الفقر والعوز وضعف الرجال
صوت راوى يحكى على لقطات فى مدينة الإسكندرية، والعناوين تتخلل المشاهد ثم حارة تحيل للحارة المصرية فى أفلام الأسود والأبيض، فصلتنى عن المقدمة فسألت جارى هوه احنا فين فقال الإسكندرية، هل نسيت المقدمة دى كلها، آه نعم، لن نعود إلى الشاطىء بل سنبقى فى الحارة وكأنها خشبة مسرح لا نخرج منها إلا نادرا وعندما نخرج يكون الأشخاص عاديون شاهدنا مثلهم فى أفلام أخرى، فقط الحارة وسيد رجب، سوسن بدر وبناتها، هل هذه معالجة أخرى لبيت من لحم؟، عفوا للقصة الأطول فى احكى يا شهرزاد، آه ها هو محمد رمضان الذكر المخادع المقتول فى شهرزاد، لا ولكن هذا أمر آخر، صورة مختلفة، وشخوص طالعة من الحواديت، لا ليس من الحواديت بل من الدراما الإغريقية. قارئة الفنجان وكأنها إحدى الساحرات، هل هذا نوع من الصرع، مرض نفسى، يتداعى لى فيلم سيكو لهيتشكوك وصوت الأم يخرج من الشاب بعد القبض عليه مهددا الذبابة. نوبة تحدث لسوسن بدر تتقمصها ويخرج صوت رجل من داخلها، وسط الفوضى تأتى سلوى محمد على الجارة تضع مخدة صغيرة تحمى الرأس من الانفجار. سيزرع هذا المشهد مرات ومرات وعندما ينفضح أمرها وتفقد سحر غموضها ويتيقن الجميع من مصدر دخلها الذى يجلب العار، يتركونها بلا إنقاذ لتصاب فى مقتل وهم يتفرجون، مشهد النهاية كدراما مسرحية تراجيدية الجميع فيها حاضرون يراقبون تاركين الشخصية لمصيرها القدرى.
هل يتحدث الفيلم عن الفقر فى مصر؟، عن الكبت الجنسى ؟ أم عن عجز الرجال ؟ من قال إن هناك خللا فى السيناريو؟ هل لأننا نعرف سيد رجب ممثلا مغمورا فنجده لحما طريا لنقدنا للفيلم. يأخذنى الشوق بعيدا عن آراء سمعتها تسخر من منحه جائزة مهرجان القاهرة، وتسرعت كعادتى وتصورت أن هذا اتجاه يتماشى مع اختيار الاحتفاء بمصريين أبدعوا فى الخارج، أو مصر فى عيونهم، فاتتنى مشاهدة الفيلم أثناء المهرجان، وهأنذا فى العرض الأول منتشية من الجمال الفنى للفيلم، أيوه كده يا خالد الحجر، مثلك قادر على هذا، عند توفر التمويل والنص، وهؤلاء المبدعين من الممثلين، سيد رجب سوسن بدر روبى وميريهان. صورة الفيلم بديعة، بعض اللقطات تظهر فيها الخلفيات وكأنها بالكاميرا الرقمية، هل صور الفيلم بالكاميرا الديجتال "رد" ثم نقل إلى شريط السينما 35 مللى، إذا كان هذا ماحدث فالديجيتال هو المستقبل كما قال محمد خان منذ فترة.
مرت الحارة المصرية فى السينما بمراحل عدة منذ حارة العزيمة ، والحارة المفتوحة فى سارق الفرح، حارة ليه يا بنفسج ،والحارة الرأسية فى يا دنيا يا غرامى، وهنا الحارة السد، مغلقة تمنع رؤية البحر بمشروع الرجل الذى أصيب فى ضهره. الضهر شعبيا يحمل دلالات ومعانى عدة، نقول راجل من ضهر راجل، وتغنى الأم عندما ترزق بصبى، لما قالولى ده ولد اتشد ضهرى واتسند، الولد الضهر، وضل راجل. هنا فى الشوق ضهره انكسر. والنساء من كل الأعمار منتظرات بلا جدوى. بعض الخلل فى مشاهد خرجت عن أسلوبية الفيلم وجاءت ضعيفة جدا، أغلب مشاهد أحمد عزمى فى تركيبة نمطية للشاب الذى يعمل بدخل بسيط، يزوجه الأهل لأنهم سيساعدونه فى تكلفة الزواج فيفرضون شروطهم، ومشهد الفتيات وحواره المعاد "اتأخرتى يا أمه، احنا بعنا شرفنا يا أمه"، رغم أننا شاهدنا الفتيات تتجاوبن برغبة حقيقة ولم يظهر أنهن يبعن شرفهن. كالعادة يأتى المال بعد ضياع أشياء أخرى أهم، الكرامة والعزوة وشرف البنات. تتركن الحارة السجن وتذهبن للقاهرة حيث الزحام الذى يصعب معه أن تنكشف الحقيقة. ابتعدت عن سرد قصة الفيلم، لأنها ليست الغاية ولأن تلخيصها قد يعطى صورة باهتة جدا ومجتزأة عن فيلم سينمائى خاص جدا، يحمل أسلوبا خاصا يندر أن يتكرر، لا يمكن تصنيفه كفيلم واقعى، بل يتجاوز الواقع إلى ما وراءه كاشفا عن شخصيات تعيش مأساتها، يقترب من الفلسفة الوجودية التى تقول بأن الجحيم هم الآخرون. دون أن تفقد قدرا من الانتماء لأسرة ما ، لحلم ما ، لرغبة ما يصعب أن يتركك الآخرون قادرا على تحقيقه. لا يخرج الفيلم عن كثير من الأفلام المصرية المعاصرة التى تتعاطف مع البنات، البائسات غير المحققات لأحلامهن، تدين عجز الرجال المادى والجسدى والمعنوى، تدين الفقر الذى يقتل الكرامة ويضيع معه الشرف. ولكنه يختلف عنها بالبعد عن تنميط الشخصيات وبالطبع بالبعد عن الشعارات والكلمات الرنانة ، لا خطابة فى الفيلم ولا زعيق. عناصر الفيلم من صورة ومونتاج وموسيقى وشريط صوت كلها مميزة ولها أسلوب متسق على مدى الفيلم كله. يمكننا القول أن الشوق فيلم للمخرج خالد الحجر. يستحق الفيلم جائزة الهرم الذهبى لمهرجان القاهرة السينمائى وتستحق سوسن بدر جائزة التمثيل ، كما تستحقه ميريهان وروبى –بهذا الترتيب- ويستحق سيد رجب جائزة التمثيل عن أداء نادر للانسان المقهور فقرا وعجزا. فيلم الشوق سترتفع مكانته مع الزمن لأنه ليس فيلما عن ظاهرة وقتية يتم عرضها والسلام- بسطحية- بل فيلما فلسفيا يحتاج منا أن نتأمله لندرك عمق معانيه التى قد تصيبنا بالحزن الممزوج بفرحة الاستمتاع بعمل فنى كبير.
المقال جميل جدا يا صفاء، هامس، تجاوباً ما رصدتيه في الفيلم من نبرة حميمية، ولا أعرف لماذا يعاب على فيلم مصري الفوز بجائزة مهرجان مصري! أين يحتفى بقضايا ومبدعي مصر إن لم تفعل بلدهم؟
ReplyDeleteعرضك للفيلم والإشارات إلى تراث "الحارة" وقلق الانتماء لحلم وتحقيق الذات يشجع على مشاهدته أكثر من مرة
نعم با أحمد، قصدت دفع الناس وتحفيزهم على مشاهدة الفيلم، ثم بعد فترة وبعد المشاهدة لعدة مرتن يمكن الكتابة التحليليةعنه، وقد أكتشف بعدا آخر لم أنتبه له فى المرة الأولى.
ReplyDelete