Wednesday 6 April 2011


الثورة وتحرير الوثيقة من قيودها

 لمن يختزل ثورة 25 يناير بأنها انتفاضة شباب، بل هى ثورة غيرت وجه الحياة فى مصر وغيرت واقع السينما التسجيلية ولم يعد صناعها باحثين عن الموضوعات، وعمن يمول أفكارهم، امتلك الكثيرون أدوات إنتاجهم، ودون الحصول على تصاريح التصوير وموافقة الجهات الرقابية، تحرك الفنانون فى حماية الشعب ليوثقوا ثورته، متوحدين معها، مشاركين بها من الداخل، انتهت العلاقة الملتبسة بين الفنان وموضوعه، انصهر الجميع فى ذات واحدة تصور أفلام الثورة وتشارك فى آن، ألقى المصور الشاب الكاميرا لمدير الإنتاج المرافق له، واندفع يقذف حجارة تجاه البلطجية المأجورين الآتين من ناحية ميدان عبد المنعم رياض صوب ميدان التحرير، أما والدة الشاب المتواجدة أيضا فى الميدان فقد أخفت نفسها حتى لا يراها فتضعف عزيمته، وهى تختفى عن أنظاره حتى لا يغلبها حنين الأم على واجب الوطن.
المصور الشاب كان يصور فيلما تسجيليا عن "الهتيفة " وهم شباب كثيرا ما هتفوا فى مباريات كرة القدم، كانوا منبوذين من قطاع عريض من الشعب وخاصة من المثقفين، الآن هم فى قلب الثورة محتفى بهم، يردد الشعب هتافاتهم، أهازيج الثورة التى يسمعها من لايعرف اللغة فيشعر أنها أغانى حماسية ( ثورة ثورة حتى النصر .. ارحل يعنى امشى .. الشعب يريد ). نعم أراد الشعب ومعه السينمائيون، مائة ألف سينمائى صغير شارك فى الثورة بوثيقته الخاصة، نعم كانت الصورة مهمة لدورها فى كشف الحقيقة ولكن المشاركة فى حماية الثورة بصد هجمات البلطجية، كان للغالبية  دور أهم. المخرجة نوارة مراد، الفتاة صغيرة القد أخذت تكسر أحجار الرصيف لتمد الشباب بمدد للمقاومة، تقف بالإسعافات الأولية وسط الميدان لتكون فى استقبال جرحى المعارك، تدلهم على طريق المستشفى الميدانى الواقع فى زاوية- جامع صغير- خلف مقاهى مطلة على الميدان الكبير، الكبار متجمعون وسط الميدان فى منطقة آمنة بقلوب واجفة تراقب، الشباب يندفعون ملقين بصدورهم لعصى المأجورين ورصاصات الأمن المتخفى وسط مؤيدين للنظام السابق،  كل هذا صورته الكاميرات على مختلف أحجامها لتتحرر الوثيقة من مموليها ومراقبيها، حررت الثورة الفيلم التسجيلى من قيود طالما قمعت انتشاره وتواجده. 
من ثوار التحرير المخرج تامر السعيد، اعتصم وتظاهر وصور أحداثا، ذهب إلى وزارة الخارجية مع المتظاهرين ضد رئيس الوزراء أحمد شفيق من النظام القديم، سُحل وُضرب ولكنه عاد كونه جزءا من شباب الثورة الملتحمين بها ، التقيت تامر بمقر نقابة المهن السينمائية حيث يساند عددا من المعتصمين المطالبين بسقوط مجلس النقابة والنقيب الذى وقع بيانا يدين السينمائيين المشاركين بثورة 25 يناير ثم عاد وادعى أنه كان موجودا ومؤيدا لها، تامر السعيد له علامات مميزة فى مشواره، منها الفيلم الوثائقى "غير خدونى" عن سجناء الرأى بالمغرب والفيلم القصير " يوم الاثنين" بالإضافة إلى سيناريو فيلم ابراهيم بطوط " هليوبوليس" حين سألته عن تواجده بالتحرير قال : " متواجد فى التحرير باعتبارى فردا من الشعب، المخرج فىّ وجد أن من مصلحة المواطن أن يعيش الثورة بهموم المواطن لا بهموم المخرج، ولهذا توحدت مع الناس، قبل اندلاع الثورة كنت مشغولا بفيلمى الطويل " آخر أيام المدينة " وهو فيلم ديجيتال مستقل أقوم فيه بالسيناريو والإخراج كما أدير عملية الإنتاج معتمدا على عدد من المنح ... يتحدث الفيلم عن الغليان فى الشارع  وكنت تركته مفتوحا للتجربة،  وعدت للتركيز فى الفيلم بعد فترة أعليت فيها دور المواطن على دور المخرج، فى التحرير كنت صورت أجزاء مما حدث، أجرى المونتاج على الفيلم حاليا، لست متأكدا الآن أنها ستكون جزءا من الفيلم، مسار الفيلم هو الذى سيحدد ذلك، وأجد أن أفضل دعم أقدمه للثورة هو إنهاء فيلمى. ليس دورى هو تحقيق أفلام مباشرة عن الثورة، لا أجد نفسى فى منطقة الاحتفاء بأى شيء مهما كان، أجد مكانى فى صفوف المعارضة حتى بعد الثورة، يغلبنى حسى النقدى، لا أريد أن أركن ،أريد أن أبقى مشتعلا بالغضب فالثورة فى تطور مستمر، ولم يأت بعد اليوم الذى نشعر فيه أننا أدينا مهمتنا (لسة ما خلصناش ) أشعر دائما أن هناك ما نفعله وما نستكمله، هناك دائما شيء ناقص ، لدى قلق دائم أعتبره دافعا لى ،هو الحياة بالنسبة لى وغيره السكون أو الممات. وعودة للفيلم فهو عن مخرج أفلام تسجيلية يقوم بدوره الممثل خالد عبد الله وممثلة ثانية هى ليلى سامى، باقى شخصيات الفيلم يقومون بأدوارهم الحقيقية فى الحياة، بهذا هو مزج بين التسجيلى والروائى، السيناريو قائم على ارتجال المشاهد تماما أثناء التصوير، أشبّه مخرج الفيلم الروائى بالمزارع الذى يرعى نبتته ويسهر عليها حتى تثمر، أما المخرج التسجيلى فإنه يشبه الصياد الذى يلقى شباكه وينتظر المجهول الذى سيفاجئه. فيلم " آخر أيام المدينة " مزج بين روح المزارع وروح الصياد الذى يقدم على عمله بروح المغامرة ثقة فى الحياة وما ستعطيه له.
استخدمت فى التصوير كاميرا بسيطة ( باناسونيكHVX 200  ) ليس بسبب ضعف التمويل ولكن لأن مثل هذا النوع من الكاميرات مناسب جدا لصالح الأسلوب الذى اخترته فى عملى. أرى أن التقنية الجديدة تتخلق معها جماليات يمكن تذوقها والاستمتاع بها، وهذه التقنيات الحديثة فرضت جمالياتها وجمهورها أيضا الذى يتشكل ذوقه  مع تسارع تغير التقنيات. كل من كانوا بميدان التحرير ليسوا مستعدين لمشاهدة نفس الأفلام، حدثت نقلة نوعية فى الوعى لدى الناس- حدثت لى شخصيا – لا أحد مستعدا لمشاهدة نفس السينما البليدة ، جاء وقت التعبير عن معانى انطلاقا من روح مختلفة لابد أن نكون كلنا جزءا منها ،هُدم جدار الخوف ،وحل محله رغبة صادقة ومخلصة لنتناول همومنا الحقيقية.
اكتسبت خبرة الإنتاج بعملى كمنتج فنى لعدد من الأفلام التسجيلية لغيرى من المخرجين، تعلمت منها آليات إنتاج أفلام لسينما محدودة التكاليف، أفادتنى فى عمل فيلمى، وهذه المهنة أحب القيام بها مع زملائى الذين أشعر بأننى واحد منهم. تنازلت عن مكاسب كثيرة لرغبتى فى العودة إلى مصر،وأصر على البقاء بها دون تنازل، أصر على المشاركة على طريقتى وليس كما يراد لى. ومع الثورة الإحساس بأهمية الوثيقة المجردة قد ازداد، وبرز التساؤل هل هى حرب الصورة،أم صورة الحرب ، أصبحت الصورة طريقة لكتابة التاريخ ، ملايين المراجع التاريخية تحكى التاريخ عبر الصور المتنوعة، وعلينا مهمة إعادة أرشفة كل ما صور حتى لو بتليفون شخص هاوى، نحن محظوظون جدا أننا عاصرنا هذه الثورة، ومحظوظون لأننا سنترك وثائق للأجيال القادمة وسنفرح بأننا قادرون على كسر سياسة توزيع الفيلم التسجيلى عبر نشره على المواقع الالكترونية، فيتشارك فيها الجميع ويعلقون عليها لحظة بلحظة. (يضحك تامر) قد تكون هذه هى الفائدة الوحيدة للعولمة ، أننا أصبحنا قادرين على أن نوصل للعالم كله ما نقوم به،أصبح حجب المعلومات مستحيلا وهذا ما أسقط الأنظمة . يستحيل الآن أن تتكرر محارق الهولوكوست،أو مذابح صدام، أو سيتم على الأقل إيقاف اجتياحها للشعوب".

No comments:

Post a Comment