أهم ما يميز مهرجان قرطاج ،عفوا "أيام قرطاج السينمائية" هو الحضور الطاغى للجمهور التونسى رفيع الثقافة المحب للسينما الذى تزاحم لمشاهدة عروض الأفلام كلها دون تفريق بين الروائى الطويل والتسجيلى والروائى القصير. هذا الجمهور هو الذى منح الجائزة الكبرى للفيلم المصرى ميكرفون فقد كان التجاوب معه طاغيا وخاصة بين الشباب، بعد العرض قابلت شبابا تونسيا قال لى أحدهم هذا فيلم تونسى بلهجة مصرية، مضيفا كيف أنه يعبر عن الشباب من خلال هذه الفرق الموسيقية التى تقدم رؤية فنية جديدة بكلمات ونغمات مختلفة، وتصادف نفيا من مؤسسات رسمية تمنح وتمنع طبقا لما تراه.
كم صفق الجمهور التونسى فى مشاهد يتعنت فيها مسئول "المركز الوطنى " ويمنع الشباب من الغناء ويقدم بدلا منهم فتاة تغنى لأم كلثوم. توحد الجمهور التونسى مع نماذج فيلم ميكرفون وشعروا بأن مشاكله هى مشاكلهم. من مزايا أيام قرطاج أيضا حضور لجنة التحكيم الرسمية العروض مع الجمهور ففى الصف الأول من البلكون جلس أعضاء اللجنة وعلى رأسهم مخرج هايتى الذى ترأس لجنة دعم الجنوب راؤول باك، والنجمة إلهام شاهين والكاتب عتيق رحمى من أفغانستان والموسيقى التونسى أنور ابراهيم الذى وضع الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام التونسية الهامة كصفائح من ذهب لنورى بوزيد وحلفاويين لفريد بوغدير، وصمت القصور لمفيدة تلاتلى، كما ضمت اللجنة أيضا المخرج السنغالى جوزيف راماكا الحاصل على الأسد الفضى من مهرجان فينيسيا عام 1997 عن فيلمه"هكذا يكون"وأيضا المخرجة الفرنسية ديان بارتيه التى قدمت فيلما تسجيليا عن والدها المخرج جاك بارتيه. أدهشنى التصفيق الحار من رئيس اللجنة بعد انتهاء ميكرفون متجاوبا ومتأثرا بالجمهور التونسى ناسيا التحفظ الذى يجب أن يبديه كرئيس للجنة التحكيم. قبل العرض كنت اقترحت على الزملاء من النقاد العرب والأجانب مشاهدة الفيلم ذاكرة أنه يمثل موجة جديدة للسينما المصرية لشباب تعاملوا مع الديجيتال كوسيط ليمكنهم تقديم أعمالهم بعيدا عن السينما السائدة، ولكن شيوخ النقاد عربا وأجانب تحفظوا على الفيلم ووجده بعضهم مشابها لفيلم " نحن لا نعرف شيئا عن القطط الفارسية " الإيرانى حتى أن كثيرين من الصحفيين وجهوا للمخرج أحمد عبد الله سؤالا حول تأثره بالفيلم الإيرانى الذى لم يشاهده. وكان ردى على هؤلاء النقاد أن الفيلم يرصد واقع جديد فى مصر وخاصة فى الإسكندرية لشيئين هامين أولها الرغبة فى التعبير عن أنفسهم وامتلاك ميكرفون خاص بهم ، والثانى التواجد فى الاسكندرية ومحاولة تغيير صورة أن كل شيء يتم فى القاهرة فقط. ميكرفون عمل طموح يعبر عن أجواء التغيير فى مصر الآن، وفى الاسكندرية تحديدا وقد انتفض شبابها ثورة على أن كل شيء يتم فى العاصمة فتكونت فرق موسيقية، وفنانين تشكيليين ومتمردين صغار عل القيود العائلية، نسج أحمد عبد الله فى فيلمه الثانى بين خطوط الفيلم وضفرها ببراعته المونتاجية وبأسلوب سرد يشرحه على لسان منة شلبى فى نهاية الفيلم والتى كان مشهدها مع خالد أبو النجا عصب الفيلم وعموده الفقرى معبرا عن أزمة الوجود للشباب المصرى وحيرته بين الهجرة والبقاء فى البلد. متوازيا ومتقاطعا مع أحمد مجدى ويسرا اللوزى يقدمان مشروع تخرجهما ويشرف عليهما المخرج يسرى نصر الله. باستثناء البطلين خالد أبو النجا ومنة شلبى تعبر شخوص الفيلم عن دورها الحقيقى فى الحياة التى رصدها أحمد عبد الله وترك لها مساحة التعبير والميكرفون لتقول نحن هنا. الفرق الغنائية مقدمة فى الفيلم بأسمائها الحقيقية، الحس التسجيلى بالفيلم يذكرنا بأمجاد خيرى بشارة، وخاصة نهايته ، لماذا نتذكر القطط الفارسية وننسى فيلم آيس كريم فى جليم . ميكرفون فيلم مبدع فى كل تفاصيله الصغيرة بداية من كتابة اسم الفيلم وانتهاء بتترات النهاية مكتوبة على صخور شاطيء الإسكندرية . طالت أحيانا المقاطع الغنائية لأنها جزء أساسى فى الفيلم الذى يوثق لفرق شابة تصرخ للتعبير عن نفسها ويرفضها المركز الوطنى ، تجاوب الجمهور التونسى فى السخرية منه. مشاهد الشاب الذى يحرس لافته الدعاية الانتخابية مكتوب عليها رجل المستقبل، تفاصيل أخرى يحفل بها فيلم ميكرفون مثل الشعار كن مع الله وقد أصبح كن مع الفن على واجهة دكان الجرافيك الذى مات صاحبه وتصر ابنته وابنه على إدارته ومواصلة رسالة الفن. تفاصيل يمكن التقاطها من الصورة التى تطورت كثيرا عن هليوبوليس.
لا توجد ندوات للأفلام تعقب العروض ولكنها تقام فى صباح اليوم التالى للعرض، وأعتقد أن هذا الأمر يجب تجاوزه وتغييره فى قرطاج، فالندوة بعد سخونة العرض تكون أكثر حميمية وهو ما حدث – ولا أعرف سببا لذلك – مع الفيلم التسجيلى "شيوعيون كنا " للبنانى ماهر أبى سمرا، حيث أدارتها الناقدة نورا بورصالى بعد عرض الفيلم بدار عرض مخصصة لمسابقة الأفلام التسجيلية، وكانت ندوة هامة طرحت فيها نقاشات هامة حتى أن واحدة من الجمهور التونسى -وهى محجبة- ناقشت المخرج حول موقفه من حزب الله بالفيلم وأوضحت اتفاقها معه رغم الخلاف الأيدولوجى. وبهذه المناسبة أذكر أن الحجاب نادر جدا فى تونس والنسبة الطاغية فى الشارع تذكرنى بمصر-والقاهرة تحديدا فى بداية السبعينيات حيث النساء سافرات بعضهن بجيبات قصيرة، مظهرهن أوروبى والمنطقة كلها التى تدور فيها فعاليات المهرجان أوربية الطابع كمنطقة وسط البلد بالقاهرة أو كمصر الجديدة قبل زحام العشوائيات.
توزع عروض أقسام المهرجان على دور عرض متقاربة تحيط بفندق أفريقيا حيث المقر الرسمى للمهرجان ومركزه الصحفى. الأفلام الروائية طويلة وقصيرة فى سينما الكوليزى وهى سينما عريقة تذكرنى بدار عرض ديانا بالقاهرة. هناك باب لدخول أصحاب البطاقات وآخر للتذاكر، التذكرة بدينار ونصف،أى ما يعادل سبعة جنيهات مصرية تقريبا، بينما تبلغ تذكرة السينما حاليا فى القاهرة بين خمسة عشر وثلاثين جنيها. المهرجان لأهل تونس هذه هى فلسفة المهرجان منذ أسسه الطاهر الشريعة رغبة فى تثقيف الجمهور والترويج لسينما فنية عربية وإفريقية.
كرم المهرجان الطاهر الشريعى وقدم فيلما تسجيليا عنه من إخراج محمد شلوف، فيلم تكريم الشريعى كان أيضا مصريا إذ يبدأ بمخرجنا الكبير توفيق صالح يقدم شهادته عن الطاهر الشريعى وكيف دعاه لعرض فيلمه بقرطاج، كيف اصطحبه لنوادى السينما المنتشرة والمزدهرة بتونس مع فيلمه، يقول توفيق صالح فى الفيلم ، كانت المرة الأولى التى أعرف فيها معنى مهرجان سينمائى. تظهر فى الفيلم أيضا مخرجة السينما التسجيلية عطيات الأبنودى التى حصلت على الجائزة من مهرجان قليبية بتونس أيضا. الفيلم التسجيلى عن الشريعى يحوى مقابلات حديثة مع توفيق صالح وعطيات الأبنودى وعدد من رموز السينما العربية والإفريقية كما يحوى وثائق نادرة منها لقطات أرشيفية من أيام قرطاج ظهر فيها يسرى نصر الله شابا يتسلم جائزة أيضا. كرمت عطيات الأبنودى من قبل منظمة المرأة العربية التى ترأسها السيدة ليلى بن على قرينة الرئيس التونسى. تذكرت ما صرحت به عطيات الأبنودى فى حوار لى معها نشر بالف السابع المصرية –التى أسسهها محمود حميدة- بأن مصر ليست دولة نامية بل هى دولة كبيرة تمر بأزمة. نعم مع كل الحضور المصرى فى أيام قرطاج السينمائية والذى توج بحصول فيلم ميكرفون على التانيت الذهبى وحصول الفيلم القصير أحمر باهت على جائزة لجنة رئاسة منظمة المرأة العربية، وحصول آسر ياسين على جائزة التمثيل عن دوره فى رسائل بحر لمخرجنا الكبير داوود عبد السيد. شعرت بالفخر وأحببت التواجد المصرى فى تونس وسط شعب يحبنا. حضور مصرى مشرف فى فعاليات المهرجان ومؤتمراته، التمثيل المصرى فى مؤتمرى النقاد الدوليين وملتقى النقاد العرب، مشاركة الناقد أسامة عبد الفتاح فى لجنة تحكيم الفيبرسي بقرطاج وهى اللجنة التى تعقد بأيام قرطاج للمرة الأولى وتعقد مثيلتها فى مهرجان القاهرة للمرة الخامسة. كما أعلن كلاوس إدر السكرتير العام للفيبرسي أنها ستعقد فى مهرجان أبو ظبى فى دورته القادمة أيضا. يسرى نصر الله فى يلقى محاضرة فى السينما، أحمد رشوان وشريف المغازى وتامر السعيد فى ورش تطوير المشروعات. نجومنا إلهام شاهين فى اللجنة الرسمية وخالد أبو النجا فى لجنة القصير والمسابقة الوطنية. د.خالد عبد الجليل رئيسا للجنة تحكيم جائزة رئاسة منظمة المرأة العربية ،ومعه فيولا شفيق عضوا فى نفس اللجنة، داوود عبد السيد مع فيلمه رسايل بحر تألقت معه بسمة بطلة العمل. منى أسعد مع فيلم جيران منتجة الفيلم ومخرجته المنفذة. أشعر بالسعادة لحب الجمهور التونسى الذى يتهافت لتحيتى بمجرد سماعهم للهجة وأنا أتحدث مع زميل. يلتقطون الكلمة ويرددونها كأنها أغنية. كنت مع الناقد الليبى رمضان سليم فى انتظار بداية عرض فيلم محمد بكرى زهرة وقلت "هوه ده " رددتها خلفى فتاتين تونسيتين جميلتين بدلع.
كنت أحي داود عبد السيد أهلا أستاذ داوود ،التفت محمد بكرى مبتسما حييته، وقبل عرض فيلمه قدمت له ناقدة تركية ترغب فى التحاور معه سألته أى لغة تتحدث فقال أتحدث اللغة العربية، كان يريد تأكيد هويته وياليت الأخوة التونسيون يفعلون مثله بدلا من تمسكهم بالفرنسية.
فيلم بكرى الجديد "زهرة " تسجيلى 63ق بورتريه عن الجدة زهرة مستعرضا حياتها منذ النكبة عام 1948 وحتى الآن وعائلتها الكبيرة التى عملت على تمسكهم ببعضهم وبأرضهم، فى الفيلم يأتينا صوت بكرى مرددا شعر محمود درويش، سجل أنا عربى. أبكانى الفيلم وشعرت بفرحة إلقاء الضوء على جانب مقاوم للتمسك بالحياة دون تنازل. تقابلت أيضا مع المخرجة الفلسطينية مى مصرى التى ابتسمت بفرحة لملاقاتى وبادرتها ، لم نعد نراك فى الإسماعيلية، قالت إن مستوى التكريم الذى حظيت به لا يمكن تكراره. هنا فى تونس هى مع ورش تطوير المشروعات، واحدة مثلها مثل شباب المخرجين الذين تمنحهم أيام قرطاج السينمائية فرصة تطوير المشروعات والحصول على دعم جزئي لاستكماله. أيام قرطاج السينمائية لم تكن فقط تونسية ، بل مصرية وعربية وإفريقية، يحق لدرة أبو شوشة وفريق عملها آنى جميل والمخرج طارق بن شعبان وباقى فريق العمل، يحق لهم الفخر لأنها ليست مخازن أو علب لعرض الأفلام ، بل برامج مدروسة وفعاليات متنوعة وتنظيم جيد لا يدلل المشاركين، بل يعطيهم كل شيء منذ اللحظة الأولى، خريطة بأماكن العروض، والمطاعم والفنادق، يتركك لتتحرك بحرية متجولا فى البرنامج المكثف لأيام قرطاج السينمائية ويمنحك مساحة لالتقاط الأنفاس قبل حلول دورته التى تأتى عام 2012 يكون عندها الجمهور التونسى قد طال شوقه لسينما العالم على أرض بلده الخضراء. وعندها أتمنى أن تكون الموجة المصرية التى ظهرت مع البطوط وأحمد عبد الله قد امتدت وأصبحت هى السينما المسيطرة التى تجمع بين الإقبال الجماهيرى والنقدى.
No comments:
Post a Comment