Sunday 13 January 2019

قراءة في بعض جوائز الدورة 40 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي


عن بشر تعساء وثوار أقوياء وضحايا العنصرية
أول جائزة أعلنت كانت من صندوق الأمم المتحدة للشباب من لجنة مكونة من السيدة ساندرا  دي كاسترو مؤسسة ورئيسة مؤسسة " ستوري أكشن"  ل  آي سي  التي تعمل على تطوير السيناريوهات المرتبطة  بالتوعية والرسائل الموجهة.  قدمت ماستر كلاس بمهرجان القاهرة عن عملها هذا مرشحة من الأمم المتحدة  و العضو الثاني باللجنة داليا ابو سنة مسئولة ال ( يوان اف بي) كمندوبة لمنظمة الأمم المتحدة للسكان والعضو الثالث المخرج هاني خليفة مرشحا من  وزارة  الشباب والرياضة. وفاز بها فيلم "ورد مسموم"
ثم توالت الجوائز كانت مفاجأة سارة حصول " ورد مسموم" على الجائزة الثانية ، جائزة لجنة التحكيم الخاصة من لجنة آفاق السينما العربية واللجنة مكونة من صاحب يوم الدين " أبو بكر شوقي " والممثلة التونسية عائشة بن أحمد ،والمنتج الفلسطيني محمد قبلاوي. أما المفاجأة الكبرى فكانت جائزة مستحدثة في الدورة الأربعين وهي جائزة أفضل فيلم غربي في جميع الأقسام ، بلغت 12 فيلما تكونت اللجنة من الناقد الألماني كلاوس إدر، والمخرجة المصرية أيتن أمين، والمنتج التونسي نديم شيخ روحه ،وفاز بها " ورد مسموم " ليؤكد حقيقة أن هناك أفلاما تلمع في المهرجانات دون أن تكون موضع ترحيب من جموع المشاهدين. شهد العرض الأول للفيلم في المسرح الصغير لدار الأوبرا حضور امتلأت بهم القاعة ولم يستطع كثيرون غيرهم حضوره لنفاذ التذاكر. وكذا العرض الذي تلاه في سينما كريم. يعرض الفيلم بزاوية للجمهور العام وتشير الدلائل إلى إقبال كبير نظرا لما حققه من جوائز . فهل كانت جوائز مستحقة؟

لو اقتصرت الجوائز على جائزة صندوق الأمم المتحدة للشباب لقيل إنه فاز لتوجهه الإنساني، ولكن فوزه بجائزة أفضل فيلم عربي من لجنة يرأسها مخرج كبير ومع عضوين من صناع السينما، وتتويجه بثالثة من لجنة مغايرة نصبح أمام عمل يجمع بين قوة الموضوع وعظمة الفن المتمثلة في صورة تعكس أشد حالات الفقر بجمال فني، تغلب درجات اللون الأزرق النيلي على الصورة، الصورة الرطبة بمياه المدابغ مختلطة بالمجاري. لبشر بائسين، كادحين، وكلبهم أشد بؤسا يشرب من مياه سامة تختلط بها القذارة مع المواد الكيماوية . صور أحمد فوزي فيلمه في منطقة المدابع بالقاهرة حيث صور فيها عمله التسجيلي الهام جلد حي، في جلد حي كا أبطاله من الشباب المراهق، استمع إلى قصصهم عن الحياة والحب، وصحبهم في نزهاتهم بالملاهي، أطفال على عتبة الشباب يكدحون ولكنهم يمرحون ويحلمون. حصد جلد حي كثيرا من الجوائز، ولم يقدم المخرج عملا بعده إذ استمر لخمس سنوات في التحضير لفيلم الروائي الأول، تحضيرات في الكتابة والبحث عن تمويل بعيدا عن شروط السوق. في المدابغ زرع قصة " ورود مسمومة لصقر" للكاتب أحمد الشطي أقرب أن تكون قصة طويلة منها إلى رواية. قام أحمد فوزي صالح بخيانة الرواية المقسمة إلى أربعة أجزاء ، كل جزء يرويه أحد أبطالها، رواية أصوات متعددة، استخدم فيها الكاتب جملا قصيرة ، شديدة الإيجاز. اكتفى المخرج بتناول شخصية الأخت تحية عبد الواحد وأخيها صقر عبد الواحد، غير من ملامحهم العامة، ليزرعهم في البيئة التي يعرفها ، المدابغ ، وحول كابوس يطارد صقر في منامه عن الورد المسموم الذي يضعه الرجل الغريب في طريقه كما كتب في الرواية إلى الورد من البيئة أيضا تجمعة تحية من المقابر لتحوله إلى مادة للسحر لتمنع أخيها من تركها والتحليق بعيدا. احتفظ صالح بروح رواية الشطي وصاغ فيلمه بعيدا عن الرواية وبعيدا أيضا عن عمله التسجيلي " جلد حي " الذي يوثق لعمال المدابغ من الصبيان. فوز "ورد مسموم" بثلاث جوائز مرة واحدة في دورة هامة وفارقة من مهرجان القاهرة يوازيه فوز فيلم " ليلة الاثنى عشر عاما " من أورجواي بالهرم الذهبي، أرفع جوائز المهرجان وجائزة نقاد الفيبريسي، ولو لم يتم إلغاء جائزة الجمهور لحصل أيضا وبجدارة على جائزة الجمهور الذي صفق طويلا في عروض الفيلم الثلاثة الأولى بالمسرح الكبير والثانية في إعادة العرض بسينما كريم والثالثة بعد فوزه بمركز الإبداع. في كل عرض كان الرجال والنساء يبكون بحرقة في أكثر من مشهد بالفيلم، ومع ذلك فالفيلم ليس كئيبا بل يشع بروح ثورية وبرومانسية الثوار وكأن المخرج المؤلف واحد من هؤلاء أو كأن أحد الأبطال والده الشرعي.

يصدر المخرج ألفارو ريخنر بمعلومات واضحة مكتوبة على الشاشة ، حركة توبامارو الثورية تمت هزيمتها، الناجون في السجون ، تسعة منهم تم نقلهم سريا بواسطة الحكومة العسكرية، وهذه قصة ثلاثة منهم.  يضعنا المخرج على طريق فهمنا لما سنشاهده. اختار المخرج الثلاثة وصاغ السيناريو اعتمادا على مذكراتهم، روسكوف الكاتب، بينتا السياسي الذي سيصبح وزيرا للدفاع ، وموخيكا الذي سيصبح رئيس جمهورية الأورجواي، بعد هزيمة الدكتاتورية وعودة الديمقراطية. يحفل الفيلم بقصص فرعية تخص كل بطل من الثلاثة ، كل قصة تحفل بجمال إنساني يتواصل معه كل مشاهد فنخرج بعد المشاهدة كما كنا نفعل ونحن صغار حين يذكر  كل واحد منا مشهدا أثر فيه ، يعطي ظهره للشارع ويقابل أصدقائه ويحكي ويقاطع ثاني وثالث. الإجماع  الذي استقبل به الفيلم فسره البعض بالشوق إلى الحرية والديمقراطية، وفسره آخرون بنجاح المخرج في التقاط لحظات إنسانية تمس مشاعرنا جميعا ، وأنحاز للرأيي الثاني فالفيلم يمتلأ بقصص شديدة الرومانسية واحدة منها بطلها ضابط في أحد السجون استعان بالكاتب ليكتي له خطابات إلى حبيبته، ستصبح زوجته وستسأله أين الخطابات التي كنت تكتبها لي في فترة الخطوبة فقد أخذ الثوار بعيدا على طريقة السلطات في نقلهم من مكان إلى آخر كل فترة حتى لا يتصل بهم أحد.

حقق المخرج حالة من التوحد بين المشاهدين المصريين على اختلاف مشاربهم وبين أبطاله، الموهوبين الأذكياء، والممتلئين بقدرة على التسامح مع أعدائهم، فلم نشاهد واحد منهم يعض على نواجزه ولا يتمنى الموت لعدوه إلا بشكل استثنائي حين طفح بموخيكا الكيل وصرخ طالبا قصرية أحضرتها له أمه ، مع مربى ومشروب يحبه، استولى عليه ضابط السجن وجنوده، يصرخ من نافذة السجن على المحتفلين يشوش على خطابهم الكاذب، أعطوني قصريتي. حين يبلغ أمرهم للصليب الأحمر ينقلون إلى سجن أكثر إنسانية به حوض مياه ومرحاض فيحول موخيكا قصرية التبرز إلى قصرية للزرع وحين يخرج تكون زرعته وقد أزهرت معه محتضنا أمه التي قوته وصرخت عليه " المهزوم فقط هو من يكف عن القتال" .
" اثني عشر عاما كلها ليل " أو لدقة الترجمة " ليلة طولها 12 سنة" فيلم كبير لا تغني الكتابة عنه عن مشاهدته أتمنى أن يوزع على نطاق واسع وتشاهده الجماهير في دور السينما في كل ربوع مصر.
أسعدني الحظ وأدرت ندوة مع مخرج فيلم " مانتا راي " فوفينج أرونفينج ، شابا في حدود الأربعين هاديء قدم فيلمه عن اضهاد مسلمي الروهنجا بشكل فني بعيد عن المباشرة والصراخ، جعل بطله أخرس لا يتكلم ليعبر عن أن صوته غير مسموع ولا يسمع شكواه أحد. خلق علاقة إنسانية بين الصيد البوذي المكلف خلاف لخدمته على مركب للصيد، بدفن القتى الذي يلقي بهم البحر، أو ترديهم رصاصات بعض المتعصبين في تايلاند. مع ضحية وجده بين الحياة والموت فأنقذه وحممه وقام على رعايته، في صمت يؤدي المصاب صلاة المسلمين ومنها فقط نعرف أنه مسلم، فلم يتكلم ولم نعرف حتى اسمه. الصياد له قصة عن زوجة هجرته لرجل آخر يرويها للأخرس وكأنه ارتاح إليه، وحين تعود بعد هجران العشيق لا تجد الزوج وتتخذ من الأخرس رجلا تصبغ له شعره وتحممه في بحيرة، تغني له. يعود الصياد يقتل رئيسه الذي يجبره على دفن الموتى فيجد زوجته تزوجت الرجل الذي أنقذه لا ينفعل بل يستأذن في أن يقضي ليلته لأنه متعب. قيم التسامح وهذا البعد عن العنف- حيث لم نرى قتلا ولكن فقط شاهدنا آثاره، الععب بالضوء وبأحجار يبحث عنها الصياد ويحولها إلى لعبة تشبه ألعاب في الملاهي. حين سألته هل الأحجار المضيئة موجودة في البيئة قال إنها من وحي خياله. وهكذا استحق جائزة العمل الأول لقدرته كمخرج على تناول موضوع تنقله الأخبار بعيدا عن المباشرة وبتكثيف أبطاله، حين سألنه عن اختياره للبطلة قال إنه اخترها لجمال صوتها حيث طلب منها أداء أغنية دون أن تصحبها موسيقى فتسمعها كمناجاة أو كموال مصري شرقي. مخرج الفيلم حصل على الهرم الفضي جائزة أفضل مخرج مناصفة مع سيرجي لوجنتسيا مخرج فيلم "دوناباس" من لجنة التحكيم الدولية التي رأسها المخرج الكندي الكبير بيل أوجست.
ورد مسموم عن بشر مطحونين، وليلة طولها اثنى عشر عاما عن مقاومة ثوار لقهر السجانين والانتصار عليهم بموهبة وذكاء، مانتا راي يقدم صورة إنسانية على إمكانية التعايش بين المختلفين دينيا وعرقيا.
كانت هذه ثلاث نماذج من أفلام تسابقت بالقاهرة السينمائي الدولي 40 وأكدت على دور فن السينما في التعبير عن هموم البشر وأحلامهم عبر العالم .  

صفاء الليثي
نشر بمجلة تلي سينما الشهرية العدد الخامس يناير 2019
تصدر عن نقابة المهن السينمائية