مدكور ثابت من التجريب إلى سحر الوثائقي
تأكد لنا أن الفيلم ثلاثي الأجزاء " صور ممنوعة" أحد كنوزنا المخبأة والذي أتاح لثلاث مخرجين أكادميين الفرصة لاختبار قدرتهم على العمل في سوق السينما، وكانت محاولة من جانب المسئولين عن السينما في حقبة الاشتراكية لإعطاء فرصة متساوية لأكبر عدد من المخرجين الجدد . الجزء الثالث من "صور ممنوعة" للمخرج مدكور ثابت زمن عرضه يساوي" ممنوع" و" كان " عنوانه "حكاية الأصل والصورة في قصة نجيب محفوظ المسماة صورة " يدل على منحاه التجريبي وكسره للإيهام الذي يتبناه مخرجنا الباحث عن نظرية لأفلامه تختلف عن السائد متأثرا ببرتولد بريخت.
تبدأ قصة نجيب محفوظ
بصورة للقتيلة موجودة في صفحات الحوادث الداخلية ، نقلها مدكور ثابت إلى الصفحة
الأولى التي تضم عناوين ضخمة لحرب الاستنزاف مثل " توغل القوات المصرية في
سيناء " وبجوارها خبر قتيلة الهرم المليونيرة ، تعامل مدكور ثابت مع الحكاية
كما يتعامل المخرج التسجيلي مع الواقع الذي يصوره . لم نعد بصدد حكاية واحدة بل
حكايات يكشف عنها التحقيق للعديد من الشخصيات تشعر بالذنب وتتصور أنها قاتلة تلك
الفتاة " فكيهة – شلبية – سميرة – درية " . تحولت الصورة إلى رمز وصيغت
الحدوتة باعتبار أن الملف لا يزال مفتوحا ويمكن أن تضاف فتيات أخريات إلى قائمة
الضحايا . كما تشير مؤشرات النص إلى تحول فكيهة إلى شخصية رمزية وأن ما حدث لها هو
ما حدث للوطن في هذه الفترة . يفجر هذا الطرح قول الأب في نهاية الفيلم "
صورتك المقتولة ياابنتي هي صورة بلدنا كلها " . بمعالجة مدكور ثابت للقصة
أصبحت الشخصيات رموزا لكل الشرائح الاجتماعية التي تمارس القهر على الفتاة التي
دفعت ثمن أحلامها . قام المخرج في الفيلم بدور المحقق الذي لا يهتم بالتحقيق
البوليسي بقدر ما يسعى إلى التحقيق الاجتماعي والتاريخي .
قبل حكاية صورة وبعد التخرج من الدفعة الثالثة من المعهد العالي للسينما 1965، برز نبوغه مبكرا وأخرج " ثورة المكن " كموقف تبناه المثقف بعد هزيمة 1967، عمل تسجيلي متأثر بالمدرسة السوفيتية في المونتاج، وتتابع من إيقاعات راقصة مع حركة المكن المتناغمة مع تغير الألحان، ثم صفارة إنذار ويتوقف المكن ليرتفع صوت ، المكن ده بتاعنا، احنا اللي بنيناه واحنا اللي هنحميه، على مارش عسكري يعود بإيقاع تصميم وفرحة ، ولافتة تؤكد أن جميع العاملين في هذا الفيلم من خريجي المعهد العالي للسينما.
بعمليه أسس لنفسه طريقا لا يناسب سوق صناعة السينما في مصر، عاد وتجاسر وخاض تجربة مع فيلم مصري تقليدي، لم يكتبه فكان " الولد الغبي" أول عمل روائي منفرد مع نجم كوميدي وبعناصر السينما المصرية السائدة. عملت في هذا الفيلم مساعد مونتاج وشهدت كيف اختفى مدكور ثابت ولم يحضر المونتاج. لم يفارق البطل محمد عوض جلسات المونتاج ومعه المنتج ناصر حسين، لم يجد ثابت نفسه في الفيلم الخفيف الذي يبتعد كثيرا عن عمليه " صورة" و" ثورة المكن".
ولا يختلف
عن أفلام أخرى كثيرة نتقبلها دليلا على زمنها. قضية عذرية الفتاة تشغل جانبا من
الفيلم، البطلة وفاء تورطت في علاقة مع عزت رئيس مفتاح، وحين يعرف مفتاح يقول ، يعني
أنا تزوجت واحدة سكند هاند، وقبل أن تندهش من تبني المثقف الكبير مدكور ثابت لنظرة
دونية للمرأة فيها تتحدد قيمتها بمحافظتها على غشاء بكارتها، سيعود بطله ويقول لها
انت اتظلمت وأنا من حموريتي ظلمتك أكثر. سيتبين إخلاصها له وستنجح في تبرئته من
تهمة قتل عزت الفاسد في عمله بتقديم الرشاوي لتحقيق مكاسب واستغلال النساء. الولد
الغبي 1977 تجربة لن يكررها مدكور ثابت وسيركز في العمل الأكاديمي وفي أبحاثه
ومؤلفاته المكتوبة، ويقدم أبحاثا مصورة ، أفلاما تسجيلية لها بعد تاريخي هام يلقي فيها
الضوء على إنجازات الوطن .
امتلك مدكور ثابت شجاعة التجريب ولم يكن المناخ العام
في السينما المصرية مهيئا لاستقبال تجاربه الفيلمية ولكنه رحب به أستاذا أكاديميا
ومخرجا لأعمال تظهر فيها عقلية الباحث كآخر
أعماله "سحر ما فات فى كنوز المرئيات" والذى يؤرخ لمصر خلال أكثر من
100 عام.
صفاء الليثي
نشر بمجلة روز
اليوسف السبت 2 أكتوبر 2020 العدد 4816 باب للفن فقط اشراف شيماء سليم