Wednesday 23 December 2020

المخرج علي رضا وثورة يوليو

 توثيق فرقة رضا على شرائط السينما 35 مللي

في تركيبة ناجحة تم تقديم فرقة رضا في الفيلم المرح " أجازة نص السنة " 1962 الذي تحمس لإنتاجه مدير التصوير الفنان عبد العزيز فهمي، صور بالكامل في قرية حيث المثقفة الريفية زينب، النجمة ماجدة التي تملك مزرعة ريفية على وشك الإفلاس من ضغوط زوج خالتها، يحضر أخوها الطالب الجامعي مع مجموعة تمثل فرقة الرقص ومدربهم أحمد/ محمود رضا، لنشهد صراع قيم بين فريقين . منحنا الفيلم فرصة لنعرف مصادر رقصات تقدم على مسارح الدولة وتحي وتوثق لموسيقى وأزياء فلاحات وفلاحي مصر ، على موسيقى مقتبسة من أغاني فلاحية فولكلورية يصدح بها المطرب الشعبي المرتبط بالفرقة محمد العزبي. وجمال فريدة فهمي في رقصة على كولاج من الأغاني المصرية بتوزيع جديد.ومعها محمود رضا المعبر عن علي رضا نفسه وحلمهم في فرقة للرقص الجاد توثق تراث الفولكور المصري . في قالب من الكوميديا الرومانسية وقليل من تراث الواقعية يمتعنا الفيلم وبه توثيق بشريط السينما 35 مللي لفرقة رضا وفنها وقد صور على مسرح الطبيعة في الريف المصري.

نجاح لم يستثمر الا بعد خمس سنوات وقد تحمست شركة القاهرة للإنتاج والتوزيع السينمائي لفيلم بطولة نجمي الفرقة فريدة فهمي ومحمود رضا دون الاستعانة بنجم أو نجمة ومن بطولة فرقة رضا. في نسخة ملونة عالية الجودة هذه المرة تذهب الفرقة الى الأقصر حيث آثار مصر القديمة ولم تمض ربع الساعة حتى يقدم أغنية العمل التي تميزه والتي أصبحت تتردد في كل رحلة يقوم بها شباب المصريين، في زفة بالحناطير يغني محمد العزبي " الأقصر بلدنا " وفي ميزانسين رائع لعلي رضا يتم الانتقال بين لقطة متوسطة عامة فيها العزبي وبجواره الحوذي وبين لقطات عامة واسعة للفرقة يقودهم محود رضا وعلى صقفة مدوية وموسيقى علي اسماعيل مصرية الهوي، يرقصون وفي الخلفية معبد الأقصر بأعمدته الشاهقة، خلال ثلاثة دقائق فقط تم تقديم أهم لوحة فنية من لوحات فرقة رضا. سيستعين علي رضا بنجمي الكوميديا عبد المنعم ابراهيم وأمين هنيدي وسيوظفهما في أدوار تثير الابتسامة وتخدم الدراما، هذه المرة في قصة سينمائية من تأليفه مع كاتب السيناريو المرتبط به محمد عثمان . سيمضي الفيلم خطوات أبعد ليوثق تقريبا كل لوحات فرقة رضا التي نحفظها عن ظهر قلب، ويختتم الفيلم باستعراض كبير يلخص مصر من شمالها مع الصيادين وفنون بحري حتى الصعيد عبر التحطيب والنوبة برقصاتها الإفريقية، توثيق نادر لفرقة رضا ونجمهيا فريدة فهمي ومحمود رضا في عمل لا يقل عن أفلام الميوزيكال الأمريكية ، في غرام في الكرنك، تصبح الأغنيات حوارا منغما وجزء من دراما الفيلم بداية من ساحة محطة مصر، محطة القطار الرئيسية لمصر وانتهاء بمسرح أقامه أفراد الفرقة على خلفية معابدنا الفرعونية في الأقصر بلدنا.  الفيلم في قالب فيلم الرحلة ونسمع صلاح/محمود رضا يقول لأمينة/ فريدة مرعي ، الرحلة لي بداية الفرقة بتاعتنا اللي طول عمري بأحلم بيها، وكأنه يعبر عن المخرج علي رضا وحلمه الذي تحقق.  وبداية من العناوين على لوحات للفنان ايهاب شاكر صاحب تصميم أفيش الفيلم يعد الفيلم درة  من درر سينما الستينيات وفخرا لإنتاج فيلمنتاج في إنتاج رسمي كبير يحتضن التجربة ويوثق لها.  


 مواكبة سياسة الدولة والتغير معها

استمر النجاح المدوي للمخرج علي رضا وأعماله التي تعد بدرجة ما سيرة ذاتية له ولأخيه ولزوجته راقصة الفرقة الأولى ، ولكنه في أفلامه التالية توجه إلى واقع البلاد وأصبحت فرقة رضا جزءا من هذا الواقع المتغير معبرا عنه في أفلامه  الأربعة الأخيرة ، آخرها قضية عم أحمد (1985) وقبله أسياد وعبيد (1978)، آه يا ليل يا زمن (1977) ورابعهم يارب توبة (1975) كلها توضح بدرجة أو بأخرى علاقة علي رضا بثورة يوليو و فرقته الراقصة مع أخيه محمود رضا وزوجته فريدة فهمي .

قضية عم أحمد 1985

ينهي علي رضا فيلمه الأخير بكلمة البداية بدلا من النهاية، قصد بها سياسة جديدة لا تظلم الملاك ولا تحابي المستأجرين، إلا بالقانون. يقدم على رضا رؤية  متوازنة بين أولاد الذوات وأولاد البلد. بين سكان الفيلات والقصور من أصحاب الأملاك، وبين سكان الأحياء الشعبية ، بين طبقة البهوات وطبقة العمال ، بين عم أحمد والبيه. حتى ثلثي الفيلم بدا انحياز صناع الفيلم إلى أهل البلد، ثم يكشف في مشهد فارق في منحنى الفيلم عن تعثر الثري السابق وهو يوضح لابنه حقيقة موقفه المالي. ثم يعود إلى عم أحمد ، النجم الكبير فريد شوقي واختياره في حد ذاته انحياز إلى الطبقة العاملة الكادحة، إلى الفتوة والأسطى حسن، في مقابل جمال اسماعيل الذي لا يتمتع بنجومية تؤهل للتعاطف معه ولا مع مشكله تعثره المالي.

بالطبع هناك قصة حب بين الابن الثري العائد من دراسة بألمانيا( فاروق الفيشاوي) وبطة ( معالي زايد) نوارة الحتة حفيدة عم أحمد. قصة تغازل أحلام رواد السينما ومشتري التذاكر. تيمة تقليدية بها جانب واقعي  أن تكون الابنة الصغرى متعلمة وجدعة ومحبوبة من الجميع ، وكفيلم مصري أصيل، تحدث تعقيدات لا توجد صعوبة في حلها، بداية من قضية طرد المستأجر بحجة مخالفة القانون، ومرافعة شعبية تعتمد على المنطق وليس على بنود القانون من عم أحمد تذكر بمرافعة عبد الفتاح القصري في الأستاذة فاطمة. السيناريو لبهجت قمر المخضرم ، أحد كبار مؤلفي السينما المصرية منذ زمن. بمشاركة المخرج الذي نعرفه فقط  بأفلام فرقة رضا الستعراضية . كانت مفاجأة لي بأن يكون لمؤسس فرقة رضا ومديرها أفلام تسير على منهج السينما المصرية الشعبية ، وخاصة سينما حسن الإمام الذي عمل معه مساعدا في فيلم لواحظ (1957) وسنجد في " قضية عم أحمد" نفس فريق التمثيل المفضل عند (مخرج الروائع ) حسن الإمام. ونوع السرد بين الواقعية والكوميديا وقدر من التشويق ومغازلة أولاد البلد.

تحول علي رضا في مسيرته الفنية مع تحولات السياسة المصرية ، إدانة لطبقة باشوات واقطاعيي ما قبل الثورة في " يارب توبة 1975" ، إدانة لمراكز القوي في " آه يا ليل يا زمن1977 " و أسياد وعبيد 1978 ضمن سلسلة أفلام تنتقد ما سببته الدكتاتورية في عصر عبد الناصر،  ليصل في " قضيةعم أحمد 1985" لموقف تبني سياسة السادات وعودة الحقوق إلى أصحابها. قدم في عدة مشاهد دفاعا عن الملاك من واقع معرفته بمشاكلهم وإمكانية فقدهم لثرواتهم التي كونوها بالكفاح والعرق أيضا.

" قضية عم أحمد" ختام لمسيرة المخرج علي رضا بها صعود نجمه من مساعد مخرج وممثل أدوار ثانية إلى مخرج أفلام في نوعية الفيلم الاستعراضي الغنائي ، هي المعادل المصري لأفلام الميوزيكال الأمريكية، والأفلام البوليودية الهندية. قدم مع السيناريست محمد عثمان سلسلة أفلام تناقش التحولات في السياسة المصرية من قبل ثورة يوليو مرورا بها وحتى ما سمي بثورة التصحيح.

أسياد وعبيد 1978

تعمد على رضا تجهيل الفترة الزمنية التي يقصدها في عمله ، ففي قسم البوليس خريطة مصر معلقة خلف مكتب الضابط بدلا من صورة الرئيس، وفي بيت خطيبة البطل د. أحمد صورة الوالد حسين رياض. الأسياد المقصودين هم رجالات الحكم ، مراكز القوى من أمن الدولة، والعبيد هم أفراد الشعب بكل طبقاته، وخاصة الطبقة الوسطى، طبيا كان أو صحفيا أو أستاذا جامعيا، ومعهم أهل الفن الشعبي نانا صاحبة الكازينو وسعاد الراقصة وأبوها الملحن القديم ، طبقة يمكن اعتبارها في أفلام السينما معادل لطبقة البروليتاريا مطحونين ، تعاملهم مع الأسياد ليتمكنوا من العيش ، وقلوبهم مع العبيد. هدى سلطان ، نوال نانا كبيرة قبيلة العبيد تتعامل مع رفعت بيه وقلبها متعلق بد. أحمد. سعاد مع حسن ، ود.فاطمة سيتبين أنها ابنة نانا من محمود تركتها وربتها الزوجة التقليدية ....صناع السينما في مصر يقدمون تعاطفهم دائما مع أهل هذا الفن الشعبي، ولكنهم يرغبون في الارتقاء مع مهنيي الطبقة الوسطى المتعلمة والمثقفة. وخؤلاء وهؤلاء يطحنهم رجال الرئيس ( الغامض) البوليس السياسي الذي يعتقل ويعذب بقضايا ملفقة وتهمة جاهزة، قلب نظام الحكم. في الفيلم مزيج من الدراما المصرية وقدر من الغنء والاستعراض بفرقة محمود رضا، كازينو علي رضا ترقص فيه فريدة فهمي رقصات أقرب الى طريقتها الخاصة وليس على طريقة الراقصة الشرقية، تعني هدى سلطان أغنيات تحسب كفن يصفق له الجميع، في الحقيقة لم تكن بينها أغنية واحدة تشبه روائع قدمتها هدى سلطان في أفلام أخرى" وان كنت ناسي أفكرك" أو غيرها من أفلام الخمسينيات الرائعة مع الملك.  هناك محاولة للتعبير في مشاهد تم تنفيذها بأسلوب قريب من السينما التعبيرية ، فاطمة تحاول إقناع زملاءها بالدفاع عن المعتقلين ، تخطب فيهم بحماس، عبر لقطة مقبرة يختفي الصوا ويتم القطع على تربيزة الاجتماع وقد انصرف عنها الجميع. وفي مشهد آخر فاطمة جالسة في مكتب خطيبها في لقطة عامة بعيدة، المكان فارغ وهي في حديث هامس لنفسها، تعبيرا عن العجز عن التصرف. لمحات إخراجية تختفي وسط ركام من مشاهد ضعيفة ومكررة للتعذيب والتحقيق مع جمل حوارية نمطية يرددها رفعت بيه ، مشاهد مسلوقة نفذت على عجل ولم ينقذها عادل أدهم الذي لم يصل لمستوى أداء كمال الشناوي في الكرنك.

نسخة علي رضا من أفلام الكرنكة تظهر حقيقة علاقة أهل السلطة بأهل الفن ( الرخيص إذا جاز التعبير) مقدم فيها الخلطة التقليدية لفيلم مصري، به دراما، ميلودراما، قليل من السياسة وكثير من توابل الفواجع كإدمان سعاد، فقد نوال لابنتها وتركها للزوجة الشرعية ومفاجأة تعرفها على ابنتها في نهاية الفيلم، حب يكاد يصبح زنا محارم باحتمال علاقة بين نوال وخطيب ابنتها ، ووسط هذا إعلان موقف أن صناع الفيلم ضد الاغتيالات وقتل المعارضين، ضد التعذيب والشخصيات الفاسدة من رجال الرئيس. لم يقل الفيلم صراحة أن الرئيس وطني ومن حوله هم المخطئون ولكن يمكن استنتاج ذلك من السياق العام . 

آه يا ليل يا زمن 1977

المشهد الافتتاحي لتنفيذ الحراسة على إقطاعي من ( العهد البائد) تستقبل فيه فاتن هانم الضابط المسئول ويقدمه لنا من خلال الفلاش باك كأحد الثوار في مواجهة البوليس السياسي قبل ثورة يوليو.  الفيلم من سلسلة أفلام سميت أفلام مراكز القوى، تنتقد سلبيات العصر الناصري بالطبع بعد موت عبد الناصر وقت رئاسة السادات. اختيار رشدي أباظة النجم المحبوب في ثوبه الجديد بعد مرحلة الدونجوان تجعلني أميل إلى رغبة علي رضا في التركيز على رجال الحكم المحترمين وليس على صنف صلاح نصر . واختيار وردة الجزائرية المطربة في زهوها يحقق هدفين ، الهدف الأول يرسم صورة محترمة للهانم سليلة الباشوات ووالهدف الثاني الدفاع عن الفن الذي يمكن أن يكون بلا تنازلات، هدف طالما سعى إليه كبار رواد السينما المصرية، وجعله حسن الإمام تيمته المفضلة التي قدمها عبر تنويعات مختلفة. وردة الجزائرية في دور ابنة العز التي قسا عليها الزمن تضطر للعمل بداية من ممرضة في عيادة طبيب ثم في مطعم وأخيرا يلتقطها إلياس، لتغني مع الحفاظ على شرفها ودون تنازلات.

في الثنايا هناك طرح لفكرة العيش بدون زواج دون أن يتم الحكم أو انتقاد ذلك من صناع الفيلم، لا من كاتبه ولا من مخرجه، وجود فاتن هانم والطبيب يوسف شعبان في باريس يسمح بتصديق هذا الوضع، ومع ذلك لا يمكن الإفلات من وسوستنا المصرية والعربية  فيتبين أن الطبيب خدعها بحجة سفره الى بلده تونس التي سيصعب معها تقبلهما هناك دون زواج، وسيتضح أنه ارتبط بأخرى فرنسية ولم يسافر. السياق الميلودرامي لمسيرة حياة الهانم ضحية الثورة سيمضي من كارثة إلى أخرى حتى تكاد تلبي لالياس طلبه بمواقعة الأمير العربي الذي يرغبها، وسينقذها في اللحظة الأخيرة الفارس المغوار محمود شوقي الثوري القديم ورجل الحكم الحالي . رحلة فاتن مع المآسي انتقل بها المخرج من مصر إلى باريس إلى المفرب، وسينتهي ككل فيلم مصري بحكمة ينطق بها البطل: انت لازم ترجعي مصر، بلدك أولى بيك. في ملهى إلياس تغني وردة ليلة تساوي ألف ليلة ، مع استعراض راقص بفرقة دبكة مصاحب للغناء. وحين تقابل رشدي تصفه  لزميلتها في الملهى وصديقتها المقربة بأنه (واحد من اللي سرقوا أموالي وأرضي)، وتنهره، أظن صدفة مش كده!.. يقول حكمته (مصر اتغيرت يا فاتن هانم ، ثورة التصحيح قضت على مراكز القوى.) يا خسارة يا علي رضا، مسافة كبيرة بين مشاركته فيلما يظهر رشدي اقطاعي فاسد قبل الثورة، بملابس خديوية في فيلمه " يارب توبة 1975"، ورشدي في "آه يا ليل يا زمن 1977 " ، منتقدا عصر عبد الناصر ومدافعا عن سياسات السادات.

أعترف أنني لم أكن أدقق في العناوين وكنت كمشاهدة غبر مدققة أحسبه فيلما لحسن الإمام. بعناصر تجمع كل الأبطال في مشهد واحد رشدي أحد بهوات العصر، القواد يمثله عادل أدهم والشخصية الكاريكاتورية لأمير الخليجي يمثلها سمير غانم ، اختيار ممثل كوميدي ليؤديها لتقليل من شأنه والسخرية منه. شوشو الممثلة خفيفة الظل سهيى الباروني بطلة  دائمة في أفلام حسن الإمام ومريم فخر الدين زوجة البيه هانم ساذجة، كزوجة تقليدية  في الأعمال الثلاث لعلي رضا.

التحول لدى علي رضا يظهر ما بين "أسياد وعبيد 1978 و" آه ياليل يا زمن 1977 "، وبين يارب توبة 1975 كمخرج حرفي يتبع التيار السائد ولا يقوده، مع الثورة وضد العهد البائد في أسياد وعبيد، ضدها ومتعاطفا مع الباشا وابنته في آه ياليل يا زمن. ولكنه يقدم رؤية متوازنة في عمله الأخير" قضية عم أحمد 1085"  قبل أن يقابل ربه ، مع قصة لفريد شوقي وسيناريو محمد عثمان ترزي الكتابة الفيلمية الذي يتلاعب بعناصر الدراما متأثرا بالمناخ العام. وعلي رضا ممارسا لمهنته بروح المخرج المنفذ دون أن يسبق اسمه فيلم ل.. بل بتواضع يكتفي بعنوان إخراج علي رضا. فقط في " قضية عم أحمد " سيشارك في التأليف ويقدم ما يشبه المراجعة على أفكاره السياسية، فلا انحياز مبالغ فيه للثورة وفقرائها، ولا هجوم على سادتها وملاكها، والخطأ موجود لدى كل جانب والمصالحة مطلوبة بين فئات الشعب. تطهر علي رضا من آفة الأبيض والأسود، والنظرة الأحادية ليقدم عملا بشخصيات مدروسة ، بشر خطاؤون أيا كان الجانب الذي يقفون عليه، عمال في الحواري وسادة في القصور. يمثلون أطياف الشعب المصري ، ولابد من تعاونهما بالقانون مع بداية عهد جديد.

يارب توبة 1975

يستوقفني عنوان في التترات ، عن مسرحية أولاد الفقراء لفنان الشعب يوسف وهبي ، والقصة السينمائية وسيناريو وحوار محمد عثمان، اإنتاج لتاكفور أنطونيان. يوسف وهبي ومحمد عثمان اسمهما يفرض مقولة فنان الشعب " ما الدنيا إلا مسرح كبير " أكاد أسمه صوته بها في أذني.

المشهد الافتتاحي يقدم حسنية بطلة العمل سهير المرشدي، بعيون جريئة وحيوية مفرطة، والهانم مريم فخر الدين تناقش تفاصيل  حفل زار ستقيمه، في تقديم يقلل من ثقافتها ويسخر منها، هرج ومرج لاستعدادات الزار، ومطاردة من زكي ابن الباشا لحسنية ، سهير المرشدي في دور كبير ، زكي بلباس طالب كلية بوليس بطربوش ثم يدخل الباشا ويتسمر الجميع ، رشدي وقد أصبح ملائما في دور رجل سلطة في عصر ما قبل الثورة. يصرخ فيهم ، العالم في حالة حرب وانتوا بتعملوا زار، لترد الهانم، هتلر وموسوليني لو عرفوا هيسيبوا الحرب وييجوا معانا. سنعرف أن حسنية وأمها أم أحمد يعيشون في بدروم الفيلا ، هم أسرة محمد أفندي الأخ الشقيق لمراد باشا صديق رئيس الوزراء ويهدد الفلاحين بضرورة دفع إيجار الأرض قبل المحصول. تقديمه كفاسد كبير يصرخ، الفلاحين لازم يدفعوا، طول ما همه مديونين لنا نقدر نسيطر عليهم ونخليهم يعملوا اللي احنا عاوزينه، تقديم صريح لما سيتم بالفعل حيث سيعرض على ابراهيم تزويجه من حسنية بعد ثبوت حملها من ابنه زكي، المشاهد تتسارع ودراما ساخنة محتدمة على طريقة السيناريست محمد عثمان بكل عناصر الفيلم المصري كما يعرف في القواميس، سلسلة من الفواجع على رؤوس الفقراء، واستغلال لهم من الأغنياء يصل إلى نهايته مع تحول حسنية لمومس تكتم أنفاس ابنتها من زكي، وقد أصابها مرض لا تملك ثمن علاجه.

محمد عثمان دراماتورجي بارع ، يؤلف الدراما ويلونها حسب العصر ، شرير "يارب توبة" من رجالات أحزاب ما قبل ثورة يوليو، والضحية ابنة الطبقة الوسطى الكادحة، قد يقصد بها مصر ما قبل الثورة. سيصل أخيها الثوري وزوجها المخدوع الذي سامحها ، هم حُماتها المهتمون لأمرها ، سيصلان بعد قضاء مدة سجنهما حين تورطا في قتل زكي ، سيصلان دون أن يتمكنا من إنقاذ حسنية التي تورطت في قتل الابنة غير الشرعية وكأنهما، علي رضا ومحمد عثمان لايكفيهما مصير العاهرة لتصبح قاتلة أيضا في لحظة جنون. "يارب توبة " نموذج صارخ لقالب السينما السائدة في مصر، بعناصر الميلودراما بواقعية فجة، اغتصاب وشروع في قتل ، زواج مرتب قائم على الخداع وتورط في قتل. الباشا شخصية سادية ليس بها أي جانب خير، يجعل أخيه مقيما في بدروم فيلته يذله وأسرته، رغم نجاح أحمد في مقابل فشل ابنه ، حسنية رغم وعيها الفطري تتورط في علاقة تمارس فبها الحب على قش في حظيرة خيول الباشا، تفشل في رعاية ابنتها فتمارس البغاء. الوصول لحافة المآسي وقتل أي بادرة أمل، لايهم تفوق أحمد، حسين فهمي وحب ابنة باشا آخر له، نورا، رئيفة هانم، ولا يهم حب نشأ بين ابراهيم وحسنية بعد سبق رفضها له واعترافها ليلة الدخلة أنها تحب آخر. قليل من الحلو سيدمره مر علقم في مناخ فاسد لحقبة حددها صناع الفيلم بالحرب العالمية قبل ثورة 23 يوليو  1952.

أحسب هذا المنهج أقرب إلى المذهب الطبيعي الذي يعمد إلى تسجيل الواقع بكثير من الصراحة والقسوة ، كما يذكر د. نعيم عطية المترجم وأستاذ المسرح، عن أصحاب المذهب الطبيعي وقد شغفوا بتقليب الحجارة للكشف عن الحشرات والديدان التي تقبع تحتها. في مقابل منهج الواقعية بتنويعاته التي أفضل منها واقعية صلاح أبو سيف التي تكشف عن فراشات تشق الشرنقة التي نسجتها الدودة حولها، وتخرج لتساعد على إكمال دورة حياة تخرج العبير من ورود الطبيعة.

نشر المقال بعدد خاص عن فرقة الرضا بالفنون ديسمبر 2020 رئيس التحرير حاتم حافظ 



 

 

No comments:

Post a Comment