جامع الزمن الذي أصبح متحفا
يصدر المخرج فيلمه
بكتابة على الشاشة " هذا الفيلم يشبهني" وتبدأ الصورة بمجموعة لقطات بها
مكونات عشواية تشكل لوحات كنوع من الفن المعاصر الذي يحتفي بتشظي الأشياء وفوضاهل
الفنية. " يحكى أنه كان هناك رجل أصبح متحفا" خيوط العنكبوت وكأنه مكان
مهجور ثم وجه رجل مسن في إطار وسط كركبة من تفاصيل مقتنيات حياتية مثل موبيل قديم،
شريط كاسيت، مضرب بلاستكيكي لصيد الحشرات، ونسمع صوت الرجل متحدثا بالفرنسية، أنا
جامع للزمن، ألتقط أشيائكم المكسورة ، المهملة والمنسية ... تتابع الصور فنشاهد
كاميرا فوتوغرافية عتيقة وجرابها الجلدي، براد شاي من الفخار محاط بخيوط
العنكبوت وسط أشياء متنوعة. ويستكمل التعليق ، ألتقط أشيائكم المهملة وأمنحها
الحياة ، أتحدث إليها وتكلمني. في مملكتي حيث يتم اصطياد الرجال. أحاول أن أنقل
إليكم عبر الجمل الإيقاع المتمهل والمتأمل لعالم الرجل العائش في متحف من
مقتنياته. يصوره المخرج من ظهره وسط عالمه المزدحم بمقتنيات تكون لوحة بصرية شديدة
التفرد، كراكيب وضعت بعشوائية فنية. ونسمع حديث الرجل، أنا بمفردي ولكني بصحبة
جيدة، أنا شاعر وفنان، أنا الكل ولا أحد ، علي عيسى، يجعله المخرج يقدم نفسه بنفسه
بجمل نثرية أقرب إلى الشعر، لندخل مشهدا جديدا وهو يخلط ألوانه ويرسم، لقطة قريبة
له يصورها المخرج العاشق لشخصيته. صوت ماكينة عرض سينمائي وشعاع الضوء وعرض لمادة صورها
، لقطات من سفريات داخل تونس وخارجها لبلاد عديدة. فيلم صور في باريس 1980 . تعليق
بالفرنسية معه تيمة موسيقية لمسلسل مصري.
سنعرف من ندوة مع المخرج بعد عرض الفيلم
في إطار الدورة التاسعة لمهرجان السينما الإفريقية أن المخرج مروان الطرابلسي قابل
الرجل في أحد المعارض الفنية التي جرت من عشر سنوات، تحدثا ودعاه إلى منزله، على
مدى خمس سنوات صور مروان الرجل ، بيته ولوحاته ونجح أن ينقل لنا روح المكان الفريد
الذي يبدو للوهلة الأولى مخبأ لنفايات ، ولكن مع حكي الشخص ومع مشاهد إعداده طعامه
لنفسه، ما يرويه عن سفره إلى لبنان ، قصة حبه وزواجه، نلتقط روح فنان مستقل لم
يسعى لمال أو شهرة، فقط يعش الحياة متفاعلا مع مقتنياته. في مشهد النهاية نشاهده
يكتب على آلة كاتبة عتيقة وصيته ، تبرع بمقتنياته ولوحاته إلى وزارة الثقافة
التونسية، وبأعضاء جسده السليمة لمن يحتاجها، وكتب أنه يريد أن تدفن بقايا جسده في
المدخل تحت النخلة. بعد العرض قابلت فتيات أقصريات ، عرفت أنهن طالبات في الثانوي،
تابعن الفيلم وأعجبتهم الشخصية، وفضلوه عن فيلم روائي من نوع الأكشن. نجاح نوع
الفيلم التسجيلي عن شخصية يبدأ من إحساس المخرج بتفرد الشخص مرورا بقدرته على نقل
ملامحها وانتهاء بتوصيل رسالته إلينا. احترم المخرج شخصيته وقدرها، ونقل لنا وصيته ،
قدم لوحات جميلة من عينه الفنانة التي صورت هذه الأشياء القديمة المتهالكة في
تجاورها العشوائي ولم يقحم صوتا خارجيا ليشرح أسلوب الفنان مثلا. استخدم صوت الرجل
، كلماته شعرا أو فضفضة، صوره مع قططه المستكينة لوحدة صاحبها والمتمتعة برعايته.
يتمهل وهو يقدم تفاصيل إعداده لطعام مركب كطبخة تشبه لوحاته. مروان طرابلسي فنان
محب لبطله، لم يسقط في فخ تقديمه كأعجوبة، بل كشخص اختار وحدته وحياته المتقشفة ،
عاشها حرا كما أراد. الثبات والقطع الهاديء أسلوبا للمخرج مع خلفية موسيقية واحدة
تسمح بسماع قصائد الرجل ولا تطغى عليها. علي عيسى هو الأول والمنتهى، فنان شاعر
بقيمته دون زهو و خيلاء.
عرض الفيلم
بمهرجان قرطاج في بلده تونس قبل مشاركته الأقصر الإفريقي بمصر منافسا في قسم
التسجيلي الطويل ، بلغ زمن عرض 61 ق . أنتج عام 2019 ، المخرج مروان طرابلسي بدأ
اهتمامه بالتصوير الفوتوغرافي ثم اندمج مع الصورة المتحركة عبر السينما، عنايته
بالصورة وتأملها واضح في فيلمه الذي أبهرنا متخصصين وجمهور عام. هو صانع فيلمه
كتابة وإخراجا ومونتاجا، لم يكن خروجه من سباق الجوائز حكما عليه، فدائما الأفلام
الجيدة أكثر من عدد الجوائز وخاصة حين يتم انتقائها من لجنة من نقاد لديهم خبرة في
الحكم على مستوى الأفلام ضمت الناقد أسامة عبد الفتاح والناقدة أمل الجمل.
منحت لجنة التحكيم
الدولية في قسم اأفلام التسجيلية التي ضمت المخرج أمجد أبو العلاء صاحب أن تموت في
العشرين، ومن الناقد عصام زكريا رئيس مهرجان الإسماعيلة للسينما التسجيلية
والقصيرة الجائزة الذهبية لفيلم " الوقت في صالحنا " للمخرجة كاتي لينا
نداي من السنغال. وجائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم " أمي إني أختنق" من
لوسوتو.
أقيمت الدورة التاسعة
لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية في ظرف استثنائي مع ظهور وباء كورونا بدايتها
كانت قوية وتأثرت بقرار رئيس وزراء مصر بمنع التجمعات الجماهيرية وارتأت الإدارة،
السيناريست سيد فؤاد والمخرجة عزة الحسيني وفريقهما أن تستمر لجان التحكيم في أداء
دورها احتراما للمشاركين الأفارقة بأفلامهم وكان قرارا صائبا نتج عنه الإعلان عن
الجوائز وإن كانت بعض الأفلام لم تشاهد إلا من لجان التحكيم وفلتت ندوتي توقيع
كتاب فريد شوقي وكتاب السينما الإفريقية المعاصرة من المنع حيث أقيمت في موعدها
وتم التوقيع وسط الاحتفاء بهما ولهما حديث آخر يوضح أهمية دو المهرجانات في تغطية
نقص النشر للكتب السينمائية تأليفا وترجمة.
صفاء الليثي
نشر بجريدة القاهرة
الثلاثاء 17 مارس 2020 رئيس التحرير عماد الغزالي
No comments:
Post a Comment