الوثيقة التسجيلية من الثورة إلى الثورة
كنت قد بدأت التفكير فى عنوان المداخلة لندوة حول السينما التسجيلية تقام فى إطار فعاليات الدورة 17 لمهرجان تطوان بالمغرب بادئة من مجموعة أفلام وثقت لمشروع السد العالى قام بعملها المخرج صلاح التهامى، وفى استعراض لما تم بعده وجدتنى أنتهى عند جيل من شباب السينما التسجيلية تعكس أفلامهم حيرة الانتماء فكان العنوان " السينما التسجيلية المصرية ،من تأكيد الهوية إلى البحث عنها". كنت سأبدأ بمسيرة تبدأ بفيلم " أربعة أيام مجيدة " الذى يوثق أيام تحويل مجرى نهر النيل لبناء السد العالى وأنتهى عند فيلم "مكان اسمه الوطن " للمخرج تامر عزت يوجه فيه سؤاله لعدد من الشباب عن معنى الوطن بالنسبة لكل منهم.
واندلعت ثورة 25 يناير 2011 التى بدأها الشباب وانضم إليهم جموع الشعب المصرى وأنا منهم. انشغلنا بالتواجد فى التحرير وفى متابعة محطات التلفزة ، وحين عدت للتفكير فى ورقتى البحثية عن السينما التسجيلية كانت النهاية قد تغيرت وأصبح العنوان " الفيلم الوثائقى المصرى من الثورة إلى الثورة". وبعد أن كان الحزن والحيرة هما نهاية المطاف فى العنوان الأول، عاد الأمل حاميا لتوجه الفيلم التسجيلى المصرى ومعبرا عن انتهاء الحيرة، بل تجاوز الانتماء إلى المشاركة، نعم لم يعد الانتماء لثورة بدأها شباب مصرى بتنظيم سرى، وهو تنظيم الضباط الأحرار بزعامة جمال عبد الناصر هو المحرك للفيلم التسجيلى، بل المشاركة فى الثورة التى بدأتها مجموعة "كلنا خالد سعيد" عبر موقعهم على الشبكة الاجتماعية "فيس بوك" لتتفجر منها ثورة شعبية هائلة وثق فيها الجميع عبر كل الوسائل أحداثها وتفاعلاتها، بكل الوسائل التقنية بداية من المحمول الشخصى مرورا بالكاميرات الصغيرة وانتهاء بوحدات التصوير الأكبر حجما. تكشفت الحقائق ولم يعد ممكنا الادعاء بأمور يكشف الزمن عدم صحتها أو يؤكدها، تحولت الوثيقة التسجيلية إلى سلاح فى معركة ، حتى يمكن القول بلا مبالغة أن ملايين الوثائق المصورة كان يتم تبادلها عبر الشبكة الدولية فتفضح وتكشف وتنقل الحقائق لحظة بلحظة، أمكن لهاو أن يصور مدير أمن دمنهور بكاميرا هاتفه النقال وكان وسط رجاله يقول "نحن أسيادهم، ومن يتجاسر منهم إديله بالجزمة"،ـ اعتقد المسئول أنه آمن فصرح بوقاحة، كشفتها الصورة التى تناقلتها المواقع عبر مجهول، ليدان بعد أن ضبط متلبسا بوثيقة حقيقية لا يمكن تزويرها. تواصلت أخبار الثورة التى سميت بالثورة الضاحكة من قبل بعض القنوات، أمكن لرئيس أمريكا، ورؤساء الاتحاد الأوربى، أمكن للشعوب كافة وخاصة أصدقاءنا فى بلداننا العربية أن يصلهم ما حدث فى مصر من ثورة شعبية تطالب بإسقاط النظام. انتهت الشكوى من عدم وجود ممول للفيلم التسجيلى ولم يعد المستوى التقنى المرتفع وحده هو ما يمكن ترويجه، بل أصبحنا نشاهد وثائق شديدة الأهمية، وثائق نادرة صورت بيد مرتعشة وعبر التليفون المحمول تُعرض فى الفضائيات، ومثلما كانت الخربشة واللون الباهت تكسب وثيقة قديمة سحرا ما، اكتسبت الوثيقة الحية المصورة للحدث المتسارع قيمتها كسلاح يمكن للمحاكم والقضاء أن يستعين به فى محاكمات الثورة. أمكن لكل فرد أن يشارك متفاخرا بوثائقه فى دعم حيثيات الحكم . لم نعد شعبا يؤيد فعلا ثوريا قام به زعيم ما أو عدد من القادة، بل أصبحنا جميعا نتبارى فى إظهار ما لدينا لكشف الحقائق وفضح الأكاذيب.
الوثيقة المصورة من الانتماء إلى المشاركة (1 من 3)
تواجد السينمائيون منذ اللحظة الأولى فى الميدان، يعتصم شبابهم مع غيرهم من فئات الشعب، كبارهم أيضا مشاركون ، ويتحركون كل حسب طاقته، بكتابة البيانات، والمشاركة فى اللجان التنظيمية، بجمع التوقيعات للمطالبات، والأهم الاحتكاك بالشعب، كل الشعب بمختلف طوائفه وحساسياته –أستعير الكلمة من الأخوة التوانسة- ، وبالطبع كان البعض منا يتشكك فى نوايا الآخرين، إنهم هنا من أجل "السبوبة "، وهى كلمة فى القاموس المصرى تعنى استغلال أمر ما من أجل كسب العيش، والبعض يقول ساخرا، لقد جاء هؤلاء للتوقيع، أى لإثبات الحضور، كنا نقارب المليون فى الميدان ونتوه عن بعضنا، وننشغل بالناس، نتقابل أحيانا فنرفع يدنا بعلامة النصر، أو نبتسم فرحين، وفقط فى مسيرة السينمائيين قبل التنحى بيوم واحد التقيت الفنان على الغزولى وهو سبعينى نشط لم يعرف فى حياته سوى عمل الأفلام وأحيانا رسم اللوحات.
المخرج الكبير على الغزولى الذى يلقب بشاعر السينما التسجيلية يسكن فى بناية تطل على ميدان عبد المنعم رياض، ومن شرفة منزله شاهد كل وقائع يوم الأربعاء الدامى وقام بتصويرها من موقعه. وبسعادته كطفل نجح فى اقتناص لحظات تاريخية وفى توثيق الحدث الفارق فى مسيرة ثورة 25 يناير، يوم ما سمى بسخرية موقعة الجمل التى أظهرت للعالم الفارق بين الثوار من جيل الفيس بوك وثورة المعلومات وبين تفكير عصابة الخيل والحمير والجمال. كنت قد تابعت مسيرة على الغزولى مع الفيلم التسجيلى بمقال عنوانه "طفولة وإبداع على الغزولى"، هو صاحب"صيد العصارى" ... وفيلم بعنوان "طفولة وإبداع"، اجتمعت طفولته مع إبداعه ليتصرف بروح طفل مغامر فيتخفى فوق سطح بيته ليصور القناصة المترصدين فى سطح البناية المجاورة، يكتم أنفاسه ليتمكن من تصويرهم، هل كان خائفا؟ بالتأكيد ولكن رغبته فى المشاركة غلبت خوفه وتمكن من تصوير وثائق نادرة من موقعه الذى وجد فيه بالصدفة. طوال مشواره الإبداعى كان يرتحل، لا رغبة فى السفر ولكن لأنه يعتبر عمله هو نزهته الوحيدة، يرتحل إلى سانت كاترين بسيناء ليصور حكيم سانت كاترين ، وإلى بحيرة المنزلة ليصور "صيد العصارى"، وإلى الواحات ليصور "حديث الصمت".. وإلى دمياط وأسوان محققا أفلامه، ارتحل كثيرا ليمارس عمله الذى هو كل حياته، هذه المرة كانت الرحلة قصيرة جدا فى المكان، عميقة الأثر عليه وعلى مسيرته الإبداعية .
قابلته فى منزله، وعاينت معه موقع التصوير وحكى لى تفصيلا:
"اعتدت المشاركة فى وقفات احتجاجية بميدان طلعت حرب، وعلى سلالم النقابة، يوم 25 يناير وكنت مستعدا للنزول، سمعت صوتا هادرا لمظاهرة، كنت أراقب من سطح منزلى المطل على ميدان عبد المنعم رياض، وظهرت مجموعة متظاهرين يحمل بعضهم سلة ورود وعلم مصر لتحية رجال الشرطة، ثم تزايدت أعداد قادمة من اتجاه رمسيس، قلت مابدهاش،قررت النزول، لمحت فاروق عبد الخالق المتقاعد بعد عمل طويل فى الإنتاج، تعلقت بذراعه وكان يهتف بحماس "يسقط يسقط حسنى مبارك"، وشاهدت لأول مرة الرجال والنساء من كل الأعمار يسيرون وهم يهتفون،لا توجد طبقة دنيا بينهم، طبقة وسطى وعليا، لمحت على مراد الأرستقراطى مدير استوديو مصر يقبل سيدتين –تحية برجوازية فى الشارع– أنا فقط أحمل كاميرا فوتوغرافية وصوتى ما بيطلعش، ثم جاءت مظاهرة تقودها الناشطة جميلة اسماعيل من ناحية كوبرى قصر النيل ،تلاقت المجموعات بفرح وتسارعت الخطوات يوشكون على الاحتضان، جميلة سلمت على باليد، والدتها هى المخرجة فريدة عرمان تزاملنا فى التلفزيون طويلا، التحمت مظاهرة أخرى قادمة من باب اللوق وعندها تدخل البوليس خفيفا لمحاولة التفريق، ثم ظهرت عربة رش المياه ، لا أعرف كيف صعد شاب على سطح العربة واشتبك مع الجندى الذى يوجه مدفع المياه وأخرجه من موقعه وسقطا معا على الأرض، لحظتها أدركت أن هذه ليست مظاهرة، هذه ثورة، فعل المقاومة هذا وهذه الجسارة فعل ثورى. وأمضيت أياما عدة أراقب من السطح، ثم أنزل عندما يتزايد أعداد المتظاهرين. ولاحظت ظهور اللجان التنظيمية التى تنظم الدخول إلى الميدان، وصيحة إسلامى طابور للحريم وطابور للرجال، عندما وجهت الكاميرا للتصوير منعونى، فجادلتهم"أمال عاوزين تغيروا إيه؟" وصورت، كنت منفعلا، تدور فى رأسى أغنية للشيخ إمام:" لكل فعل رد، ولكل رد صد، دى المعمة يا واد، باين هتبقى جد، فى ناس كثير كثير، ما يحصيهمش عد ، وفجر بكرة زاد، من خطوته ومد". الحكاية بقت جد فعلا. صورت من سطح العمارة أيضا حريق مقر الحزب، كان قلبى يرتجف خوفا على المتحف المصرى القريب جدا من مبنى الحزب. كانت الصورة مفزعة. قيامى بالتصوير كانت طريقتى فى المشاركة ، كونى جزء من الناس وهذا ما أجيد عمله، كنت صورت بالمحمول عملية جراحية لخياطة جرح فى الجبهة، الطبيب الذى يعمل على الرصيف، نسى أين هو وسأل "سيسور؟"،يطلب مقص، ناوله أحدهم مقص، وعندما عدت للبيت شاهدت لواء متقاعد يحى المظاهرات عبر برنامج فى قناة خاصة ويطلب من الرئيس التنحى، يناشد الشرطة التعامل بهدوء مع المحتجين، بمجرد انتهاء البرنامج بدأ الضرب عنيفا، كنت أراقب من خلف زجاج النافذة المقفل تفاديا لدخان القنابل المسيلة للدموع. يوم 2 فبراير بعد خطاب الرئيس سمعت عن مظاهرة تأييد له بميدان مصطفى محمود، وأخرى أمام التلفزيون، وصلت مظاهرة تحت البيت، بعض السيدات لا يوحى مظهرهن بأنهن موظفات، مأجورات على الأرجح، واحد منهم قال: نطلع التحرير، وآخر رد: بل نرجع التلفزيون، ده لسه مرتضى منصور والناس بتوع الزمالك جايين. سمعت كثيرا عن مرتضى منصور ومظاهرات نادى الزمالك ولكن ماله والسياسة؟ ثم ظهرت مجموعات بالسيارات يصدرون غاغة- ضجيجا– أكبر من حجمهم، مراسل عربى كان يجرى حوارا مع شخص مظهره بلطجى، يقول:" أيوه حسنى مبارك لازم يبقى رئيس، لازم يبقى ملك، حسنى مبارك ملك مصر" ، ثم ظهرت تحت منزلى سيارات نقل كبيرة محملة بحجارة، وبدأت أعداد غفيرة تلقى الحجارة من مواقعها هذه على المتظاهرين خلف دبابات الجيش، صورت كل هذا من سطح العمارة، وصورت عمارة عن يسارى صعد على سطحها رجال مدربون، أحدهم يحرك علما وكأنها إشارة ما، وآخر يكسر حجارة ضخمة ويلقيها على المتظاهرين، من مكمنى بسطوح البيت لم يلاحظنى أحدهم. نقلت هذه الوثائق وقدمتها للجنة تقصى الحقائق التى تحقق فيما حدث يوم الأربعاء 2 فبراير2011"، انتهى حديث على الغزولى وشهادته حول ما حدث يوم الأربعاء الدامى الذى سقط فيه العديد من الشهداء، وهو الذى وضع حدا لنهاية النظام ، يومها كانت حجارة من الجرانيت حاد الزوايا أحضرت من محاجر بمنطقة فى مصر القديمة تسمى شق التعبان. صباح الخميس شكل من بالتحرير لوحات من الحجارة التى ألقيت عليهم، علم مصر، أو كاركاتير يسخر من النظام، أو يكتبون بها كلمة الثورة إرحل. أخيرا عرف شباب مصر معنى لكلمة الجبهة، التى أطلقوها على منطقة الاشتباك بين مؤيدى مبارك من العصابات المنظمة وبينهم هم الثوار المؤمنين بقضيتهم التى بدأت بالاحتجاج على وزير الداخلية وتصاعدت مطالبة بسقوط النظام ورحيل الطاغية. ثورة شارك بها شباب دون العشرين ورجال تجاوزوا السبعين كل حسب طاقته لتحرير مصر.
صفاء الليثى