Tuesday, 16 August 2016

يوسف إدريس يلهم جيلا جديدا من السينمائيين

قصصه مرجع جاهز لعمارة الفيلم القصير 
التعريف الشائع عن الفيلم القصير أنه يشبه القصة القصيرة من حيث الفكرة الواحدة التى يتم تناولها مع اقتصاد فى عدد أبطالها وحدوثها فى مكان واحد غالبا مع حدث واحد رئيس يحلل ويعرض بكل تفاصيله . وجد الدارسون بمعهد السينما فى قصص يوسف إدريس القصيرة قالبا جاهزا لتطبيق الفيلم وتكون القصة الأساس الذى يبنى عليه السيناريو الذى يصورونه كورقة امتحان عملية قبل التخرج . احتلت قصة " بيت من لحم" مكانة كبيرة فى مشروعات العديد من الطلبة بل وتم اقتباسها فى أحد أجزاء فيلم يسرى نصر الله " احكى يا شهرزاد" . ولم تكن " بيت من لحم وحدها " بل تناول فيلم الدارس أحمد فهمى عبد الظاهر قصته " طبلية من السماء" فى مشروعه ملتزما بجو الريف وحوار القصة وتتابعها  دون الخروج على أى من مكوناتها. ولم يكن القالب الجاهز فقط هو ما جذب شباب السينمائيين لتناول قصص يوسف إدريس فى أفلامهم القصيرة بل كسره للتابوهات وخاصة الجنس والدين يستمدون من تهكمه على هذه الثوابت القوة دون خشية من رفض رقابى أو مجتمعى .
المخرج مروان حامد  ركز مع كل إبداعات إدريس ليقدم فى أعماله القصيرة " آخر الدنيا " 1998 كمشروع للسنة الثالثة ، وفى السنة الرابعة مع التخرج  " الشيخ شيخة "  1999 ومن الطريف أن زميل دفعته تامر حبيب لم يكتف بكتابة السيناريو بل قام بتمثيل الدور الرئيس فيه.
وختم مروان حامد بالقصة البديعة " أكان لابد أن تضيء النور ياليلى " فى الفيلم القصير لى لى  
إنتاج  مصري عام 2001 قام بالبطولة عمرو واكد وسامي العدل ودينا نديم، مدير تصوير إيهاب محمد علي موسيقى تصويرية و تصميم شريط الصوت خالد حماد إنتاج أمين المصري.. الفيلم حاصل على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان برلين. وفيها يبدع إدريس موقفا كتبه بعين سينمائى حيث يترك إمام الجامع المصلين ساجدين ليهرع صاعدا حيث الفاتنة التى أضاءت النور فى غرفتها المواجهة للمسجد. هذه الصورة وهذا الإيقاع الذى أطال فى وصفه إدلريس نجح المخرج فى تقديمه فى زمن سينمائى مقنع مستخدما عناصر اللغة السينمائية من تصوير وشريط صوت وأداء تمثيلى بالطبع من الممثل الصاعد وقتها عمرو واكد.
رجوعا إلى موقع للأفلام على الشبكة الدولية نقرأ ( تدور أحداث الفيلم حول إمام مسجد تم تعيينه في حي الباطنية في القاهرة الشهير بتجار المخدرات، ويسعى الإمام لهداية أهل الحي ويقنعهم بضرورة الصلاة. وبعد أن يستجيب الأهالي لأداء الصلاة في الجامع يتعرض الإمام الشاب للغواية من الفتاة الجميلة «لي لي» ويدور بداخله صراع نفسي كبير. الفيلم يدور حول صراع الإيمان والفضيلة مثل في الشيخ والغواية النفس البشرية ممثلة في أهل الحي ولكن في النهاية شهوة الإمام تنتصر على إيمانه ما يعتبر إهانة للإسلام والمسلمين حيث منع الفيلم من العرض لتعرضه لكثير من الإنتقادات) وهذا الملخص يضرب القصة والفيلم فى مقتل فلم تكن مساحة جهد الإمام فى القصة على درجة من الأهمية مقارنة بموقف الغواية الذى استجاب له الشيخ بمثابة تعبير خفى من إدريس عن أفضلية نعيم  الحياة الدنيا على نعيم الآخرة. ومن الطريف أننى وجدت أثناء البحث مقطعا من القصة تحت عنوان ( تربص الشيطان )
"ولكن عذرى ياشيطان أنك كنت تعرف أين كنت أنا ؟ ولم أكن أعلم أنا من أنت ، ولا أين أنت ؟ . وكم نقشوا على قلوبنا الأخطاء عنك حتى ارتسمت فى أذهاننا دائما رجلا .. بشعا ، ولم يفكروا أن يقرنوك بالجمال مرة ، مع أنك لا يحلو لك التربص إلا محاطا بالجمال ، وإلا على هيئة ست , وإلا فى أكثر الأماكن نعومة وامتاعا ، وفى أحلى البسمات ، بل أحيانا فى النكتة .. فى أروعها تنصب الشباك." والقصة فى مجموعة بيت من لحم حيث القصة بنفس الاسم.
كسر التابوهات ومحظورات الجنس والدين
العلاقة بين الجنس والدين تبدو هاجسا قويا لدى إدريس وجد فيه السينمائيون من كل الأجيال فكرة جاهزة أشبعت الميل لكسر التابوهات بداية من الحرام لبركات  مرورا بالنداهة وليس انتهاء ببيت من لحم.التى تناولتها المخرجة سعاد شوقى فى مشروع تخرجها والمخرج تامر محسن فى مشروع السنة الثالثة مركزا على مشهد الخاتم الوحيد الذى تتبادله النساء لخداع الأعمى المتزوج من إحداهن ، الخاتم أداة التواطؤ كان عنصرا هاما فى القصة اهتم بها البعض وتجاهلها تماما  المخرج أحمد الهوارى  فى مشروع تخرجه عام 2009 . والذى رصدته فى مقال نشر بجريدة العربى الناصرى تحت عناوين ( بيت من لحم 2009 أحمد الهوارى وعودة إلى عالم يوسف إدريس)
" ضجيج الحياة دب، الزوج زوجها وحلالها وعلى سُنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟ وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار، حتى والليل يجيء وهم جميعًا معًا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات والأجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن يحبسن الحركة والسعال، تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات، كان نهارها "غسيل" في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يئوب إلى الحجرة ظهرًا، ولكن لما الليل عليه طال والسهر أصبح يمتد، بدأ يئوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى، واستعداد لليل قادم، وذات مرة بعد ما شبعا من الليل وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هي منطلقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها؟ ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن؟ إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا"
هذا المقطع من قصة "بيت من لحم" العبقرية يفسر سبب تحويلها لعدد كبير من الأفلام القصيرة، فالجمل قصيرة ونافذة، دون جناس ولا سجع لغوى، لغة وصفية محملة بالدلالات وكأن كل جملة لقطة، وكل فقرة مشهدا سينمائيا يحفل بكل فنون السينما من رسم شخصيات، ووصف المكان والتفاصيل الصغيرة، تفصيلة الخاتم التى استخدمها كل من حول القصة لفيلم سينمائى فيما عدا أحمد الهوارى الذى تجاهلها تماما لتصبح قراءته لبيت من لحم قراءة تناسب العصر، الذى تجاوز الصمت بحجة الخاتم إلى التواطؤ الصريح غير المحتاج لأى حجة كالخاتم.
إذا سُئل شخص لا يعرف القصة فسيخبره من قرأها أنها عن أرملة تزوجت مقرئ القرآن على روح زوجها المتوفى بموافقة بناتها الثلاث، كانت تضع خاتم الزواج فى إصبعها فيتعرف عليها الرجل من بين كوم اللحم الذى تمتلئ به الحجرة الواحدة التى يسكنها الجميع، وأصبحت من تضع الخاتم هى الزوجة فى نظر الضرير فيواقعها إذ ليس على الأعمى حرج. الخاتم إذن هو حجر الزاوية فى الموضوع، كل الأفلام التى تعاملت مع القصة كان الخاتم أحد أبطال العمل وحجة هذه اللخبطة الشنيعة. أحمد الهوارى لم يلتفت للخاتم نهائيا، ونفى أن يكون الأعمى غير مدرك لما يحدث، إنه على الأقل غير متأكد فقط فى المرة الأولى حين تتسلل الوسطى ريم حجاب وترقد بجواره وهو فى قيلولة النهار. فى المساء يقول للأم "عايزك تظبطينى زى الصبح" لتصعق الأم وتظل تفكر أيهن التى أقدمت على فعلها. وبعدها يصبح التناوب شبه علنى ولعبة متفق عليها بين جميع الأطراف.
القصة تبدأ بالصمت ، والخاتم ولكن الفيلم يبدأ بصخب الواقع، ويحتفى بالمكان، مقابر 6 أكتوبر بعض الأحواش يتخذه الناس مسكنا وهو مختلف عن حجرة القصة التى تتكدس فيها النساء الأربع ومنها استمدت القصة اسمها بيت من لحم. لم يلتزم الهوارى حرفيا بكل هذه التفاصيل ولكنه حافظ على جوهر العلاقات:" ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة" العيون المتلصصة للبنات الجائعات تنظرن من فتحات الحائط  تعبرعن الجملة الأدبية وبصورة جديدة تناسب المكان ومنازله من الحجارة المتراصة وبينها شقوق .  أدت ريم حجاب دور الابنة الوسطى الجريئة ، وكانت بصمتها ونظراتها ترجمة للكلمات والجمل القصيرة التى أطلقها يوسف إدريس والتقطها المخرج الموهوب لتصبح فيلما ناريا تمكن فى زمنه الذى لم يتجاوز 17 ق أن يعبر عن كل الأطراف مضيفا إلى القصة الصارمة روحا فكهة مرحه زادها أداء الممثل محمود حافظ لدور الكفيف، وما منحه له من تجلى بالغناء بعد الشبع والرضا من الحياة، هنادى الابنة الممتلئة البارعة فى المطبخ وعمل المحشى تُكافأ بعد وجبة طعام أعدتها"يللا يا تعالى اغسلى لى ايدى" تنهض وسط صمت الأخريات. بدون الخاتم قرر الهوارى والشيخ الكفيف منحهن قسمته العادلة، الصغرى أيضا لها نصيب والأم سوسن بدر استسلمت.
قرأت الفيلم كقسمة للحق فى الحياة، يأتى من  تبادل العطاء فكل له دوره وكل له نصيب.
كرؤية لكاتب السيناريو والحوار تامر أنور الذى قدم إبداعا موازيا للقصة الأصلية محاقظا على جوهرها غير ملتزم حرفيا بتفاصيلها وطوعها ليصبح الفيلم  المقدم عام  2009 نسخة عصرية للقصة الأصلية " بيت من لحم"، قصة فنان القصة القصيرة يوسف إدريس، التى كتبها  قبل أربعين عاما ظلت منهلا يشد صانعى الأفلام القصيرة وخاصة مشروعات التخرج لطلبة معهد السينما.  قدمها رامى عبد الجبار السينمائى المستقل فى فيلم غلبت عليه الشكلانية دون أن يعكس أهمية الموضوع، وحتى طالب موسكو أشرف سمير عبد الباقى قدم مشروع تخرجه بموسكو عنها بممثلين روس . وأخيرا فى مشروع تخرج أحمد الهوارى
فى مهرجان بورسعيد، حصل "بيت من لحم"على الجائزة الذهبية من لجنة تحكيم مكونة من داوود عبد السيد وكاملة أبو ذكرى ورأسها محمد كامل القليوبى، ورأس دورة المهرجان لهذا العام المخرج البورسعيدى سيد سعيد،  وأتصور أن كل هؤلاء المبدعين وجدوا إبداعا موازيا لفنان القصة القصيرة فى الفيلم الذى قدم معالجة لقصته دون التزام حرفى بها .  
·         نشر بعدد الهلال أغسطس 2016 رئيس التحرير سعد القرش


No comments:

Post a Comment