طفولة وإبداع علي الغزولي
يذكر
اسم المخرج التسجيلي "علي الغزولي" دائما مصحوبا بلقب الشاعر، ويكثر
الحديث عن شاعرية الصورة في أفلامه، والأهم من وجهة نظري أنه صاحب فيلم الشباك في
السينما التسجيلية إذا جاز التعبير، الغزولي صاحب فيم " صيد العصاري"
الذي كان رسول الفيلم التسجيلي للمشاهدين وغير من نظرتهم الكارهة للفيلم التسجيلي
المزدحم بالمعلومات الجافة حيث لا يتوقف التعليق للحظة واحدة، فجاء " صيد
العصاري" ليصالح الناس على الفيلم التسجيلي، فما إن تظهر لقطة شبكة الصيد
التي تدور في الهواء كالمروحة عدة مرات حتى يتعرف الناس على فيلم " صيد
العصاري" قبل أن تسقط الشبكة في
مياه بحيرة المنزلة ، الموقع الذي دارت فيه أحداث الفيلم التسجيلي البديع "
صيد العصاري" نعم أحداث الفيلم التسجيلي .. يوضح لنا الغزولي: " الطفل
في الفيلم له مواصفات البطل الدرامي المنتصر، كل عقبة من عقبات الحياة التي
صادفها انتصر فيها، يقوم بتوصيل أخته الأكبر إلى المدرسة بالقارب، يتأخر عن
طابور المدرسة ولكنه يصل ويكون في الصف مؤديا نشيد الصباح، يذاكر، يعمل، يرسم،
ويصطاد ويعود في النهاية منتصرا بغنيمة كبيرة، طائر نادر يفرد جناحيه على مقدمة
القارب وكأنه يلعب مع الطفل ابن السنوات الست "سيد" ابن بحيرة المنزلة
ونموذج إيجابي للطفل في بيئته الجذابة للكبار والصغار.
الفرنسيون
يسمون السينما " السينما توجراف" والأمريكيون يسمون الأفلام "Movies
" اختصارا للمصطلح الذي يعني الصور
المتحركة " Movie Pictures " ويمكن اعتبار المخرج " علي الغزولي " الممثل
المصري لهذا الاتجاه الذي يمجد الصورة ويعتبر أن السينما هي فن الصور المتحركة ،
يعزز موقفه كونه مصورا بالكاميرا ومصورا بالفرشاة حيث بدأ حياته الفنية بفن التصوير-
Painting
- .
في آخر أفلامه " طفولة وإبداع "
يتناول تصوير الأطفال عبر العالم كله ، جمعت رسوماتهم في معرض أقيم في متحف الفنون
بدار الأوبرا بالقاهرة .
عن
" طفولة وإبداع " يقول الغزولي : " شاهدت بعيني اللوحات ، وأبرزت
ما يمكن ألا يلفت انتباه المشاهد العادي ، مثلا قضية العنف ضد المرأة ، الأطفال
عبروا عنها بشكل قوي ومعبر . وكانت مفاجأة شخصية لي أن الطفل نقد مجتمع الكبار ،
رصدت وقوف الطفل أمام ظاهرة الموت ، وجدت الأطفال يفكرون في أشياء بعيدة جداً عن
صورة الطفل في أذهان الكبار من أنه يرسم الوردة والعروسة ومظاهر الفرح والألعاب ،
وجدت رسومات الأطفال تعبر عن الأب الشرس العنيف تجاه زوجته وأولاده .. الطفل عبر
عن هذا ، طفل اليوم اختلف عنا تماما ، فهو يلعب بالأجهزة الإلكترونية ، ، كلها
أشياء في متناول يده ، تأكدت عبر تصاويرهم أن تركيبتهم الذهنية مختلفة عنا تماما ،
كما لاحظت أن طفل في أمريكا رسم لوحة تشبه أخرى رسمها طفل في أمريكا اللاتينية
ونفس الشيء عند الياباني ".
بدأ
الغزولي فيلمه بمشهد افتتاحي لأولاد يلهون بالألوان، يلونون فانلة الرسام الكبير
الذي يوجههم، ونسمع تعليق : " الحرية والانطلاق هو المناخ الذي يدفع الصغار
لعالم الإبداع .. إبداع الأعمال الفنية هو وسيلتهم للتواصل مع الآخرين "
الصورة معبرة عن هذه المعاني فالأطفال يلعبون بالبالونات ويرسمون وهم في حالة من
المرح ثم تنقلنا أغنية إلى حديقة دار الأوبرا مع فريق غنائي من الأطفال يغنون :
" توتة كف عروسة " بالتوازي مع أطفال على مراجيح ، وعودة لمشهد الأولاد
يلهون بالألوان ، والتعليق يقول : " في بهجة الحرية تتفجر ينابيع الإبداع
" وفتاة تلون بأصبعها قبل الانتقال إلى لقطة عامة لدار الأوبرا ونعرف من
التعليق معلومة عن المعرض " دعوة مفتوحة لأكثر من مائة دولة تعرض رسومات الأطفال
في قصر الفنون بالأوبرا " ثم داخل القصر لقطة عامة ونرى الأطفال مع مشرفة ثم
اقتراب من اللوحات والتعليق يكمل " من جنسيات متعددة ، وقارات مختلفة ، 1600
لوحة " ثم نقترب من اللوحات المتنوعة / لوحة تصور الربيع ، فسيفساء ، حصاد
فلاحين ، أفارقة ثم صيادين .. يكمل الغزولي حديثه عن فيلمه : " كان أمامي
أكثر من 1500 صورة ، درستها صورة صورة ، هذا الرصد أخذ مني وقتا كبيرا جدا ، اخترت
فقط مائة لوحة ، اخترت بعض الموضوعات وركزت على بعض الجوانب ، قمت بتصوير حوائط
المتحف فوتوغرافيا ، لأنتقي منها ما قدمته في الفيلم ولو كان هدفي التوثيق فقط
لاخترت طريقا آخر غير ذلك .
في
فيلم " طفولة وإبداع " استخدم الغزولي التعليق بخلاف أفلامه السابقة كلها، كما أنه صوره
بالفيديو وكان يشعر تجاهه بنفور ويفضل شريط السينما ولا يقتنع بقدرة الفيديو على
إعطائه مستوى جودة الصورة التي يطمح إليها ولكنه أدرك فارقا هاما للفيديو عن
السينما عندما تعامل مع أطفال وعدد كبير من اللوحات وقدم له الفيديو كمية وافرة
من المادة المصورة يصعب أن يحققها في الشرائط السينمائية
غالية الثمن وباهظة التكاليف ، ولجأ إلى التعليق لأن الفيلم كلف بعمله من جهاز
تنموي يطلب شروطا في الفيلم أهمها توافر المعلومات ويقيد الفنان ويضطر للاستجابة
لبعض ما يطلبونه وإن استطاع أن يتحرر من قيود مماثلة مع فيلم " جرانيت "
الذي قدمه بمناسبة سمبوزيوم " ملتقى " النحت في أسوان وقدم فيه رؤية
خاصة عن الموضوع نمت داخله بعد المعاينة وعنها يحكي الغزولي : " أحببت أن
أغزل الموضوع بين النحاتين وناس أسوان في بيئتهم المحلية ، أردت عمل فيلم عن
النحاتين في بيئة أنا درستها ولهذا فكرت في زفة عرس بالمراكب وهو طقس يقوم به أهل
أسوان وصورت انجذاب مجموعة النحاتين القادمين من بلدان مختلفة للزفة وقدمت مزجا بين
النحاتين وواقع المكان والعرس، السمبوزيوم في ذاته حالة فرح، أنا فنان تشكيلي
شعرت إن عمل النحات على الجرانيت الصعب في هذه البيئة العريقة يمثل للفنانين فرحا
كبيرا ، وهكذا مزجت بين الفرح الشعبي وعمل النحاتين على الجرانيت .
يواصل
الفنان " علي الغزولي " حديثه الذي انطلق وهو المستمع الصموت قليل
الحديث شارحا أسرار فنه الذي تملكه " فن السينما التسجيلية " عبر ما
يقرب من عشرين فيلما تتنافس فيما بينها على لقب الأفضل، يقول الغزولي : "
إذا جاز الحديث عن التأليف في الفيلم التسجيلي ، فهناك دائما هامشا للتحرك
والتلقائية في موضوع " العمارة الإسلامية " وهو فيلم يعتمد أساسا على
المعلومة لم أقتنع بالموجود في المادة العلمية التي وضعها أستاذ كبير متخصص في
العمارة وانجذبت لتصوير شيء آخر غير ما نصح به ، هناك أشياء لا ترد على البال تظهر
في الموقع وتفرض نفسها وأنا أحب الانسياق إليها ، التلقائية والمرونة هي التي تعطي
الحيوية للفيلم التسجيلي .
أثناء
تصوير فيلم " صيد العصاري " اقترب منا طفل – صبي نجار - وطلب دورا يمثله
فقلت له هذا فيلم بغير ممثلين فقال لي : " فيلم تسجيلي ؟ " وهو يعطش
الجيم كما في بعض مناطق مصر ، هذا الطفل أعجبني ذكاؤه وأعطيته دورا في فيلم "
الريس جابر " نعم في الفيلم التسجيلي من الممكن أن نجعل شخصا يؤدي دورا يقترب
من دوره في الواقع .
المخرج
"علي الغزولي " درس فنون تطبيقية قسم تصوير عام 1956 بالإضافة للدراسة
في القسم الحر بالفنون الجميلة ، بدأ عمله الحقيقي في السينما التسجيلية في
الستينيات كمصور مع المخرج " ولاء صلاح الدين " في فيلم من إنتاج " فيلمنتاج " التي رأسها " صلاح أبو سيف " وكان
ذلك عام ،1963والمخرج كان قد درس السينما
في إيطاليا وقدم في فيلمه شكل غير تقليدي للفيلم التسجيلي لا شك استفاد منه
الغزولي .
ثم
قدم فيلماً من إخراجه عام 1980 واستمرت مسيرته في الفيلم التسجيلي مخرجا ، كما صور
بعض الأفلام الروائية الطويلة منها فيلم محمد خان
" عودة مواطن ". عن عمله كمصور يقول الغزولي : " تصويري
لأفلام الغير أعتبره شيئا عارضا ، بين قوسين وحريتي تكون أكبر ومتعتي تتحقق في
تصوير أفلامي .
من
كلمات الغزولي نلمح عنادا ورغبة في التعبير الحرعن الذات وهي صفات موجودة في
الأطفال ، الصبية على الأرجح وسنلاحظ اهتمامه بأن تضم أفلامه طفلا يبدو متأملا
ومنبهرا بالبيئة التي يقدمها الغزولي عبر أفلامه فحتى " جرانيت " الذي
قدم فيه وجهة نظر خاصة جدا عن حدث كان يمكن تناوله من زاوية إعلامية ، قدم طفلا
يتابع النحاتين ويتحرك متلصصا متأملا أعمالهم وينهي الغزولي فيلمه بالطفل يقترب
ليلا من الأعمال الفنية وقد اكتملت وشكلت مع البيئة لوحة ضخمة توحي بأنها كانت
موجودة هكذا منذ الأزل .
وفي
فيلمه " حديث حول الصمت " الذي قدمه بلوحة " دراما تسجيلية "
والذي يوثق فيه لمحمية طبيعية فيعيد إليها الحياة عبر عائلات من منطقة مجاورة ،
يقدم مظاهرة للأطفال لاستقبال رجل عائد من رحلة الحج ، وأيضا يتوقف عند طفل يشبه
كل أطفال أفلامه – غالبا يشبهه في طفولته – ويقدم لنا مشاغباته مع جنية العين التي
تستحم في المياه الساخنة وتظهر وتختفي للصبي الذي يتأملها بعد أن أفلت من أصحابه ،
وينجح في ذلك ، كما نجح " المخرج " علي الغزولي " في الإفلات من
القالب التقليدي للفيلم التسجيلي ويقدم أفلاما تستحق أن تحمل توقيعه بجدارة وأن
تنافس على الجوائز وتحصل عليها في مهرجانات الداخل والخارج .
في
المهرجان القومي للسينما المصرية عام 2000 حصل الغزولي على جائزة لجنة التحكيم عن
فيلمه " حديث حول الصمت " وعام 2001 لم تتقدم الجهات المنتجة لفيلم " طفولة وإبداع
" بالفيلم ليشارك في المسابقة الرسمية ، فكسبنا علي الغزولي رئيسا للجنة
تحكيم قسم الأفلام التسجيلية والقصيرة في المهرجان وجاءت نتائج اللجنة مرضية
للمشاركين والمهتمين وعن تجربة المشاركة في التحكيم يقول الغزولي : " مهمة
التحكيم صعبة جدا ، لابد أن تكون الذاكرة قوية
، عادتي أثناء المشاهدة أن أسجل بعض النقاط لأستعين بها في قراري ، كل
مهرجان تكون له لائحة ، بعضها تفصل أفلام السينما عن الفيديو ، بعضها يتخصص في
التسجيلي فقط أو الروائي فقط ، المهرجان القومي لا يأخذ بهذه التقسيمات نظرا لقلة
الإنتاج ، الحكم على الفيلم يكون حكما مجردا ، لا ينظر للمخرج من خلال تاريخه أو
أعماله السابقة ، يشترك في المسابقة مخرجون كبار مع براعم صغيرة قد يكون عملها
الأول أو الثاني على أقصى تقدير، أيضا المسابقة لم تفصل السينمائي عن شرائط
الفيديو رغم الاختلافات الواضحة بينهما .
في
مهرجان الاسماعيلية الذي انتهت فعالياته في الأول من أكتوبر2001 ، شارك" الغزولي
" بفيلمه خارج المسابقة وكان واحدا من عشاق فن السينما، لا يفوته حضور عرض
أو ندوة، فرحا كطفل بمتابعة إبداعات زملائه من مبدعي السينما التسجيلية والقصيرة
عبر العالم ، وعاد مشحونا لعمل إبداعات جديدة ما زال قادرا على إهدائها لنا.
نشر بالملحق الثقافى لجريدة البيان الإمارتية 2002
No comments:
Post a Comment