والمحبة.     

الفيلم فى 90 ق مصور بكاميرا ديجيتال عالية الجودة، المصور طلال التقط لمحات جمالية متميزة ، نوعت المخرجة فى أحجام لقطاتها بعناية مخرج روائى تشغله جماليات الصورة، بين اللقطة الواسعة للمنظر كاشفة جمالا يجمع النهر والأثر والبشر، متدرجة فى أحجام اللقطات حتى اللقطة القريبة جدا التى تنقل لنا وجع الشخصيات وأسفها على ما حدث ويحدث مع الشخصيات الثلاثة الديب ومحارب وسمعان، ومعبرة عن فرحة عواطف العائشة فى عام افتراضى تحلم بمشاركة فى الثورة وفى العيش فى مكان جميل. المونتيرة نقلت إيقاع المخرجة الباحثة التى تتمهل مع تفاصيل تعرضها شخصياتها فلا تستعجلهم للدخول مثلا فى الموضوع، وكيف وهى نفسها تبحث معهم عن حقيقة الأمر.

فيولا شفيق تتبع المنهج البحثى فى أغلب أفلامها، لا تبدأ باستناتج مسبق، بل بفرضية تسعى لسبر غورها والإفصاح عن حقيقتها، هل مظاهر الإهمال والظلم الممتد لسنوات مابعد ناصر– وفى عصره بدرجة ما- هى السبب فى قيام ثورة 25 يناير غير القابلة لإجهاض كما يقول علاء الديب الذى يربط الفيلم بتعليقه كمثقف ثورى يمكنه شرح ما يحدث فارضا رؤيته التى تبنتها المخرجة .   
فيولا شفيق مخرجة مستقلة،
تدير ورشة للسينما التسحيلية فى الشرق الأوسط، لها عدة مؤلفات سينمائية منها، السينما العربية: التاريخ والهوية الثقافية، 1998 وشعبية السينما المصرية: الجنس والطبقة والأمة، كما تقوم بالتدريس فى جامعة زوريخ فى سويسرا، وقد عملت كمستشار عن المهرجانات السينمائية الدولية ومبادرات التدريب، وعلى الأخص فى بينالي فينيسيا، وملتقى دبي السينمائي ، وهي عضو في لجنة اختيار صندوق السينما العالمية ببرلين، أخرجت العديد من الأفلام الوثائقية، منها "شجرة الليمون (1993)، رحلة الملكة تى (2003)، و" جنة علي" (2011) وأريج  رائحة الثورة ((2014.

 

Saturday 8 March 2014

فيلم العمر: المراهقات



حين كان الحديث عن المراهقات
 لا يؤدى إلى المحاكم*
عشت طفولتي في مدينة صغيرة بمحافظة المنوفية في دلتا مصر تسمى " قويسنا "، كانت لنا رحلتان لمدينة طنطا واحدة لشراء ملابس العيد والأخرى لشراء متطلبات المدارس، كنا أربعة أخوة بنات وشاب واحد وكانت أمي ربة البيت المتعلمة تصحب بنتين منا في كل رحلة ، قبل إحدى هذه السفريات مرت سيارة نصف نقل تجوب البنادر والقرى لتعلن عن الفيلم الاجتماعي الجبار " المراهقات ".

الاسم وتأثير كلمات الرجل الدعائية أبقتنا على نار نحن البنات الأربع، حتى كان الدور علي أنا وأختي التي تكبرني بخمسة أعوام " وفاء "، بقينا في شوق حتى جاء موعد الرحلة واستقلينا القطار إلى طنطا وبدأنا طقوس الرحلة بتناول طعام الإفطار من الفول والطعمية الرائعة من مطعم  " أبو سنة ". ثم تجولنا للشراء بعده اشترينا ساندوتشات الكفتة من أشهر كبابجي في الدلتا.  في مسجد " السيد البدوي " باب جانبي يؤدي إلى استراحة للنساء تناولنا فيها الطعام وأنا أرتجف من الخوف من سيدة تعاني من مرض نفسي يجعلها  تعيش في منطقة حمام السيدات بالمسجد عارية تماما ولا تكف عن  التحدث لنفسها ، لم تكن تؤذي أحدا ولكني وقتها كنت أخاف من خيالي . تنهي أمي صلاتها ودعواتها ودون أن نطلب منها - وإن كنا نتمنى- وجدناها تأخذنا إلى سينما " أمير " بطنطا لنشاهد فيلم المراهقات، لم تدخل معنا الصالة بل جلست في حجرة المدير الذي استقبلها باحترام شديد دون سابق معرفة، وبقينا ساعتين من ساعات العمر التي لا تنسى مع ماجدة و" جدو" حسين رياض وفتى أحلام نصف فتيات مصر "رشدي أباظة " . كنت طفلة على أعتاب البلوغ ولكني لا أعتقد أنه قد فاتني شيء أفهمه فالأفلام في ذلك الوقت كانت بسيطة تتعامل مع العواطف ، تعيد وتزيد في توضيح المغزى منها ، ما أذكره أنني لسنوات لم يفارقني المشهد الذي جرى على سلم البيت والأخ يضرب أخته المراهقة ماجدة بالصفعات على الوجه والجد يبكي ونحن لم تتوقف دموعنا . يقطع الذكرى مشهد الطائرة التي تحوم وماجدة في نافذتها تتطلع إلى السماء ، وبعد عدة سنوات ومع دخول التلفزيون البيوت لم أشعر لحظة بالملل من تكرار مشاهدة " المراهقات " و ظل ابتسامة ترتسم على وجهي ولا تفارقه طوال مشاهدة الفيلم فأتذكر وفاء التي كانت أكثر تأثرا بالفيلم مني لأنه يعبر عن سنها. وتعود دموعي للانهمار، لم أكن أبكي الفيلم ولكني أبكي أمي التي ربتنا على الحرية ولم تفرض علينا ما فرضته على نفسها من مقاطعة السينما وكل أصناف اللهو بل سعت لكي لا نحرم من أمر تهفو إليه نفوسنا، وكانت تكمل بناء وجدانا المتخم بنزهات الوالد على ترعة " قويسنا "، وهو يوضح لنا كل ما نمر به من شجر وطير معتمدا في شرحه على آيات القرآن عن الطير والأرض والجبال، معلمنا الصبر بالسير حتى نجد الكوبري فلا نخوض بأرجلنا في مياه الترعة التي كثيرا ما تكون ضحلة، يتركنا تحت ظل شجرة أو في مقام الولي " الشيخ رمضان " حتى يزور صديقه الحاج صابر زيارة قصيرة يشرب معه القهوة ولا يطيل، متحججا ببناته اللاتي تركهن لدى الولي .

" المراهقات " أول فيلم أشاهده في دار عرض كبيرة مغلقة، استمر كنموذج لما يجب أن تكون عليه الأفلام معبرا عما لخصته أمي من " اتنين بيحبوا بعض، تحدث بعض المشاكل ثم يتزوجان ويعيشان في تبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات ".

" المراهقات " مشبع  بالأحداث الدامية التي تخاطب القلوب، المبالغات في كلا الطرفين، الخير والشر، النهاية الفاجعة للبطلة الثانية والنهاية السعيدة للبطلة الأولى، عالم المراهقات الذي كنت على أتعابه، النموذج المحافظ والمتحررات، التي أحبت بشكل كامل – فرطت في نفسها بمفاهيم تلك الفترة – والتي أحبت حبا رومانسيا ومزقت قلوبنا، نموذج فتى الأحلام الوسيم الناجح في عمله، صاحب الخبرة مع النساء الذي اختار البراءة " ندي " وهو يردد: " دي حاجة ثانية خالص غير كل الستات اللي عرفتهن " كم كانت ترضينا هذه العبارة ونحن بالطبع نعتقد في أنفسنا أننا " حاجة ثانية غير الستات اللي الرجالة بتعرفهم ".
عذراء الشاشة العربية
 في  الفيلم الاجتماعي الكبير" المراهقات "
بعد أقل من عام سيمر" عنتر" يدق طبلته معلنا عن فيلم " المراهقات "، ملصقه موضوع على مثلث خشبي كبير فوق عربة يجرها حمار. عنتر من الغجر، يقدم أحيانا عرضا راقصا قبل أن يقوم بدور المذيع . جلبابه الأبيض الناصع محط إعجاب أمي التي تحترم من يهتمون بنظافتهم، يتوقف بعد فاصل من دقات الطبل ويعلن: " سينما النصر بقويسنا تقدم لكم باكر الخميس، عذراء الشاشة العربية ماجدة في الفيلم الاجتماعي الكبير" المراهقات "، بطولة فتى الشاشة الأول " رشدي أباظة " ومجموعة من ألمع النجوم في أقوى وأروع فيلم عرفته الشاشة المصرية حتى الآن، حسين رياض، دولت أبيض، زيزي مصطفى، جلال عيسى وعدلي كاسب ".

نصرخ من الفرح نحن البنات الأربع فها هي الفرصة سانحة لنحضر الفيلم معا " تحية ووفاء وصفاء وبهية "، نحايل أمنا التي لا توافق على الفور ويكون علينا أن نظهر كل فروض الطاعة وسماع الكلام حتى يأتي موعد العمر، قبل الموعد بعدة ساعات أتحرك أنا وأختي الصغرى " باهي / بهية " بالقرب من " السينما " التي بدأت في إذاعة أغنية " يا مصطفى ، يا مصطفى، أنا بحبك يا مصطفى " قبل العرض بساعتين على الأقل ونتأكد بأعيننا من أن الفيلم المذكور سيعرض الليلة. كان يوم الخميس اليوم المخصص للأفلام الاجتماعية التي تجذب الأسر ويوم الاثنين لأفلام المغامرات وأفلام " إسماعيل يس " الكوميدية . سينما النصر بقويسنا كانت دار عرض صيفية تغلق في الشتاء، ويتم الإعلان عن وجود " أماكن خاصة للسيدات " فتطمئن الأسر وترسل بناتها لمشاهدة الأفلام. والمكان المخصص للنساء كان عبارة عن شرفة كبيرة " البلكون " بينما يجلس الرجال في " الترسو" المواجه للشاشة على مقاعد " دكك " خشبية طويلة، يليها صفوف من الكراسي للصالة وخلفهم عدد من الحجرات المميزة " لوج " اعتاد أخي الجلوس فيها مع أصدقائه الصبيان، كانت تذكرة البلكون بثلاثة قروش والصالة بقرشين والترسو قرش ونصف، أما تذكرة " اللوج " فكانت خمسة قروش كاملة. مركز قويسنا كان يتبعه عدد من القرى والنجوع ودار سينما " النصر " تخدم مجموعة القرى بعروضها المتنوعة بين الكوميدي والأكشن وأفلامنا الاجتماعية لفاتن وشادية وصباح وماجدة وهند رستم .

مولد الكهرباء يعمل قبل العرض بمدة كافية – لم تكن الكهرباء قد دخلت المدن الصغيرة بعد – وصوت ماكينة العرض وأسطوانة " يا مصطفى .. أنا بحبك يا مصطفى " كانت أكثر إمتاعا لي من مشاهدة الفيلم نفسه ،. أحيانا كان عامل العرض يجعلنا ندخل الكابينة ونبحلق في الصور الصغيرة التي يتكون منها شريط الفيلم، نتابع شريط الضوء الذي يحول الصور الصغيرة لصور تتراقص على الشاشة في سينما النصر بقويسنا.

عامل العرض الذي كان مجرد كهربائي، تحول إلى فني عرض ممتاز، له نظام ثابت لا يتغير فقبل الإظلام مباشرة تدور موسيقى " فتافيت السكر" لمحمد فوزي لتمهد الجميع ويسود الصمت انتظارا للحظة الساحرة التي تتحرك فيها الصور على الحائط الأبيض المحاط بإطار أسود سميك.

مع المشاهدة الثانية لفيلم " المراهقات " تعلقت أكثر بدور صفية الذي أدته " زيزي مصطفى " التي تزوجت عرفيا من ابن زوج أمها " جلال عيسى ". مثل لنا " عدلي كاسب " زوج الأم السكير القاسي النموذج المطلق للشر، كرهناه بقدر ما كرهنا " طارق " الأخ الأكبر لبطلتنا " ندى " ماجدة الصباحي التي عاشت أسرتها في قويسنا في بيت محاط بحديقة صغيرة وأحيانا تسرى شائعة عن وجود النجمة " ماجدة " في البلدة ، لن يمضي وقت طويل حتى نندمج تماما مع الفيلم ونبكي بحرقة بطلتينا، تربت علينا مرافقتنا " شربات "الريفية الجميلة صديقة العائلة التي تثق أمي في رعايتها لنا أثناء حضور العروض. " شربات " جميلة جمالا غير عادي ، قامتها رشيقة يؤكدها جلبابها الفلاحي ، شعرها الكستنائي الناعم الطويل  تشكل ضفائره دائرة كاملة عندما تجلس على الأرض مربعة ساقيها ، في جلسة تشبه تصاوير الفراعنة . شربات تشاركنا البكاء ثم تضحك على نفسها " والنبي دا كله تمثيل في تمثيل ، معقولة يحصل كل ده ! " ثم تعود وتبكي في حرقة، شربات كانت يتيمة الأبوين وكانت أمى تعطف عليها وتحبها. المكان المخصص للسيدات تتصاعد منه شهقات الدموع وسط صمت الغالبية من الفتيات والنساء في نحيب صامت، الكل يبكي ولن نعود باكين فالنهاية السعيدة ومتعة المشاهدة الكاملة مع الفيلم وقبله مقدمة تعرض الفيلم القادم ، وأحيانا جريدة مصر الناطقة التي نشاهد فيها حبيبنا " جمال عبد الناصر "، وصوت التعليق الحماسي المميز للفترة . وجبة دسمة من المتعة والمعرفة تملأنا بفرحة ممزوجة بالقلق ونحن عائدات بقلوب تقفز خوفا من غضب أمي لأننا تأخرنا ونحن نتسكع في طريق العودة يقاطع بعضنا بعضا وكل منا يحكي مشهدا أعجبه أو يعيد جملة حوار أثرت فينا.

أربعون عاما مضت، والآن ارتفعت بناية كبيرة نوعا مكان " سينما النصر بقويسنا " وأهملت " سينما " أمير " بطنطا ، ولم يفكر أحد في تجديدها. لم يعد الذهاب إلى السينما من تقاليد الأسر المصرية وأصبح أي فيلم يناقش قضايانا الهامة مثل " المراهقات " عملة نادرة ، وإن وجد تعرض صانعوه لهجوم  يصل أحيانا إلى ساحة المحاكم. لم نكن نغطي شعورنا بهذا الغطاء السخيف المسمى بالحجاب وكانت أمهاتنا تضع غلالة رقيقة من " الشيفون " الأسود فقط احتراما لسنهن، بينما نقص نحن شعرنا قصة " شادية " أو نتركه في تموجات مثل " ماجدة ".

القاهرة 9/10 /2002                                                          صفاء الليثى

·        نشر بمجلة سينما التى كانت تصدر من باريس لصاحبها قصى درويش. ورئيس التحرير وهو الذى اختار العنوان من المقال الذى كان يلمح للقضية التى رفعت على المخرجة إيناس الدغيدى بعد فيلمها " مذكرات مراهقة" بطولة هند صبرى وأحمد عز. 

ماجدة الصباحى نجمة ومنتجة لأفلام ساندت المرأة وتناولت مشاكلها وخاصة فى فيلمى " أين عمرى" والمراهقات(1962) للمخرج أحمد ضياء الدين. لم تأخد حقها ولم تكرم التكريم الذى يليق بدورها فى السينما المصرية ودعما للنساء.