Wednesday 12 March 2014

أريج: رائحة الثورة


شوارع فيولا شفيق الخلفية لثورة 25 يناير
 
منذ اللحظة الأولى تشركنا الباحثة فيولا شفيق فى حيرتها لعمل الفيلم الذى بدأ معها بتتبع مجهود لرجلين من الأقصر أحدهما جامع للمقتنيات والصور القديمة، والثانى جامع لوثائق دفاعا عن حقوق الإنسان، تدرك فيولا أنه لا توجد علاقة مباشرة بين ما تصوره وما ذهبت لتتبعه وبين ثورة 25 يناير، قادتها حيرتها لمقابلة الأديب علاء الديب صاحب رواية زهر الليمون التى تقرأ فيها تفاصيل تحدث الآن فى مصر، فرانسيس راهب محارب، وصفوت سمعان مسيحيان مصريان من الصعيد ومثقف ثورى قاهرى، ينقصها شخص صاحب ثقافة إسلامية ليكتمل نسيج الفيلم، وجدت فيولا ضالتها مع عواطف  محمد مصممة برامج كومبيوتر، التى صممت برنامج "حياة تانية" فى العالم الافتراضى على شبكة تواصل اجتماعى من خلال عملها فى مؤسسة مدى. تبدو النماذج الأربعة بلا رابط مباشر يربطها إلا فى ذهن المخرجة التى ترى أن إهمال التاريخ، وغباء التعامل مع التراث، أسباب هامة للثورة على الانحدار الذى تشهده مصر من هدم للفيلات، وتناقص المساحات الخضراء وانعدام العدالة، يتساءل الأديب علاء الديب، كيف تبنى مجتمعا اشتراكيا بعد القضاء على اليسار، وكيف تحبس الإخوان فتزيدهم شراسة، العصف بالمعارضين من اليمين واليسار، مثل غباء لا يقل عن غباء اللواء سمير فرج الذى حول الأقصر لساحة حرب لكى يكشف طريق الكباش فى شهور بدلا من السنوات العشرين التى حددتها اليونسكو. أثر مصمم المناظر وفنان الديكور أنسى أبوسيف يلقى بظلاله على الفيلم ليس فقط فى الأماكن البديعة التى صورتها فيولا ولكن أيضا فى وجهة نظر فنان مهتم بالمصريات منذ عمله فى فريق شادى عبد السلام وجهة النظر الرافضة لما قام به محافظ الأقصر فى عهد مبارك اللواء سمير فرج للقضاء على القرنة القديمة ومهزلة بناء مساكن بديلة آلية للسقوط يخشى ساكنيها أن تنهار عليهم فى أى وقت. الانهيار المحسوس للمبانى، انعدام العدالة فى دفع التعويضات، إفراغ المدينة من سكانها عبر قرارات غبية لتحقيق المشروع على جثث البشر ، يقول محارب أن اللواء حول المنطقة إلى ساحة حرب مثل غزة، شهادة على واقع مرير يقاومه صفوت سمعان بتوثيقه لجرائم تتم باسم التحديث، ونجد نوع آخر من المقاومة  يقوم به محارب باقتناء بقايا الهدم والبيع من نوافذ وبلاطات القصور والمبانى القديمة الرائعة المهدمة، وتكون المقاومة عبر الكتابة فى روايات علاء الديب القصيرة والمقاومة بالهرب إلى الواقع الافتراضى الذى تقوم به عواطف وصديقتها فاطمة 25 يناير. يحتل محارب وسمعان بداية الفيلم حتى 20 دقيقة وبعد فاصل جمالى لمعمار بالمعادى نتعرف على علاء الديب الذى حملت له فيولا نسخة من رواية زهر الليمون ليتذكر. وحتى الدقيقة الخمسين نبقى مع الديب ومع عواطف وننسى تماما الأقصر ونخبتها المثقفة، يستهوينى اللقاء مع علاء الديب مما جعلنى أتساءل ولماذا لم تقدم فيولا عنه فيلما منفصلا، وعندما يصل بحديثه عن الخضرة التى نعم بها صغيرا واختفت الآن ننتقل مع عواطف وحلمها بالعيش فى جزيرة خضراء محاطة بالمياه، والربط مع رأى علاء الديب فى تغير منطقة المعادى وهدم فيلات بها ينقلنا إلى محارب الذى تمكن من إنقاذ مجموعة نيجاتيف لصور ألقيت فى منور فيلا تم بيعها وهدمت، فى الصور جانب هام من تاريخ مصر مع يسى باشا ونصل إلى  سعد زغلول. علاء الديب يحكى تجربته مع ثورة 1952 ، حتى نصل إلى هزيمة 1967 التى تورد فيولا وثيقة لها ويعلق الديب، الانفتاح كان أكثر غلظة من الهزيمة، فتدمير قيمة العمل والكفاءة واتباع سياسة الانفتاح كانت موازية للنكسة فى ثقلها على النفس. تقطع فيولا على مشهد لزوجة الديب تعد قهوة ونلمح بصعوبة أنها للضيف أنسى أبو سيف شريك حياة المخرجة وشريكها فى اختيار مواقع تصوير الفيلم، فيولا ليست متعجلة لا تلقى فى المونتاج بلحظات قد يراها غيرها معطلة للسرد. يغلق أنسى نافذة يأتى منها برد، ونشاهد علاء وقد بدل ملابسه، نشعر أن وقتا مر وااللقاء مستمر ليتفرع لحكى مأساة شخصية حول مرضه وعجزه عن سداد نفقات المستشفى لدرجة الحكم عليه بالسجن. ومن الشخصى إلى العام مع لقطات نادرة للثورة التى تحدث بينما فيولا تصور فيلمها ومشغولة بهمها.

أن يحتوى فيلم تسجيلى على فقرات متعددة ليس اختراعا ولا غريبا، المهم هل نجح المخرج فى الربط بينها وإيصال فكرة واحدة متسقة تجمعها معا. أتصور أن فيولا نجحت فى جمعها لأمثلة عن الانهيار الذى سببته أنظمة غبية يرصدها الفيلم بداية من الانفتاح الذى أتى به السادات وتعاظم ضرره مع مبارك المنحاز للرأسمالية الغبية الفاقدة لأى حس وطنى أو حضارى. وهى لا تفترض علمنا بما تسوقه من أحداث، بل تضيفها إلى الفيلم مصحوبة بكتابة توضح المكان والزمان، تؤجل هذا التلخيص بعدما تكون قد تركت العنان لشخصياتها للتعبير عن شجونها، بادئة بإدخالنا معهم لنتشمم الأريج العطر لمظاهر الثورة ثم نتعرف على الثائر الذى يقاوم العفن، ثم تعرض العفن أو التجاوز أو الممارسة المرفوضة، سواء كانت قطع أشجار، العبث بالآثار، العصف بالثوار وقتل المعارضين فى حوادث معروفة لنا تورد مقاطع منها بمستوى ممتاز من جودة الصورة.

حين تعود إلى الأقصر مع صفوت سمعان تفصح عن توجهه المسيحى للمرة الأولى عبر حركة كاميرا من أيقونة للمسيح حتى مجلسه على جهازه الشخصى وصور ما يوثقه من أحداث ضد أقباط مصر، سمعان يرفض تسميته بناشط قبطى، فالحقوق لا تتجزأ كما يقول، ويعرض علينا أكثر من مشهد نراه معه ثم ينتهى الفيلم برحلة معه إلى أسرة مسيحية تحتفل بشهيدها، يقول طفل " بتوع النصارى قتلوا خالى، ذبحوه بالسكين" أفهم أنه يقصد السلفيين الذين يصرون على تسمية مسيحى مصر بلفظ النصارى الذى لا يحبونه. ولكن طفل أكبر منه يقول له المسلمون هم من قتلوه. قبل المشهد تعود فيولا للتعليق بعد اختفائه لفترة وتذكر أنها تخشى العودة إلى هناك. فيولا أيضا مسيحية لأب مصرى وأم ألمانية وفى دفاعها عن الحقوق لا تفرق بين حق المسيحى والمسلم فى العيش فى حرية وفى نظام تسوده العدالة والمحبة.     

الفيلم فى 90 ق مصور بكاميرا ديجيتال عالية الجودة، المصور طلال التقط لمحات جمالية متميزة ، نوعت المخرجة فى أحجام لقطاتها بعناية مخرج روائى تشغله جماليات الصورة، بين اللقطة الواسعة للمنظر كاشفة جمالا يجمع النهر والأثر والبشر، متدرجة فى أحجام اللقطات حتى اللقطة القريبة جدا التى تنقل لنا وجع الشخصيات وأسفها على ما حدث ويحدث مع الشخصيات الثلاثة الديب ومحارب وسمعان، ومعبرة عن فرحة عواطف العائشة فى عام افتراضى تحلم بمشاركة فى الثورة وفى العيش فى مكان جميل. المونتيرة نقلت إيقاع المخرجة الباحثة التى تتمهل مع تفاصيل تعرضها شخصياتها فلا تستعجلهم للدخول مثلا فى الموضوع، وكيف وهى نفسها تبحث معهم عن حقيقة الأمر.

فيولا شفيق تتبع المنهج البحثى فى أغلب أفلامها، لا تبدأ باستناتج مسبق، بل بفرضية تسعى لسبر غورها والإفصاح عن حقيقتها، هل مظاهر الإهمال والظلم الممتد لسنوات مابعد ناصر– وفى عصره بدرجة ما- هى السبب فى قيام ثورة 25 يناير غير القابلة لإجهاض كما يقول علاء الديب الذى يربط الفيلم بتعليقه كمثقف ثورى يمكنه شرح ما يحدث فارضا رؤيته التى تبنتها المخرجة .   
فيولا شفيق مخرجة مستقلة،
تدير ورشة للسينما التسحيلية فى الشرق الأوسط، لها عدة مؤلفات سينمائية منها، السينما العربية: التاريخ والهوية الثقافية، 1998 وشعبية السينما المصرية: الجنس والطبقة والأمة، كما تقوم بالتدريس فى جامعة زوريخ فى سويسرا، وقد عملت كمستشار عن المهرجانات السينمائية الدولية ومبادرات التدريب، وعلى الأخص فى بينالي فينيسيا، وملتقى دبي السينمائي ، وهي عضو في لجنة اختيار صندوق السينما العالمية ببرلين، أخرجت العديد من الأفلام الوثائقية، منها "شجرة الليمون (1993)، رحلة الملكة تى (2003)، و" جنة علي" (2011) وأريج  رائحة الثورة ((2014.

 

No comments:

Post a Comment