Wednesday 23 December 2020

عنها وجاجارين ومؤتمر ثلاثة أعمال جيدة تنطلق من شخصية متفردة في القاهرة 42

 إبداع رسم الشخصية 

في عنها وجاجارين ومؤتمر

على الرغم من أن عددا من الأفلام التي حصدت الجوائز لفتت انتباهي وخاصة الفيلم الروسي مؤتمر، كما كان أداء الممثلة ناتاليا بافلينكوفا خاصا واستحقت عنه الجائزة مناصفة إلا أن هناك أفلام تميزت بصورة بديعة وخيال جامح وتعبير ممتاز عن الشخصيات وخرجت من سباق الجوائز ، الفيلم المصري "عنها" والفرنسي "جاجارين" مع اختلاف نوعيهما. يجمعهما التركيز على شخصية نتعاطف معها ونشعر بأزمتها، السيدة درية التي فقدت زوجها الحبيب ولم تتمكن من مواصلة الحياة بعده، والصبي يوري الحالم بالفضاء والرافض لترك مسكنه في مجمع سكني حكموا عليه بالهدد. جاجارين يقاوم ويخلق لنفسه عالما يمارس فيه أحلامه ويحقق اكتفائه الذاتي من غذاء لمزروعات ينميها في صوبة ويمدها بأشعة حمراء وبنفسجية، احتماء بالعلم الذي يفهمه جيدا، ودرية التي حبست نفسها في بيتها تحاول فهم ما حدث دون أن تتمكن من تجاوز الواقع. وفي السيناريو الذي كتبه العزازي بنفسه، نحتار مع البطلة في سبب اغتيال زوجها، وسنعرف الحقيقة معها قرب النهاية . الفيلم كله يدور في مكان واحد لم نخرج منه، هناك بذور لتفاصيل تحمل دلالة مثل حبها للخرشوف وتقشيرها له وكأنها تريد أن تعرف سرا ما، سرا دفينا لعمل زوجها، حبيبها، أشاهد معجبة بالتفاصيل ، في هذا السجن الفخيم الذي نشعر بقسوته على درية ، منزل متسع كمتاهة للبطلة، تلعب فيه استغماية مع الزوج والخادمة وتسكن فقط وتهدأ مع الأخ الحامي، الديكور لفنان هندسة المناظر أنسي أبو سيف، ديكور سينما يسمح بحركة البطلة في لحظات المرح ولحظات الضياع ، قامت المونتيرة الفنانة دينا فاروق بإحداث انتقالات خلاقة وخاصة بين مشاهد الحاضر والعودة للخلف بنعومة بدت كلقطة واحدة صورت بلا توقف، كما لعبت الإضاة دورا في تحقيق هذه الانتقالات البارعة، دينا فاروق هي أيضا منتجة فيلم "عنها" الذي  ينتمي لتيار مخرجي السينما المستقلة عن شروط السوق ونجومه وما يشغله آنيا من قضايا يتميز بالصورة الرائعة لمدير التصوير عبد السلام موسى، بإضاة الشمس المباشرة أو من وراء ستار، الإخراج الفني الجميل وكل العناصر الفنية فيه بشكل ممتاز، التمثيل  للوجه الجديد ندى الشاذلي في أداء وحشي وامتلاك للكادر وتعبير حركي وغنائي، ممثلة تمتلك قدرات شاملة أضفت عليها إضاءة عبد السلام موسى ألقا وأبرز تعبيراتها القوية، تطل علينا بوجه جميل، بلا مساحيق، بشعر حقيقي دون شعر مستعار، قمصان نومها ولمسات مصممة الملابس  في ذوق الفترة، نعم الفترة كلها تعكس ذوقا جميلا في ملابسها وأثاث البيت ، البيت الفسيح بممراته المفتوحة على بعضها ، تفاصيل فنية جميلة ولكن ما هي مشكلة درية ؟ ومتى حدث ما يبدو خللا في نفسيتها، فجأة أم له جذور، ويبقى سر شخصية درية مغلقا علي،  ويصبح الاستمتاع بصورة المخرج الذي يمتلك عينا تشكيلية  قادرة على صياغة الجمال وتكثيفه على مدار الفيلم، اختياره فدوى عابد في دور الخادمة، وجه جديد أيضا وأداء تمثيلي عظيم، "عنها " فيلم جميل يتجاوز الحكايات لنعيش معه في الأجواء النفسية لسيدة من طبقة عليا، تخسر حبيبها ويقينها باستحقاقه لحبها ،الحوار كان معبرا عن عامية مثققي الأربعينيات في كثير من أجزائه، تحية لفيلم يوسف وهبي "غرام وانتقام " أسمع صوت أسمهان أثناء متابعتي للحوار وأبتسم،  أسماء الشخصيات، عباس وفهمي ودرية وفاطمة، ، حلول فنية ذكية وأفلام تتغذي على أفلام وتتعلم منها.

تجاوز الواقع الخارجي وتجسيد الواقع الداخلي للشخصية كما في " عنها " وجدته في "جاجارين"، رغم أن فكرة  الفيلم تغري بتناول مغرق في الواقعية إلا أن المخرجين الفرنسيين فاني لياتارد، وجيريمي ترويله قدما لنا الواقع بعين الحالم الصغير، ويصل الجمال إلى قمته مع مشهد يجعله يدور في الحيز الذي خلقه لنفسه وكأنه رائد الفضاء وقد وصل على القمر، الموسيقى تدعم حركة يوري التي تظهر بطيئة منفذة بالتقنيات الحديثة تنجح في جعلنا نتعايش داخل حلم يوري، الذي يقاتل وحيدا من أجل إنقاذ المدينة السكنية وذلك بعد أن بدأت السلطات الفرنسية في إزالتها.

منذ المشهد الأول في " مؤتمر " يمكنك أن تتعرف على شخصية الراهبة ومدى عنادها وإصرارها على إقامة المؤتمرً التذكاري داخل نفس المسرح وتدعو الناجين للحضور واستعادة ذكرياتهم، يطول المشهد مع الموظف المسئول دون أن يغير المخرج الشاب ايفان تفردودسكي من حجم لقطته ، هي قائدة وحازمة وتصل الى ما تريد ، هي تدير الأمر وكأنها تخرج مسرحية وابنتها تواجهها أنت تبحثين عن خلاصك ، يبدو أنها الحقيقة فصديقتها المقربة تخبرها بمعنى مشابه بعد انهاء مهمة الحفل وقبل عودتها الى الدير، أنت تعذبين الجميع، علينا أن نكف عن تعذيب أنفسنا وأن نمضي في حياتنا، وتتأكد رسالة الفيلم على أهمية النسيان ومحاولة العيش في سلام. عمل صعب أغلبه يدور في المسرح واقتصاد شديد في الانتقالات بين اللقطات، ومحاكاة لما تم في ليلة الحادث الإرهابي، ومعنى عميق عن هذه الباحثة عن خلاصها التي أتت بفعل أشد عنفا من فعل الإرهابيين. فيلم آخر يعتمد بالأساس على شخصية ويجيد رسمها وتجيد الممثلة التعبير عنها، هذه المرة أتفق مع لجنة التحكيم على منح الفيلم جائزة التمثيل والهرم الفضي للمخرج .

صفاء الليثي

نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 15 ديسمبر 2020 رئيس التحرير عماد الغزالي



 

 

 

 

 

No comments:

Post a Comment