أم كلثوم واللحن الأخير .. صوت يشبه مصر
نهاية عام 1974 وبعد وفاتها بقليل قدم المخرج
أحمد راشد فيلما مختلفا عن مسيرة أفلامه " أبطال من مصر " و" توفيق
الحكيم" باختياره للتناول الأغنية الأخيرة التي لم تسجلها أم كلثوم وكانت من
ألحان سيد مكاوي، بعد لحنه لها لأغنية " يا مسهرني" ، "أوقاتي
بتحلو " سجلت لها بروفة مع عود سيد مكاوي وتدخل القدر قبل تسجيلها النهائي
وبعد فترة سجلتها وردة الجزائرية . لا تفارق أذناي صوت أم كلثوم كما سمعتها في
فيلم أحمد راشد " أم كلثوم واللحن الأخير" مشروخا حزينا، رغم الكلمات
المرحة للأغنية التي تقول:" أوقاتي بتحلو، بتحلو معاك، وحياتي تكمل برضاك،
وبحس بروحي، بوجودي ، من أول ما بكون وياك..وياروحي ساعة ما ألقاك، مش بس أوقاتي
بتحلو، دي العيشة والناس والجو، دي الدنيا بتضحكلي، بتضحكلي معاك " الفيلم من
إنتاج المركز القومي للسينما ، ألوان مدة
عرضه : 20 ق، تصوير سعيد شيمي ومونتاج أحمد متولي. عرض " أم كلثوم واللحن
الأخير" عام 1975 بعد التصوير بعام تقريبا.
قليلة هي الأفلام التي وثقت لمسيرة
وحياة معجزة الغناء المصرية التي تكاد تكون الوحيدة المعروفة جيدا في الأوساط
العالمية، يسمع لغنائها دونما حاجة لفهم الكلمات العربية التي تتغنى بها.
هناك
الوثائقي " أم كلثوم صاحبة العصمة" وثائقي من إنتاج قناة الجزيرة، أخرجه
شريف عزت وساعد في إخراجه طارق متولي، الوثائقي في جزئيين يوثق بأسلوب كلاسيكي
بادئا بجنازتها المهيبة ومسترجعا مشوارها اعتمادا على وثائق هامة يعلق عليها معد
المادة البحثية سيد محمود، وآخرين منهم المؤرخ صلاح عيسى والفنان التشكيلي عادل
السيوي. الفيلم مهم لمن لا يعرف أم كلثوم ، بداياتها ، مسيرتها وعلاقة المصريين
والعرب بها، ودورها مع ثورة يوليو، وعبد الناصر ، ودورها في جمع التبرعات (لإزالة
آثار العدوان) فيلم هام رغم تقليديته ولكنه لا يضارع فيلم اليهودية الأمريكية
(ميشيل جولدمان ) الذي أنتج عام 1996 وعرض بمهرجان القاهرة وأحدث صدى كبيرا بداية
من عنوانه الفني " أم كلثوم صوت يشبه مصر" وحتى كتابة هذا السطور لم
يقدم عمل عن أم كلثوم يقترب من تفرده بالكشف عن أهمية أم كلثوم لكل مصري كان وما
زال يرتبط بأغانيها وخاصة عندما يخوض تجربة الحب، تجربة العشق لآخر وللوطن أيضا
تجد ملاذها عند أم كلثوم في أغانيها العاطفية والوطنية على السواء. قبل أن أتناول
بالتحليل هذا الفيلم البديع لا يمكن تجاهل فيلم المخرجة الأمريكية من أصل إيراني شيرين نيشات، " البحث عن أم كلثوم" فيلم ألماني نمساوي مشترك، وبطولة ياسمين رئيس ونيدا رحمنيان، وقدمت
أغانى أم كلثوم المطربة مروة ناجى، وتم تصويره مشاهده بين المغرب وألمانيا والنمسا
ومصر، الفيلم يقدم سردا غير تقليدي يتقاطع فيه عرض حياة أم كلثوم كما تعرفها
المخرجة مع محاولة مخرجة داخل الفيلم بتقديم فيلم عن شخصية استثنائية مصرية تغني
بلغة عربية.
عرض الفيلم
بافتتاح مهرجان أسوان لأفلام المرأة وقبلها عرض بمهرجان فينيسا وجاءت تجربته محيرة
لمن شاهده، يعكس عنوانه أيضا " البحث عن أم كلثوم" حيرة مخرجته التي
سكنتها شخصية أم كلثوم المنطلقة من بلدتها الريفية محملة بموهبة نادرة، وكيف تحولت
من قراءة القرآن والتواشيح في بلدتها بعمق ريف مصر إلى (كوكب الشرق) ودرته النادرة.
اختارت المخرجة شكلا مركبا للفيلم ليس وثائقيا بشكل تقليدي، ولكنها قدمت فيلما
داخل فيلم عن المخرجة التي قررت أن تنجز فيلما عن أم كلثوم وتصور ارتباكها وحيرتها
في رحلة بحثها عن جذور أم لثوم ليتحول الفيلم إلى بحث عن ذات المخرجة نفسها ، إلى
بحث عن الذات المبدعة وجدت إلهاما في هذه الفتاة الفقيرة من قرية طماي الزهايرة
التي وصلت بإصرارها لتكون أم كلثوم أروع من غنى باللغة العربية قاطبة.
ميشيل جولدمان المهمومة بمصرشعبا وتاريخا، المنشغلة بما جرى وخاصة في
الحقبة الناصرية كما بدا في فيلمها الأخير " جمهورية ناصر" الذي عرض في
بانوراما الفيلم بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 38 عام 2016 . الفيلم
الذي اهتم لمشاهدته كل من لم ينسى فيلمها البديع " أم كلثوم صوت يشبه
مصر" الذي عكس جمال الشعب بفئاته المختلفة ولم يقف فقط عند جمال أغنيات كوكب
الشرق. مضى حوالي عشرون عاما على مشاهدتي الأولى للفيل ومازال مشهد صاحب المقهى
الذي يغني بصوته الأجش في حالة من الشجن مقطعا لأم لثوم، لا تقاطعه ميشيل ولا
تنصرف عنه إلى أصحاب أصوات أجمل ولا إلى أداء أكثر حرفية ، بل تترك اللقطة على
طولها ليصل تأثير ما أرادته عن تفاعل الناس، بشكل تلقائي مع غناء أم كلثوم وعن
كونهم يتحولون إلى كتلة من الشجن وهم يصاحبون غناءها بأصواتهم المنفعلة . من خلا
الفيلم تصل المخرجة إلى التعبير عن روح مصر، في القاهرة المزدحمة، الزخمة بتفاصيل
الحياة، في فيلم بعيد تماما عن تقاليد السرد الكلاسيكي لفيلم تسجيلي، بل في فيلم
يقتنص جوهر الأشياء وينجح في التعبير عنها، تاركا المشاركين من شخصيات قدمتهم في
الفيلم، والمشاهدين للفيلم بعد انتهائه في حالة من النشوة وكأنهم كانوا يؤدون طقسا
إيمانيا يملأ روحهم بكل ما هو جميل.
فيلم " أم كلثوم صوت يشبه
صر" صوره مدير التصوير كمال عبد العزيز وعلق عليه الفنا الكبير عمر الشريف،
وجده أحد مستخدمي الشبكة الدولية أجمل فيلم وثائقي عن أم كلثوم ، إذ كتب تحت عنوان:
( أفضل فيلم وثائقي عن حياة أم كلثوم
) كيف أن أستاذه البروفيسور بروس كوك ،
الأستاذ في كلية ديابلو فالي ، ضغط على زر تشغيل الفيلم ، ومنذ بدايته ، لم أستطع
الاهتمام بباقي درسي في هذا اليوم.هذا الفيلم الوثائقي ، الذي يقترب من مقاربة علمية ، سوف يستمتع كل من
يبحث عن ساعة ونصف جيدة. ومفيدة .بتوثيق حياة أم
كلثوم ، علمني هذا الفيلم تاريخًا كنت سأعرفه إذا لم يكن لحقيقة أن كلثوم لم يكن جزءًا
من الثقافة الموسيقية الغربية. هزت موسيقاها الكثير من مصر وكانت قوية للغاية من الناحية السياسية
والموسيقية هناك. الفيلم يحكي كيف تحولت من
فتاة صغيرة قامت بأموال لعائلتها إلى مطربة شهيرة للغاية. شاهد هذا الفيلم. من المؤكد أنك ستحبها إذا كنت مهتمًا
بالعلوم العرقية أو حتى إذا كنت مهتمًا بهذا النوع من المعارف . إلى هنا ينتهي
تعليق المستخدم العادي الذي ينصح بمشاهدة الفيلم ومن الواضح أنه يصلح كمادة
توضيحية لدراسة علم الأعراق ومعرفة كيف يمكن أن يتجاوز حدود مكوناتها المحلية
لينجح في التواصل مع باقي شعوب العالم. إنها معجزة أم كلثوم التي تتجاوز كل فناني
المسارح الراقية وهو ما عبر عنه الفان عادل السيوي حين أسمع مغنية أوبرا إيطالية
لكل من فيروز وأم كلثوم فقالت عن فيروز إنها مطربة بارعة ولكن أم كلثوم معجزة.
في إطار
عنوان (في خدمة الفن والثورة) قرأت مقال عن وثائقي عرض بمهرجان نيويورك السينمئي
الدولي ، يقصد به الكاتب من نيويورك تايمز فيلم ميشيل جولدمان كتبه في نفس عام
إنتاجه 1996 :
" إن موضوع "ميشيل جولدمان" "أم كلثوم: صوت مثل مصر" هو
أقل شهرة في هذا الجزء من العالم من فانون. أم كلثوم ، التي توفيت في عام 1975 ،
كانت مغنية تحظى بالاحترام في مصر وشعبية في جميع أنحاء العالم العربي. لقد أثر
صوتها وأغانيها على شعبها وشجعت روحهم وشوقهم إلى أن أصبحت قوة قوية في جهود مصر
لإنهاء الاحتلال البريطاني ، وتحقيق تطلعاتها القومية ، وإطاحة ملكيتها، وتصبح
جمهورية في عام 1953." تعتمد الأفلام بشكل تقليدي في معالجاتها لموضوعاتها، وتعتمد بشكل كبير
على المقابلات مع الكتاب والنقاد والصحفيين والعائلة والأصدقاء ، وعلى الصور
الثابتة والصور المتحركة... صورة أم كلثوم تزداد
وضوحًا كلما تقدمت، وساعدت بشكل كبير في الإرث الغني للأفلام والتسجيلات التي يمكن
أن تعتمد عليها السيدة جولدمان. هنا يحدد الكاتب أن ما
اعتمدت عليه المخرجة في فيلمها جعل الصورة أكثر ما تكون وضوحا نتيجة للوثائق
الغنية المتوافرة في حال النية لعمل فيلم وثائقي عن أم كلثوم. ومن وجهة نظري فإن
ميشيل لم تكتف بهذه المواد- رغم وفرتها- بل صورت مواد وفيرة أخرى معاصرة مع
المصريين في أماكن تواجدهم وخاصة في المقاهي ، بعضها يحمل اسم أم كلثوم، يعتمد
قديما على إذاعة أغانيها في مواعيد إذاعتها الثابت بمحطات الإذاعة المصرية، قبل
تحولها إلى محطات تلفزيونية تذيع الأغاني والأفلام . مقاهي يتخذها العشاق أماكن
للقاء ، يعيشون مع أغانيها قصص حبهم .
صوت يشبه مصر
تبدأ ميشيل
جولدمان فيلمها مع لقطات لريف مصري قديم حيث الشادوف والساقية مع صوت يمثل أم
كلثوم أداء منى زكريا تحكي أنها ولدت فجرا، وتنهي فيلمها بعد مشاهد الوداع بتلخيص
بديع لكل عناصر الفيلم، عمارتها التي بنيت على أنقاض فيلتها ، ومشهد لشخص نشوان
بأغنية لها، يغني "فكروني إزاي" وخلفه محطة السكة الحديد الرئيسية
بالعاصمة والتي نسميها (محطة مصر) لقطات للقاهرة ليلا ، ثم نفس مشهد البداية
للموقع الفلاحي ولكن في المساء ورجل يعد الشاي على راكية النار . تنزل العناوين
أولها إهداء إلى أفريل بوتوفسكي رجل أحب مصر ، ثم تتر المخرجة المنتجة وكاتبة
السيناريو، لوحة عن كتاب " صوت مصر" تأليف فيرجينا دنكسون جامعة شيكاغو
نشر بعد عرض الفيلم بعام ، ثم تعليق عمر الشريف ، مدير التصوير كمال عبد العزيز (
ومن الملاحظ أنه كان يسأل بعض الشخصيات الشعبية التي قابلتهم المخرجة في الفيلم.
ساعة وسبع دقائق، 67 ق ،مدة عرض الفيلم الوثائقي الذي اعتمد على بحث جامعي يربط
شخصية مطربة الشرق أم كلثوم بشعبها وتاريخه . اختارت المخرجة الكاتب سعد الدين وهبة،
الصحفي المفكر محمد عودة، والمخرج توفيق صالح ، والمذيعة اللامعة آمال فهمي،
شخصيات تعرف بتوجهها الناصري وانحيازها الشديد لفترة حكمه. ومع صور فوتوغرافية
نادرة وقيمة، ومقاطع من أغانيها، ومشاهد للقاهرة المعاصرة صاغت ميشيل فيلمها
الغني، في مونتاج خلاق يربط التعليق بالصورة، ويترجم ما يقال من آراء ويدلل عليها
بما يؤكد ما يشرحه توفيق صالح أو سعد وهبة أو آمال فهمي. البديع في الفيلم هذه
اللقطات التي جرت مع عابر بالطريق، أو عامل في مقهى، ينفتحون بالغناء متغلبين على
خجلهم، مندمجين ناسيين الكاميرا في تعبير فطري دون فلسفة عن تعلقهم بأم كلثوم
واعتبار أن كل حكاية حب تغنيها تخص كل فرد منهم.
الفيلم حصل على
جائزة أفضل فيلم وثائقي من مهرجان سان فرانسسكو عام 1996، عرض بمهرجان القاهرة في
قسم يسميه يوسف شريف رزق الله مهرجان المهرجانات يضم الأفلام التي عرضت بمهرجانات
عالمية وحصلت على جوائز. احتفى المصريون بالفيلم عند عرضه، ولم يتشكك أحد في نوايا
مخرجته اليهودية الأمريكية، فقد كان واضحا أنه مبني على تقدير لمعجزة الغناء
العربي أم كلثوم، ولعبد الناصر وعلاقته بها، دورها في جمع تبرعات للمجهود الحربي،
حولت حزنها على هزيمة 67 إلى طاقة إيجابية ومبادرة لخدمة وطنها، عملت على بذل جهد
للمصالحة مع بورقيبة وعادت العلاقات مع ناصر ونظامه بفضل جهدها وغنائها الذي
استقبل بحفاوة بالغة " هل رأى الحب سكارى" مع أطلال السنباطي. في خلال
الساعة، عرض لسيرة حياتها، تعريف بملامح شخصيتها، إظهار علاقتها بمصر الملك،
وتوقعها للثورة ، شرح لمزايا صوتها وعلاقتها بأحمد رامي ، والقصبجي، علاقتها بمحمد
عبد الوهاب وشرح الفارق بينهما، عبد الوهاب الذي وصفها ( زعيمة واقفة تغني) يأتي
الوصف على لسان مؤرخ موسيقي حكى كيف كانت تأتي لحفلات الجامعة وكيف كانوا كومبارس
لها في غناء (نشيد الجامعة) يا شباب النيل هبوا للعلا ..وفي النهاية يصف كيف نزلت
دموعها حين غنت وأحست بضعف صوتها، تقطع المخرج عليها تغني (واثق الخطوة يمشي ملكا)
تعبيرا عن كبريائها الذي جعلها ترفض الاستمرار بعد ضعف صوتها.
المادة الغنية
التي جمعتها المخرجة، والشخصيات الكبيرة الذين قابلتهم، وما انكشف لها من عظمة هذا
الفتاة الريفية ابنة الشيخ ابراهيم التي نجحت في تحقيق معجزة البقاء والاستمرار
على عرش الغناء العربي لخمسين عاما متصلة أو تزيد، كل هذه العناصر كانت محفزة
للمخرجة على إبداع فيلمها الأفضل عن أم كلثوم ، وسيكون اقترابها من علاقتها بعبد
الناصر دافعا ليكون فيلمها التالي بعد مرور سنوات عن جمهورية عبد الناصر، عرض
بمهرجان القاهرة أيضا وحضره الشخصيات المعروفة بعروبيتها وتعلقها بعبد الناصر.
هذا فيلم يدرس
ليعرف شباب المخرجين كيف يقدمون شخصية ما ويعكسون معها خلفية تاريخية للبلد
وللنظام، وكيف يعبرون عن علاقة أفراد الشعب من عامة الشعب بشخصية تشبههم وتمثلهم
كما أم كلثوم الصوت الذي يشبه مصر .
صفاء الليثي
نشر بمجلة الفنون عدد ديسمبر 2019
نسخة من فيلم صوت يشبه مصر A
voice Like Egyp
No comments:
Post a Comment