Sunday, 24 April 2011

فيلم تسجيلى عن رائد النهضة المصرية


إرهاصات الثورة وسحب التغيير
يكثر الحديث عن أن ثورة 25 يناير فاجأت العالم، والمفاجأة هنا تجاوز الحقيقة، فمصر منذ عدة سنوات حبلى بالثورة وخاصة مع تزامن حركة كفاية مع مشروع بالتوريث، فكان الشعار لا للتمديد لا للتوريث، أُخذ على حركة كفاية أنها نخبوية، تخرج مظاهراتها فى وسط المدينة ، سماها البعض مظاهرات طلعت حرب، وهو الميدان الأصغر الذى يلى ميدان التحرير، ولم تكن حركة كفاية هى وجه المعارضة الوحيد بل ظهرت عدة حركات أخرى، منها حركة 6 أبريل، ومجموعة كلنا خالد سعيد بالطبع مع عدد من الأحزاب المعارضة بعضها يلقب بالجماعة المحظورة – جماعة الإخوان المسلمين- وأخرى تسمى بالكرتونية لضعفها ولعملها فى كنف السلطة، ولكن رقعة الاحتجاجات اتسعت لتشمل عمال المحلة الكبرى المعارضين لسوء الأحوال الناتج عن الخصخصة، كما ظهرت أيضا حركات فلاحية معارضة، بل أن موظفى الدولة رفعوا أصواتهم وطالبوا بتحسين ظروف المعيشة، ترك النظام هامشا للحرية عبر صحف معارضة وقنوات تلفزيونية خاصة لإسكات أمريكا والغرب التى تطلب من النظام تحقيق الديمقراطية، ظلت المعارضة تؤذن فى مالطة على ما يبدو، ولكن ما حدث من الانفجار العارم لقطاعات الشعب المصرى فى كل مدن القطر يؤكد أن النار كانت تحت الرماد. وأن الثورة كامنة رغم ما تبدو الأمور عليه من السكينة.
" تعظيم سلام "

 من سيد سعيد إلى طلعت حرب

قبل اندلاع الثورة بعام تقريبا عكف المخرج والناقد سيد سعيد على فيلم كُلف به لحساب شركة مصر للصوت والضوء التابعة لوزارة الاستثمار، وكانت الفكرة إنتاج أفلام عن رواد الاستثمار. اختار سيد سعيد "طلعت حرب " رائد النهضة الصناعية المصرية" مؤسس بنك مصر أول بنك وطنى أُسس من أموال المصريين وكون مجموعة شركات تتكامل لتكون قلعة صناعية تروج لها السينما فأنشأ أيضا " ستوديو مصر" أحد قلاع صناعة السينما المصرية وأكبرها على الإطلاق. برؤية المبدع والسياسى ظهر فيلم " تعظيم سلام " عملا نقديا سياسيا فى المقام الأول يقدم مرثية عما آلت إليه الأوضاع بعد إفلاس بنك مصر  وانهيار الصناعة التى أصبحت خرابات ونفايات.
سار الفيلم التسجيلى الأول لمخرج "القبطان" جامعا عدة مناهج للفيلم التسجيلى، إذ يبدأ بأسلوب التحقيق المصور سائلا المارة لمن هذا التمثال، الإجابات تعكس مأساة أخرى عن انهيار التعليم والثقافة فى السنوات الأخيرة، الوحيد الذى أجاب إجابة صحيحة  فلاحُ مصرى، سرد بفخر سيرة طلعت حرب مؤسس بنك مصر ورائد الصناعة المصرية، التوفيق وضع هذا الفلاح الفصيح  فى طريق الفنان المنحاز للعمال والفلاحين؟ ثم يعرج  الفيلم على أسلوب الريبورتاج الذى يقترب بعض الشيء من البرامج الحوارية، ثم فقرة فنية معتمدة على شريط صوت غنائى نادر، الثقافة الرفيعة للفنان تتبدى فى اختياراته الموسيقية التى تشكل مع الصورة وحدة مشهدية تحبس أنفاسنا، وعندما تنتهى تسلمنا إلى قطعات حادة لننتبه أننا أمام حالة اغتيال لهذا الإنجاز العظيم، اغتاله الاستعمار الإنجليزى ثم الأنظمة المصرية عبر مراحل انتهت بالخصصة التى أخذت معها كل المنجزات العظيمة لطلعت حرب الذى مات بحسرته بعد ضياع البنك الذى أسسه كما يخبرنا حفيده فى لقاء بالفيلم. يشترط الشكل الإنتاجى الذى يسمى بالفيلم الممول على المنتج المنفذ – وقد كان المركز القومى للسينما- عدة شروط منها الالتزام بعناصر الدعاية وبطول محدد للفيلم 28ق . قدم المخرج للممول النسخة التى يطلبها، ولكنه أعد نسخة تُرضى طموحه الفنى ، عرضت نسخة المخرج 75ق بندوة جمعية النقاد وأجمع الحاضرون أنه لو وضع صورة واحدة من ثورة 25 يناير لكانت نهاية مناسبة للفيلم الذى يرصد أوضاعا قامت من أجل تغييرها الثورة الشعبية فى مصر. يعكس تناول الفيلم الحالة المعاصرة لمصر الآن، وهذه وظيفة الفيلم التسجيلى الذى يعود للماضى ليشير إلى الحاضر وينير المستقبل. يرفض سيد سعيد أن يوجه له أى نقد، وهو الناقد المتفهم لعلم الجمال وشروطه، يدافع عن هنات بالفيلم أنه أرادها كذلك رفضا للبيرفكشن- للإجادة- يقول إنها مثل الختم على طابع البوستة ،أو الخدش على سطح صورة قديمة. وأعتقد أنه لايريد أن يشاركه أحد فى التحكم فى قطعته الفنيه ويريده حاملا لتوقيع منفرد ليكون فيلم ل.. سيد سعيد. "تعظيم سلام" تسجيلى طويل يعبر عن فكر المعارضة للنظام الذى أسقطه الشعب المصرى بثورته الشعبية 25 يناير 2011.
كان هذا هو الجزء الأخير من الورقة التى شاركت بها فى ندوة عن السينما الوثائقية بمهرجان تطوان المتوسطى بالمغرب، وكانت الورقة بعنوان الفيلم التسجيلى من الثورة إلى الثورة.

Tuesday, 19 April 2011

الدورة 17 لمهرجان تطوان المتوسطى


              تنوع التسجيلى
وغلبة النوع الاجتماعى 
على الروائى الطويل  
سألنى صحفى مغربى ونحن فى الطريق لدار العرض لو سألتك عن المهرجان فى جملة فماذا تقولين، قلت مجموعة من الأفلام شديدة التميز. وندوة هامة غطت محاور عدة عن الفيلم التسجيلى،الوثائقى. ترافقنا مجموعة السينى فيل كما أسمانا السينمائى الجزائرى محمد بن صالح فى العروض المتنوعة لمسابقات المهرجان فى الأقسام الطويلة والقصيرة والقسم التسجيلى. غلبنا الهوس بالسينما الجميلة فلم نلاحظ ما سمعناه عن خلافات بين منظمى المهرجان ورعاته. كانت المرة الأولى لى فى مهرجان بالمغرب فم ألتفت إلا لجمال الطبيعة البكر، والنظافة الطاغية، وحب الناس الهادئ بمجرد سماعهم لحديثنا وتأكدهم أننا مصريون. متعة أن تتواجد فى بلدة لها شخصية مميزة، محاطا بحب مغاربة وجزائريين وزملاء نقاد عرب من المشرق فى سوريا والأردن ولبنان. لا يغلبها سوى متعة مشاهدة أفلام جيدة تدار حولها ندوات جادة تأخذ حقها فى صباح اليوم التالى للعروض. ضمت مسابقة الأفلام التسجيلية مجموعة هامة منها فيلم فى انتظار أبو زيد عن أستاذ الفلسفة نصر حامد أبو زيد لمريده اللبنانى على الأتاسى وهو أقرب لمحاضرة طويلة ولقاء مع زوجته المحبة د. امتثال، يرغب الأتاسى فى عرض فيلمه بميدان التحرير بالقاهرة. استمتعت بالعمل التسجيلى الذى أنهاه صاحبة قبل وفاة أبو زيد بشهرين وحصل على موافقته على ما جاء به، وهو وثيقة هامة جدا تغطى جانبا من نضال المفكر للدفاع عن أفكاره ،كما يظهر خلافه  مع المريد على  رفضه لوضع بقائه فى بلده تحت حراسة مشددة. وتفضيله البقاء فى الخارج. الغربة كانت موضوعا للفيلم المغربى زماننا الذى يتناول فيه الممثل المغترب خليل داوود رحلته مع ابنه الذى ولد بفرنسا لتعريفه بجذوره، غلب على الفيلم مخاطبة الغرب مع لمسة فولكلورية فى تناول عناصر المغرب. هذه النظرة السياحية لم يخلو منها أيضا فيلم "السلاحف لاتموت بسبب الشيخوخة" الذى فاز بجائزة أفضل فيلم تسجيلى وهو يتتبع ثلاثة من المسنين المغاربة مصرون على الحياة رغم تقدمهم فى العمر. شارك فى إخراجه المغربية  الشابة هند بنشترون والتركى سامى مرمر وهو مخرج شاب أيضا أنتج الفيلم لحساب التلفزيون الكندى ،صورة الفيلم بديعة والشخصيات جذابة الفيلم به خفة ظل وروح تحتفى بالحياة، الفيلم يشبه الأفلام التى تنتجها الجزيرة الوثائقية التى تقدم نظرة سياحية عن الأشياء والناس دون أن تتعمق فى المشاكل كما فعل فيلم "جلد حى" الذى حاز جائزة العمل الأول، وهى بالتأكيد تخالف فيلم " زهرة " لمحمد بكرى الحائز على جائزة لجنة التحكيم وهو يتناول المرأة الفلسطينية زهرة كنموذج لصمود وقوة الأم الفلسطينية. كانت لجنة التحكيم موفقة فى اختيارها لثلاث نوعيات مختلفة لتعطيها جوائزها ساعدها على ذلك الاختيار الموفق لنوعية الأفلام والتى قام بها مدير المهرجان أحمد الحسنى رئيس جمعية أصدقاء السينما المنظمة لمهرجان تطوان، يذكرنى الحسنى بالمخرج والناقد المصرى الزميل أحمد رشوان فى بشاشته وتحمله للنقد بروح قوية، شهد المهرجان مظاهرة احتجاج ضد الحسنى لم يقمعها أحد.  
الناس الطيبون فيلم إيطالى شارك فى المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، عنوانه يذكرنى بالفيلم الكلاسيكى فقراء ولكن سعداء أو سحر البرجوازية الخفى، إنه عودة للفيلم الاجتماعى الذى يحكى قصة إنسانية بسيطة ولكنه يهدف لفكرة كبيرة، فى نقد البرجوازية وفضح زيفها فالطبيبة النفسية التى تتمتع بحب زوجها المهندس المعمارى تنشغل وهى فى طريقها لمنزلها الريفى برؤية فتاة ليل من أوكرانيا تساء معاملتها من قبل راعيها، تتعلق بفكرة إنقاذ الفتاة عن طريق خطفها ورعايتها فى منزلها، بالطبع ينفذ لها عملية الخطف الزوج المحب. تمارس معها ما يقد يظن فى البداية أنها مشاعر أمومة لتعويض نقص ما، ولكن ابنها يحضر مع خطيبته فندرك أن الأمر أعمق من هذا، ولكن عندما يحدث تقارب بين الابن والفتاة،ويعاملها برقة حبيب حتى أن الفتاة المعتادة على بيع المتعة تمارس معه الحب بشكل مختلف مما يجعلها فى قمة السعادة، وهنا تتحول مشاعر الأم وتبدأ فى تحذير الفتاة من الاقتراب من مملكتها ،يصل الأمر لذروته عندما تتوهم بوجود شبح علاقة مع زوجها وتخبر ابنها الذى يتعارك مع أبيه ويسقطه أرضا دون إحساس بالذنب. القيم البرجوازية دخلت فى امتحان صعب لاختبار تلك المشاعر غير المتجذرة فيها حول حقوق الإنسان وحق الجميع فى حياة كريمة،  تنقلب السيدة الطبيبة  لوحش كاسر وتطرد الفتاة شر طرده. ومرة أخرى ينفذ الزوج ويهرب الابن من مسئوليته. الاب يودع الفتاة محطة قطار موحشة –كأغلب محطات المدن الأوربية الصغيرة – تمزق بعنف مظروف النقود ، تضعها فى حقيبتها وتخرج أحمر الشفاة ويعود مظهر العاهرة وكأنه قدر لا فكاك منه.  بعد أن طردت من المجتمع ومثقفيه. الاسم به سخرية مبطنة، فهل هم أناس طيبون حقا؟. توقعت لهذا الفيلم جائزة أفضل فيلم ولكن لجنة التحكيم كان لها رأى آخر فمنحت جائزتها لفيلم  أسبانى يُشرح الأسرة البرجوازية أيضا ولكن بدرجة أقسى وبمشاهد عنيفة جدا. الناموسية فيلم جيد هو الثانى لمخرجه حاز على الجائزة الذهبية فى مهرجان محلى وها هو يحصد ذهبية تطوان. نهايته تدين الأسرة البرجوازية أيضا كما الإيطالى. ويلاحظ أن أغلب أفلام المسابقات حفلت بنقد اجتماعى يشرح الأسر كل حسب المجتمع الذى تعبر عنه. فالفيلم المغربى جناح الهوى يوجه فيه مخرجه نقدا عنيفا للتزمت الدينى وقهر الآخرين فى المجتمع المغربى. ففى حارة تشبه الحارة المصرية فى كلاسيكيات الخمسينيات ، حيث سطح المنزل وعشة الفراخ التى تتخفى فيها الحبيبة ، نشاهد واقعا مغربيا يشبه واقعا مصريا قد يكون اختلف الآن، وتبقى السينما مرجعية للواقع مع اختلاف السنوات. يحتفى المخرج بالشباب وعنفوانه وتفجر الحيوية والرغبة فى الحياة فى مقابل سلطة دينية أو بوليسية تجاوب معه الحضور من الشباب بينما انسحبت العائلات والكبار من قاعة عرض أفينيدا بقلب تطوان . خارج القاعة كانت هناك مظاهرة تأييد للمخرج عبد الحى العراقى قد يقرأها البعض كمظاهرة تطالب بالتغيير والإصلاح . توحد المخرج مع حق الشباب فى الحياة والاستمتاع بها من خلال حرية اختيار المهنة التى يريدها البطل واختيار الزوجة التى يشعر معها بالمتعة. فيلم " جناح الهوى" موجه للجماهير يعتمد طريقة تقليدية فى رسم الشخصيات بشكل فيه مبالغة الميلودراما وبشخصياته الكوميدية كصديق البطل والجارة الحشرية. استمتعت بالفيلم عندما خلعت نظارة الناقد والمثقف، ورغم أن المخرج هو مؤلف الفيلم إلا أنه لا ينتمى لتيار سينما المؤلف التى تبتعد عن التنميط والترميز ولا السرد والبناء التقيلدى. فيلم يعيد للأذهان الواقعية المصرية التى ترجع للواقعية الإيطالية وهى تضع المشاهد نصب أعينها. 
حصل بطل الفيلم عمر لطفى على جائزة أفضل أداء رجالى من مهرجان طنجة القومى الذى سبق مهرجان تطوان. ولكن لجنة تحكيم تطوان انحازت لفيلم الجامع لداوود أولاد السيد المنتمى لسينما المؤلف ومنحته جائزة المهرجان الكبرى. كان فيلم "جناح الهوى" آخر فيلم يعرض فى البرنامج وحرصت على مشاهدته بعد ملاحظة الناقد الجزائرى نبيل حاجى حول عدم اهتمام المصريين بأى تفاعل مع الفن أو الفنانين العرب، احترمت صراحته وحاولت الاستفادة من رأيه، فكيف تكون مدعوا لمهرجان فى بلد ما ولا تحرص على حضور عروض أفلام هذا البلد. كنت حضرت عرضين لأفلام  وثائقية تعوقنى أحيانا الترجمة الفرنسية أو اللهجة الصحراوية. ولكنى كنت أجد شرحا فوريا من متطوعة شابة تعمل فى دار الثقافة فتوضح لى ليس فقط الكلمات ولكنها تشرح أيضا بعض ما تعتقد أنه سيفوتنى فهمه. لم تمض أيام إلا ووجدتنى أفهم العربية بلهجة مغربية شاعرة بالحرج وهم يتوقفون فى منتصف الحديث ليسألوننى هل أفهم، فأقول أننى أفهم جيدا.
الاتجاه بالفيلم للجمهور العريض يبدو توجها جديدا للسينمائيين المغاربة وهو ما لاحظته مع فيلم الساحة الجزائرى، أكد لى صاحبه أنه فيلم جزائرى خالص بلا أى دعم غربى كما يحدث مع أفلام أخرى, وعند تناول أمر صعوبة التفاهم بيننا قال لى مخرج الساحة دحمان أوزيد نحن فى المنزل نتحدث الأمازيرية وفى المدارس كان الاستعمار الفرنسى يمنعنا من ترديد أى كلمة عربية. قلت له لو طلبنا منكم كتابة نص عربى على الفيلم هل توافقون فقال بانزعاج لماذا؟ الممثلون يتحدثون العربية. شعرت بالخجل وهو ما تكرر معى حين سألنى شاب فى المطار عن أمر يخص تذكرة سفره، فقلت له لست مغربية ولن أفهم حديثك فقال لى أنا أتحدث العربية، أخجلنى فاستمعت إليه واستطعت أن أشير له على لوحة تُكتب فيها مواعيد الطائرات وكان لديه الحق فى الارتباك فقد كانت لديه طائرتين أحدها لأمريكا. عدم بذلنا الجهد للتقارب مع أشقائنا العرب أمر لابد من التخلص منه، ذكر لى نبيل حاجى أيضا أن مخرجا جزائريا قام بدبلجة نسخة من فيلمه للهجة المصرية وفشل أيضا فى توزيعه. مسألة توزيع الفيلم العربى فى مصر تحتاج مناقشة وخاصة أن الفن يقرب اللهجات وهو ما حدث مع فهمنا للهجة اللبنانية بسبب أغانى فيروز، واللهجة الخليجية عبر كاظم الساهر وبعض الكلمات المغربية مثل برشة التونسية، وبزاف الجزائرية المغربية من الأغانى والتعامل اليومى. أما الندوة الدولية عن الفيلم الوثائقى  فهى تحتاج مقالا مفصلا يوفيها حقها.
صفاء الليثى

Monday, 11 April 2011

الوثيقة التسجيلية من الثورة إلى الثورة 3




فى انتظار الطبقة العاملة (3-3)
فوزى صالح 
جائزة العمل الأول من تطوان عن جلد حى

شارك المخرج فوزى صالح بفيلمه التسجيلى "جلد حى" فى تطوان بالمغرب الدورة 17 من 26 مارس إلى 3 أبريل ، فوزى منحاز للطبقة العاملة، وعنها يعد فيلما من وحى ثورة 25 يناير بعنوان مؤقت " فى انتظار الطبقة العاملة" يطرح فيه فكرته عن الجماهير الذين قاموا بالثورة، ولكن أناسا آخرين بدأوا فى التفاوض والحصول على المكاسب، بينما يتم تجاهل مطالب الجماهير وتسفيهها بوصفها "فئوية" ، وبدعاوى " الأمن والاستقرار، وعودة عجلة الإنتاج" ، ينوى فوزى صالح تحليل ما حدث فى فيلمه منتظرا "جودوه" الخاص، طبقته العاملة، الطبقة الثورية التى تمتلك مقومات الثورة الدائمة. "فى انتظار الطبقة العاملة" يُبنى على ما صور من مواد فى سياق يعبر عن فكر المخرج الذى رقص مع الراقصين على جثة النظام المخلوع، هذا ما رأيته ولكن فوزى بروايته فاجأنى بشهادة مختلفة :" ما كنتش نازل أصلا، كنت دائما أسخر من فكرة تحريك المظاهرات بالإنترنت، ومع ذلك قررت الخروج، وصلت ميدان التحرير الساعة الثانية بعد الظهر ،كانت هناك مجموعات صغيرة، والتقيت سينمائيين ومثقفين، ضربونا بقنابل مسيلة للدموع، ونويت التحرك مع مجموعة تنوى التحرك تجاه وزارة الداخلية- على بعد أمتار من ميدان التحرير- شاهدت الشاب الذى تعارك مع أمين الشرطة الذى كان يفرق الناس رشاش المياه، شاهدتهما يسقطان معا، المتظاهرون اختطفوا زميلهم وتركوا العسكرى، بقيت حتى الثامنة مساء ثم عدت إلى بيتى عندما ازداد تجمع النُخب، التى أرفض مظاهراتهم عادة. بيتى فى حى مدينة نصر يبعد عن التحرير. وحتى منتصف الليل انشغلت بأمور حياتية ثم تابعت أخبار القبض على عدد من المحتجين، أسماء غريبة على، فكرت إنها فقط ضربة وقائية، اليوم التالى تواجدت التاسعة مساء فى بولاق أبو العلا- حى شعبى قريب من الزمالك ومن ماسبيرو- وسط اشتباكات البوليس قررت الهرب فذهبت إلى مركز هشام مبارك لحقوق الإنسان، شاركت فى توزيع الإعاشة على المتواجدين بالنيابات المختلفة، كانت هناك صدامات مع البوليس وتم الإفراج عن الناشطين، اعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد ولم أخرج يوم الخميس ، يوم الجمعة نزلت مع زوجتى وعائلتها، كنت الرجل الحامى لعدد من النساء فى الطريق، بعد صلاة الجمعة فى مسجد رابعة العدوية قطع شاب الطريق وزعق( مش هأمشى اللى لما يشغلوا خط التليفون،) بكيت ووجدتنى أهتف بسقوط حسنى مبارك، رددت البنات الهتاف خلفى، ثم تجمع حوالى 200 شخص سرنا نهتف،أحاطنا كردون أمنى ولكننا كنا وصلنا 3000 متظاهر، انقطاع الاتصال جعلنا نسير بقوة الدفع الذاتى مع الجموع بإدراك أننا حتما متجهون إلى ميدان التحرير، ولكننا وصلنا على مشارف ميدان رمسيس حوالى الخامسة مساء، قطعنا حوالى 12 كيلومتر سيرا على الأقدام نهتف، معنا عجائز بعصيهم، شاهدت علاقة غرامية تنتهى، حين وقف صبى فى الخامسة عشر قائلا لفتاته،أنا تعبت مش قادر أكمل، البنت قالت بحزم أنا مكملة، وسارت، من كل الاتجاهات من الوايلى والزاوية الحمراء والشرابية انضمت جموع من الناس ، لم نستطع الدخول إلى ميدان رمسيس الذى كان غاصا بالبشر، كنا أصبحنا حوالى 20000محاصرين فتفرقنا،عدت إلى البيت،كانت هذه جمعة نزول الجيش وما سمى بانسحاب الشرطة، فى البيت أخذت أتابع الأخبار على التلفزيون الرسمى، اخترته لكى أضحك على الأكاذيب وترويع الناس ، القتلة فى الشوارع.. كنت مقيدا مع سيدات الأسرة لغياب حماى خارج البلاد، أعمل على مشروع فيلمى الروائى الأول حول المدابغ كفيلمى الوثائقى، صباح السبت فى الثامنة نزلت مع زوجتى ميدان التحرير، وعدنا مع حظر التجوال، كان اليوم الوحيد الذى التزمت فيه بموعد الحظر،ككل المصريين أصبح اتجاهنا كل صباح للتحرير، وحتى هذه اللحظة لم أكن أشعر أن هذه ثورتى، فأنا أراهن فقط على الجماهير، ولكن عندما بدأت الملايين تملأ الميدان أدركت أن النظام قد سقط. شاركت فى ترويج نكته أطلقها أحد السينمائيين( يا جماعة النظام سقط، مروان حامد فى الميدان)، مروان حامد هو الابن الوحيد لكاتب السلطة السيناريست وحيد حامد- مؤلف "اللعب مع الكبار" ومسلسل "الجماعة" ، كنت أتحرك مع (شباب العدالة والحرية) وهم مجموعة طلبة ينتظمون فى حركة ذات نوازع يسارية،أتحرك كمواطن عادى لا يشغله عمله الخاص الآن كسينمائى، كنت غير قادر على فهم اللحظة التى تجاوزتنى، وعندما طلب منى كتابة موضوع عن الثورة لمطبوعة عربية ،كتبت العنوان فقط " فى انتظار الطبقة العاملة" ثم توقفت. 
مازلت بيقينى من أن هذه الثورة لن تنجح إلا إذا انضم العمال إليها، مشبعا بمخاوف اليسارى . كنا وصلنا ليوم الثلاثاء ليلة خطاب الرئيس حيث تدافع الملايين بإحساس النصر، النظام بدأ فى التساقط وتقديم التنازلات، ولكن البرجوازى الجبان داخلى منعنى من النزول، ويوم الأربعاء 2 فبراير بقيت بالبيت ثم انهرت ونزلت ، وليتنى ما نزلت،شاهدت ما لا يرغب الكثيرون فى سماعه، شاهدت اندفاع ناس عاديين حاملين أعلام مصر مؤيدين للنظام السابق، سائق التاكسى بادرنى حين طلبت منه الاتجاه لميدان التحرير " خربتوا البلد" غيرت التاكسى لآخر. وعلى كوبرى أكتوبر كانت أسر فى سياراتهم يهتفون للاستقرار، السائق قاللى اتحاصرت يا معلم، وقرب نهاية الكوبرى فوق جريدة الأهرام كانوا يوزعون بالإكراه منشورات صغيرة "نعم لمبارك" انهرت باكيا وأدركت أننى لم أقدر على العودة إلى البيت، قرب ماسبيروا آلاف يقودهم ضباط شرطة يهتفون لمبارك "انتو اللى هتمشوا " ردا على هتاف "هوه يمشى..." بعض الضباط محمولون على الأعناق، وكمائن لإرجاع الرافضين، آلاف تتدافع من سيارات نصف نقل. علمت بعد ذلك أن السيارات كانت محملة بكسر رخام من منطقة "شق التعبان" لضرب متظاهرى التحرير، أدركت أن من بالميدان سيموتون قلت لنفسى "الناس دى ماتت خلاص" وتمكنت من العودة لبيتى، ولكن الثورى فىّ عاد يوم الخميس الذى سبق تنحى الرئيس وكنا فى مقهى نستمع إلى الخطاب الذى اعتقدنا أنه سيكون خطاب التنحى، وعندما لم يحدث هتفنا إلى التلفزيون،لا أعرف السبب ،البعض اعتصم أمامه وأنا عدت بيتى، كنت بدأت أكره الثورة المخالفة للثورة التى أريدها. يوم الجمعة ذهبنا لقصر العروبة ، وتزايدت الجموع، أغلب من حولى من سكان مصر الجديدة، عدائى الطبقى لهم قلل من فرحتى، ليست هذه ثورتى ،ثورة كل الشعب، ثورة الكل فى الكل ليست ثورتى، أؤمن بثورة شعب ضد شعب ، عندما تقوم الجماهير الكادحة ستكنس كل هؤلاء من الإخوان والرأسماليين والبرجوازيين الكبار، مصالحه هى نفس مصالح الطبقة الحاكمة، كنت مكتئبا منذ يوم التنحى- أو التخلى – أى ثورة هذه التى يحميها جيش –جيش الدولة- ونما القلق وعدت لفكرة " فى انتظار الطبقة العاملة " أكتبها فيلما أخلط فيه العام بالخاص، أرد فيه على استخدام كلمات مثل فئوية، كيف إنها حقوق الناس، لحظات سعادتى تكون عندما أشاهد رعب البرجوازيين الكبار من اللصوص والقتلة والعامة ،أهلى وناسى، بعد الموافقة على تعديلات الدستور تيقنت من صحة فكرتى ، تعديلات أى كلام ويقمع أصحاب الحق الأصيل، تيقنت أننا جميعا فى انتظار الطبقة العاملة التى ستقيم ميزان العدل وستظل عطايا النخب الحاكمة محدودة ، من يقولون للجماهير "خلاص شكرا كده، احنا عارفين مصالحكم" وقضايا الفساد التى تفتح حسب المزاج، تقوم الجموع بالثورة ويحصد مكاسبها أصحاب النظام الاقتصادى القائم ، خيارى هو الثورة الدائمة، خيارى مع الثورة العمالية التى أنتظرها". أجريت مع فوزى صالح لقاء فى القاهرة قبل سفرنا للمشاركة بمهرجان تطوان،

حصل فيلمه جلد حى على جائزة العمل الأول فى مسابقة الفيلم التسجيلى من لجنة تحكيم رأسها الكاتب والناقد المغربى مصطفى المسناوى المعروف لدينا فى مصر وشاركت فى اللجنة المنتجة المصرية منى أسعد وكانت شاركت الدورة السابقة كمسئولة الإنتاج لفيلم "جيران" للمخرجة تهانى راشد . جائزة فوزى صالح كانت هى الجائزة الرسمية الوحيدة لنا فى تطوان، واكبتها جوائز شعبية للممثل محمد لطفى قابيل فى رسائل البحر لداوود عبد السيد الذى كان مكرما فى المهرجان. التف الجمهور المغربى على محمد لطفى وطاردوه حبا، كما التف الكثيرين منهم حول المخرج داوود عبد السيد وطلبوا التصوير معه. وبدرجة مماثلة رحب المغاربة بالممثل أحمد وفيق والمخرج محمد أمين حيث شارك فيلمهما بنتين من مصر فى مسابقة الفيلم الطويل. شهدت الندوة التى دارت مع المخرج والممثلة زينة اقبالا من الشباب المغربى وتطرق الأمر لمناقشة علاقة الفيلم بما دار فى مصر . كثيرا ما تبدأ التعليقات والأسئلة بتهنئة الشعب المصرى على ثورته، فى حفل ختام المهرجان حين طلب من فوزى صالح إلقاء كلمة بعد استلامه الجائزة قال إنه يهديها للشعب التونسى الذى ألهم المصريين ثورتهم، وتمنى لكل الشعوب العربية فى المغرب وسوريا وليبيا والبحرين أن يحصلوا على حريتهم . بعد خروجه تحدث معه مسئول أمنى بزى مدنى قائلا أنهم يتمتعون بالحرية فى المغرب، كانت مجموعة من المعترضين على إدارة المهرجان وعلى مديره أحمد الحسنى تقف فى الخارج قبل الحفل، وبقيت حتى انتهائه ، ورجال الأمن لا يعترضونهم، فقط هناك حواجز تنظم وقوفهم، قبل الختام بيوم واحد كانت هناك مظاهرة لشباب 20 يناير بشارع محمد الخامس القريب من دار عرض أفينيدا التى نشاهد بها عروض المسابقة الرسمية ،المتظاهرين كانوا يطالبون بالإفراج عن المعتقلين ويرددون شعارات تطالب بالحرية. كنا بالمغرب نستمتع بكرم الضيافة ونستمتع بأفلام مميزة فى مجموعها، نحاول أن نؤجل القلق على ثورتنا المستمرة فى مصر، البعض منا لم يستطع أن يكمل الرحلة فعاد كما فعل داوود عبد السيد وكانت أفلامه الأربعة التى عرضت بمناسبة تكريمه قد انتهت عروضها فرجع لمصر ليكون فى قلب أحداث الثورة التى ما تزال معاركها مستمرة للقضاء على النظام الفاسد وذيوله الباقية. أما تفاصيل ما حدث بالمغرب ومهرجان تطوان فسيكون له مقال لاحق.

Wednesday, 6 April 2011


الثورة وتحرير الوثيقة من قيودها

 لمن يختزل ثورة 25 يناير بأنها انتفاضة شباب، بل هى ثورة غيرت وجه الحياة فى مصر وغيرت واقع السينما التسجيلية ولم يعد صناعها باحثين عن الموضوعات، وعمن يمول أفكارهم، امتلك الكثيرون أدوات إنتاجهم، ودون الحصول على تصاريح التصوير وموافقة الجهات الرقابية، تحرك الفنانون فى حماية الشعب ليوثقوا ثورته، متوحدين معها، مشاركين بها من الداخل، انتهت العلاقة الملتبسة بين الفنان وموضوعه، انصهر الجميع فى ذات واحدة تصور أفلام الثورة وتشارك فى آن، ألقى المصور الشاب الكاميرا لمدير الإنتاج المرافق له، واندفع يقذف حجارة تجاه البلطجية المأجورين الآتين من ناحية ميدان عبد المنعم رياض صوب ميدان التحرير، أما والدة الشاب المتواجدة أيضا فى الميدان فقد أخفت نفسها حتى لا يراها فتضعف عزيمته، وهى تختفى عن أنظاره حتى لا يغلبها حنين الأم على واجب الوطن.
المصور الشاب كان يصور فيلما تسجيليا عن "الهتيفة " وهم شباب كثيرا ما هتفوا فى مباريات كرة القدم، كانوا منبوذين من قطاع عريض من الشعب وخاصة من المثقفين، الآن هم فى قلب الثورة محتفى بهم، يردد الشعب هتافاتهم، أهازيج الثورة التى يسمعها من لايعرف اللغة فيشعر أنها أغانى حماسية ( ثورة ثورة حتى النصر .. ارحل يعنى امشى .. الشعب يريد ). نعم أراد الشعب ومعه السينمائيون، مائة ألف سينمائى صغير شارك فى الثورة بوثيقته الخاصة، نعم كانت الصورة مهمة لدورها فى كشف الحقيقة ولكن المشاركة فى حماية الثورة بصد هجمات البلطجية، كان للغالبية  دور أهم. المخرجة نوارة مراد، الفتاة صغيرة القد أخذت تكسر أحجار الرصيف لتمد الشباب بمدد للمقاومة، تقف بالإسعافات الأولية وسط الميدان لتكون فى استقبال جرحى المعارك، تدلهم على طريق المستشفى الميدانى الواقع فى زاوية- جامع صغير- خلف مقاهى مطلة على الميدان الكبير، الكبار متجمعون وسط الميدان فى منطقة آمنة بقلوب واجفة تراقب، الشباب يندفعون ملقين بصدورهم لعصى المأجورين ورصاصات الأمن المتخفى وسط مؤيدين للنظام السابق،  كل هذا صورته الكاميرات على مختلف أحجامها لتتحرر الوثيقة من مموليها ومراقبيها، حررت الثورة الفيلم التسجيلى من قيود طالما قمعت انتشاره وتواجده. 
من ثوار التحرير المخرج تامر السعيد، اعتصم وتظاهر وصور أحداثا، ذهب إلى وزارة الخارجية مع المتظاهرين ضد رئيس الوزراء أحمد شفيق من النظام القديم، سُحل وُضرب ولكنه عاد كونه جزءا من شباب الثورة الملتحمين بها ، التقيت تامر بمقر نقابة المهن السينمائية حيث يساند عددا من المعتصمين المطالبين بسقوط مجلس النقابة والنقيب الذى وقع بيانا يدين السينمائيين المشاركين بثورة 25 يناير ثم عاد وادعى أنه كان موجودا ومؤيدا لها، تامر السعيد له علامات مميزة فى مشواره، منها الفيلم الوثائقى "غير خدونى" عن سجناء الرأى بالمغرب والفيلم القصير " يوم الاثنين" بالإضافة إلى سيناريو فيلم ابراهيم بطوط " هليوبوليس" حين سألته عن تواجده بالتحرير قال : " متواجد فى التحرير باعتبارى فردا من الشعب، المخرج فىّ وجد أن من مصلحة المواطن أن يعيش الثورة بهموم المواطن لا بهموم المخرج، ولهذا توحدت مع الناس، قبل اندلاع الثورة كنت مشغولا بفيلمى الطويل " آخر أيام المدينة " وهو فيلم ديجيتال مستقل أقوم فيه بالسيناريو والإخراج كما أدير عملية الإنتاج معتمدا على عدد من المنح ... يتحدث الفيلم عن الغليان فى الشارع  وكنت تركته مفتوحا للتجربة،  وعدت للتركيز فى الفيلم بعد فترة أعليت فيها دور المواطن على دور المخرج، فى التحرير كنت صورت أجزاء مما حدث، أجرى المونتاج على الفيلم حاليا، لست متأكدا الآن أنها ستكون جزءا من الفيلم، مسار الفيلم هو الذى سيحدد ذلك، وأجد أن أفضل دعم أقدمه للثورة هو إنهاء فيلمى. ليس دورى هو تحقيق أفلام مباشرة عن الثورة، لا أجد نفسى فى منطقة الاحتفاء بأى شيء مهما كان، أجد مكانى فى صفوف المعارضة حتى بعد الثورة، يغلبنى حسى النقدى، لا أريد أن أركن ،أريد أن أبقى مشتعلا بالغضب فالثورة فى تطور مستمر، ولم يأت بعد اليوم الذى نشعر فيه أننا أدينا مهمتنا (لسة ما خلصناش ) أشعر دائما أن هناك ما نفعله وما نستكمله، هناك دائما شيء ناقص ، لدى قلق دائم أعتبره دافعا لى ،هو الحياة بالنسبة لى وغيره السكون أو الممات. وعودة للفيلم فهو عن مخرج أفلام تسجيلية يقوم بدوره الممثل خالد عبد الله وممثلة ثانية هى ليلى سامى، باقى شخصيات الفيلم يقومون بأدوارهم الحقيقية فى الحياة، بهذا هو مزج بين التسجيلى والروائى، السيناريو قائم على ارتجال المشاهد تماما أثناء التصوير، أشبّه مخرج الفيلم الروائى بالمزارع الذى يرعى نبتته ويسهر عليها حتى تثمر، أما المخرج التسجيلى فإنه يشبه الصياد الذى يلقى شباكه وينتظر المجهول الذى سيفاجئه. فيلم " آخر أيام المدينة " مزج بين روح المزارع وروح الصياد الذى يقدم على عمله بروح المغامرة ثقة فى الحياة وما ستعطيه له.
استخدمت فى التصوير كاميرا بسيطة ( باناسونيكHVX 200  ) ليس بسبب ضعف التمويل ولكن لأن مثل هذا النوع من الكاميرات مناسب جدا لصالح الأسلوب الذى اخترته فى عملى. أرى أن التقنية الجديدة تتخلق معها جماليات يمكن تذوقها والاستمتاع بها، وهذه التقنيات الحديثة فرضت جمالياتها وجمهورها أيضا الذى يتشكل ذوقه  مع تسارع تغير التقنيات. كل من كانوا بميدان التحرير ليسوا مستعدين لمشاهدة نفس الأفلام، حدثت نقلة نوعية فى الوعى لدى الناس- حدثت لى شخصيا – لا أحد مستعدا لمشاهدة نفس السينما البليدة ، جاء وقت التعبير عن معانى انطلاقا من روح مختلفة لابد أن نكون كلنا جزءا منها ،هُدم جدار الخوف ،وحل محله رغبة صادقة ومخلصة لنتناول همومنا الحقيقية.
اكتسبت خبرة الإنتاج بعملى كمنتج فنى لعدد من الأفلام التسجيلية لغيرى من المخرجين، تعلمت منها آليات إنتاج أفلام لسينما محدودة التكاليف، أفادتنى فى عمل فيلمى، وهذه المهنة أحب القيام بها مع زملائى الذين أشعر بأننى واحد منهم. تنازلت عن مكاسب كثيرة لرغبتى فى العودة إلى مصر،وأصر على البقاء بها دون تنازل، أصر على المشاركة على طريقتى وليس كما يراد لى. ومع الثورة الإحساس بأهمية الوثيقة المجردة قد ازداد، وبرز التساؤل هل هى حرب الصورة،أم صورة الحرب ، أصبحت الصورة طريقة لكتابة التاريخ ، ملايين المراجع التاريخية تحكى التاريخ عبر الصور المتنوعة، وعلينا مهمة إعادة أرشفة كل ما صور حتى لو بتليفون شخص هاوى، نحن محظوظون جدا أننا عاصرنا هذه الثورة، ومحظوظون لأننا سنترك وثائق للأجيال القادمة وسنفرح بأننا قادرون على كسر سياسة توزيع الفيلم التسجيلى عبر نشره على المواقع الالكترونية، فيتشارك فيها الجميع ويعلقون عليها لحظة بلحظة. (يضحك تامر) قد تكون هذه هى الفائدة الوحيدة للعولمة ، أننا أصبحنا قادرين على أن نوصل للعالم كله ما نقوم به،أصبح حجب المعلومات مستحيلا وهذا ما أسقط الأنظمة . يستحيل الآن أن تتكرر محارق الهولوكوست،أو مذابح صدام، أو سيتم على الأقل إيقاف اجتياحها للشعوب".

الوثيقة التسجيلية من الثورة إلى الثورة

الوثيقة التسجيلية من الثورة إلى الثورة 


كنت قد بدأت التفكير فى عنوان المداخلة لندوة حول السينما التسجيلية تقام فى إطار فعاليات الدورة 17 لمهرجان تطوان بالمغرب بادئة من مجموعة أفلام وثقت لمشروع السد العالى قام بعملها المخرج صلاح التهامى، وفى استعراض لما تم بعده وجدتنى أنتهى عند جيل من شباب السينما التسجيلية تعكس أفلامهم حيرة الانتماء فكان العنوان " السينما التسجيلية المصرية ،من تأكيد الهوية إلى البحث عنها". كنت سأبدأ بمسيرة تبدأ بفيلم " أربعة أيام مجيدة " الذى يوثق أيام تحويل مجرى نهر النيل لبناء السد العالى وأنتهى عند فيلم "مكان اسمه الوطن " للمخرج تامر عزت يوجه فيه سؤاله لعدد من الشباب عن معنى الوطن بالنسبة لكل منهم.
واندلعت ثورة 25 يناير 2011 التى بدأها الشباب وانضم إليهم جموع الشعب المصرى وأنا منهم. انشغلنا بالتواجد فى التحرير وفى متابعة محطات التلفزة ، وحين عدت للتفكير فى ورقتى البحثية عن السينما التسجيلية كانت النهاية قد تغيرت وأصبح العنوان " الفيلم الوثائقى المصرى من الثورة إلى الثورة". وبعد أن كان الحزن والحيرة هما نهاية المطاف فى العنوان الأول، عاد الأمل حاميا لتوجه الفيلم التسجيلى المصرى ومعبرا عن انتهاء الحيرة، بل تجاوز الانتماء إلى المشاركة، نعم لم يعد الانتماء لثورة بدأها شباب مصرى بتنظيم سرى، وهو تنظيم الضباط الأحرار بزعامة جمال عبد الناصر هو المحرك للفيلم التسجيلى، بل المشاركة فى الثورة التى بدأتها مجموعة "كلنا خالد سعيد" عبر موقعهم على الشبكة الاجتماعية "فيس بوك" لتتفجر منها ثورة شعبية هائلة وثق فيها الجميع عبر كل الوسائل أحداثها وتفاعلاتها، بكل الوسائل التقنية بداية من المحمول الشخصى مرورا بالكاميرات الصغيرة وانتهاء بوحدات التصوير الأكبر حجما. تكشفت الحقائق ولم يعد ممكنا الادعاء بأمور يكشف الزمن عدم صحتها أو يؤكدها، تحولت الوثيقة التسجيلية إلى سلاح فى معركة ، حتى يمكن القول بلا مبالغة أن ملايين الوثائق المصورة كان يتم تبادلها عبر الشبكة الدولية فتفضح وتكشف وتنقل الحقائق لحظة بلحظة، أمكن لهاو أن يصور مدير أمن دمنهور بكاميرا هاتفه النقال وكان وسط رجاله يقول "نحن أسيادهم، ومن يتجاسر منهم إديله بالجزمة"،ـ اعتقد المسئول أنه آمن فصرح بوقاحة، كشفتها الصورة التى تناقلتها المواقع عبر مجهول، ليدان بعد أن ضبط متلبسا بوثيقة حقيقية لا يمكن تزويرها. تواصلت أخبار الثورة التى سميت بالثورة الضاحكة من قبل بعض القنوات، أمكن لرئيس أمريكا، ورؤساء الاتحاد الأوربى، أمكن للشعوب كافة وخاصة أصدقاءنا فى بلداننا العربية أن يصلهم ما حدث فى مصر من ثورة شعبية تطالب بإسقاط النظام. انتهت الشكوى من عدم وجود ممول للفيلم التسجيلى ولم يعد المستوى التقنى المرتفع وحده هو ما يمكن ترويجه، بل أصبحنا نشاهد وثائق شديدة الأهمية، وثائق نادرة صورت بيد مرتعشة وعبر التليفون المحمول تُعرض فى الفضائيات، ومثلما كانت الخربشة واللون الباهت تكسب وثيقة قديمة سحرا ما، اكتسبت الوثيقة الحية المصورة للحدث المتسارع قيمتها كسلاح يمكن للمحاكم والقضاء أن يستعين به فى محاكمات الثورة. أمكن لكل فرد أن يشارك متفاخرا بوثائقه فى دعم حيثيات الحكم . لم نعد شعبا يؤيد فعلا ثوريا قام به زعيم ما أو عدد من القادة، بل أصبحنا جميعا نتبارى فى إظهار ما لدينا لكشف الحقائق وفضح الأكاذيب.
الوثيقة المصورة من الانتماء إلى المشاركة (1 من 3)
تواجد السينمائيون منذ اللحظة الأولى فى الميدان، يعتصم شبابهم مع غيرهم من فئات الشعب، كبارهم أيضا مشاركون ، ويتحركون كل حسب طاقته، بكتابة البيانات، والمشاركة فى اللجان التنظيمية، بجمع التوقيعات للمطالبات، والأهم الاحتكاك بالشعب، كل الشعب بمختلف طوائفه وحساسياته –أستعير الكلمة من الأخوة التوانسة- ، وبالطبع كان البعض منا يتشكك فى نوايا الآخرين، إنهم هنا من أجل "السبوبة "، وهى كلمة فى القاموس المصرى تعنى استغلال أمر ما من أجل كسب العيش، والبعض يقول ساخرا، لقد جاء هؤلاء للتوقيع، أى لإثبات الحضور، كنا نقارب المليون فى الميدان ونتوه عن بعضنا، وننشغل بالناس، نتقابل أحيانا فنرفع يدنا بعلامة النصر، أو نبتسم فرحين، وفقط فى مسيرة السينمائيين قبل التنحى بيوم واحد التقيت الفنان على الغزولى وهو سبعينى نشط لم يعرف فى حياته سوى عمل الأفلام وأحيانا رسم اللوحات. 
المخرج الكبير على الغزولى الذى يلقب بشاعر السينما التسجيلية يسكن فى بناية تطل على ميدان عبد المنعم رياض، ومن شرفة منزله شاهد كل وقائع يوم الأربعاء الدامى وقام بتصويرها من موقعه. وبسعادته كطفل نجح فى اقتناص لحظات تاريخية وفى توثيق الحدث الفارق فى مسيرة ثورة 25 يناير، يوم ما سمى بسخرية موقعة الجمل التى أظهرت للعالم الفارق بين الثوار من جيل الفيس بوك وثورة المعلومات وبين تفكير عصابة الخيل والحمير والجمال. كنت قد تابعت مسيرة على الغزولى مع الفيلم التسجيلى بمقال عنوانه "طفولة وإبداع على الغزولى"، هو صاحب"صيد العصارى" ... وفيلم بعنوان "طفولة وإبداع"، اجتمعت طفولته مع إبداعه ليتصرف بروح طفل مغامر فيتخفى فوق سطح بيته ليصور القناصة المترصدين فى سطح البناية المجاورة، يكتم أنفاسه ليتمكن من تصويرهم، هل كان خائفا؟ بالتأكيد ولكن رغبته فى المشاركة غلبت خوفه وتمكن من تصوير وثائق نادرة من موقعه الذى وجد فيه بالصدفة. طوال مشواره الإبداعى كان يرتحل، لا رغبة فى السفر ولكن لأنه يعتبر عمله هو نزهته الوحيدة، يرتحل إلى سانت كاترين بسيناء ليصور حكيم سانت كاترين ، وإلى بحيرة المنزلة ليصور "صيد العصارى"، وإلى الواحات ليصور "حديث الصمت".. وإلى دمياط وأسوان محققا أفلامه، ارتحل كثيرا ليمارس عمله الذى هو كل حياته، هذه المرة كانت الرحلة قصيرة جدا فى المكان، عميقة الأثر عليه وعلى مسيرته الإبداعية .

قابلته فى منزله، وعاينت معه موقع التصوير وحكى لى تفصيلا:
"اعتدت المشاركة فى وقفات احتجاجية بميدان طلعت حرب، وعلى سلالم النقابة، يوم 25 يناير وكنت مستعدا للنزول، سمعت صوتا هادرا لمظاهرة، كنت أراقب من سطح منزلى المطل على ميدان عبد المنعم رياض، وظهرت مجموعة متظاهرين يحمل بعضهم سلة ورود وعلم مصر لتحية رجال الشرطة، ثم تزايدت أعداد قادمة من اتجاه رمسيس، قلت مابدهاش،قررت النزول، لمحت فاروق عبد الخالق المتقاعد بعد عمل طويل فى الإنتاج، تعلقت بذراعه وكان يهتف بحماس "يسقط يسقط حسنى مبارك"، وشاهدت لأول مرة الرجال والنساء من كل الأعمار يسيرون وهم يهتفون،لا توجد طبقة دنيا بينهم، طبقة وسطى وعليا، لمحت على مراد الأرستقراطى مدير استوديو مصر يقبل سيدتين –تحية برجوازية فى الشارع– أنا فقط أحمل كاميرا فوتوغرافية وصوتى ما بيطلعش، ثم جاءت مظاهرة تقودها الناشطة جميلة اسماعيل من ناحية كوبرى قصر النيل ،تلاقت المجموعات بفرح وتسارعت الخطوات يوشكون على الاحتضان، جميلة سلمت على باليد، والدتها هى المخرجة فريدة عرمان تزاملنا فى التلفزيون طويلا، التحمت مظاهرة أخرى قادمة من باب اللوق وعندها تدخل البوليس خفيفا لمحاولة التفريق، ثم ظهرت عربة رش المياه ، لا أعرف كيف صعد شاب على سطح العربة واشتبك مع الجندى الذى يوجه مدفع المياه وأخرجه من موقعه وسقطا معا على الأرض، لحظتها أدركت أن هذه ليست مظاهرة، هذه ثورة، فعل المقاومة هذا وهذه الجسارة فعل ثورى. وأمضيت أياما عدة أراقب من السطح، ثم أنزل عندما يتزايد أعداد المتظاهرين. ولاحظت ظهور اللجان التنظيمية التى تنظم الدخول إلى الميدان، وصيحة إسلامى طابور للحريم وطابور للرجال، عندما وجهت الكاميرا للتصوير منعونى، فجادلتهم"أمال عاوزين تغيروا إيه؟" وصورت، كنت منفعلا، تدور فى رأسى أغنية للشيخ إمام:" لكل فعل رد، ولكل رد صد، دى المعمة يا واد، باين هتبقى جد، فى ناس كثير كثير، ما يحصيهمش عد ، وفجر بكرة زاد، من خطوته ومد". الحكاية بقت جد فعلا. صورت من سطح العمارة أيضا حريق مقر الحزب، كان قلبى يرتجف خوفا على المتحف المصرى القريب جدا من مبنى الحزب. كانت الصورة مفزعة. قيامى بالتصوير كانت طريقتى فى المشاركة ، كونى جزء من الناس وهذا ما أجيد عمله، كنت صورت بالمحمول عملية جراحية لخياطة جرح فى الجبهة، الطبيب الذى يعمل على الرصيف، نسى أين هو وسأل "سيسور؟"،يطلب مقص، ناوله أحدهم مقص، وعندما عدت للبيت شاهدت لواء متقاعد يحى المظاهرات عبر برنامج فى قناة خاصة ويطلب من الرئيس التنحى، يناشد الشرطة التعامل بهدوء مع المحتجين، بمجرد انتهاء البرنامج بدأ الضرب عنيفا، كنت أراقب من خلف زجاج النافذة المقفل تفاديا لدخان القنابل المسيلة للدموع. يوم 2 فبراير بعد خطاب الرئيس سمعت عن مظاهرة تأييد له بميدان مصطفى محمود، وأخرى أمام التلفزيون، وصلت مظاهرة تحت البيت، بعض السيدات لا يوحى مظهرهن بأنهن موظفات، مأجورات على الأرجح، واحد منهم قال: نطلع التحرير، وآخر رد: بل نرجع التلفزيون، ده لسه مرتضى منصور والناس بتوع الزمالك جايين. سمعت كثيرا عن مرتضى منصور ومظاهرات نادى الزمالك ولكن ماله والسياسة؟ ثم ظهرت مجموعات بالسيارات يصدرون غاغة- ضجيجا– أكبر من حجمهم، مراسل عربى كان يجرى حوارا مع شخص مظهره بلطجى، يقول:" أيوه حسنى مبارك لازم يبقى رئيس، لازم يبقى ملك، حسنى مبارك ملك مصر" ، ثم ظهرت تحت منزلى سيارات نقل كبيرة محملة بحجارة، وبدأت أعداد غفيرة تلقى الحجارة من مواقعها هذه على المتظاهرين خلف دبابات الجيش، صورت كل هذا من سطح العمارة، وصورت عمارة عن يسارى صعد على سطحها رجال مدربون، أحدهم يحرك علما وكأنها إشارة ما، وآخر يكسر حجارة ضخمة ويلقيها على المتظاهرين، من مكمنى بسطوح البيت لم يلاحظنى أحدهم. نقلت هذه الوثائق وقدمتها للجنة تقصى الحقائق التى تحقق فيما حدث يوم الأربعاء 2 فبراير2011"، انتهى حديث على الغزولى وشهادته حول ما حدث يوم الأربعاء الدامى الذى سقط فيه العديد من الشهداء، وهو الذى وضع حدا لنهاية النظام ، يومها كانت حجارة من الجرانيت حاد الزوايا أحضرت من محاجر بمنطقة فى مصر القديمة تسمى شق التعبان. صباح الخميس شكل من بالتحرير لوحات من الحجارة التى ألقيت عليهم، علم مصر، أو كاركاتير يسخر من النظام، أو يكتبون بها كلمة الثورة إرحل. أخيرا عرف شباب مصر معنى لكلمة الجبهة، التى أطلقوها على منطقة الاشتباك بين مؤيدى مبارك من العصابات المنظمة وبينهم هم الثوار المؤمنين بقضيتهم التى بدأت بالاحتجاج على وزير الداخلية وتصاعدت مطالبة بسقوط النظام ورحيل الطاغية. ثورة شارك بها شباب دون العشرين ورجال تجاوزوا السبعين كل حسب طاقته لتحرير مصر.
صفاء الليثى