Thursday, 1 July 2010

بنتين من مصر


العفن يأكل أحلام البسطاء
 و نساء بائسات لرجال مهزومين 

طائرة لوفتهانزا تقلع من المطار تتابعها زينة وصفا المنتظرتان عريسا سيختار زوجة من بين أربعة يشحنها معه لدولة خليجية، لقطة متوسطة لحنان وداليا فى نظرة جانبية تستنجدان بنا نحن المشاهدين تكاد الواحدة منهما تصرخ "عاجبكم كده؟".
نهاية منطقية لأحداث الفيلم الثالث للمخرج المؤلف محمد أمين بعد عمله الأول "فيلم ثقافى" والثانى" ليلة سقوط بغداد ". مقل فى عمله، متتبعا ما يجرى فى مجتمعه يفاجئنا بعمله الثالث الجاد والهام الذى يخرج الناقد عن صمته ويدفعه للتحاور معه. هنا فى " بنتين من مصر " يتناول مشكلة أساسية عن عنوسة الفتيات ويربطها ببطالة الشباب أو عملهم بالخارج. يمر على محاولات التغيير بالعمل السياسى الذى يجهض من داخله، وبالعفن والفساد الداخلى والاستعانة بالأمريكان. لا يغرق محمد أمين فى السياسة كفيلمه الثانى، ولا يتعامل بخفة مع مشاكل الشباب كفيلمه الأول. إذ يمزج الخاص بالعام مركزا على البنات وكلهن عاملات، الطبيبة التى تنفق على الأسرة وتخطت الثلاثين دون أن تمارس عملا سياسيا وبالطبع لم تمارس الحب، وأمينة المكتبة التى – تجهز نفسها – بمعنى أن تشترى ملابس العرس للزواج الذى تحلم به وتسعى إليه، حالمة بطفل تحتضنه يرضع من ثديها. فى غياب تام للرجال لا نتأكد من كونهم متوفين أو هجوا وتركوا الفتيات والنساء ومعهم بعض الشباب العاطل، أو المهاجر للخارج للعمل.

عند الحديث عن السينما يظهر التساؤل هل السينما صناعة أم فن، والأرجح أنها فى السنوات الأخيرة أصبحت تقوم بدور الأحزاب السياسية، المعارضة غالبا، أحيانا بالكوميديا المقترنة بالسواد، وفى القليل منها بنماذج جادة يكاد الفيلم منها يقترب من مقال سياسى طويل، أو بحث مختصر. بنتين من مصر يمكن اعتباره نوع من الإدلاء بالرأى فى المشاكل المحيطة بنا. مقال مصور عن الفساد السياسى الذى تسبب فى بطالة الشباب أو هجرتهم، وعنوسة الفتيات.
 يظهر بين المشاهد منظر وكأنه عنبر مصنع أو شيء مشابه، اعتقدت أنه تعبير فنى من المخرج عن حالة الانهيار الذى تعانيه البلاد وسوف يتبين قرب النهاية أنه قاع العبارة التى غرقت ومعها آلاف من المصريين الذين اختاروا وسيلة رخيصة للسفر ومعهم فى الفيلم الشاب أخو الطبيبة العاطل عن العمل منذ تخرجه بعدة سنوات، وصديقه اللذان تحايلا على الأخت وتظاهرا بأنهما مسافرين بالطائرة، ثم أسرعا للحاق بعبارة الموت. أراد محمد أمين أن يربط أزمة شباب مصر بالفساد الذى تسبب فى مأساة غرق العبارة التى لاتصلح كوسيلة آمنة للسفر. طوال الفيلم وفى لحظات خاصة منه جرت دموعى تعاطفا مع بناتنا وشبابنا، ولم تصرفنى ألاعيب إخراجية، أو محاولات لشد الانتباه كما يحلو للبعض "انظروا أنا المخرج، هل تلاحظون مهارتى العالية وقدرتى على تحريك الكاميرا و..." لا توجد بفيلم محمد أمين سارينات بوليس ولا سيارات تنقلب ولا حتى رصاصات من مسدس، أو حتى أسلحة بيضاء. وحتى مشهد كمين البوليس على الطريق الصحراوى جاء بعدما أوشكت داليا/صبا مبارك أن تخبر جمال عن حبها، فيتكشف لها ولنا أنه عميل للمباحث مندس بين المعارضة السياسية ليبلغ عن زملائه، بهدوء تضم ورقة الاعتراف بالحب وتلقيها. وأعترف أننى ظللت كاظمة غيظى من عرض المخرج لنماذج المعارضين بهذا الشكل، هذا المرشد على زملائه والطبيبة التى تمارس الحب خطفا مع زميل لها فى مخزن الملابس وتوزع منشورات وتتحدث بسذاجة- من المخرج طبعا- عن كونها تنتمى للمعارضة. ولكنه قدم شخصا-أحمد وفيق- يدخل فى دردشة على النت مع داليا أسمى نفسه اللا منتمى ورسم شخصيته بشكل جميل ومثالى – وكأنه يعبر عنه شخصيا- وقرب النهاية يأتون للقبض عليه بعد مقال نارى على النت.
رغم البطولة النسائية للفيلم، إلا أن المشاهد الأقوى تأثيرا كانت مرتبطة بالذكور وخاصة هذا الشاب العاطل عن العمل والذى تضبطه أخته يقوم بأعمال البيت –يمسح الأرض- فتمنعه وتتحدث مثل فاتن حمامة فى الأستاذة فاطمة التى قالت لزوجها بعد نجاحها فى الترافع عنه " أنا أمسح وأكنس واستناك فى البيت" بمعنى نهائى أنه  قضيتها الوحيدة وأن الأعمال الدنيا لاتكون للذكور. عمر أحمد يوسف أداؤه هاديء مختلف كليا عن الأب، وجهه معبر وحزنه دفين أوجع قلوبنا وهو يتمثل روح شاب مهزوم فى قيم الرجولة المتعارف عليها خاصة فى المجتمعات الشرقية.  محمد أمين لايغازل ذكور مصر المكسورين والمحبطين بل شعرت من خلال الفيلم أن هذا رأيه كرجل محافظ يجد مأساة فى عمل الفتيات بينما دورهن الفرحة بالزواج وحضن الطفل وعلى الرجال العمل والإنفاق. هذا رأيه غير المباشر المطروح فى الفيلم والذى جعله يدفع بالفتيات للقبول بعرضهن كسلعة يفحصها العريس القادم من العمل"ترانزيت" لعدة ساعات. وهو بهذا يعبر عن رأى سائد فى المجتمع يحيل مأساة الأسر لغياب الأب وملاحقة الحكومة لجهود الشباب الحالمين بالعمل وتحقيق الذات.  
                                طارق لطفى وصبا مبارك
من أجمل خيوط الفيلم شخصية المهندس الزراعى التى قام بها طارق لطفى بإجادة تامة، قدم  المخرج ظهوره الأول كشخص عملى لم يجد وقتا لحلاقة ذقنه قبل موعد المقابلة المرتبة طبقا لمكتب الزواج، وفى المشهد الثانى يدخل بهدية عبارة عن علبة بها عدد من ثمرات طماطم شديدة الجمال من محصول أرضه بعد عدة تجارب أجراها لثلاث سنوات، والمشهد الثالث يعرفها وأخيها على مزرعته فى الصحراء ونعرف أنه محكوم عليه بالحبس لعدم قدرته على سداد القرض للحكومة. توافق داليا على زواجها منه وتبدأ مشاركته حلمه،هنا سنربى أرانب، وهنا عيادة لأهالى المنطقة، هذه المرة بكيت تأثرا من رومانسية الحلم وأفاقنى المخرج فالواقع ليس كالأفلام وها هو فى المطار يهرب قبل منعه من السفر وينتهى الحلم. لا يمكن لسطور قليلة أن تحكى تشعبات ما حصل فى الفيلم من تفاصيل كثيرة أغلبها موجع والقليل منها يبعث على الأمل.
"بنتين من مصر" فيلم مصرى بروح شخصياته وبرؤية مخرجه، خالى من الخطب والشعارات يشبه غالبية البسطاء فى مصر والعالم فى أحلامهم المشروعة بالحق فى العمل والحياة. كما يشبه نظرتهم البسيطة-ولا أقول السطحية- للصراع من أجل العيش. وكعمل فنى يكسر احتكارالأبطال من الذكور للسينما المصرية ويقدم زينة فى أداء تمثيلى مؤثر مؤكدا أن الممثل ينجح حين يسلم قياده للمخرج ولا يتصرف كنجم يتحكم فى كل عناصر الفيلم. كما قدم الأردنية صبا مبارك فى أداء مقنع وجها طازجا –غير محروق- نحتاجه لإثراء الأدوار المختلفة ولإضفاء المصداقية عليها ممثلات فى أدوار نسائية أولى ولسن سنيدات، ومعهن رانيا شاهين وسلوى محمد على وأخريات قدمهن كسيدات بائسات فى مجتمع هُزم رجاله وعجزوا عن إسعاد أنفسهم أو إسعاد نسائهم.        

1 comment:

  1. Mahmoud Abd El Shakour
    جميل يا أستاذة . هذا الفيلم يرثى وطنا بأكمله تقتل فيه الأحلام
    June 28 at 10:08am ·
    Diaa Hosny
    المقال رائع يا أستاذة لكن لا أعرف موقفك الضاد لصورة المرأة أو الاهتمام بالشباب أكثر هل هو نتاج للتكوين المحافظ لأفكار المخرج أم هو محاولة لنقل واقع مجتمع محافظ جعلت منه الأزمة متزمت
    June 30 at 4:31am ·
    Safaa Elaisy Haggag
    نعم زميل ضياء ، فصورة المرأة فى الفيلم هى نتاج للتكوين المحافظ للمخرج والقريب من غالبية المصريين، فهو فيلم جيد ولكنه ليس عملا طليعيا فيه تتساوى طبيبة ناجحة مع موظفة صغيرة فى التهافت على الزواج وحتى النضال والاندماج فى العمل السياسى المعرض كان بدافع اصطياد زوج
    June 30 at 9:21a
    Safaa Elaisy Haggag
    سؤال ضياء حسنى ينم عن قصور موجود لدى فى المقال لتوضيح الأفكار أكثر، فخطوط الفيلم متشعبة وتحتاج تحليلا مطولا لمناقشتها باستفاضة وهذا يمكن كتابته بعد مشاهدات عدة للفيلم واختمار الفكرة، الرفيو الصحفى-عفوا المراجعة الصحفية الفورية- تكون رد فعل سريع قمت به انفعالا بجدية الفيلم واحترامى لصانعه والمشاركين فيه حتى مع اختلافى جزئيا مع بعض التفاصيل
    June 30 at 9:42am ·

    ReplyDelete