سكون الفوتوغرافيا
فى فيلم سينمائى
صورتان فوتوغرافيتان تصنعان فيلما
دون معرفة مسبقة
سواء بإجراء حوار مع المخرج أو بالقراءة عن الفيلم أتصور أن المخرج المؤلف انطلق
من صورتين فوتوغرافيتين واحدة لجدة وأم وطفل، والثانية صورة مقربة للجدة وهى شابة حيث
تظهر عينانها الملونتان بوضوح. الصورة الأولى لأجيال ثلاثة تثير الفضول لمعرفة
قصتهم، من هم وما هى حكايتهم. ما الذكريات التى تثيرها الصورة الفوتوغرافية التى
ثبتت لحظة زمنية ستبقى خالدة تتعدد قراءتها من كافة الأطراف المشاركين بها ومن الناظرين
إليها أيضا دون سابق معرفة. كل يستقبلها بحالة شعورية تتركها فى نفسه بين الحنين
والفضول، مع ذاكرة باقية أو تلاشت واختفت تنعشها الصورة وتحضرها من الماضى. الغريب
سيتساءل من هم وفى أى عام صورت؟ . يقوم الواحد منا بلمس الصور القديمة ومسح التراب عنها ويسرح . هذا ما فعله
كريم حنفى، قام بعمل مسح للصورة، اقترب منها بحركة كاميرا متأملة تظهر بدرجة من الاصفرار
كالذى يحدث للصور مع الزمن، أزاله وأظهرها لنا بدرجات الأبيض والأسود، متدرجا فى
بعضها حتى يصل إلى لون باهت يشتد كلما قويت الذاكرة. يحكى المخرج قصة الصورة ويفند
شخوصها. الجدة وكأنها تحكى نفسها، الصبى وحكايات لا يعرفها غيره، الأم وحيدة، أين
الرجل، الزوج ، الحبيب، لا يوجد فى حكايتنا سوى جدة وأم وصبى أحيانا يكون شابا. هذا
القبر، قبر من، الأب الذى لم يظهر نهائيا، أم قبر الأم هلى ستسبق أمها الجدة إلى
الرحيل، هل هذا قبر الشاب الذى كان صبيا يخاف دميته. من الذى مات؟ وهل هناك أهمية
لمعرفة تفاصيل الحكاية؟. هل ماتوا جميعا والصورة تحكيهم الثلاثة. الصورة الأخرى
للجدة شابة جميلة وسط الشموع، مرثية للجمال الذى تعبر عنه الصورة، هل ماتت شابة؟
وما هذا الفستان الأبيض؟ طقس مسيحى للدفن بأجمل الملابس مع ترتيل القرآن، مسلمة أم
مسيحية التفاصيل لا تهم، الابنة أيضا تائهة فى المدافن بفستان العرس. طيف يلاحقنى
لمشاهد من " الأبدية ويوم" لثيو أنجلوبولوس مع اختلاف فى مفردات
الثقافة، شكل المقابر ، الكتابات العربية، مقام الشيخ وتلاوة القرآن.
هل طارد كابوس
مخرجنا فنقله إلينا عبر فيلمه الخالى من الحوار، فقط تعليق من الصبى شابا يذكرنى
بمومياء شادى عبد السلام، ليس نقلا إلى فيلمه الساكنة شخوصه فى تناغم مع حركة
تتهادى معها كاميرا زكى عارف ناقلة إيقاع الحلم . وكل هذا الحنين لموتيفات الماضى
راديو قديم، لمبة جاز، مفارش يدوية الصنع
وكنبة استانبولى. الكادر المنمق المتسق مع ثبات طباع كبار السن قام بتنسيقه
المخرج بنفسه، غالبا ذاكرته احتفظت بترتيب الأشياء هكذا واختار أن يجلبها من
الذاكرة ويوثقها على شريطه الخام. مرة أخرى صورة فوتوغرافية تصلح لبطاقة شخصية أو
لأوراق رسمية تركها بالعيب الذى تركه الزمن، كان من الممكن أن يقوم بإجراء رتوش
عليها وتجميلها ولكنه اختار الاحتفاظ بفعل الزمن عليها. ساعة واحدة عرض فيها حكاية
الصورتين وثلاث دقائق للعناوين التى تسرد فريق عمل الفيلم. ساعة مضت دون حوار
لتعبر عن لمحات من زمن ثلاثة من الناس يتملكهم الحزن المشوب بشجن دعمته المختارت
الصوتية من الغناء الرفيع ومن التلاوة القرآنية لمدرسة التلاوة المصرية التى لا
تضاهى.
ذاكرة الصورة
لقطة طويلة واحدة
تصور الكاميرا فيها سيدة وطفل من الخلف حتى يصلان إلى مقبرة بنهاية المدافن.
عن بعد تظهر فتاة
ينظر اليها الطفل فيطمئن. تضع السيدة التى تبدو مسنة نوعا الزهور على القبر قطع
على الفتاة وكأنها تراقب ما يحدث. والانتقالات بين اللقطة العامة والمتوسطة، لا
توجد لقطات قريبة حتى الآن.
قطع بالموسيقى
للحن مميز للمستمع العربى السيدة بحجرتها ويستمر الغناء مستعرضا السيدة وامرأة
شابة هنا يمكن استنتاج أننا نحكى عن جدة وسيدة شابة وطفل فى كادرات تنحو نحوالثبات
تلعب الإضاءة مع التكوين دورا ملحوظا فى السرد. ( يا حبيبى الحقنى شوف اللى جرالى
) .
وحدتان مشهديتان خارجية فى المدافن وداخلية فى المنزل ،
نتعرف منهما على الجدة (أمال الزهيرى) والابنة (سلوى خطاب ) الابن (..طفلا ، أحمد
مجدى شابا) .
الطفل عائد بحقيبة
مدرسة يأخذ دمية من حجرته ويخفيها فى دولاب بالحائط، قطع على الطفل فى مرحلة
الشباب ينظر من خلف الزجاج ويكتب العنوان
على الشاشة " باب الوداع" .
الابنة تصفف شعرها
أمام المرآة ثم تقصه ( مشهد رديء التنفيذ لأنها تقص شعرا مستعارا واضح جدا ) فعل
يتكرر كثيرا فى الأفلام يعبر عن ترمل المرأة أو بقائها وحيدة فى حياة تعيسة بدون
رجل. يسمع صوت ارتطام فتنهض من سريرها فزعة، الصوت ينقلنا فى الزمن دون سلاسة بل
باختزال مقصود.
الجدة جالسة على
الكنبة الاستانبولى تعد القهوة بالسبرتاية ( موقد به
فتيل يشتعل بنوع من الكحول الرخيص) وراديو قديم، مفرش من الكروشيه، صناعة يدوية لم يكن يخلو منها بيت مصرى. الخلفية الصوتية للمشهد على تلاوة
قرآنية خارجة من الراديو، يربط الصوت مع شاب بجوار النافذة. عودة للجدة تعد عروس
الرقية، بدون الصوت المصاحب الذى يتكرر فى أفلامنا القديمة، يفصلنى المشهد وأفكر
فى هذه المثقفة التى تمارس طقسا شعبيا. لماذا شعرت أنها سيدة مثقفة واندهشت من طقس
الرقية الصادر منها، ليس فقط لأن الممثلة التى اختارها كريم لأداء الدور مثقفة
معروفة لى، بل لصمتها المريب وهدوءها، اللذان يكسران نمطية نموذج المرأة المصرية التى
تجلس على كنبة بلدى وتعد القهوة لنفسها وتسمع راديو.
بحركة كاميرا نصل
إلى سلوى تبكى ومنها على لوحة مكتوبة بالخط العربى الجميل، الشاب خلف النافذة
والمطر بالخارج.الغناء يربط عناصر الصورة والوقت نهار. تفكيك الصورة إلى عناصرها
فى مشاهد أقرب إلى حالة السكون، وكل فى حالة من التوحد وكأن الصورة التى جمعتهم
لحظة وحيدة لم تتكرر.
ثم يأتى الليل ..
الجدة وألبوم الصور. هذا هو لب الموضوع، ذاكرة الصور، والتقليب فى الألبوم، حركة
الكاميرا الهادئة تسمح بأن تلتقط العين تكوينا ثابتا .. دوما .. بدلة العرس للعريس
وفستان الزفاف الأبيض، لمذا تخرجهما الآن، تعلق البدلة على الشماعة وتملس عليها
بحنو، تعلق الفستان خلف البدلة، تضاد الأبيض والأسود يلفت الانتباه، أشعر بأن ما
تفعله طقس ليلى متكرر حيث لم يجد جديد، ونسمع (أعطر قلبى..) غناء له طابع صوفى
شديد القدم من اسطوانة مشروخة، المرأة تتزين وترتدى حليها، وقد كشفت خزائنها،
المشهد يتلون كاشفا عن عالمها الوحيد المختزل فى الكنبة وما خلفها. الغناء يستمر على
الابنة تمشط شعر أمها، تصبغه. قطع على الصورة الفوتوغرافية ودمعة التقطها المصور
وثبت الصورة، دمعة أضافها المخرج بإحساسه فقط فالصورة الأصلية عصية على الدمع. ومن
الصورة الثابتة حيث أشعر أنه طقس الموت بشكل مختلف. فيما يبدو أنه مشهد الفيلم
الفائق - الماستر سين- عند ق 33، قرآن مع طقوس دفن مسيحية فى حالة تخص المخرج
ونسمع تعليق الشاب - هل هو المخرج نفسه- ( ابن أمى ابن خوف أمى ابن حزن أمى ) ثم
مشهد الابنة أمام المرآة. الطفل يرفع الغطاء عنه شابا نائما كميت ثم اختفاء تدريجى
للصورة. ومن تنويعات على الصورة الفوتوغرافية، نعم ماتت الجدة يقينا، ها هو
فنجانها مقلوبا، والزمن وصل إلى 42 ق. مسح على آية قرأنية .. ألتفت الى لمبة الجازوأتساءل
ما الذى تفعله هنا. الابنة بفستان الفرح، هل ماتت هى الأخرى 45 ق والمشهد يستعرض
المنزل الجميل بطرازه الأوربى.
مشهد لسلوى خطاب –
الابنة- فى القبور، نعيق غراب وما يثيره من ارتباط تراثى بالموت. تقابل الملاك
الحارس والصورة نهارية يغلب عليها درجات اللون الأخضر. وصلنا إلى ق 50.
مشهد فى المقابر
حيث نسوة فى زيارة للقبور، عناصر مرتبة من الصور الفتوغرافية والشموع وبقايا أثر
لحياة، مشهد يذكرنى بالتعبير عن مأساة ضرب مدرسة بحر البقر من فيلم المخرج محمد
راضى العمر لحظة. ليست هناك قطيعة مع الماضى. والدلالات تكاد تكون تقليدية صوتا
وصورة. مرت على بأفلام سابقة مصرية وأجنبية.
أغلب الانتقالات
عبر الاختفاء التدريجى أو باستمرار الصوت الذى يربط بين عدة مشاهد فى حالة شعورية
واحدة. وعودة إلى التعليق عند ق 55، والدنيا تلونت، المخرج ومصوره يلعبان بعناصر
الصورة، استخدام الديكور وأبوابه ونوافذه لتنويع مصادر الضوء والجمع بين زمنين فى
لقطة واحدة ، مطاردة بين الطفل الذى يظهر للشاب كالنداهة ويدعوه لتتبعه. حيث الخروج
للنهار واهداء مكتوب إلى حزن أمى وتنزل العناوين.
مونتاج أمير أحمد
وعلاء الكاشف ، تصوير زكى عارف .
تبقى الصورة أهم
ما يميز " باب الوداع " صورة أنارها زكى عارف وتلاعب فى المونتاج مع
المونتيرين أمير وعلاء ليحقق التنوع اللونى الذى يتغير من الأبيض والأسود إلى
السيبيا إلى الألوان. جائزة أفضل تصوير حصل عليها الفيلم الذى اهتم فيه مخرجه
بالصورة وغناها على حساب الدراما التى بدت فقيرة تدور حول فكرة الموت، حتما سيأتى
آخذا معه حياة لم نلمسها إلا من خلال آثارها الباقية.
لم يكن الاحتفاء
بالفوتوغرافيا فى الفيلم فقط بسبب وجود ألبوم الصور مع الجدة بل بتفضيل جماليات
السكون فى فيلم اعتمد الثبات مما يذكرنى بمقولة للمخرج وودى آلان : "
أنا برغم كونى مخرج سينمائى لا أحرك
الكاميرا دون سبب ليقال عنى أنى مخرج موفى بكتشرز".
ما يقال عن فن
السينما يقال مثله عن الفوتوغرافيا، السينما فن وتجارة وصناعة، و الفوتوغرافيا فن
وعلم . فن الصورة يعتمد بشكل أساسى على عنصرى التكوين والإضاءة، مع السينما يضاف
عنصر الحركة فى الكادر(الميزانسين) إلى العنصرين السابقين. فى الصورة الثابتة هناك
ايقاع داخلى يشكله درجات الظل والنور فيها، بينما يبرز إيقاع الصورة السينمائية من
حركة عناصرها داخل الكادر ومن زمن عرضها الذى يحدده المخرج ومساعديه. بينما يكون
من يشاهد صورة ثابتة حرا فى التفاعل مع إيقاع الصورة ويختلف عندها من مشاهد إلى
آخر. بينما تتلاحق الصور فى الفيلم السينمائى لتشكل إيقاعا عاما تكون درجة إحساس المشاهدين
به أكثر تقاربا من مثيله فى الصورة الثابتة. الفيلم السينمائى مركب من الصورة
والصوت على عكس الصورة الفوتوغرافية الصامتة تماما فلا كلام ولا موسيقى ولا مؤثر
صوتى. يلجأ بعض الفنانين التشكيليين إلى إذاعة موسيقى مع لوحاته التشكيلية ودافعه
مساعدة المتلقى على استقبال العمل ولكننى أجدها حيلة لا يلجأ إليها إلا الضعفاء غير الواثقين من قوة
وسيطهم الفنى. الصورة الفوتوغرافية واللوحة التشكيلية فنا صامتا ولكن سكونه قد
يخلق ضجيجا من المشاعر يفوق ضجيج شريط الصوت المضاف للسينما.
هل الفوتوغرافيا
فن؟
يسمى تاركوفسكى العظيم
الفيلم بأنه نحت فى الزمن،والتعريف الشائع للسينما بأنها الفن السابع لا يشكك أحد
أبدا فى أن الفيلم السينمائى عمل فنى، بينما السؤال مازال مطروحا هل الفوتوغرافيا
فن؟ وأكثر ما يشكك فى الأمر سهولة استنساخ أصل الصورة لأعداد هائلة من المرات
ويصبح لدينا نسخا لا نهائية من العمل _ الصورة الفوتوغرافية- خلاف للوحة رسمها
فنان بالفرشة والألوان. ولكن ألا تستنسخ المنحوتات وتظل النسخ حاملة صفات وجمال
العمل الأصلى؟ وقبل أن نتوه أليس الفيلم السينمائى عملا ابداعيا يمكن طباعة آلاف
النسخ منه وتبقى قيمته كالأصل تماما . إذن لننحى جانبا فرضية أن الفن نسخة وحيدة
غير قابلة للتكرار أو الاستنساخ، وقبل أن نصل إلى إجابة السؤال علينا قبلا أن نعرف
ما هو الفن؟
كتب تولستوي فى كتابه (ما هو الفن؟).
أوضح فيه أن الفن ينبغي أن يُوجِّه الناس أخلاقيًا، وأن يعمل على تحسين أوضاعهم،
ولابد أن يكون الفن بسيطًا يخاطب عامة الناس. بالطبع هذا اختصار قد يكون مخلا بما
عبر عنه فى كتابه الذى يسرد نظريات علم الجمال قبل أن ينتهى إلى تعريفه للفن. الفن
يعكس الجمال، هدف الفن هو الجمال ، وهو وسيلة تواصل ضرورية بين الناس لصالح تطور
الإنسانية نحو الأفضل. الفن وسيلة توحد الناس فى أحاسيس واحدة. بهذا التعريف
البسيط يرفض تولستوى دعاوى الفن للفن، وكذا فن النخبة، ويرى الفن الحقيقى قادرا
على الوصول إلى أبسط الناس ثقافة.
صفاء
الليثى
نشر بالعدد
التاسع من مجلة الفيلم ديسمبر 2016 سامح سامي وحسن شعراوي
.
No comments:
Post a Comment