Sunday, 24 October 2021

في " ريش " حيث الرجال نزقون والمرأة عاقلة

تحية للمرأة المصرية المعيلة 

أعادت أزمة فيلم ريش إلى ذهني المثل الأمريكي ( لكل منا مهنتان ، مهنته ومهنة ناقد سينمائي ) فقد قرأت نقدا للفيلم من مثقفين ومشاهدين توقف عند مشاهد هامة وأساسية بالفيلم وحللها بدقة، منها مشهد تحرش ومشهد سرقة ومشهد لقتل رحيم ومشاهد أخرى كانت علامات في فيلم يقدم رؤية أسلوبية لواقعنا المتردي.

بعيدا عن أي قدر من الإسفاف يقدم عمر الزهيري مشهد تحرش دون كلمات هابطة ولا أفعال سوقية ، بظرف شديد فجر ضحكات المشاهدين في مشهد غزل صديق البطل للمرأة التي تحول زوجها الى فرخة. تطوع المتحرش لمساعدتها في البحث عن الساحر الذي حول زوجها الى فرخة وفشل في إعادته، المشهد فائق يمثل مفتاح فهم أسلوب المخرج عمر الزهيري. فيه يوقف الرجل سيارته المتهالكة ويشغل أغنية لفايزة أحمد ويغني للمرأة التي تنظر اليه باندهاش شديد، يخرج من السيارة ثم يعود ويعلن لها عن حبه "أنا بحبك من زمان"، تدفعه بعيدا عنها وتجري ثم تعود لتأخذ التلفزيون، الأم يهمها اسعاد أطفالها فتأخذ التلفزيون وتجري الى بيتها، كان الرجل قد دفع نقودا لفك رهنية التلفزيون، يساعدها ليس بدافع الشهامة بل لأنه يحبها من زمان، لا يدين المخرج أبطاله ولا يحكم عليهم، تتسم تصرفات الرجال منهم بالنزق، الزوج ، الساحر، صديق الأسرة، ومسئول العمل كل الرجال حوارهم عبثي وأفعالهم خائبة. المرأة فقط هي العاقل الوحيد في "ريش". ورغم الحاح الرجل في مطاردة المرأة فإنه لا يحصل على مقابل  نقوده التي دفعها طواعية ولا يحصل على المقابل الذي يريده أن تبادله الحب في غياب زوجها، يزعق عاليا " افتحي الباب " مرددا عاوز فلوسي ، هي داخل البيت تحمل الرضيع ويحتمى ابنها الأوسط بجلبابها، والطفل الأكبر جالس عن بعد ويتواصل الرزع على الباب من المتحرش والمرأة ثابتة لا تفتح. وتنهار حجارة حول الباب ولكنه لا ينخلع.

 ويمضي الفيلم دون أن نعرف اسما لها ، هي زوجة العامل الفشار صاحب التصرفات النزقة، لم أجده متسلطا أو قاهرا لها ، حتى وهو يعطيها مصروف اليوم من خزنته الصدئة ومحددا، النهاردة وبكرة باذنجان. يشرب لبن من كوب كبير ويفشر بمنتهى الجدية، زمان كانوا بيجيبوا لكل واحد جاموسة صغيرة ونشرب لبنها سخن، هي صامتة لا تعارض له رأيا. يقوم بإرضاع الطفل وحوله الطفلين الأكبر وهي ترفع المائدة، رغم الفقر هناك حالة أسرية لا تصل في فقرها لأسرة " آكلي البطاطس" في لوحة فان جوخ.

في أوساط عمالية تدور الأحداث وفي موقع شديد الدلالة لمصنع يطلق نفاياته ونشاهد الدخان يملأ المكان فتغلق الزوجة نافذة صالة بيتها القريب جدا من هذا المصنع لتمنع دخول الدخان. هذا الموقع الداخلي المطل على ما يمكن اعتباره أطلال مصنع لا نعرف شيئا عن نوع العمل به، الزوجة أم لثلاثة أطفال ولدين ورضيع لم يحدد لنا المخرج نوعها، بنت أم ولد . هذه الأم وجدت نفسها مسئولة عن إطعام أطفالها وسداد ديون تورط فيها الزوج فلم يسدد إيجار المنزل وأصبحت مهددة بالطرد، رغم انفاقه النقود على حفل عيد ميلاد ابنه الذي اختفى فيه بفعل الساحر، هذا فيلم لا يرضي الباحثين عن حواديت، أو من ينتظرون حل اللغز، هل تحول الزوج فعلا الى دجاجة أم أن هناك حيلة ما لاختفائه واستغلال زوجته من الصديق الذي أحضر الساحر الذي اختفى ثم ظهر هو كمنقذ للمرأة وفارسا لحل مشاكلها. لا أتصور بديلا عن الممثلين غير المعروفين الذين قاموا بأدوار، الزوج، وصديق الزوج العاشق للمرأة ، والساحر، و موظف المصنع الذي يطبق القانون بصرامة غبية، ، احنا ما بنشغلش ستات لكن ممكن ناخد الولد يشتغل بدل أبوه، أي عمل هذا يستطيعه طفل في الثامنة من عمره!، وما الذي يمنع عمل المرأة!. الرجل يتحدث ناظرا للكاميرا فيما يمكن اعتبارها محل المرأة الحائرة التي تبحث عن حل  لتعويض غياب الزوج وإطعام أطفالها.

توقف معلقون ممن شاهدوا الفيلم بعد تسريبه عند مشهد سرقة المرأة لقطع من الشوكولاته وقطعتين من اللحم، ضبطها كلب الهانم صاحبة المصنع ثم التهم قطع اللحم وعوقبت المرأة الأم بطردها من العمل ، لتبدأ رحلة جديدة في البحث عن عمل آخر في مؤسسة غريبة، واجهة بها فساتين أطفال وفي الداخل أدوات صحية، نوعيات الأعمال التي اختارها المخرج تمثل صورة عبثية عن هذه الكيانات، مصانع  غير معروف نشاطها ، هل هي مؤسسة لجمع الروبابيكيا؟ ، أعمال صغيرة مثل عمل المتحرش الذي تمتلي شنطة سيارته ببضائع غريبة قد تكون من مهربات التصدير، أو ما يطلق عليه مصادرات الجمارك. أتفاعل مع الفيلم وأجده معبرا عن بيئات عمالية في مصر كحلوان أو امبابة، أو ضواحي الجيزة، أماكن حقيقية في مصر وأختلف عن اعتبار الفيلم يجرد الزمن والأماكن . هذه مناطق أعرفها وبناية منزل الأسرة في الفيلم تمثل أحد المساكن الشعبية، بناية لم يصورها المخرج حرفيا كما في الواقع حيث تطفح حولها المجاري ولكنه صور منزل تطل نافذته على دخان المصنع خالقا واقعا فنيا يعبر عن أجواء كارثية يعيشها هؤلاء العمال وأسرهم. في محاولتي للبحث عن منطق لمشاهد لم تفسر، قرأت المشهد الافتتاحي للرجل المحترق أنه للزوج بعدما ألقي به من صندوق الساحر ، سرق أشقياء محفظته وأشعلوا فيه النار . يرفض صانع فيلم مثل " ريش " أي تفسيرات كهذه أو أي تشبيهات أو اسقاطات، ولكني أمارس حريتي في التلقي كما مارس هو حريته في الإبداع، وأتلقى مشهد خنق المرأة لزوجها بعدما استحال شفائه كتحية لفيلم حب 2015 " آمور" صاحب سعفة كان الذهبية الذي خنق فيه المسن المحب حبيبته ليريحها من عذاب المرض، التخلص من الزوج ومن قرينته الدجاجة حلا رحيما لتمضي المرأة في حياتها، تعمل وتقاوم وتمنح أطفالها حلوى الجاتوه يأكلونها وهم يشاهدون مشاهد جميلة ملونة من التلفزيون لأسماك وزهور وأغاني مرحة من عالم آخر يعيشه آخرون، بعضهم لا يطيق التعرف على حياة عمال فيلم "ريش" وبعضهم يعرف أن هناك بشرا يعيشون هكذا، وعلينا أن نعمل على تحسين معيشتهم على الأقل حتى يتم إنقاذ الصغار منهم فلا يعملون في سن صغيرة ، ولا يحرمون من بعض المتع البريئة كمشاهدة التلفزيون أو أكل  بعض القطع من حلوى الأغنياء. أما عن انتقاد البعض لتعدد الأساليب في الفيلم بين المنهج العبثي ومنهج الواقعية فهذا معروف في منهج ما بعد الحداثة الذي يمزج أساليب متعددة في عمل واحد يفتح مساحة أمام كل متلقي للتفاعل مع المشاهد  المختلفة ومع العمل ككل حسب مرجعيته وكل حسب ذوقه الشخصي.  

لمن لم يتابع ما أسميته أزمة الفيلم ، أنه حين عرضه بالجونة عرضا أول في مصر والشرق الأوسط انسحب أثناء العرض عدد من الفنانين، وصرح أحدهم بالتهمة القديمة " فيلم يسي الى سمعة مصر" واشتعلت الأزمة وطلب البعض محاكمة من صنع الفيلم ومن أيد عرضه ومن كتب نقدا أو دفاعا عنه ، ولم تهدأ الأزمة الا بعد نشر بوست من منسق المشروع الرئاسي " حياة كريمة " ينفي أن يؤدي عمل فني إلى الإساءة إلى مصر ، وصمت المزايدون، وحصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم عربي من لجنة التحكيم الدولية بمهرجان الجونة ليضاف إلى جوائز كان بفرنسا، وجيلباو بالصين ، وأتوقع لفيلم "ريش" ومخرجه عمر الزهيري وكاتب السيناريو أحمد عامر والمنتجين شاهيناز العقاد ومحمد حفظي مزيدا من النجاح في أعمالهم القادمة معا أو مع سينمائيين جدد يضيفون لمصر نماذج من السينما العظيمة بتنويعاتها الفنية. 

صفاء الليثي

نشر مباشرة على صفحتي على الفيسبوك وأعيد نشره على مدونتي الخاصة هنا " دنيا الفيلم" 




No comments:

Post a Comment