Saturday 29 May 2010

بحث :هل انتهى دور المونتير؟

هل انتهى دور المونتير؟

شهادة من موقع تجربة التحول من الموفيولا إلى الكومبيوتر

صفاء الليثى

منذ أكثر من عشر سنوات حضر مندوب لشركة (أفيد) لتسويق أجهزة المونتاج المعروفة بهذا الاسم. نظمت شركة الاستوديوهات (وهى الشركة الحكومية) محاضرة دعت إليها العاملين فى مجمع المونتاج ومركز الصوت، كان على رأسهم المونتير الكبير حسين عفيفى، ومهندس الصوت مجدى كامل القريب من كبار المخرجين ومثقفيهم وكان مديرا لمركز الصوت وقتها. لم ينجح المونتير الأمريكى فى إقناع الحضور بضرورة ترك الموفيولا ومعدات الصوت التقليدية وتجريب الوسائل الحديثة. كان المصريون منفعلين بشدة وهم متخوفون من الإقدام على التعامل مع أنظمة لا تعمل ميكانيكيا وتتطلب قدرا من الإلمام بعلوم الكومبيوتر، وهو أمر بعيد عليهم وخاصة أن غالبيتهم من كبار السن ولم يتعاملوا حتى مع الكومبيوتر الشخصى، فما بالك بكومبيوتر للمونتاج والصوت؟ لم تستورد شركة الاستوديوهات تلك المعدات، ومرت أيام لنجد شركات خاصة قد اقتنعت، وتعاقدت وقامت باختيار شباب وشابات من خريجى معهد السينما –غالبا- ومن المتعاملين مع الكومبيوتر ودربتهم وكونت منهم أقساما لمونتاج غير خطى بدأ فى اجتذاب فنانى الإعلانات والكليبات. وتدريجيا تمت إزاحة الموفيولا وملحقاتها من أجهزة تزامن ومن ماكينات صوت تدار بالتروس ويستخدم معها الأفلام 35 مللى المثقبة. قام كريم جمال الدين بتحويل فيلا لحسن فتحى بالدقى إلى استوديو حديث عمل به أوائل خريجى المونتاج والصوت منهم منى ربيع وداليا الناصر. وكما استوديو مصر ومؤسسة طلعت حرب تم تكوين هذه الوحدة التى تكررت بوحدات أخرى ومع أنظمة أخرى غير خطية. ولم يعد أحد يلجأ لكبار المونتيرين العاملين على الموفيولا. ودون أن يمر المونتير بمراحل كان لابد منها لكى يثق فيه منتج لإسناد مونتاج فيلم روائى طويل له، لم يعد ضروريا أن يتدرج المونتير فى عمله من مركب للفيلم، مساعد مونتاج ثان، ومساعد أول ثم مونتير مساعد ثم مونتير. بل أصبح الواحد منهم يقوم بتشغيل المعدة-أوبيريتور- والقيام بالعمل الفنى أيضا. كان من أوائل الأفلام التى نفذت على هذا النوع من الأجهزة فيلم "هيستيريا" لعادل أديب من مونتاج زميلة دفعته بمعهد السينما منى ربيع، وعندما لم ينجح الفيلم جماهيريا وجد المونتيرون التقليديون فرصتهم للهجوم على التطور التقنى ونسب فشل الفيلم بالكامل للمونتيرة الصاعدة ولمونتاج الكومبيوتر- كما يطلق عليه شعبيا- وقيل إن المنتجة ناهد فريد شوقى أتت لمجمع المونتاج وقالت إنها ستُقبل سلالمه وتدعو لمونتيرى الموفيولا بطول العمر وتعتذر لهم عن خطيئتها فى الثقة بالجهاز المزعوم. وقتها وجدت نفسى أكتب دفاعا عن المونتاج والمونتيرة بما يفيد أنه لا يمكن أن يكون المونتاج وحده هو المسئول عن مشاكل الفيلم. لم أكن قد مارست النقد ولم ينشر لى مقال فى السينما –باستثناء أبحاثى كطالبة- وعندما قرأت هالة خليل ما كتبت، طلبت منى البدء بفقرة كانت تلى البداية، أى أنها قامت بعمل مونتاج لمقالى، وقرأه أيضا الزميل سيد سعيد ونصحنى بعرضه على مجلة الفن السابع، تلقاه أسامة عبد الفتاح مدير التحرير وقتها وكان العدد فى مراحله الأخيرة من اقتراب الطبع، ومع ذلك رحب بالمقال ووجده مناسبا لطرق الحديد وهو ساخن حول أزمة فيلم "هيستريا". وتوالت مقالاتى التى ارتبطت بالمونتاج فى البداية، ثم تطرقت لموضوعات أخرى متنوعة وإن ظلت أقرب للتحليل المهنى من النقد العام.[1]

عفوا للإطالة فى هذه الجزئية ولكنى رغبت فى توضيح كيف انقسم العاملون بالمونتاج لمعسكرين، أحدهما يرتبط بالموفيولا ونجوم العاملين عليها، والآخر يحارب بضراوة مع فريق من جيلهم للتواجد فى السوق، وانتهت المعركة بإزاحة المونتير القدير- التقليدى - الذى يعمل على الموفيولا ومعه مهندس الصوت بمعداته التقليدية، ليحل محلهم مونتيرون ومهندسو صوت متحمسون للوسائل الحديثة ويبذلون الجهد لكى يظهر فنهم بدرجة لا تقل عن تمكنهم من المعدة الحديثة.

حميمية الرواد وحميمية الشباب

فى حوارات أجريتها مع أكثر من مونتير قدير أخبرنى كل واحد منهم أنه يشعر بحميمية مع ذراع الموفيولا، ومع شريط الفيلم وهو يتحسسه فيشعر بملمسه أثناء العمل. هكذا قال سعيد الشيخ وكمال أبو العلا ونادية شكرى، وفى المقابل قال تامر عزت وهو من أوائل من عملوا على أجهزة الكومبيوتر أنه يشعر بنفس الحميمية مع الماوس والكى بورد- الفأرة ولوحة المفاتيح- وكذلك سمعتها من العديد من شباب المونتاج. عموما أصبح كل هذا فى ذمة التاريخ فعدد من المونتيرين الكبار الذين كونوا خبرتهم فى العمل على الموفيولا اضطروا لتعلم المونتاج غير المتتالى ومارسوه بجدارة. ولكن يبقى الخلاف قائما بين تقسيم العمل الذى كان له قواعد راسخة اختلفت الآن وتوزعت مهام كانت من صميم مسئولية فريق المونتاج فى الفيلم وأسندت إلى فريق الصوت، وتم سحب المقدمة الإعلانية من مساعد المونتير والتى كانت بمثابة حقل تجارب لكى يصبح مونتيرا يثق به المنتج، وأصبح يقوم بها أحد فريق الإخراج أو الإنتاج، وأصبح التتر يسبق بكلمة تصميم، فيكتب تصميم المقدمة، كما أصبحت شرائط الصوت مصحوبة كذلك بنفس الكلمة تصميم الصوت، وهى ترجمات لتترات الأفلام الأجنبية ولا تعبر عن تحول نوعى فى مفهوم المقدمة أو شريط الصوت بل ظلا كما هما بنفس المفهوم مع اختلاف المسمى فقط.

تختلف نوعيات المونتيرين سواء كان العمل على أجهزة قديمة أو حديثة، فهناك الحرفى الذى يركز فى إجادة حرفته ويقوم بتنفيذ تعليمات المخرج حرفيا دون تدخل فى الرؤية، والمونتير الخلاق الذى يشارك فى الرؤية الفنية ويقدم مساندة حقيقية للمخرج تضيف للعمل ويتحقق منه أعلى مستوى فنى كان السيناريو المبدئى يطمح إليه، ويصل برؤية المخرج وإيقاع فيلمه إلى أعلى مستوى ممكن يتم فيه تلافى عيوب التصوير والتعامل مع أخطاء التنفيذ بشكل يقلبها إلى أسلوبية مقصودة. المونتير المخرج كما يطلق عليه فى بعض الدوائر يفكر فى المادة المصورة وكأنه يعيد إخراجها، يثق فى أن قرار القطع النهائى فى يده هو بخبرته وحساسيته. يقوم بما يمليه عليه إحساسه باللقطة وبدورها، يفكر بما يخدم مضمون ودور المشهد فى البناء العام للفيلم، يقوم باقتراح حذف مشاهد، أو تدعيم مشاهد أخرى لصالح العمل, وكما فى كل المهن الأخرى حيث يعمل الحرفيون وينتشرون، بينما يبقى الفنانون بلا عمل، فإن هؤلاء المونتيرين التقليديين تراجع الطلب عليهم لأنهم يختلفون مع المخرجين والمنتجين، يصرون على رأيهم ولا يتنازلون،. ومع ذلك فهم الذين يمنحون المهنة وزنها الكبير، وهم الذين يؤكدون دورها الهام جدا فى إنجاح الفيلم، ليس فنيا فقط ولكن تجاريا أيضا. المونتير الذى يفكر مع المخرج يضع المتلقى فى حساباته أثناء القطع، وأثناء اختيار الكادرات، عند التعامل مع الحوار والموسيقى، يفكر "هنا سيحبس الجمهور أنفاسه، هنا سيضحك، هنا ستجرى دموعه, هنا سيصرخ من الغيظ، أو سيصفق إعجابا بموقف بطولى!". عفوا، هل هذا المونتير موجود الآن؟ هل لدينا سعيد الشيخ ورشيدة عبد السلام، كمال أبو العلا، نادية شكرى وحسين عفيفى. هل لدينا عادل منير وأحمد متولى؟ للأسف اختلف دور المونتير وتقلصت مساحة مساهمته فى الفيلم، وأسند جانب من شريط الصوت لمهندس الصوت، وأصبحت المقدمة مسئولية الإنتاج أو مساعد الإخراج بعد أن كانت بمثابة مدرسة يتعلم فيها مساعد المونتير حرفته وفنه قبل القيام بمونتاج فيلم روائى طويل. المونتير الآن يسلم فقط الفيلم بالحوار والموسيقى وتترك بقية الأعمال المكملة لآخرين، هل هى إعادة تقسيم للأدوار تطلبها التمكن من الآلة الجديدة؟ قد يكون هذا أفضل على مستوى الجودة التقنية للصوت، ولكن يجب أن يراجع مونتير قدير كل ما تم عمله، وأن يبدى ملاحظاته لكى يكون هناك مسئول واحد عن أسلوبية الفيلم وتكامل عناصره.

واحد من التقاليد التى لم يعد يلقى لها بال، تقليد عرض نسخة العمل فى نفس شروط العرض النهائى، على شاشة كبيرة وبحضور عدد كبير من المشاهدين. الآن المجد للعرض الخاص بعد انتهاء الفيلم تماما. بالطبع هناك عروض تجريبية قبل انتهاء الفيلم، ولكنها تبقى على نطاق ضيق بين الأصدقاء، وتتم بعرض نسخة VHS على كومبيوتر أو مونيتور صغير. فى جلسة مع أصدقاء مقربين، أما العرض على شاشة كبيرة، واختبار سماعات الصوت وبشروط العرض النهائى، فقد أصبح نادر الحدوث، وفى طى النسيان.

العلاقة بين السيناريو والمونتاج

قاعدة ذهبية يدركها المونتير قبل أى أحد آخر، أن "المونتاج يبدأ من السيناريو" إذ ينص السيناريو على وسيلة الانتقال بين المشاهد، ويحدد توقيتها كأن تكون بعد حركة ممثل، أو جملة حوار، أو بعد صوت مؤثر أو انتهاء جملة موسيقية على منظر ما. توقيت الانتقال ونوعه (قطع-مزج-تداخل- مسح) خاصية مونتاجية. يحدد السيناريو تتابع المشاهد شارحا السرد الفيلمى إذا كان متصلا،أم هناك عودة للخلف أو توازٍ بين حدثين، وكلها وسائل مونتاجية لكيفية حكى حكاية، وما يسمى بأسلوب السرد، هل سنسمع صوت الراوى يحكى الأحداث؟ أم سيأخذنا الممثل معه حيث يقوم بالأفعال؟ علامات القطع فى السيناريو تكون افتراضية يتم العمل عليها فى التصوير وتتخذ بشأنها قرارات نهائية فى المونتاج.

تتخذ إذن قرارات القطع النهائية فى مرحلة المونتاج ويكون المونتير مسئولا عن دقة وفنية تنفيذها بحساسيته التى تحدد الكادر-جزء من الثانية- الذى يحسم القطع، والمونتير الحساس تكون يده أسبق لتنفيذ صيحة المخرج "" Cut . المونتير المشغول بماكينته وبتفاصيل حرفته تتأخر استجابته، أو تكون ميكانيكية، لا شك تساعده التقنيات الحديثة فى التراجع لمئات المرات قبل الوصول لتفاهم مشترك حول المكان الأمثل للقطع. يتم التراجع دون أن تصاب نسخة العمل الافتراضية على الكومبيوتر بالتلف، وعلى الفور يتم تعويض فروق الكادرات، وإعادة الدقة للتزامن بين الصوت والصورة. والوصول للجزء المحذوف من اللقطة بسهولة، ستمكن الآلة الحديثة المونتير من العمل بثقة من يمكنه التراجع فى أى لحظة دون عناء البحث فى سلة النفايات. ومع ذلك لن نجد بين مونتيرى هذه الأيام أسماء لامعة مثل الأجيال السابقة..

بشكل عام يجب التفريق بين طريقتين فى عمل مونتاج الفيلم، أحدهما يقوم فيه المونتير بتنفيذ علامات المونتاج وقرارات القطع بنفسه حيث يجيد التعامل مع الكومبيوتر، والأخرى يكون هناك منفذ يجيد الحرفة ويقوم بتنفيذ ما يوحى له المونتير الذى يكون المخرج قد اختاره لخبرته فى أفلام سابقة ولموهبته التى تبدت فى أفلام أخرى وهو يعلم أنه سيكون هناك ثالث بينهما يراقب ويستمع للمناقشات والخلافات التى يحرص البعض أحيانا على أن تبقى سرا بين اثنين. هنا ليس وثالثهما الشيطان بل أوبيريتير غلبان أو ناصح يتحين الفرصة للحصول على ثقة المخرج ليصبح مونتير الفيلم وليس منفذا لزميله الأقدم خبرة. أحيانا تتدخل الأمور المالية ويفضل المنتج أن يوفر فلوسه ، أجر المونتير القدير ويقوم شخص واحد فقط بكل العمل.

أحد الدراسات الهامة التى تتناول فن المونتاج وتحولاته رسالة الدكتوراه للمونتيرة رباب عبد اللطيف المعنونة: "فنيات المونتاج الرقمى- فى الفيلم السينمائى" التى طبعت فى كتاب من إصدارات أكاديمية الفنون –سلسلة دراسات ومراجع –تقديم د. مدكور ثابت. رباب عبد اللطيف تمتلك تجربة مزدوجة فى العمل سواء على الموفيولا أو الأجهزة غير المتتالية مثل Lightworks & Avid . وأتوقف عند ما رصدته فى الفصل الثالث عن الإمكانيات التى وفرها جهاز المونتاج غير المتتالى فى تنفيذ القطعات.

فى صفحة 206 كتبت الباحثة تحت عنوان (الإمكانيات التى توفرها أجهزة المونتاج غير المتتالى):

أولا: الخط الزمنى Time Line

ثانيا: إمكانية تعدد مسارات الصوت.

ثالثا:إمكانية تنفيذ وسائل الانتقال.

رابعا: إمكانية تنفيذ المؤثرات المرئية.

خامسا: إمكانية التعامل مع الأنواع المختلفة من الشرائط.

سادسا: إمكانية عمل أكثر من نسخة من مونتاج المشهد الواحد.

سابعا: إمكانية تسجيل شرائط فيديو من الفيلم.

وقد قامت بشرحها عمليا على ما تم فى فيلم "المصير"، والملاحظ أنها كلها إمكانات تتعلق بسرعة العمل وتيسيره، ولا تتطرق إلى عنصر فنى خاص أمكن تطويره أو ابتكاره. وأغلب الظن أن ما رصدته كان من موقع دورها كمساعد مونتاج فى الفيلم سهلت عليها التكنولوجيا الحديثة وسائل العمل دون أن يرتبط هذا بدرجة أرفع من الإبداع. إذ يظل الإحساس بالإيقاع خاصية تميز المونتير الخلاق سواء نفذ رؤيته على جهاز قديم أو حديث ويتبقى فقط الجهد البدنى المرتبط بالأجهزة الميكانيكية وقد تم استبداله بجهد عصبى خشية حدوث عطل مفاجئ فى الجهاز يمسح كل ما تم حفظه، وهو خوف يظل قائما طالما أن العمل يتم بنسخ افتراضية وليس على شريط فعلى. لم تورد د. رباب عبد اللطيف رأى رشيدة عبد السلام التى لولا تمسك يوسف شاهين بها ما قبلت التخلى عن التعامل يدويا مع شريط الفيلم وتحسسه بنفسها، فمهما كان التفاهم بين المونتير ومشغل المعدة تظل بضع كادرات هاربة فى انتظار لحظة الإمساك بها. قد ييأس المونتير ويتركها "فالتة/هاربة" بعد أن تأكد له أن زمنه ولى ولا يمكنه أن يظل المتحكم فى قطعاته بالدرجة التى يريدها.

فى صفحة 38 من بحثها كتبت رباب عبد اللطيف : "أصبح هذا التطور التقنى متاحا فى جميع تخصصات الفيلم السينمائى .... تقنيات متطورة تساعد على تنمية فرصة الإبداع وتذليل جميع العقبات أمام المبدع لكى يستطيع أن يقدم خياله على شريط الفيلم السينمائى فى النهاية".

وهو رأى منطقى تماما ولكن ما يحدث فى مصر أننا نستخدم التقنيات الحديثة فى كل المجالات دون أن يتحقق الغرض منها بل تصبح عبئا مضافا على انعدام النظام المتكامل فى مناحى حياتنا الذى نعانيه بشدة وكمثال حول الهاتف المحمول الذى يهدف إلى توفير الوقت وسرعة إنجاز الأعمال نحوله بظرفنا لوسيلة للتهرب من الالتزامات أو لتبادل النكات والقفشات، أو لإفساد موعد هام بإرسال رسالة على الوقت الأخير بإلغاء موعد لقاء تكبد فيه الطرف الثانى مشقة كبيرة للوصول فى الزمان والمكان المحددين. المحمول فى يد الأطفال والكبار للهو –غالبا- أما عند الحاجة الماسة إليه فإنك تسمع : الهاتف قد يكون مغلقا، أو خارج نطاق الخدمة" اختصارا فالمحمول لم يحقق الغرض منه وهو احترام الارتباطات وتنظيم المواعيد.

وبالمثل لم تحقق تقنيات المونتاج التى توفرت الغرض الأساس منها،وهو توفير الجهد للتركيز فى الإبداع والعيب هنا ليس فى التكنولوجيا بحد ذاتها ولكن فى من يستخدمها دون وعى بإمكانيتها الإبداعية. ولا يمكن أن نطلق أحكاما عامة ونصف كل تجارب المونتاج الحديثة فى مصر بأنها غير مجدية، ففيلم ومقدمة "السلم والثعبان" يعد مثالا جيدا على الفوائد التى يمكن الوصول إليها من الوعى بتقنيات المونتاج الحديثة، وهى من عمل خالد مرعى المتمكن من حرفته والوعى أيضا بدور المونتاج فى الفيلم أيا كانت الوسائل المستخدمة تقليدية أو متطورة. وكذلك تجربة فيلم " الناظر " لشريف عرفة والمونتير معتز الكاتب التى استخدمت فيها تقنية تعدد شرائط الصورة ثم طبعها معا على شريط واحد فى نيجاتيف بديل يظهر فيه الممثل الراحل علاء ولى الدين فى ثلاثة أدوار يجمعها كادر واحد، فنجد الأم تضرب الابن على كتفه- فى خداع ناجح يعجب به المشاهد الذى يدرك بالطبع أنهما صورتين وضعا فوق بعضهما فى تطابق موفق. وسيمر الإعجاب بالمهارة التقنية للمخرج والمونتير ومجموعة العمل، يمر سريعا وقد ينسى ويبقى الانبهار بالمهارة التمثيلية لعلاء ولى الدين هو مصدر الإعجاب ويتم مقارنته دائما مع تجارب لاحقة حتى أن عام 2007 شهد قيام النجوم أحمد حلمى بأداء ثلاثة أدوار- أشقاء توائم- فى فيلم كده رضا. وقام محمد هنيدى بتقديم مثلها وتفوق محمد سعد وقدم خمسة أدوار مختلفة وأيضا لايهم المشاهد فى النهاية- ولا الناقد بالطبع- مدى التقدم التقنى الذى مكنهم من تقديم أدوار متعددة ولكن يبقى الحديث عن إجادة الأدوار المختلفة والاقتناع بها رغم التأكد التام من أنها لممثل واحد.

هنا سنعود للسؤال، هل انتهى دور المونتير؟ فى الحقيقة لقد تراجعت كل الأدوار الفنية، وبرزت أدوار النجوم – الذكور بشكل خاص- ومن حولهم من مصممى ملابس وما يسمونه (ستايلست)، وتراجعت أدوار المخرج والمصور وفنان الديكور، المونتير والموسيقى. تراجعت كل الأدوار لصالح النجم وتسريحة شعره، فهل استمر الوضع هكذا؟ حمدا لله شهدت نهاية عام 2007 العودة لدور المخرج وللحديث عنه (محمد خان-شريف عرفة-هالة خليل)، كما برز التساؤل لماذا تحول مونتير أثبت موهبته وجمع بين خبرة الموفيولا وتمكن التقنيات الحديثة وهو خالد مرعى إلى الإخراج، بعد تميزه مع عدد من المخرجين أصحاب الرؤية. وهل ظهرت براعته كمخرج مثلما برع فى المونتاج، أم أنه اضطر للتحول نتيجة قانون الإزاحة الذى لا يبقى أحدا مكانه، إذ أصبح السائد أن الأكثر مرونة والأقدر حرفيا هو المطلوب قبل الخبرة.

هل كانت فوضى خطوط فيلم "هى فوضى" تبقى بهذا المستوى من عدم الترابط لو كانت المونتيرة القديرة "رشيدة عبد السلام" على كرسيها العالى أمام الموفيولا، تجرى بمشرط جراح لمساتها على الفيلم.

نعم تعاقب الأجيال سنة من سنن الحياة ولسنا من المتباكين على الزمن الجميل، ولكنها ملاحظة تكاد تكون عامة عن خلل الإيقاع فى أغلب الأفلام، وظهور عيوب فى السيناريوهات مرجعه بشكل كبير هو تراجع دور المونتير وقيامه فقط بما يفيد حرفته دون أن يمتلك خبرة الحكم على مدى تأثير الفيلم على المشاهد، ودون امتلاك الخبرة للتحكم فى الإيقاع وتخليص الفيلم من الترهل الذى يتطلب أحيانا التخلص من بضع كادرات، أجزاء صغيرة من الثوانى فى كل مشهد، بتراكمها عبر المشاهد تصل إلى دقائق، تقترب من فصل كامل (10-20 ق) يشعر بها المشاهد العادى ولا ينقذه منها سوى الاستراحة التى أصبحت توضع فى منتصف الفيلم، وهى جريمة تضاف لجرائم العصر الذى لم يستفد بعد من التقنيات المتاحة ويحولها لأداة فنية تسهم فى رفع مستوى الفيلم.

لم ينته دور المونتير، ولكنه تقلص وتراجع ليصبح عنصرا مكملا، وليس إخراجا ثانيا للفيلم كما أراده فنان المونتاج سعيد الشيخ وكما نحب له جميعا أن يكون.

مساهمتى فى حلقة بحث حول

تحولات السينما المصرية فى العشرسنوات الأخيرة

إشراف د. صبحى شفيق


1

4 comments:

  1. أولا تحياتي لحضرتك أستاذة صفاء على اقدامك على مثل تلك الخطوة التي ستفيد بالتأكيد كل باحث عن تطوير علاقته وفهمه لفن السينما..

    فيما يخص علاقة المخرج والمونتير ،اسمحيلي أن ادخل فى الحوار من منظور أقرب الى الذاتية. بالنسبة لي -وأنا لست من دارسي السينما- لكني محب لهذا الفن واسعي للاستمرار بدراسته و العمل فيه مستقبلا..

    شاب مثلي علاقته بالفن هي علاقة مشاهده و فهم بالأساس ،نظرتي للمخرج هي نفس نظرتي للروائى ، فعليه أن يكون مسؤول عن فيلمه مسؤولية الروائي عن روايته.. أقدر طبعا تعاونية العمل السينمائي ومسهاماته عبر التاريخ..لكني حين أحلم أن أصنع فيلما يوما ما أحلم أن يكون (فيلمي) - بقدر انتماء روايات محفوظ لكاتبها ، ولوحات دافينشي ومحمود سعيد لراسميها ، وسينفونيات بيتهوفن لمؤلفها..
    سؤالي هنا (أو الهاجس الذي يلح علي) أنني ان تركت المصور يخطط لي شكل الاضاءة - ومهندس الديكور يصمم مواقع التصوير - و مصممه الأزياء تصمم حسب رؤيتها , والمونتير يتحكم في الايقاع وترتيب اللقطات...الخ
    هل سيبقى لي فى النهاية أن أكون مجرد (راسم للميزانسين , ومصمم لأحجام اللقطات التي قد يقترح المصور أيضا بعض التعديلات عليها!!).. ما اراه(وهو لا يعتمد على قراءات نظرية أو ما شابه) أن هناك فريق كامل يمكن أن نسميمهم صناع الفيلم .. وهناك(خالق واحد) للفيلم يرجع اليه الأمر في النهاية.. تفسير مشابه لما كان (ستانلي كوبريك) يقدم عليه, وان كان أكثر تطرفا (ربما).

    أكرر تحيتي لحضرتك ورجاء بالاستمرار.

    عمر منجونة

    ReplyDelete
  2. خالص تقديرى لرأيك، ولكنى من واقع تجربة أجد الفيلم عملا جماعيا يحقق فيه المخرج" مدير العمل Director " أقصى نجاحه بختيار موفق لفريق عمله، فقط العباقرة اللذين تسمى أعمال باسمهم كما نقول سينما فيللينى أو سينما يوسف شاهين، هم فقط المبدعون كما ترى وأرجو أن يتحقق لك نفس مكانتهم. سأواصل نشر ابحاثى القديمة بجانب مقالات حديثة ونتواصل دائما.

    ReplyDelete
  3. أولا أشكر حضرتك على التواصل،
    لكن على مستوي المتلقي كيف يمكن تمييز (السينمائي المؤلف) ، عن المخرج العادي. هل كل ما يعجبني فيلمه بشده أصبح مؤلف.. هناك مثلا المشهرون بامتلاكهم اسلوب خاص بهم مثل (تاركوفسكي-بيرجمان-جودار...الخ)
    هناك من هم أقل جوده فنية (كياروستامي-لارس فون تراير..) لكنهم مع ذلك يعتبرون كسينمائيين مؤلفين.

    على جانب اخر هناك الجيل الأمريكي الكبير الذي حقق نجاحا من خلال العمل مع نظام الاستدوديوهات (سكورسيزي - كوبولا-أوليفر ستون...) كيف نحدد اذا.

    في مصر مثلا نقول عن سينما داوود عبد السيد أنها تنتمي لسينما المؤلف، هل بسبب أنه يكتب سيناريوهاته بنفسه.وان كان الحال هكذا هل تصح تسمية سينما محمد خان بنفس التسمية علما بأنه لم يكتب معظم سيناريوهات أفلامه كما الحال مع (سكورسيزي و كين لوتش مثلا)
    - ثم اذا ذهبنا على مستوى المهرجانات فالجوائز كلها هي للمخرجين.
    نقطة أخيرة تحيرني وهي اللقب الذي يسبق اسم المخرج على التتر.. أمثلة:

    A Martin Scorsese Picture
    A Film by Elia Suleiman
    Akira kurasawa's (dreams)
    بالاضافة اللى اللقب الشائع بالطبع
    Directed by

    أرجو ألا أكون قد أطلت زيادة عن اللزوم.
    تحيّاتي. عمر

    ReplyDelete
  4. عذرا لتأخرى فى الرد عليك، ما زلت محتارة فى بعض الأمور التقنية للمدونة، الخط والصور كيف أضيفها. بالنسبة لسؤالك دعنا نقولها بشكل مختلف هناك المخرج الحرفى ينفذ أى سيناريو بحرفة عالية "آرتيزان" مثل شريف عرفة، وهناك المخرج الخلاق حتى لو لم يكن يكتب السيناريو كمحمد خان وبالطبع خيرى بشارة، سأنشر عن عمله التسجيلى وعمل داوود مقالات قديمة لبداياتهم فرجاء المتابعة وتحمل مع صغر الخط حتى أحل المشكلة.

    ReplyDelete