Thursday, 2 April 2015

عن أهل نيبال ونسائها النشيطات

قابلت بشرا سعداء  
تجربة رائعة وعظيمة مررت بها لمدة خمسة عشر يوما فى جمهورية نيبال التى يعيش أهلها على ممرات وسفوح الجبال،  متنقلة بين العاصمة كاتمندو وبين محافظة رولبا التى تقع إلى الغرب من العاصمة حيث ريف يعيش سكانه على الزراعة والرعى فى قرى ومدن جبلية صغيرة.

يستيقظ أهل نيبال وخاصة الريفيين منهم فى السابعة ليبدأوا يومهم فى الثامنة صباحا، كنت أنتظر الدراجة البخارية التى تقلنى من النزل الصغير، المريح والنظيف والمطل على طبيعة خلابة حيث الجبال العالية والخضرة والمدرسة وعدد من المنازل على الأرض المنبسطة فى حضن الجبال . تحت النزل دكان بقالة تديره امرأة شابة مبتسمة دوما، تضحك لى وتسعد حين أبادرها بكلمة نامستى التى تعنى مرحبا، ودكان آخر سمكرى للدراجات البخارية، الوسيلة الأكثر انتشارا والتى تناسب طرق البلدة التى تقع غرب عاصمة جمهورية نيبال والتى تقودها بعض الفتيات أيضا فى العاصمة. كاتماندو عاصمة نيبال قليل فقط من طرقها مرصوف بعناية والأغلب طرق ترابية غير مرصوفة وكأنك فى ريف، عرفت أن الأمطار الغزيرة فى شهور الصيف تدمر كل محاولات الإصلاح التى تابعت بعضها هنا فى محافظة رولبا أو فى العاصمة. يصل أحد المشاركين بورشة السينما الجديدة بالموتوسيكل فهو من أهل مدينة ليبان التى تقام فيها الورشة، المشاركون الآخرون يصلون سيرا لمقر المركز القريب من الساحة الرئيسية لها، ولى ولزميلى خبير التصوير الهندى دراجة بخارية للانتقالات . أثناء الطريق كانت الآية القرآنية " ولا تعرف نفس بأى أرض تموت" فالطرق شديدة الانحناء ، جبل صخرى على جانب وهوة لا يقل عمقها عن ثلاثمائة متر على الجانب الآخر. أطفال المدارس يسيرون مجموعات دون مصاحبة الأمهات، يقشعر بدنى من تصور انزلاق أحدهم فى الهوة السحيقة، ولكنهم وكأنهم ولدوا هكذا على الحافة لا يسقطون ولا يشعرون بأنهم فى خطر. أفكر أليست هذه الجبال معرضة لسقوط بعض الأحجار منها، وخاصة أنها مكونة من صخور صلدة تتخللها كتل طينية تنمو فيها بعض الأشجار، سأعرف أثناء الانتظار فى المطار للعودة من ناشط فرنسي فى حقوق الإنسان أن مثل هذه الحوادث تحدث، وأن جبلا انهار على مدرسة للأطفال بكاملها، منظمات الإغاثة والمساعدات الدولية متواجدة بكثرة فى نيبال وخاصة فى ريفها، قسوة الطبيعة هى العدو الأول، بالإضافة إلى بطء التمدين إذ يبدو أهل البلاد راضون بأحوالهم ، غير عابئين بما يمكن أن تخبئهم لهم الأقدار، ألمح بعض الحوائط من شبكات خرسانية تقيمها الحكومة لكى تسند أحجار الجبل وتمنعه من الانهيار.  قبل قدومى كنت أعرف أن نيبال بلد فقير ولكنى لم ألمح طفلا حافيا، أو شخصا بملابس ممزقة، العناية بالملابس أمر ملحوظ وخاصة بين النساء اللاتى ترتدين ملابس تشبه زيا موحدا بنطلون متسع يضيق عن القدم، وفوقه مايشبه الجلباب بلونين متناغمين، السائد اللون الأحمر مع الأخضر، أو لون البنفسج مع الأصفر، ألوان مبهجة وزى موحد يختلف عن السارى الهندى فى طريقة تصميمه، أما الريفيات والعاملات حاملات الحطب المنحنيات صعودا على الطرق الجبلية الوعرة، فترتدين قماشا يلفنه كما جونلات كانت منتشرة بيننا يوما ، بتصميمات رائعة من قماش قطنى خفيف فى الصيف وآخر ثقيل للشتاء. هذا الزى رقصت به فتيات المدارس اللاتى احتفلن بنا فى الختام، بعد أن بدلن زى المدرسة الأنيق والعصرى والذى يشبه ما ترتديه فتياتنا وشبابنا فى المدارس. هنا ستجد التمدين والعراقة متوازيان معا، الشعور مسدلة أو مرفوعة دون تقصيرها، تجلس الفتيات المنتظرات الزواج أمام مداخل البيوت تصففن شعورهن وتدعكنه بالزيوت، صاحبة البقالة صديقتى تشير بيدها على شعرى القصير المتعب وعلى الزيت، تريد أن تخبرنى أن قليلا منه قد يصلح شعرى . أبتسم لها وأقول أننى ديدى وهى كلمة تعلمتها وتعنى الأخت الكبرى، أما هى فتسمى ماينى الأخت الصغرى. لا تكف النساء عن العمل دونما معاناة بل وهن مبتسمات تتشمسن فى شمس فبراير الذى يصل إلى درجة مرتفعة من الحرارة أحيانا جعلت السيدة التى تدير النُزل تخلع القميص الصيفى وتبقى بجلباب منزلى عارى الأكمام وتغطى رأسها لتحميه من الشمس، كنت أتابعها وأنا أنتظر وصول الزملاء لتناول الغداء الذى يتم فى الظهيرة ، فى الثانية عشرة حسب تقاليدهم. فى اليوم التالى أشرت إليها أننى أرغب فى تصويرها، استئذنت زوجها ووافق وهو يبتسم لى. صورتها وخلفها الجبال، شيتا أم لصبيين، بوجهها المغولى المميز، وهم نصف سكان نيبال المختلطى الأعراق فمنهم المغولى والآرى، ومن أهل التبت.


المرأة شريك حقيقيى للرجل فى العمل ، تمتلك حريتها وتتصرف بتلقائية، أتحدث عن الريفيات فما بالك بفتيات المدينة، متحررات ترتدين الملابس الأوربية وترفضن بدلة الأمهات التقليدية والشال الملقى للزينة دون رغبة فى تغطية شعورهن أو الكتفين، ما يحرصن على تغطيته هو الصدر والردفين، احتشام بلا مبالغة، وأنوثة بلا تفريط.  وتبقى نسبة المتعلمات بين النساء أقل، فمن بين 52 متدربا فى الورشة كانت هناك ثلاثة فتيات فقط، اثنتان منهن صديقات لى  هن جيتا وبيميلا والثالثة ممثلة ومثلها الأعلى السينما الهندية لم يتسن لى الاقتراب منها ولا معرفة اسمها للأسف. فى المحاضرات النظرية كانت جيتا وبيميلا نشيطات وتوجهان لى الأسئلة وتبدوان شغوفات بالمعرفة، وحين توجهنا للتصوير وانقسمنا إلى مجموعات كانت جيتا فى المجموعة التى أشرفت عليها، فى السابعة والعشرين من عمرها غير مرتبطة بعد، وتكتب تحقيقات صحفية فى الصحف النيبالية. فى القرية التى اختارها لنا منسق الورشة ومديرها المخرج كيبي باتاك وهو رئيس نقابة كل العاملين فى السينما بنيبال، فى قرية ماديشور، ركزت جيتا على إجراء حوار مع فتيات من القرية تعملن على ماكينات لغزل الكتان وتحويله إلى خيوط، كانت الفتيات جالسات بماكينتهن فى الطبيعة، وجيتا تجرى الحوار بينما أتأمل أنا عجوز محنى الظهر جالس لمراقبتهن، سأعرف أن المسن " لالبادور بودا" 80 سنة وأن الإشراف على الفتيات جزء من عمله اليومى مضافا إلى عمله الأصلى فى توزيع مياه النهر على المناطق المزروعة. يعيش فى كوخ خشبى مع زوجته التى تصغره بسبع سنوات، تعرفا أثناء حفل تبادلا فيه الغناء، الزوجة تحيينا بضم يديها أمام صدرها، نامستى، ثم تقول ويترجم لى مادهاف وهو السكرتير العام لنقابة السينمائيين وأحد أعضاء فريق التصوير بالقرية هنا  تقول أشبورا العجوز :" من يعرف من يموت منا أولا"،  نطلب منهما الغناء فتبدأ هى وتزجره حين يطغى صوته على صوتها ويضحكان، يوجد مرحاض منفصل عن الكوخ، وهو منتشر فى المناطق الريفية بعد أن كان وجوده نادرا وتدخلت جمعيات حقوق الإنسان الغربية لتشجيع القرويين على استخدامه حرصا على الصحة. بمجرد وصولنا القرية، كنت ألتقط صورا لكل التفاصيل التى لا يلحظها سوى الغريب، كان مجموعة من شباب القرية يمارسون لعبة ما، ويقف معهم شاب بزى رسمى، سألت عنه وتبينت أنه من الشرطة، وفكرت فى وضع الشرطة فى مصر التى تحولت إلى أعداء لباقى طوائف الشعب .


الاستقبال دائما بأكاليل الزهور وختم الجبهة بهذه البودرة الحمراء، وتحية الضيف ليس بفنجان القهوة ولا بإطعامه، بل بباقات الزهور وبالرقص والغناء. كان علينا الذهاب إلى موقع آخر به شجرة ضخمة ، تقدم إليها القرابين كإله من عصور سحيقة،شجرة يعتقد الأهالى فى قدسيتها وتتجمع حولها فرق للرقص، لهم قائد ومسئول سياسي يتميز عنهم بالنظارة وبياض البشرة ، قدموا رقصات مشتركة للرجال والنساء معا، ثم رقصتين منفصلتين للرجال  بملابس كرنفالية سوداء فى طقوس بالعصا كما لو كانت رقصة حرب، وأخرى للنساء  بملابس زاهية الألوان ، وتاج من ريش الطاووس على رؤوسهن، غنت النساء غناء كما النحيب دون مصاحبة الموسيقى. حول حلقة الرقص تجمع تقريبا كل سكان القرية مستمتعين بالمشاهدة وكأنهم فرغوا من أعمالهم خصيصا لمتابعة الحفل الذى أقيم للاحتفال  بفريق الفيلم القادم من ورشة العمل المقامة بمدينة رولبا،  تأتى بعض السيارات تحمل أحجارا ومواد للبناء فتنتظر قليلا ثم تصر على العبور قاطعة تسلسل الراقصين والراقصات. أمام الشجرة المقدسة دكان بقالة تديرة امرأة شابة تصلح نموذجا لفيلم خاص عن نيبال، سيدة تبدو لى كالغجر بملابس صيفية وعينين نجلاويين. كنت وصلت على الدراجة البخارية قبل باقى المجموعة التى لحقتنى سيرا وهم ينهجون ويتنفسون بصعوبة فالطرق صاعدة على الجبال بشكل حلزونى، ولا أعرف من أين تأتي القوة للقرويات حاملات العشب على ظهورهن، وكيف يتمكن هؤلاء المسنون من الصعود والهبوط رغم ضعف وجبتهم من الأرز والخضر المسلوقة، أو قد تكون  لياقتهم هذه بسبب هذا الطعام الصحى والخفيف الذى لا نتناوله فى بلادنا إلا عند المرض. وبسبب التعود على مثل هذه الظروف منذ الصغر. تسهم المرأة فى اقتصاديات البلاد، ليس فقط فى الأعمال التقليدية كرعاية الطيور والحيوانات ، بل فى أعمال الزراعة الشاقة، كحرث الأرض ، كما أن هناك فنانات تلقائات قابلت أثناء زيارتى للمعبد عددا منهم  ترسمن على الأحجار لصنع حلى يقبل عليها السياح، تجيد الواحدة منهن  التحدث ببضع كلمات للغة الإنجليزية للفصال أثناء البيع. 


رغم تقديس المرأة للحياة الزوجية إلا أنه ليس مجتمعا ذكوريا تعانى فيه المرأة من سيطرة الرجال، بل على العكس وكما شرح لى المخرج الهندى شيكر داس زميل الورشة أن ثقافتهم فيها الإلهة الأم هى الأهم والأقوى وبالتالى فالأم هى ربة البيت وصاحبة السطوة فى الأسرة. فى حفل الختام كانت حاملة العلم فتاة، وفى الرقصات كانوا يؤدون نفس الحركات لا فرق بين البنات والصبيان إلا فى الزى، رأس الرجل مغطى بعمة ملونة بألوان مبهجة، والفتيات حاسرات الرأس مزينات الصدر بعقود ملونة. فى أحد المرات تصادف بالمركز تجمع للحزب الرئيس بالبلاد حيث كانت تجرى انتخابات وتبادلت معى سيدات من الحزب الحديث وسألتنى إحداهن عن زوجى وأسرتى، وأجبتهم بالطبع لى أسرة، لدى ابنان بلغا مبلغ الرجال وفتاة شابة ، وهكذا مهما بلغت النساء من حرية، ومن لعب دور فى الحياة العامة يبقى لديهن الإحساس بأن وجودها مرتبط بوجود الرجل فى حياتها وبدونه ينقصها الشيء الكثير. كان بيننا مترجم من النيبالية إلى الإنجليزية، وقد وجدته محرجا لنقل الأسئلة ولكننى شجعته على نقلها بأمانة، وتذكرت أننى مع كل أسفارى أواجه سؤالا كهذا سواء من أخوات دينهن الإسلام وثقافتهن تعلى من الذكر على الأنثى، أو من الرفيقات ماويات أو أوربيات تتساوى فيه المرأة مع الرجل فى الحقوق والواجبات، ويبقى داخلهن هذا الإحساس بالاندهاش من التحرك بمفردى دون مصاحبة أحد من الرجال، أبا أو أخا زوجا أو صديقا أو حتى ابنا. الرفيقات سألننى هل لك صديق، وقبل أن أضطر إلى الإجابة جاءنى سؤال عن الأسرة واحتميت بأمومتى لثلاثة أبناء وجدتنى أستمد منهم عونا ومساندة على وضعى كسيدة وحيدة تتحرك بين جمع من الرجال الغرباء. الشباب منهم لقبونى ماما والأكبر قليلا كنت لهم ديدى، الأخت الكبرى.
وهكذا فى مصر أو إيران، فى إيطاليا أو نيبال وجدتنى أتسلح بأمومتى وأحتمى بها من عالم ما زالت فيه المرأة فى نظر مثيلتها المرأة ضعيفة تحتاج رجلا يرافقها فى حياتها مهما بلغت من العلم أو الخبرة، ولم يكن هذا ما وجدته من الشباب وفتيات الورشة الدولية للسينما الجديدة، بل كان احترامهم وتقديرهم يحوطنى ويصلنى عبر ندائهم على بالكلمة المحببة " صفا مام ".
نشر بمجلة الهلال عدد ابريل 2015          رئيس التحرير: سعد القرش
صور مرتبطة بالموضوع

1- وخلفى العاملات تنسجن الخيوط وتجرى معهن جيتا حديثا صحفيا
  2- شيتا مديرة النزل والطاهية
3-    صاحبة المقهى عند الشجرة
4 - رائدات رفيات
 

No comments:

Post a Comment