Wednesday, 18 January 2017

السينما الإيرانية بين الشعبوية والنخبوية



أفلام تحصد الجوائز وأخرى تعرض لشهور
مسعود ده نمكى وأصغر فرهادى
الصورة من "عن ايلى" لأصغر فرهادى
السينما الإيرانية التى نعرفها وصلتنا عن طريق المهرجانات العالمية الكبرى كان وبرلين وفينيسا وعن طريق مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى ولكننا لا نعرف السينما السائدة التى تحظى بتأييد شعبى كبير وتحقق الإيرادات فى الداخل كما يرضى عنها نظام جمهورية إيران الإسلامية . نحن نعرف كياروستامى وأصغر فرهادى فهل سمع أحد منا عن مسعود ده نمكى ؟ .. عام 2014 مثل فيلم " انفصال" إيران فى مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى وهو للمخرج المستقل أصغر فرهادى الذى نعرفه جيدا ولكن ما لا نعرفه أن منافسه كان فيلم إخراجى ها " المبعدون" المرضى عنه من الملالى ومن النظام. فبجانب السينما الإيرانية التى تحظى باحترام العالم توجد سينما أخرى، أو هى السينما الأولى لو اعتمدنا قوانين الداخل، سينما شعبية يقبل عليها المشاهدون الإيرانيون ويستمر عرضها لأسابيع أو حتى شهور، سينما شعبوية ترفع شعارات الوطنية تقترب من السينما المصرية والهندية فى عناصر الجذب من تضمين الكوميديا والشعارات العالية والنماذج الشعبية، كما يكون حضور مرجع شيعى كحكم بين المختلفين عنصرا ضروريا فى أفلام تبنى على تيمة التطهر لشخصيات هامشية يحدث لها تحول فتتطهر وتصبح عضوا ناجحا فى مجتمع إيران الجديد الذى عانى ويلات الحرب ضده من العراق وأمريكا . سيصل انفصال إلى المسابقات الدولية فى مهرجان كان وأوسكار أمريكا وسيكتفى الفيلم الشعبى بنجاحات الداخل ورضا رموز النظام، وسيبقى بعيدا عنا لا نعرف حتى بوجوده وسنعرف فقط "انفصال" ومخرجه الذى سيبقى فى ذاكرتنا كمخرج تخطى حدود بلده، سينضم أصغر فرهادى إلى آلهة السينما فى أوليمب الغرب مع سابقيه كياروستامى وبناهى جنبا إلى جنب أكيرا كورو ساوا اليابانى وتاركوفسكى الروسى وكارلوس ساورا الأسبانى وفيللينى الإيطالى وتروفو الفرنسى، جاك أوديار والأخوة تافيانى، وكل رموز سينما النخبة التى ينحاز لها المتخصصون من سينمائى مصر ونخبة مثقفيها.  لم لا نتعرف على السينما السائدة فى إيران حتى تصبح لدينا رؤية شاملة عن صناعة السينما فى البلد الأوحد فى العالم الذى أقام نظاما إسلاميا للحكم بعد ثورة قام بها أطياف الشعب على اختلاف توجهاتهم انتهت إلى سيطرة الجناح الإسلامى وفرض نظام شمولى صبغ البلاد بنظرة أحادية تصبغ المشهد العام بحجاب يغطى رؤوس نسائه مجبرات دون استثناء، وبصور للملالى وآيات الله مع الكتابة بحروف عربية أفهم منها بوضوح " على ولى الله". ورغم النظام الواحد تنجح الفنون عامة والسينما خاصة فى الإفلات من القولبة فتحقق إبداعات متفردة تنجح فى التنافس على أرفع الجوائز العالمية وفى الحصول  الدائم على تقدير دولى.

فيلم "اخراجيها/المبعدون" في  سوق كان

عام 2007 أعلنت مؤسسة فارابي السينمائية أن فيلم "المبعدون" لمخرجه السيد مسعود ده نمكي سيعرض من جانب إيران في سوق الأفلام بمهرجان كان الدولي. بين عناوين أخرى رشحت من قبل مؤسسة رسمية تحمل اسم " مؤسسة الشهيد و شؤون المضحين يتوقع هذا العام عرض 17 فيلماً يعود الي المؤسسات الناشطة في السينما الإيرانية كما صدرت تعليمات إلى  قناة سيما الدولية لتعد برامجها لعرض أربعة افلام فى سوق كان. خلافا بالطبع لأفلام فنية تشارك مسابقات كان الرسمية وأقسامه الأخرى.

سينما ضد سينما

فى سوق مهرجان كان أفلام لمخرجين لا يعرفهم العالم، محليون وطنيون بمفهوم الثورة الإسلامية الإيرانية، أفلام تشبه الفيلم الشعبى المصرى، سينما سائدة لا تشارك فى مسابقات المهرجانات الدولية تحقق ايرادات ويقبل عليها الجمهور العريض، مخرجيها ليسوا ضد النظام وبعضهم شارك جنديا فى جيش الثورة الذى حارب حروبا متتالية فى مواجهة الهجوم العراقى. فى مقابل أفلام لمخرجين يعرضون فى الخارج ويشاركون مهرجانات دولية وأفلامهم ليست بالضرورة ضد النظام ولكنها بعيدة عن السينما السائدة ، سينما فنية معارضة، هاجر رموزها إلى فرنسا أو ألمانيا أو كندا أو الولايات المتحدة الأمريكية. مات كبيرهم فى الغربة، مات عباس كياروستامى وهو يقطر دما إيرانيا صافيا حزنا على وطنه. ويواصل أصغر فرهادى نجاحات مطردة حتى وصل عام 2016 بفيلمه البائع إلى صالات السينما بفرنسا بينما يحقق مسعود ده نمكى إيرادات عالية بفيلم المعراجيون الذى حققه بعد نجاح ثلاثية "اخراجى ها ".

فمن هو صانع الأفلام الشعبية مسعود دى نمكى؟

يقول ده نمكى عن نفسه أنه كان عضوا في الجيش عام 1982 – شارك المعركة التى حررت خرمشهر في نقطة تحول حاسمة في الحرب العراقية الإيرانية، وهو أمر يصعب تصديقه حيث كان عمره 13 عاما وقتها ولا يمكن تجنيده فى هذه السن المبكرة، قال في حديثه لمراسل CNN كريستيان أمانبور أن جبهة حرب في الحرب بين إيران والعراق كانت المدينة الفاضلة والمجتمع المثالي بالنسبة له.
(هذا ما عبر عنه فى  المبعدون - إخراجي ها ).


مسعود ده نمكى انخرط فى نشاط مع أنصار حزب الله وكان أحد قادة حراس الباسيج الذين هاجموا بضراوة المؤتمرات والمهرجانات التى كان يعقدها الطلاب  لسنوات، وكان معروفا على نطاق واسع كمنفذ لقواعد المحافظة التي تقيد حرية المرأة و المجتمع. اعتاد أن يُستخدم لتفكيك التجمعات السلمية، والهجوم على المتكلمين، وجلب دوريات الحراس على موتوسيكلاتهم في الشوارع. شارك ده نمكى في أعمال الشغب كطالب بجامعة طهران في يوليو 1999. ضد عدد من الطلاب الذين كانوا يحتجون في تلك الليلة إغلاق "سلام" وتعرضوا للضرب في وقت لاحق من قبل المهاجمين وقالوا أمام لجنة التحقيق أن السيد ده نمكى كان يقود تلك الغارات الليلية الوحشية.وفي عام 2002، كان مع أنصار حزب الله، التى أعلنت كجماعة متشددة أنهم  فى "حرب مقدسة" اشتهرت بتعطيل التجمعات الإصلاحية وضرب الطلاب " لتخليص إيران من المصلحين الذين يروجون للديمقراطية الغربية وتحدي المرشد الأعلى للبلاد". مسعود ده نمكى، كان أيديولوجيا مع الجماعة، قال عن محاولات بعض الإيرانيين استرضاء أعداء إيران مثل الولايات المتحدة أنها "يجب أن تتوقف". ولن يكون غريبا عليه بعد أن احترف الإخراج السينمائى أن يطلق على سلسلة أفلامه " الدفاع المقدس". ومنها فيلم " المبعدون " المتاح على الشبكة الدولية بترجمة عربية.

بدأ ده نمكى حياته صحفيا لعدة مجلات أسبوعية تقترب من أيدلوجية المحافظين. منها مجلة أنصار حزب الله وصبح، والشلامجة التى فرض عليها الحظر من جانب محكمة إيرانية. اتجه إلى الإخراج عام 2002 حيث أخرج فيلما وثائقيا عن الدعارة التى تعود جذورها إلى شرور الفقر "الفقر والدعارة"،. ويُظهر فيلمه الوثائقي الدعارة المتفشية والمحظورة من قبل النظام الإسلامى المسيطرعلى البلاد. تفشيها فرض أن تناقش فى أفلام لمخرجين من كافة الاتجاهات كما عرضنا لفيلم المخرجة ناهد بيرسون اليسارية وها هو مسعود دى نمكى يتعرض لها أيضا بشكل مختلف يناسب قيمه المحافظة.

في عام 2004 أخرج دى نمكى "ما الأزرق، الذى الأحمر"، وبعده دخل فى سلسلة الدفاع المقدس التى تتناول فى إطار نقد اجتماعى سياسى الحرب بين العراق وإيران وتحولات السياسة بعدها.

" اخراجى ها " دفاع مقدس

تحت عنوان " دفاع مقدس" قدم مسعود ده نمكى ثلاثية فيلمية "إخراجى ها "  بدأها بالفيلم الذى يصور معركة على جبهة القتال مع قوات العراق، يبدأ الفيلم بمشهد لشاب يتزعم مجموعة من البلطجية – ولنقل المهمشين- يتقدم لخطبة فتاة ويكون مهرها أن يذهب إلى الجبهة لينال احترامها واحترام والدها وينتهى به وقد أصبح بطلا عبر فى حقل ألغام وفتح لهم طريق المجابهة مع العدو ثم يستشهد، وهو المعنى الذى سيتتبعه من تحول المطرودين الى المعراج فى السماء حيث منازل الصديقين والشهداء. لا يركز دى نمكى على الجنود النظاميين بل يبقى مع أبطاله من عامة الشعب الذين أصقلتهم جبهة القتال وتجربة الدفاع عن الوطن، فكاهة وسخرية، أبيات شعر ومواقف حماسية، بطولات وخيبات، موسيقى شرقية تجمع بين الغنائية والحماسية، الرومانسية الوطنية والمثالية فى أعلى صورها، بيت شعر يختم الجزء الأول يقوله مرتضى الضابط الملتزم الدارس لفنون القتال " لن يسمحوا لنا بالعبور من جبل الصالحين إلا إذا قبلت أنت " وأغنية بصوت رجل جميل مع عزف بآلة وترية تنزل التترات.

الجزء الثانى يبدأ بتصدير كتابى مطول وكأن المخرج يخشى ألا يفهم فيلمه على الوجه الصحيح وهو الذى يتبع أسلوبا نعرفه فى السينما المصرية بالتركيز على الهزائم والشخصيات السلبية  تشغل مساحة كبيرة من زمن الفيلم ثم يظهر لنا الهدف الأخلاقى –المورال – قرب النهاية وغالبا يأتى على لسان الإمام السمح أو القائد المتعلم المثالى.

 تصدير إخراجى ها 2 ( المبعدون 2)

-    الفيلم يعنى لون الظلام على الشاشة وهو تشويه لأفكار وأذهان العامة.

-    ليست قصتنا قصة ابريق الزيت، ولو أنها لا تخلو أبدا من الزيف.

-   فمنذ عهد المدينيين فى زمنهم القديم، شب نزاع مع الظالمين مستديم.

-   منهم من حج فأسميناهم حجاجا، ومنهم من بقى فسميناهم المطرودين.

-    هذا الفيلم اقتباس مع التصرف لحادثة واقعية حدثت زمن الحرب المفروضة ، وقبل تشكيل حرس أمن الطيران التى يمكن أن تجدوا وثائقها فى الأرشيف.

-   عدونا البعثى وعبر تأسيس المعتقلات الإعلامية حاول قلب الحقائق حول مقاومة أسرانا الأحرار المستمينة فى سائر المعتقلات. وفيلمنا هذا يروى حكاية هذا المعتقل.

-   الأسماء والشخصيات وهمية، وأحداث الفيلم جرت خلال أسبوع واحد ولا نقصد من خلاله التعمق فى حياة الأسر.


الجزء الأول من الثلاثية :اخراجى ها / المبعدون" بدا كافتتاحية لجذب المشاهدين والدفاع عن دورهم فى (الدفاع المقدس) عن بلدهم، أما الجزء الثانى فلزم أن يشرح الهدف وأن يوثق من وجهة نظره  الدفاعية ( الثورية) لحادثة الأسر وخطف طائرة ركاب مدنيين، شرح قبل التترات عنوان الفيلم الذى كان ملتبسا على حول معنى المبعدون من منظور دينى وسيتأكد الشرح فى الجزء الثالث حين يشرح مرتضى قائد مجموعة المقاومة لناخبيه ( كلنا مبعدون منذ أن طرد الله أبينا آدم من الجنة ) وكيف أن القتال فى الجبهة هو من صنع من هؤلاء المبعدين معراجيين ( هؤلاء المبتعدين عن الدين تحولوا فى الجبهة إلى شهداء مكانهم حيث المعراج).

بعد نجاح " المبعدون" بأجزائه الثلاث سيقدم مسعود دى نمكى فيلم " العارجون " دفاعا عن فكرة ضرورة أخذ موافقة الأهل قبل التطوع فى الحرب. المخرج الذى يقدم أفلاما موجهة يطيل فى قصة هذا الأب الرافض لذهاب ابنه الوحيد ليستشهد هناك بعيدا على خط المواجهة مع العدو فى حرب يؤكد بالقول والقصف أنها فرضت عليهم ( نحن لم نقم بإطالة أمد الحرب، ذلك اللعين صدام هو من فرض علينا ذلك ) دى نمكى يجعل الأب يقوم بكل الأفعال المرفوضة ليناقشها وينفى الزيف ويقر الحقائق التى يريدها.

ملامح السينما الشعبية للمخرج مسعود ده نمكى

-  البطولة لنماذج من المهمشين والبسطاء تتراوح أعمالهم بين الخير والشر، هم منافقون غالبا وأحيانا شجعان، بلهاء ولكن ظرفاء، مقدامون عند الحاجة وخاصة حين يطلبون الاستخارة من الشيخ الإمام الذى هو الملاك السمح الناطق بالحكمة والذى يحترم رأيه الجميع، أما الشيطان فهو الشيوعى من مجاهدى خلق كخاطف الطائرة فى الجزء الثانى، أو المرشح الذى عاش خارج البلاد وعاد بأفكار– تحررية- ليبرالية يخدع بها شباب وطنه فى الجزء الثالث. التنميط على طريقة أفلامنا المصرية وعلى الطريقة الهندية أيضا، أخيار واضحى الملامح وأشرار مرفوضون وبينهما مهمشين يخففون من ثقل الأحكام القطعية ويقربون الأفكار من عامة الناس، الجمهور المستهدف لأفلام موجهة من مخرج تتوافق قيمه التقليدية والمحافظة مع النظام.

-   يبدو وكأنه يقرأ أفكار المشاهدين أو يتوقع ردود أفعالهم فيثير لديهم شكوكا ثم يوضح حقيقتها، كما فعل مع اختياره للممثل الذى قام بدور مجيد فى الجزء الأول ليقوم بدور رسول فى الجزء الثانى ثم رجل أمن النظام المثالى فى الجزء الثالث. هل هما مجيد؟ هذا ما قد يتبادر الى ذهن المشاهد ثم يرد كسؤال من مرتضى البطل الذى يفضله فى كل الأجزاء.

-  مجاميع تتحرك بشكل جيد، وكاميرا بحركة دائرية فى مشاهد كبيرة. سينما جيدة الصنع فى مضمون يرضى عنه النظام يصل إلى قمته مع ما يشبه خطبة الوداع بعد أن كُشف الإمام وتعرف عليه البعثيون وسط الأسرى، فيقررون حبسه حبسا انفراديا مع رسول الذى كشف عن معدنه الطيب فى تأكيد أنه صورة من البطل الشعبى مجيد الذى بدا بلطجيا يتزعم شلة من الصعاليك وانتهى إلى التضحية بنفسه وخاض وسط الألغام فاتحا الطريق ليستردوا المنطقة التى احتلها العدو.

-  أهم علامات السينما الشعبية الواضحة لدى نمكى تكرار جمل تبدو كحكم بعضها أبيات شعر، تردد بتنغيم دون إغفال الأغانى الحماسية تنتهى بها أجزاء الفيلم مع موسيقى مميزة، الغناء بصوت رجل وكورس من الرجال يرددون أيضا ومع مشاهد الاستشهاد صوت كورال نسائى متناغم مع الموسيقى ويتصاعد مع المشاهد القوية. وكمثال مشهد نهاية الجزء الثانى – الذى أراه الأقوى بين الأجزاء الثلاثة – فى المشهد الجامع لكل الأطراف الأسرى وجنود البعث والمخطوفين المدنيين من الطائرة، تغنى فرقة الأسرى أغنية وطنية حماسية بدلا من ليلى التى طلبها منهم العراقيون ( إيران حدودك بالجواهر مسيجة، ترابك منشأ الفنون الواعدة.. مصونة حتى عن أذهان الأعداء، لتحيا لنا على طول الزمان، أفدى ترابك الطاهر يا بلادى " مشهد ضخم ومزدحم بلقطات متنوعة قريبة وبعيدة، يغنى فيه الجميع ومعهم من وشى سابقا لضعفه أمام التدخين فى مقابل الحصول على السجائر التى تبدو كأحد الشياطين أو دلالة على تهافت الضعفاء.  ومعهم يغنى من اعتقدوا أنه وشى ذلك المسيحى من أصل أرمينى، والنساء والرجال أسرى خاطف الطائرة، أما العراقيون فينسحبون وتنزل العناوين.

 لا شك أن فيلما كهذا يثير حمية المواطن العادى المحب لوطنه. والذى يرى نفسه وجيرانه ومن يعرفهم فى حارته. التى استمد منها دى نمكى نماذج أبطال فيلمه، مضيفا طبقات أخرى تضاف مع تغير الحدث والمكان، أشقياء سذج من الحارة، شيخ ورع فى المسجد ومنافق يدعى أنه يعرف الحلال من الحرام، ضابط متعلم دمث الخلق ويضحى من أجل وطنه، فتيات محبات مهرهن التطوع فى الحرب ما يثبت شجاعة الرجال طالبيهم للزواج. 

فى مقابل مسعود ده نمكى الذى لم أكن أعرفه، نعرف جميعا صانع الأفلام أصغر فرهادى إنه  المخرج الإيرانى  ذائع الصيت دوليا، وخاصة بعد حصوله جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عن فيلمه "انفصال". كان اسمه واحدا من أكثر 100 شخصية تأثيرا فى العالم من قبل مجلة تايم في عام 2012.

ولد فرهادي فى (مدينة الميمون) فى 7 يناير 1972. والتى تغير اسمها عام 1979 بعد الثورة الإسلامية إلى (مدينة الخمينى) وهي المدينة التى تقع في مكان قريب من مدينة أصفهان. وهو خريج المسرح، من جامعة طهران كلية التربية، بدأ عام 1997 بأفلام قصيرة  بمقاسى 8 مللى و16 مللى ، بفرع أصفهان للجمعية السينما الإيرانية الشابة، قبل أن ينتقل إلى كتابة المسرحيات والسيناريوهات لمؤسسة الاذاعة والتلفزيون، بعدها قدم أفلامه الروائية مواصلا الحصول على الجوائز ليحصل على الدب الفضي لأفضل مخرج في مهرجان برلين السينمائي الدولي ال59 عن فيلم " عن إيلى"  وأيضا أفضل فيلم فى مهرجان تريبيكا السينمائي. الفيلم حول مجموعة من الإيرانيين الذين قاموا برحلة إلى الشواطئ الإيرانية من بحر قزوين تحولت إلى مأساة.  نفس النجاح بالدورة ال29 لمهرجان الفجر السينمائي الدولى في طهران، وتلقى إشادة من النقاد من جمعية إيران من نقاد السينما. فاز فرهادى بأربع جوائز من بينها جائزة أفضل مخرج (للمرة الثالثة بعد الألعاب النارية الأربعاء و عن اللى). أيضا شارك في المنافسة في الدورة 61 من مهرجان برلين السينمائى الدولى، وحصل على الدب الذهبى لأفضل فيلم عن " انفصال"، ليصبح أول فيلم إيرانى يفوز بهذه الجائزة. في يونيو 2011، فاز "انفصال"  بجائزة سيدني السينمائى فى المنافسة مع الفائز بمهرجان كان عن "شجرة الحياة"، من إخراج تيرينس ماليك.

بترشيح من نقاد السينما فى إيران تقدمت إيران رسميا بفيلمه "انفصال" لأفضل فيلم أجنبي فى جوائز الاوسكار عام 2012، وحصل على ترشيح فى فئة أفضل سيناريو أصلى. وحصد جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية في 26 فبراير 2012، ليكون أول فيلم إيراني كبير يفوز بها. وأصبح فرهادي أول إيراني يفوز بجائزة الاوسكار في أي من الفئات التنافسية، دعي بعدها للانضمام إلى أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة في يونيو 2012 مع 175 شخاصا.

عام 2013 يحصل على جائزة سيزار لأفضل فيلم أجنبى وجائزة الروح المستقلة لأفضل فيلم عن " الماضي"، من بطولة بيرينيس بيجو وطاهر رحيم، وتنافس للفوز بالسعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي عام 2013. حازت بيجو جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان عن دورها في الفيلم. ،عام 2016 تنافس فيلم " بائع" للفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي ولكنه حصل على جائزتى أفضل ممثل وجائزة أفضل سيناريو لفرهادى.

تمثل أفلام فرهادي صورة مصغرة عن إيران الحديثة والمضاعفات الحتمية التى تنشأ، وخاصة عند عبور التفاعلات الطبقية والفوارق بين الجنسين. يقدم فرهادى تعقيدات الحياة اليومية في إيران اليوم، وخاصة في ضوء التنوع الذى يعبر الهياكل الاجتماعية مثل الطبقة والجنس.

مخرج مستقل حاز الحسنيين

أصغر فرهادى ليس فقط مخرج النخبة حاصد الجوائز العالمية، بل تنجح أفلامه داخل إيران وله سمعة طيبة بين نقادها وسينمائييها.  وإذا كانت شهرته لدينا وانتباه الأوساط السينمائة المصرية له ارتفع بعد فوزه بأوسكار أفضل فيلم أجنبى عن "انفصال " فقد سبقه فيلم هام حاز الدب الفضى ببرلين " عن إيلى" يدور فى مجال الطبقة الوسطى وقضايا العلاقات الشخصية بين الرجال والنساء فيما يبدو أنها تيمته المفضلة التى يقدم تنويعات عليها بشكل مطرد ، "عن إيلى" 2009 ، " الماضى " 2012 ثم " انفصال " 2014 أفلام تبدو فى ظاهرها عن الأسرة ولكنها تلقى بظلالها على قضايا تخص المجتمع كله والنظام العام. فى أفلامه نقترب من الطبيعة الإنسانية لأبطاله فنجدهم مثلهم مثل أى بشر فى العالم يتحابون، يحقدون يشعرون بالغيرة، يلعبون ويمرحون، يرقصون، بالطبع الرجال فقط هم من يرقصون والنساء تصفق، النساء فى حجابهن الدائم سواء على الشاطىء، أو فى البحر تعوم، أو نائمة بجوار طفلها. التزام المخرج بقواعد الرقابة على السينما تجعلها متداولة فى الداخل والخارج، يحوز جوائز فى الداخل والخارج . فرهادى بأفلامه الفنية والتزامه بالخطوط العامة لسياسات بلده يحوز الحسنين جوائز الداخل والخارج وعروض تجارية هنا وهناك.

"عن إيلى"

المشهد الأول لمجموعة نساء ورجال وأطفال فى سيارة فى نفق يصرخون مرحين ثم تعبر السيارة وتمر إلى منطقة ساحلية ثم يتوقفون لاستراحة فى الطريق. الكاميرا حرة والحوار تلقائى نعرف منه معلومات عن تدبير لقاء بين أحمد الذى انفصل عن زوجته الألمانية وبين إيلى معلمة الحضانة لابنة زبيدة التى تبدو كقائد للرحلة ومدبرة كل شيء. وهناك اتفاق شبه جماعى لتدبير زيجة أحمد من إيلى عوضا عن الألمانية التى طلقته.

فى استراحة الطريق يعدون شايا على الفحم فى ابريق الشاى الفارسى المميز، أحمد المغترب لم يشرب مثله منذ فترة ويسألونه عن الأحوال هناك فى الغربة.

حين يتعذر استئجار الفيلا المعتادة يعرض عليه فيلا قريبة من شاطىء البحر، نوافذها مكسورة وغير مهيأة للسكنى، متربة والأجهزة تحتاج جهدا لتعمل، بالطبع لا يوجد فى الفن مصادفة بل هو اختيار المخرج الذى سيلعب على هذه الأوضاع فى دلالات يمكن قراءتها على ضرورة العيش فى المتاح مع بذل الجهد لجعله مريحا فى فيلا شبه مهجورة تطل على شاطيء جميل، هل هى الوطن كله ؟ شبابيك مكسورة وقفل صديء، أثاث متهالك وبيت متسخ، هل هذا هو المتاح من الوطن؟ هناك حركة من الجميع ومشاركة وخاصة من السيدات لإعداد الفيلا للمبيت بعد أخذ التصويت بالبقاء أو الرحيل لليلة فى مكان أكثر ملائمة. الرجال راضون عن زوجاتهم زوج زبيدة يناديها بمولاتى، والديمقراطية فضلت البقاء مع التنضيف بمشاركة الجميع. هذا المحور سيلعب عليه فرهادى كثيرا عن عدم جدوى الهجرة وتفضيل البقاء مع تحسين الشروط.

بالفيلم عادات شرقية فالنساء سيكون لهن غرفة واحدة للنوم مع الأطفال والرجال فى غرفة أخرى، عدا العرسان الجدد العريس يقول سأنام مع زوجتى. ملمح شرقى آخر رقص الرجال مع تصفيق النساء فقط. يلعبون لعبة تشبه لعبة نمارسها فى الرحلات (صلح) شخص يخفى وجهه ويحزر من الذى ضربه من الخلف. ثنائيات الأسرة تتحرك فى تناغم عدا إيلى مدرسة ابنة زبيدة نراها مشغولة بالبحث عن مكان به إشارة لتليفونها المحمول لتنفرد بمحادثة خاصة، الآن هى فى سيارة زبيدة تحدث أمها وتخبرها أنها تبيت مع صديقة وستحضر فى الغد، زبيدة تجعل أحمد يقود السيارة ويشترى طلبات ومعه فى الطريق إيلى ليتعرفان ويتبادلان الحديث. من تليفون ايلى نعرف أن الأم مريضة ويدور حوار هو الأهم بين أحمد وإيلى حين تسأله عن سبب الانفصال فيقول لها بالألمانية أولا ثم يترجم ما قالته له الزوجة الألمانية وهى تطلب منه الطلاق ( أن نتألم قليلا أفضل من أن نندم طوال حياتنا) هو يحكى عن علاقته بأمه التى ماتت منذ سنتين وكيف كانت تهتم بإعطائه طعاما بيتيا فى سفره وخجله من علبة المخلل التى فاحت رائحتها فى المطار وأشعرته بالخجل. هى تفكر قليلا وتبقى الكاميرا على وجهها الذى يحبه المخرج ويتوقف عنده فينقل لنا إعجابه بها.

الرجال يعدون الشواء ومائدة طعام على الأرض يفسحون لها مكانا بجواره، نسيوا الملح فتسارع بإحضاره، هم يضحكون كمن يفضح نفسه حين يدبر أمرا مما يسبب لها الإحراج، فى المطبخ تفكر فى أمر ما وتبدو سارحة ومهمومة ، حين تعود تجلس فى مكانها بجوار أحمد.

جلسة رجالية مع الشيشة يتسامرون ويسألونه عن رأيه فى الفتاة، بينما السيدات فى المطبخ، ولكن زبيدة تطلب منهم التجمع فى جلسة جماعية حيث يلعبون لعبة الأفلام. أشعر بتقاربهم معنا نحن المصريين فى طريقة العيش باستثناء هذا الزى شبه الموحد للنساء غطاء على الرأس فى كل مكان وملابس محتشمة فضفاضة. شخص يمثل فيلما بشكل صامت وهم يحزرون، إيلى لعبت والطفل ووالده وتتوالى أسماء الأفلام " ملكة النحل والعسل" ،" الحياة الصعبة لطلاب الحقوق". ثم الصباح التالى والرجال فقط مع لعبة الكرة الطائرة، النساء منهمكات فى أمور إعداد الطعام، الأطفال يسبحون، ايلى ترغب فى المغادرة فتمنعها زبيدة، هى تجلس مرغمة وقد طُلب منها الانتباه للأطفال، ابنة زبيدة تطلب منها إصلاح خيط الطائرة الورقية، تصلحها وتجرى بها فى مشهد الفيلم الفائق حيث تجرى بمرح طفولى. والمخرج يتابعها فى مشهد متعدد الزوايا قبل أن يعود للرجال مع الفولى بول والطفلة تأتى صارخة على أبيها آراش أراش قبل أن ينتبه الأب وباقى الرجال أن الطفل يغرق. ويتسارع إيقاع التوتر مع احتمال غرق الطفل حتى أن الجميع يشاركون فى الإنقاذ وأهمهم أحمد وينجحون فى النهاية فى إنقاذ الطفل وبعدها ينتبهون إلى غياب إيلى فيسود الاعتقاد أنها نزلت البحر لتنقذ الطفل فغرقت. زبيدة تعوم بكامل ملابسها، حالة من الانهيار للجميع مع انحسار الشمس وارتفاع موج البحر، فرقة إنقاذ تفشل فى العثور على إيلى أو جثتها. طوال المشاهدة سيطر على أن هذا سوء تفاهم وأن ايلى غادرت كما كانت تريد وكما أخبرت أمها بذلك. يظهر إحساس زبيدة الهائل بالمسئولية وتبدو إيلى كشخص أنانى لا يهتم بقلق الآخرين عليه. أحمد يشعر بالذنب لأنها لم ترغب فى التعرف عليه ووقعت تحت ضغط زبيدة. زوج زبيدة وقد طفح به الكيل وينهرها بل يضربها لأنها تتدخل فى مصائر الآخرين. الرحلة وقد انقلبت إلى كارثة بعد أن كانت البداية منتهى المرح.

حدث الاختفاء جعله فرهادى فرصة لعرض التركيبات النفسية لأبطاله، زبيدة ( دائما تعتبر نفسها المسئولة ) كما يقول زوجها. السيارة عجلاتها مغروزة بالرمل، الأزمة العائلية يتعامل معها فرهادى بجدية شديدة وكأنها حرب كبرى وقرار الرجال ( النساء والأطفال يعودون إلى طهران ونبقى نحن هنا للبحث) وحديث عن ( المقدر والمكتوب ) على لسان إحدى الشخصيات. وندخل فى مشهد تجمعه فكرة واحدة عن النفاق الاجتماعى والأكاذيب وكيف تؤدى إلى ضياع الحقيقة. أما مشهد لعب إيللى التى لا نعرف الكثير عنها مع الطائرة الورقية فيعد أحد مشاهد السينما الكبيرة التى تبقى عالقة فى أذهان محبى فن الفيلم، كثف فرهادى لقطات إيلى مع الطائرة، الممثلة فى براءتها وتعطشها إلى الحرية، بسمتها الفرحة والمبهجة. لن نراها بعد هذا المشهد، ستختفى حتى يتضح خبر غرقها وكأن الموت أمر محتوم بعد أن نجح المخرج فى إظهار قسوة الخطيب الذى يقتلها بحبه المريض، وبعد نجاحه فى إظهار سخف تدخل زبيدة فى حياتها رغم جهلها بحقيقة ما تتحمله من ظروف. ستتصدر صورة إيلى مع تطلعها إلى سماء الحرية ملصقات الفيلم الذى يحصل على عدد هائل من الجوائز فى كل مهرجانات الدنيا.

كيف يحول المخرج من العادى واليومى فيلما غير عادى كاشفا الكثير من المعانى مع القليل من الحوار المحمل بمعانى دالة وإشارات هامة. والأكثرية من الحوار حوار الحياة اليومية غير المحمل بالشعارات على عكس مخرج السلطة مسعود ده نمكى - إذا جاز التعبير -  الذى يلجأ إلى حوار مزين بالكلمات الرنانة والشعارات والحكم الشعبية.  

حصل " عن إيللى" جوائز عديدة منها:

جائزة (أفضل مخرج) ، مهرجان فجر السينمائي الدولي (2009)

جائزة الجمهور بمهرجان فجر السينمائي الدولي (2009)

الدب الفضي (أفضل مخرج) بمهرجان برلين السينمائي الدولي (2009)

أفضل فيلم روائي طويل بمهرجان تريبيكا السينمائي (2009)

الغراب الدراج،  ذهبية مهرجان السينمائي الدولي في ولاية كيرالا (2009)

أفضل سيناريو ، جوائز الشاشة آسيا والمحيط الهادئ (2009)

جائزة لجنة التحكيم الكبرى ، جوائز الشاشة آسيا والمحيط الهادئ (2009)

جائزة NETPAC ، مهرجان بريسبان السينمائي الدولي (2009)

ملحوظة: اخترت الكتابة عن فيلم " عن إيللى " لأنه لم يتم الانتباه إليه إلا بعد فيلم " انفصال نادر وسيمين" نتيجة حصوله على الأوسكار. حيث وجدته أكبر معبر عن سينما أصغر فرهادى الأقرب إلى السينما الفرنسية التى لا تنشغل بالقضايا الكبرى وفى نفس الوقت تعبر بجمال خاص عن الإنسان الإيرانى فنجده مثلنا جميعا يعانى من أزمات وجوده التى تتجاوز شكليات الحجاب والمنع إلى قضايا الحرية والبحث عن الذات.

بالنسبة لى أيضا كمصرية تربيت على أفلام شعبية فى مراحل الأسود والأبيض لم تزعجنى متابعة سلسلة أفلام " دفاع مقدس" ولا أنكر أننى استمتعت بها وقد خلعت نظارة المثقف وبقيت على سجيتى، خلافا للمتعة الراقية التى شعرت بها مع أفلام فرهادى وخاصة "عن إيللى" الذى حرمنا من مشاهدته بمصر فى مهرجاننا الدولى المتأثر بالسياسة والمصالح المتغيرة.
 * شكر خاص للصديق الفنان التشكيلى المصرى أوفى ريان الذى عرفنى بفيلم " اخرجى ها ".

وأوصلنى إلى مراجع الدراسة:

أفلام ايرانية " دفاع مقدس "  فيما يشبه نوعا سينمائيا تخصص فيه مسعود دى نمكى


البحث عن إيللى: كتابة وإخراج أصغر فرهادى

نشرت الدراسة بالعدد الثامن من مجلة الفيلم نوفمبر 2016
 

No comments:

Post a Comment