Monday, 17 February 2014

موج: الثورة فى السويس بلد الغربان والمقاومة



موج من زاوية عين الطائر
 
بمشاهدتى له فى العرض الأول بمصر بمركز الإبداع الخميس 9 يناير 2014، خرجت بانطباع جيد عن فيلم " موج" للمخرج أحمد نور وكنت تابعت عملا سابقا له بعنوان " جلابية وجزمة"، كان فيلما تسجيليا جيدا، وقبله محاولة أولى فى فيلم روائى عن زنا المحارم. الانطباع الجيد كاد يمسحه ما ذهبت إليه الباحثة نهال الجمل وهى تصف الفيلم بأنه أول فيلم سويسى... وأول فيلم عربى..وأول فيلم تسجيلى.. وهى معلومات مغلوطة تماما .. ومحاولة ادعاء السبق تطرح من رصيد الفيلم ولا تضيف إليه. كما أن هناك خلطا بين معلومات يحتاجها الصحفى والناقد وبين ما ذكر أنه ملخص للفيلم حافل بالمديح وكأنه مقال يشيد بالفيلم وصاحبه.

الصورة المفقودة

التعبير بفن التحريك كان أحد ابداعات المخرج الكمبودى "ريثى بانه" صاحب العديد من الأفلام ذات التوجه السياسى فى فيلم " الصورة المفقودة" وهو من نوع الأفلام العابرة  للنوعية يجمع ما بين الوثائقى والتحريك، حاول فيه المخرج أن يبحث عن الصورة المفقودة للقتلى من الجوع والمذلة ما بين الأعوام 1975 و1979، قتلى الشعب الكمبودى تحت حكم الخمير الحمر، والصورة التى ما زالت مفقودة استعاض عنها بالعرائس محاولا تعويض النقص فى عرض الصورة الحقيقية عن الأوضاع فى كمبوديا. نشاهده وهو يصنع عرائسه دقيقة الحجم التى تبدو بين أصابعه مثيرة للرأفة. الفيلم نافس على جوائز قسم نظرة خاصة بمهرجان كان 2013 وكاد يحصل على جائزة نقاد الفيبريسى. وقد أكمل المخرج عمله تماما باستخدام عرائس من الطين والتعليق فقط، يستخدم ريثى بانه تعليقا مستمرا على وثائق لأحداث كمبوديا مع نماذج لعرائس ساردا تجربة حكم شيوعى منتقدا ثورة الخمير الحمر ويصف إنجازاتها وما تغنت به بأنها كانت فقط فى الأفلام السينمائية، ولكن الحقيقة  كانت مرة جدا، يرويها لنا بطريقته المبتكرة بفن التحريك. الفيلم يمكن أن يكون درسا فى التاريخ لرصد ما حدث وتضمنه على وثائق هامة جدا، يحقق الغرض الرئيس من الفيلم الوثائقى وهو نقل المعرفة بالإضافة إلى تعبيره القوى عن وجهة نظر مخالفة للوثائق التى صورت فى عصر حكم الخمير الحمر. وأزعم أننى رغم تتبعى لكثير من الأعمال الوثائقية العربية لم أشاهد عملا نجح فى استخدام  شرائط مصورة بوجهة نظر ما وتطويعها لوجهة نظر مخالفة كما ظهر فى " الصورة المفقودة" . ريثى بان هو صانع أفلام شامل، مخرج، ممثل ، مونتير، مدير تصوير، ومنتج مشارك. له 11 فيلما عشرة طويلة وفيلم واحد قصير . وهو أحد ضيوف مهرجان كان العريق الدائمين نظرا لاقتحامه أساليب غير تقليدية ولقوة الموضوعات التى يتناولها فى أفلامه بشكل أبسط مما أقدم عليه المخرج أحمد نور فى الجزء الأول من فيلمه معتمدا على فن التحريك وهو يحكى عن كراسة الرسم التى عبر فيها عن طفولته فى مدينة السويس. لم تقنعنى الرسوم بفيلم موج  بأنها رسوم طفل بل بدت رسوم لشخص ناضج حاول محاكاة رسم الأطفال.

الدمج بين الأنواع الفيلمية – الروائية والتسجيلية والتحريك- يتزايد يوما بعد يوم، مما يعطى الحرية لفنان السينما ليعبر عما يريده بكل الوسائل الممكنة دون التقيد بقوالب جامدة أو ثابتة.

 بولنج من كولمباين

الفيلم الكمبودى ليس الوحيد الذى استخدم فن التحريك للتعبير عن التاريخ لا فى العالم ولا فى مصر حيث استخدم المخرج عبد الله الغالى التحريك فى فيلمه القصير " مذكرات حياة دنيوية"  إنتاج المركز القومى للسينما عام 2010 . كما أن الاستخدام الأقرب لفن التحريك داخل عمل تسجيلى قدمه مايكل مور بشكل ساخر فى عمله " بولنج من كولمباين" الذى عرض أيضا بمركز الإبداع بالقاهرة منذ عدة سنوات على هامش مهرجان القاهرة السينمائى الدولى. وقد أراد مور أن يستخدم الامكانات الخيالية الهائلة لفن التحريك ليسخر من سهولة بيع السلاح وتداوله فى أكبردولة فى العالم، مما أدى لصبى مراهق أن يقدم على مذبحة دون سبب سوى توفر السلاح.

السويس بلد الغربان والمقاومة

وإذا طرحنا جانبا هذا الادعاء بالسبق يبقى "موج" عملا متميزا يمثل محاولة هامة على طريق التعبير بكل الأدوات التى أتاحها فن السينما المركب، وخلطا مقصودا لأساليب عدة من السينما المباشرة وسينما الحقيقة والسينما التعبيرية، وجد المخرج أنه يحتاج لمزجها جميعا للتعبير عن جيله الذى ولد منذ ما يقارب 30 سنة مع بداية حكم الطاغية الفاسد مبارك، وللتعبير عن مدينته – التى تعرف إعلاميا وشعبيا بالباسلة- وعن الثورة المصرية التى بدأت بحى الأربعين بالسويس وشهدت سقوط أول شهيد لثورة 25 يناير 2011 . تختلط الأساليب كما أسلفت بين استخدام التحريك للتعبير عن رؤية المخرج طفلا، ثم شهادات أهل السويس الفقراء ومعاناتهم فى البجث عن عمل وهى رؤية المخرج الوثائقى، ثم مشاهد تعبيرية للبحر للفنان الحالم الباحث عن إجابات، ورؤية أحد الحرامية كما يطلق عليهم كابتن غزال بطل المقاومة وصاحب المكتبة فى الموجة الخاتمة التى عنونها بالموجة اللا أخيرة. الفيلم حافل بتعدد أساليب فنية  لتعدد رؤى للمخرج فى مراحل طفولته وصباه وشبابه ومشاركته الثورة بتأمل ما يحدث فى مدينته.

طوال مشاهدتى للفيلم كانت الحجج النقدية لمخرج "القبطان" سيد سعيد والناقد المؤلف الموهوب وأسئلته تقف موازية لاستقبالى للفيلم،لماذا أخرجت هذا الفيلم؟،ولمن توجهه؟، واستخدامه للتعبير النقدى "التشظى" المقصود بإهمال تكوين روابط بين أجزاء الفيلم التى تبدو متباعدة، كما سيطرت على تلقى الفيلم ثنائية التشاؤم والتفاؤل،الفرحة انقباضية التى وسمت فناننا العظيم صلاح جاهين والتى يذكرنا بها دائما الناقد أحمد يوسف. الغربان علامة من طفولة أحمد نور كئيبة وموحشة لنا ولكنه صوت جميل له، تماما كرؤية بعض الفنانين لطائر البوم وعشقهم له. جميلة كما كابتن غزال الشخصية الظريفة وكتبه المسروقة وروح المقاومة التى تعود بنا إلى مدينة السويس،
 يسير المخرج فى الغروب متجها إلى العمق مع الرجل الذى نسمع صوته داعيا إلى التمسك بحب الحياة التى تنهى الفيلم نهاية سعيدة كفيلم مصرى قديم يؤجل الفرحة حتى كلمة النهاية.

حتى نعطى نهال الجمل باحثة الفيلم حقها أتوقف عند قلب الفيلم مع  الموجة التى وثقت لقسم شرطة الأربعين بداية من كونه ملجأ للأطفال ثم مقرا استماتت عنده المقاومة الشعبية حتى لا يقع فى أيدى الإسرائيليين ثم مقرا للشرطة التى مارست الظلم طوال عهد مبارك وكان حرقه تنفيسا عن غضب شعب السويس وخاصة فقراءهم سكان حى الأربعين الأفقر فى مدينة السويس قاطبة. ومع المعلومات التى يرويها لنا المخرج بصوته نشاهد لقطات أبدع المصور أحمد فتحى تصويرها وحرك الكاميرا حول بنائها لنحصل على مشهد تعبيرى يفوق مشاهد الحروب الكبرى فى روائع السينما العالمية.

الموجة الرابعة قدم فيها نور نماذج من أهل الشهداء، هاجس التجديد أشعر به يسيطر على المخرج فيصورهم فى لقطات ثابته كالكارت بوستال، كبطاقة بريدية سبقه إليها محمد ملص فى فيلم "الليل " ويجد نفسه مدفوعا بتتبع الحقيقة من أصحابها فنسمعهم يروون شهاداتهم متراوحين بين تمثل اللحظة بتفاصيلها الحميمة والمفرحة أحيانا وبين تذكر الحزن على فقد الشهيد. لا يفلت المخرج من قدر من الميلودراما فى هذه المشاهد رغم كل محاولاته بالابتعاد عنها وتجنبها.

 احتشد زملاء المخرج وجيله شباب وفتيات عاشوا جل حياتهم بفترة حكم مبارك، مدفوعين بالرغبة بالاحتفال مع زميلهم بتمكنه من إنجاز فيلمه- فى هذه الظروف العصيبة التى تمر بها البلاد- وعدد آخر من أجيال تضع ثقتها فى هذا الجيل الغاضب الذى يذكرها بشبابها ومنهم د.شريف حتاتة الروائى اليسارى الذى لم تمنعه سنواته التسعون من حضور العرض رغم مشقة الانتظار وبعض المضايقات فيما يخص جلوسه فى مكان يمكنه من الاستماع والمشاهدة الجيدة.       

كما حضر العرض أهل المخرج من السوايسة، وكانوا صامتين تماما مثلنا جميعا وقد أخذهم الفيلم فى دروبه، مبتعدا عن كليشيهات ارتبطت فى ذاكرتنا بالسويس، مثل أغانى السمسمية والتفاخر بشعبها. ستظهر فقط فى حفل زفاف أحد الحرامية – الشباب الذى يستعير الكتب ولا يعيدها – ويغنون فى الفرح أغنيتهم الوطنية الشهيرة "غنى يا سمسية لتراب البندقية" لنتذكر أن الفيلم يتناول سوايسة فقراء يعيشون فى أغنى منطقة بمصر بها بترول وصناعات وقناة السويس.

موج يبدأ بطفلة تأخذ حمامها الأول بينما مبارك يعلن تخليه عن حكم البلاد وينتهى بتوضيح اسم الفيلم المستمد من الاسم المستعار لوالدة المخرج فى الخطابات الغرامية التى كان يرسلها والده إليها وقد تلاعب المخرج باللفظ ليعبر عن أقسام الفيلم المختلفة مشبها إياها بموجات الحياة والبحر. ومع تترات النهاية تكون الطفلة قد كبرت وأصبحت تردد كلمات خلف خالها المخرج أحمد نور.

موج موجه بالأساس لجيل المخرج وقد تفهموه واستقبلوه كطفل لعائلتهم التى لا تكافح من أجل إنجاز فيلم فقط بل تعمل على ترويجه بالدعاية له، كما تعمل جاهدة على توزيعه وعرضه بدور العرض العامة. جيل يفكر فى المهرجانات والجوائز أثناء انشغاله بعمل الفيلم، تختلط  داخله الرغبة فى التعبير عن الذات، عن الجيل، عن الأهل، وعن المكان، بالرغبة فى النجاح السريع والحصول على الجوائز، جيل جعلته شروط الإنتاج المعاصر التى تربط  بين دعم الفيلم وبين اشتراط عرضه الأول فى المهرجان الداعم، جعلته يسعى للتميز وينتحر فنيا فى سبيل ذلك. إنه ليس جيل عطيات الأبنودى التى ولدت فنيا فى مناخ يحاول الفنانون فيه أن يسهموا فى خدمة مجتمعهم، وليس أيضا جيل داوود وخيرى الذى يجد أن نقده لمجتمعه واجب يحتمه التزامه تجاه قضايا شعبه، جيل أحمد نور يركز على ذاته، راثيا لمناخ نشأ فيه، مناخ يسوده الفساد، جيل يرى الكون والمدينة وأهلها من منظور عين الطائر المحلق عاليا وكأنه يودعهم قبل هجرته إلى بلاد الشمال.
                نشر بموقع البديل الأحد 16 فبراير 2014

http://elbadil.com/?p=685533

No comments:

Post a Comment