رحيل الرجل الذى احترم
الاتقان حد البكاء
كان أحمد الحضري شابا فى المرحلة الثانوية، حين
وقع فى هوى السينما، ومارس التصوير بدلا من تدخين السجائر، تفوق على الإنجليز فى
التعبير باللغة الإنجليزية، وهو الأجنبى الوحيد، فسلموه أمانة الصندوق بجمعية
الفيلم فى لندن، وهناك صور فيلما لزميلة إيطالية، يبكى الحضرى عندما يتذكر إتقانها
وبراعتها فى إخراج الفيلم، وتصويره الذى لم يرتكب فيه خطأ واحد، كما يبكى عندما
يتذكر تحديه لوزير الثقافة المصري الأسبق ثروت عكاشة فى حكومة الضباط الأحرار.
درس الحضرى
الهندسة المعمارية فى كلية الفنون الجميلة وتخرج عام 1948. ثم تمكن من ممارسة
هوايته فى التصوير أثناء بعثته بلندن، اشترى الكاميرا وحمض أفلاما صورها بكاميرا 8
مللي وعرضها بجهاز عرض نفس المقاس. عاد لمصر مهندسا معماريا وعمل بتخصصه 19 عاما
مهندسا عاملا وسينمائيا هاويا، ثم عكس الأمر فمارس السينما 19 عاما والهندسة أصبحت
هوايته. فى لندن تعرف على تجربة "جمعية الفيلم" ونقلها إلى مصر فأسس مع
مجموعة من المثقفين المصريين "جمعية الفيلم" بالقاهرة. عاد
عام 1955 إلى مصر وكله حماس لتطبيق ما تعلمه، وشارك فى نشاط جمعية "الفيلم
المختار" حتى عام 1959، وتم تأسيس "جمعية الفيلم" عام 1960 كأول
جمعية تسجل بالشئون الاجتماعية. بدأت نشاطها فى مايو 1961، وهى الجمعية التى
استمرت حتى الآن.
ومن نتائجها
المهة فيلم "حصان الطين" الذى أنتجته الجمعية لفتاة هاوية سينما وقتها
وهى عطيات الأبنودى، قام الحضرى بتصويره مع محمود عبد السميع الذى خلفه الآن فى
رئاسة جمعية الفيلم.
نشاط الجمعية وكتابة
المقالات عن السينما فى مجلة المجلة لفتت النظر إلى ضابط الاحتياط أحمد الحضرى
الذى كان يحضر اجتماعات السينما بزيه الرسمى. اختاره ثروت عكاشة لعمادة معهد
السينما بعد أن طلب منه كتابة تقرير عن كيفية تطوير مناهج معهد السينما فكان
تقريره مركزا على زيادة الناحية العملية وعاد بعد زيارة لمعاهد بولندا
وتشكيوسلوفاكيا وفرنسا ليستفيد من كل المناهج ومن طرق التدريس التى تقدم بالخارج
المتقدم. بعدها استلم العمل بالمعهد وقام بمحاولة لتنفيذ رؤيته فى التطوير ولكنه
اصطدم بكثيرين قدموا اعتراضات ضده، أما هو فقام بترجمة كتب فى الدراسات السينمائية
ليستفيد منها المبتديء والمحترف على حد سواء. حبه للاتقان على طريقته واصراره على
التميز يجعله ينجح فى أن تكون سنة عمادته 67/68 كأول دفعة يتخرج منها الجميع بعد
أن أنهوا مشروعات تخرجهم بالكامل ومنهم
سمير سيف وابراهيم الموجى.
بعد اعفائه من عمادة معهد
السينما كلف بالإشراف على نادى السينما وقدم فيه كل الخبرة التى اكتسبها فى لندن
وخاصة إصدار النشرة التى تعد مرجعا هاما للثقافة السينمائة وتوثق للنشاط الكبير
الذى قدم للسينما. مرت سنوات طوال، فيها تنوعت أنشطة الحضرى
فى جمعية الفيلم، ومعهد السينما، والمركز القومى للسينما، وصندوق دعم السينما، إلى
جانب العمل فى مهرجانى القاهرة والاسكندرية.
كنت أجريت لقاء معه ونشر
بمجلة الفن السابع تحت عنوان "حديث من القلب" فى العددين 29 و30 عام
2000. سجلت معه فى منزله واندهشت من مرارات يحملها فى ذاكرته الرجل الذى نظنه
ثابتا كصخرة، كانت دموعه تغلبه فأضطر لغق الكاسيت وأنتظر تماسكه ليعود إلى البوح.
دموع الفرحة بعمل يحبه وتفوق فيه، ودموع قهر لأن هناك من لم يتحمل دقته وإصراره
على التغيير، دموع لم تتوقف يوما تفضح رهافة حسه وامتلاء قلبه وعقله بحب الجمال
والفن والإتقان.
تزاملنا بمجلس إدارة جمعية
نقاد السينما المصريين، شجعنى على تحمل مسئولية أمانة الصندوق وحين تخوفت من عدم
قدرتى على أداء المهمة، أكد لى وبحنو الأخ الأكبر أنه سيساعدنى
ويكون بجانبى، وقد كان حقا. رغم اختلافاتنا فى بعض التوجهات النقدية فنا وسياسة
إلا أن صفة كانت تجمعنا فقد كان الراحل الكبير يجن جنونه لعرض الفيلم بأبعاد تشوه
الكادر فتمطه طوليا أو عرضيا، أشاطره فى هذا الرفض ويصعد بنفسه درجات عالية حيث
كابينة العرض ليضبط مع مسئول العرض حجم الكادر ودرجة الصوت. لم يسكت يوما عن الحق،
ينبرى للإعلان عن رأيه بدرجة فيها قدر من نزق الشباب. نعم فقد كان شابا حتى نهاية
العمر، صدفة قابل نادية كامل فأنبها على فيلمها " سلطة بلدى " الذى وجده
يدعو للتطبيع مع اسرائيل. ومن حوله يشعرون بالحرج، بينما هو غير ملتفت لدعوات التهدئة
ويرى أن هذه أمور لا يمكن التنازل فيها. صراحته لم تكن تغضب أحدا، بل احترمه
المختلفون معه قبل المتفقون لثقتهم فى براءة يتمتع بها، شابا يتمتع بفتوة فى
الإيمان بما يعتقد وفى الدفاع عنه حتى آخر مدى.
وتبقى الكتب التى ترجمها
بالنسبة لى إنجازا كبيرا فعناوين الكتب بالإضافة إلى دقة ترجمتها وجمال اللغة
العربية التى تخلو من العيوب الشائعة لكثير من الترجمات مما يجعلها كتبا باقية
تسهم فى تعلم السينما ومنها كتاب مارسيل مارتان الهام المعنون اللغة السينمائية، وكتاب كيف تتم كتابة السيناريو. بالإضافة لجهده
فى إصدار دليل السينما المصرية وخاصة جزأه الأول
والذى نسميه فيما بيننا بالكتاب الأسود نظرا لغلافه بين الرمادى والأسود ويعد حتى
الآن واحدا من أهم المراجع لكل ما أنتج من أفلام الطويلة منها أو القصيرة
والتسجيلية ولم يضاهيه أى دليل صدر بعده حتى يومنا هذا.
وحتى وقت قريب قبل رحيله
كان متابعا لكل الأنشطة، مشجعا لكل محب للسينما، لم يتوقف يوما عن الاهتمام
بالاتقان الذى اشتهر به وشهد له كل من تعامل معه وخاصة زميله الذى رحل قبله بقليل
الباحث يعقوب وهبى، وكأن مصيرهما فى خدمة الثقافة السينمائية الواحد والكبير قد
وصل إلى محطته النهائية وكلاهما راض عما قدمه لخدمة فن أحبه وثقافة أخلص لها. أحمد
الحضرى ترك لنا ترجمات من أهم الكتب السينمائية تؤكد أن أصحاب الفضل لا يموتون بل
هم باقون خالدون طالما بقيت آثارهم الهامة روافد لمعرفتنا ولتطور السينما فى مصر.
صفاء
الليثي
مونتيرة
وناقدة سينمائية مصرية
نشر بكتاب الهلال فبراير
2017 رئيس التحرير سعد القرش
No comments:
Post a Comment