رومانسية فى رولبا
بجمهورية نيبال *
الاسم الذى اختاره فريق عمل الفيلم الفائز بجائزة الورشة
الدولية للسينما الجديدة والتى أقيمت فى الفترة من 5-13 فبراير 2015 بمدينة ليبان
بمحافظة رولبا بجمهورية نيبال . وشرفت بالمشاركة بها مع زميلين من الهند اختار صاحب
فكرة الورشة ومنظمها السيد كيبي باتاك أن أشرف على مجموعة من ستة أفراد لتصوير
فيلم قصير فى قرية ماديشور التى تتميز بوجود نهر يمر وسط الجبال، جبال الهيماليا
الى تقع فيها البلاد.
اليوم الأول فى قرية ماديشور التى بدأت منها حركة اليسار
الماوتسي بالبلاد ، تم تركيز التصوير على رحلة العجوز " لالبادور بودا "
80 عاما وزوجته أشبورا بودا 73 سنة، يتشاركان فى العمل وفى حب
الغناء، الزوجة تحصل على اسم زوجها وتترك اسم العائلة على طريقة الإنجليز الذين
احتلوا نيبال لسنوات طوال . الرجل يشرب دون أن يفقد وعيه، للتدفئة والنشاط وزوجته
تكره ذلك. تركز التصوير بداية من منزل
المسن لحظة خروجه منه وإجراء حوار مع الزوجة التى تقول لى "من يدرى من يموت
أولا "، أتذكر ساتى وتقشعر أبدانى، ساتى التى تحرق حية مع زوجها المتوفى، تلك
العادة التى اختفت من نيبال والهند منذ مائة عام . الصباح يكون باردا ومع الشمس
يبدأ الدفء الذى قد يصل إلى جو صيفى حار . صياح الديك الفرح بفرخاته والكتاكيت
يقطع تأملى. أقابل " تيزا كومارى شوبدر كاست" رائدة ريفية تبدو كفتيات
الريف المصرى، بيضاء البشرة وزميلتها " بابيترا كاشت أولى سمراء تبدو لى
كهندية، حين أقول لزميلها الذى يجيد الإنجليزية أنه وهى يبدوان لى كهنود يبتسم
ويقول إن هذا ما يعتقده الجميع، هى تخجل فالتشبيه بالهنود يثلج صدرها، الهند
بالنسبة للكثيرين منهم الأخت الكبرى " ديدى " لنيبال . بالقرية أيضا
" لالباهادور جورتى طاهى بارع جدا عمره 48 سنة يبدو لى مسنا ، تعمل معه ابنته
" بيرشناه جهارتى " 26 سنة لديها طفلة فى عمر السنتين تمسك بذيل خالتها
المتفرغة لرضاعة رضيع فى عمر شهرين. زوجة الطاهى هناك بعيدا فى المنزل، هو والابنة
الكبرى يعملان فى المطعم الذى يتوقف عنده سائقون وعمال ويتناولون طعاما ويشربون، كانت
هناك معركة – خناقة – فى المطعم بين شابين سكرا على الأرجح وكانت هناك محاولات
للتفريق بينهما. سأقابل مثل هذا السكير فى كل مكان فى المدينة أو القرية شخصية
موجودة بديلا عن عبيط القرية أو درويشها فى قرانا المصرية.
البقالة ومطعم ريفى يقدم وجبات وشاي رائع . حين يقوم شخص
بفعل ما يتجمعون ويراقبونه ، يراقبون الفعل والعمل المسلى ، فعلوا ذلك مع الرافعة
والجرار التى كانت توسع الطريق بإزالة كومة الطين والحصى من الميدان الرئيس لمدينة
ليبان ، شاهدت ذلك ونحن ننتظر العربة التى ستقلنا إلى القرية التى أجلس بها الآن
وأكتب ، وهم متجمعون حولى يراقبون كتابتى ويندهشون من الحروف العربية التى أجريها
من اليمين وهى حروف مأهولة لهم مع اللغة الأردية المعروفة لهم. أكتب بينما
يصلنى صوت ماكينة فصل القشرة عن الأرز فى
مصنع القرية الصغير. يمتلكه المحارب
القديم وبطل الحرب الأهلية التى استمرت لسنوات عشر " بهابان بهادور" 39
عاما فقد يده اليمنى فى الحرب ، كنت أتأمله بينما يجرى الحوار معه " مادهاب"
ويترجم لى .كنت أسرح وأقول لنفسي إن هذه الشخصية شاهدتها مرارا فى أفلام صينية
وحتى مصرية، بينما أفكر يعبر المسن محنى الظهر ممسكا بعصا رفيعة بخطوات نشطة أمامى
وخلفه لافتة دعم عدة منظمات عالمية منها " إنقاذ الأطفال" أفكر كيف
يتحرك عجوز كهذا بنشاط فى طرق البلدة المتعرجة صعبة الانحدار والتى أشعر بالمشي
فيها بمعاناة شديدة. يكمل مادهاب الشرح لى، الحرب الأهلية جرت في نيبال منذ حوالى
عشر سنوات مضت لمدة عشر أخرى بين الجيش النظامى للملك مسنودا بفئة من الشعب وبين
الجيش الأحمر مسنودا بباقى طوائف الشعب. مات فيها حوالى خمسون ألفا من الجانبين،
بعدها تخلصوا من الملك وأصبحوا جمهورية، بعد فترة من الانقسامات شهدت جيشين و شعبين
ومؤسسات متعددة . أفهم الآن لماذا تضاف كلمة " كل " إلى أغلب التنظيمات
مثل نقابة السينمائيين صاحبة الدعوة لى للحضور إلى نيبال والمشاركة فى ورشة عمل
للسينما الجديدة بها .
مبيتنا كان فى نزل به حجرة للرجال وأخرى للسيدات،
المجموعة ترددت فى إخبارى بأننى سأبيت فى غرفة مشتركة، ولكننى استنتجت الأمر وقلت
لقائد المجموعة " مادهب" لست برجوازية، أريد فقط أغطية نظيفة وقد كان،
نمت بصعوبة رغم تناول طعام شهى من طاهى القرية لالا بهادور، بهادور يعنى أسد
والاسم شائع جدا مثل اسم أحمد عندنا. اسمى فى لغتهم يعنى نظيف ونقى قلت لهم إنه
نفس المعنى بالعربية، غالبا انتقلت كلمات من العربية إلى كل من الهند ونيبال عبر
التجارة .
فى القرية ينشغل البعض بأعمال تمارس بهدوء وآخرون
متعطلون ويلعبون لعبة شاهدتها فى بعض الأفلام الصينية، علامة الحزب الشيوعى،
المطرقة والسندان مكتوبة على النزل. كنت أتأمل الأشياء والناس، ثم عادت المجموعة
وقد تم شحن الكاميرا لبدأ التصوير بعد المعاينة التى تمت بالأمس، رادجو باندارى
أكثر المجموعة خبرة مونتير ومصور وسيقوم بالتصوير أيضا علمنى جملة " زنداجى
روماليو بهايو" وتعنى " الحياة حلوة" ، أصغر المجموعة بيمبا ديكارى
والده مخرج فى السينما النيبالية القريبة من سينما بوليوود الهندية ولكنه يمتلك
طموحا مختلفا ويرغب فى صنع أفلام جديدة، وأيضا لوكيندا راش صاحب الدراجة البخارية
والذى تفرغ لتوصيلى بها بين الأماكن، يمتلك روح طفل، بمجرد ما وجد مياه متجمعة شمر
بنطلونة واغتسل بها ، بينما كان تصوير المسن يجرى وهو يقوم بعمله بفتح هويس المياه
. فى المجموعة الفتاة جيتا ديكارى تعمل صحفية وقامت بدور هام فى البحث للمشروع 27
عاما وغير متزوجة، كما فى مصر المتعلمات تتأخرن فى الزواج حتى الثلاثين وما بعدها.
أما بيسو مانى فقد أخرج فيلمين، يكمل لى مادهاب فى السينما السائدة، مادهاب هو
السكرتير العام لنقابة العاملين بالسينما النيبالية" أنكوا" 37 عاما ، وعضو بالحزب الماوتسي.
بعد انتهاء تصوير المسن وزوجته، أخبرنى أننا بعد الغداء
سنذهب إلى موقع الشجرة المقدسة حيث يحتفلون بنا ويقدمون رقصاتهم الشعبية من فرق
ترعاها الدولة كما يحدث لدينا من الهيئة العامة لقصور الثقافة، فى موقع الشجرة
وجدت البقالة تديرها امرأة شابة فتية رحبت بنا وقدمت مشروبا للطاقة فى علب
برتقالية "رد بول نيبالي" ونحن ننتظر وصول الفرقة كنت أتأمل المكان
والناس، الصورة ليست وردية تماما فهناك فقراء راضون عن معيشتهم، ليس بينهم حفاة،
على الأقل هناك صندل مفتوح فى القدم. الملابس ملونة ونظيفة، هناك اعتناء كامل
بالزى للسيدات والرجال. المياه نظيفة من صنابير عامة وخاصة ، كبار السن يعملون
بنشاط، لاحظت عددا كبيرا منهم خلافا لبطل الفيلم " رومانسية فى رولبا" ،
وصلت الفرقة وبدأوا الرقص أمام الشجرة المقدسة مشكلين دائرة جلست نساء وأطفال فى
المنتصف، وعند توقف الموسيقى كانوا يرددون غناء يشبه عديد الريفيات فى دلتا مصر
وصعيدها . حين يبدأون يصعب إسكاتهم، بدأت أشعر بالقلق على انحسار الشمس وعدم
قدرتنا على إنهاء مرحلة ما زالت باقية من التصوير، ولكن الراقصين عادوا بملابس
أخرى سوداء ، الرجال فقط رقصوا رقصة تشبه رقصة التحطيب باستخدام العصا، أكبرهم
أخبرنى بالإنجليزية أن الرقصة التراثية تسمى " سارنجى" وكانت رقصة شديدة
الروعة، انتهوا إلى جمع نقود فى طقس يشبه النقوط عندنا بعد توزيع أعواد الريحان جميلة
الرائحة. ثم رقصت النساء وعلى رؤوسهن ريشات ثلاث لطاووس، والملابس خضراء وحمراء،
مع عقود من الخرز الملون، تجمع أغلب سكان القرية لمشاهدة الرقص بينهن سيدات بمظهر
نجمات السينما الهندية وطفلة مدللة انفردت بالرقص وصورتها أمها على جهازها
المحمول، أذكر القاريء أن ما يجرى فى قرية صغيرة وسط جبال نيبال وممراتها شديدة
الانحدار التى صعب على مثلى السير فيها إلا بمساعدة دراجة بخارية يقودها الشاب
الذى يمتلك روح طفل ويهوى الغناء كثيرا. تذكرت دورى كمشرفة وطلبت من المصور الذهاب
بالدراجة البخارية لتصوير باقى الفيلم، وبدأت السير مع باقى المجموعة مستمتعة
بمراقبة الأطفال وقد أنهوا يوما دراسيا طويلا تخللته فسحة كبيرة وألعاب.
وفى الختام الذى أقيم بساحة مدرسة فى قلب مدينة ليبان،
كانت أجواء مصر فى الستينيات تحوطنى وتذكرت مدينة قويسنا منوفية التى ولدت بها
وحصلت على الشهادة الابتدائية منها قبل الانتقال إلى القاهرة، حفل فى مكان مفتوح
حضره السيد المهيب "كريشنا بهادور مهرا" وبعض رجالات الحكم، الحفل شارك
فيه طالبات وطلبة المدرسة، حاملة العلم كانت فتاة، وبين الخطب الرنانة كانت فقرات
راقصة لطلبة وطالبات متأثرة برقصات الأفلام الهندية، ذلك التأثير الذى حاولت أن
أبعده عن الدارسين، موجهة لهم إلى طريقة أخرى لتقديم فن يعبر عن مجتمعهم الحقيقي
وهو ما نجحت فيه مجموعة عمل قرية ماديشور، وأعلن عن فوز فيلم " رومانسية فى
رولبا " بجائزة الورشة الدولية للسينما الجديدة فى مدينة ليبان بمحافظة
رولبا، وقد وجده المصور الهندى صنى جوزيف والمخرج النيبالي لاشمينا شارما والسيد
كيب باتاك رئيس النقابة معبرا عن نتاج الورشة التى أقيمت للمرة الأولى
لدعم رؤى جديدة لسينما تعبر عن المناخ الذى تعيشه جمهورية نيبال التى فاز فيها
ائتلاف من سبعة أحزاب أكبرها الحزب الشيوعى النيبالي الماوتسى فى انتخابات
ديمقراطية منذ عام 2008 ، بعد ثورة أنهت الملكية عام 2002 ، ومازال هناك الكثير
مما يمكن عمله لتحقيق التقدم فى بلاد ذات طبيعة خاصة جدا يمتلك أهلها روح مقاومة
وقدرة على استمرار الحياة بالجمع بين أصالة تراثهم وبين وسائل المعيشة الحديثة. كانت
ورشة الفيلم توجها معبرا عن رغبة فى الارتقاء بالسينما النيبالية ومحاولة إخراجها
من دائرة التأثر بالسينما الهندية السائدة، وقد تحقق الكثير فى أيام الورشة التسع
نتيجة جدية كل المشاركين ونتيجة لحسن التنظيم والالتزام من جانب الجميع .
كانت الورشة فرصة طيبة ليعرف شباب نيبال أن مصر ليست فقط
الأهرامات من خلال ما عرضته عليهم من أفلام لكل من على الغزولى ويوسف شاهين،
كنماذج لسينما مختلفة عن السائد، وكانت فرصة لى لأعرف أن نيبال ليست فقط جبال
الهملايا التى تظهر فى إعلانات السياحة، ولكن لأتأكد من أن هناك شعبا اختار نظاما
اشتراكيا للحكم، وأنه يسعى للحاق بركب التقدم والعمل على تحسين ظروف المعيشة لكل
أطياف الشعب.
·
النسخة الكاملة لمقال نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 3 مارس 2015
No comments:
Post a Comment