Thursday, 20 October 2011

الثورة الرقمية تساند ثورة الفيس بوك

الثورة الرقمية تساند  ثورة الفيس بوك
منذ ما يزيد عن العشر سنوات امتلأت الدنيا بالحديث عن الثورة الرقمية الآخذة فى التوسع والتى باتت تهدد شريط السيليولويد السينمائى. حديث يكرر ما حدث بظهور التلفزيون وتنبؤات بأن السينما قد قضى عليها وأن الشاشة الصغيرة ستحل محل الشاشة الكبيرة. مرت السنوات ولم تختفى السينما بل تعددت دور العرض بما يسمى متعددة الشاشات وأصبحت جزءا من مكونات أى مول تجارى ضخم. تجاور التلفزيون مع السينما وظلت مكانة السينما بقاعاتها وشريطها مهابة جبارة مستمرة فى ممارسة دورها بالتأثير على الجماهير العريضة. وحين حدثت ثورة فى تقنيات الديجتال كان الحديث عن التهديد فى نفس الحدة فى بدايته ولكن سرعان ما تراجع بعدما تأكد أن نقنية الديجيتال وظفت لصالح السينما ولصالح نوعيات استخدمت فيها الثورة الرقمية لدعم السينما وتحقيق إبهار فنى غير مسبوق وظهرت أفلام الماتريكس وأخواته، وحقق فيلم "أفاتار" نجاحا هائلا باستخدام رسوم الديجيتال فى الاستديو لتظهر ديكورات عملاقة تخدم طموح الأفكار التى يمتزج فيها العلم بالخيال ليحذر وينبه إلى خطورة التقدم العلمى وقوته التى يمكن أن تتحول لقوة تدمير عالية لو وقعت التكنولوجيا فى يد من لا يجيد استخدامها.
 مالنا فى مصر وكل هذا، فقليلة هى الأفلام التى استعانت بالديجيتال لتزيد عناصر إبهارها. ولكنها أصبحت سلاحا فى يد كل راغب فى التعبير بالصورة وخاصة مع التنوع الهائل للكاميرات ولبرامج المونتاج المتوفرة على أى جهاز صغير. ومع تراجع دور الدولة بمؤسساتها المختلفة فى إنتاج أفلام الشباب بشرائط السينما 35 مللى بتكلفته العالية ومراحله الفنية المتعددة حل الديجيتال محل الشريط ودخل كثير من شباب المستقلين ساحة الإنتاج بأعمالهم المستقلة. أصبح اقتناء كاميرا صغيرة وجهاز كومبيوتر مزود ببرامج للمونتاج فى متناول الكثيرين ولم يعد تحقيق الحلم بمنتج فنى يحمل تعبير " فيلم ل.." قاصرا على الناجحين فى القبول بمعهد السينما ،أوعلى من قطعوا مشوارا كبيرا فى الأعمال المساعدة قبل أن يكون لهم عملهم المستقل. حققت ثورة الديجيتال الهائلة نوعا من العدالة وكسرت احتكار فن الصورة وأصبح الديجيتال للجميع.
ثورة أخرى لحقت بالديجتال وهى الثورة فى الاتصالات بتوسع الشبكة الاجتماعية " الفيس بوك" الذى بدأ استخدامه بشكل هزلى وتحول إلى جد الجد بعد تفجيره ثورات الربيع العربى فى تونس أولا ثم فى مصر. وكما الحب الذى أوله هزل وآخره جد، أصبح الفيس بوك سلاحا شديد الجدية فى تغيير العالم وتحقيق أحلام الشعوب. وبدلا من أن تظهر صحة المخاوف بأن الإنسان مع الكومبيوتر الشخصى قد أصبح فى عزلة، ارتبط المستخدم الشخصى وخاصة من الشباب ليس فقط بأقرانه فى الوطن الواحد بل فى العالم كله، فتبادل معهم الصور ومقاطع الفيديو الصغيرة والتعليقات. أصبح التفاعل عبرالشبكات الاجتماعية فوريا، عابرا للقارات محطما العزلة خالقا حالة من التواصل العالية جدا، كل فرد شعر بحريته فى التعبير عما يرغب فى قوله وفورا،  ولم يعد إخفاء الحقائق ممكنا، أمكن للثوار أن يفضحوا الفاسدين والمسيطرين فى الحال – والفضيحة بجلاجل- بنشر كليب قصير عبر اليوتيوب مع زخم التعليقات المرتبطة به. أمكن فضح المتحولين والذين يغيرون مواقفهم بعرض سريع بالصوت والصورة لما فعلوه.
أول ثورة فيسبوكية فى التاريخ
وإذا كانت حرب العراق قد سميت بأول حرب تلفزيونية فى التاريخ فقد اقترن الربيع العربى بأنه أول ثورة فيسبوكية فى التاريخ الحديث أيضا. انتشرت دعوة التظاهر عبر الفيس بوك وأصبحت الشبكة جهازا إعلاميا ضخما حرا ومستقلا، متفاعلا ومؤثرا وقادرا على تجميع الثوار. وحين قام النظام السابق بقطع الاتصالات عن المصريين، اعتبر ذلك جريمة كبرى لا تقل حجما عن جرائم الفساد وقتل المتظاهرين ونهب المال العام. أصبح القطع المتعمد لكافة وسائل الاتصالات من التليفوات والانترنت جريمة النظام التى كشفت ضعفه وهشاشته أمام العالم. جريمة كشفت عن خوفه من أن تظهر الحقائق التى أخذ الجميع فى بثها بتقنيات الديجيتال عبر الشبكة الاجتماعية. قام الديجيتال بتوثيق الحقائق وبثها مباشرة عبر الفيس بوك لتشتعل الثورة ويحتدم الصراع، وضع الديجتال الشباب فى مقدمة الصفوف فهم من يجيد استخدامه وهم من نجح فى التواصل عابرين الأمكنة وكاسرين الحدود فتحرر الإعلام وكشف زيف الإعلام الرسمى.
والآن نأتى للسؤال الهام، هل كان صانعى الأفلام على مستوى الوعى والمسئولية بإنتاج أفلام تعبر عن الثورة وتؤرخ لها؟ هل ما سنشاهده هنا فى مسابقة أفلام الديجتال فى قسم أفلام ثورة 25 يناير على مستوى الحدث؟ هل هى أعمال أصيلة أم مستنسخات من وثائق تلفزيونية، ومقاطع نشرت على اليوتيوب وفيس بوك؟.
للأسف الشديد أغلب الأعمال- ولا نقول الأفلام- التى حققها الكثيرون اعتمدت على وثائق أخذت من محطات التلفزة وباستخدام تقنيات المونتاج الحديثة أمكن تكبير الصورة الأصلية لحذف شعار قناة الإرسال بحيث تبدو الصور وكأنها من تصوير من أعاد استخدامها فى عمله ليحتفى بالثورة أو يعبر عن رأيه فيها. بعض هذه الأعمال اعتمد على الصور الثابتة – مصورة بكاميرا ديجتال فوتوغرافية- وتم منحها الزمن والسرعة عن طريق المونتاج، وأضيف إليها شريط صوتى وموسيقى. اعتمد البعض على قصاصات صحف ورسومات كاريكاتورية تصف حالة استقبالنا لأحداث الثورة، ليس فقط فى الثمانية عشر يوما الأولى بداية من 25 يناير وحتى 11 فبراير ببيان التخلى الذى ألقاه السيد عمر سليمان، بل استمر حتى غطى ما تلاها من أحداث.
أحجم كبار السينمائيون-غالبا-  عن تقديم أعمال تعبر عن الثورة، تحدثوا عن مشاركتهم  كمواطنين عاديين وليس كمخرجين، اندمجوا مع الحدث وافتتنوا بإبداعات المواطن العادى الذى فجرت فيه الثورة طاقات إبداعية فقدم اسكتشات وأغنيات وصرخ بشعارات رددها خلفه كل المصريون وأولهم السينمائيون على مختلف أجيالهم وتوجهاتهم. حين نظم الفنانون مظاهرة كبرى خرجت من أمام نقابة السينمائيين وتحركت فى الشوارع، رددوا شعارات الناس، وكانوا مؤدين مخلصين لما ابتدعه المواطن الثائر، صرخ الفنانون " يا أهالينا انضموا لينا" مقلدين شباب السياسيين والناشطين من مختلف الاتجاهات. ردد الفنانون " الشعب يريد .." بمختلف تنويعاتها وتوارى " المخرج عايز كده " ولو مؤقتا حتى تتضح الصورة وتختمر التجربة فى وجدان الفنان السينمائى الذى اختار الاندماج بكامل وعيه فى ثورة التغيير.
حتى لحظة كتابة هذه السطور لم يخرج عمل فنى يعبر عن الثورة من  مخرجين كبار ارتبطوا غالبا بشريط السينما والفيلم المصور 35 مللى، مثل داوود أو خان، من هالة خليل أو من خالد يوسف، من على بدرخان أو مجدى أحمد على أو أسامة فوزى.  هؤلاء السينمائيون الكبار مازالو فى دهشة من حجم الحدث الهائل،  يملؤهم القلق على استمرارها، يشاركون فى محاربة الثورة المضادة، منتظرين ما سوف تسفر عنه التطورات المتلاحقة من تحقيق لأهداف الثورة الكبرى" عيش-حرية- عدالة اجتماعية".
وهناك أيضا من فكر فى عمل شيء مثلما نعرف عن تجربة فيلم " 18 يوما " التى بدأت بفكرة اقترحها  مروان وحيد حامد لتقديم فيلم من عشرة أجزاء لعشرة مخرجين، تحمس يسرى نصر الله وبدأ فى دعوة عدد من المخرجين لتقديم الفيلم. كان مقررا أن تعرض الأجزاء، أو الأفلام القصيرة على اليوتيوب مثل كل الكليبات التى انتشرت موثقة للثورة أو معلقة عليها، وتطور الأمر ليصبح عملا يمثل مصر فى مهرجان كان ضمن برنامج خاص يحتفى بالثورة المصرية.
الديجيتال كان أداة التصوير للأفلام القصيرة التى تكون رؤية المخرجين العشرة عن جانب من جوانب الثورة. وبغض النظر عن المعارضة التى أثارها مشاركة بعض المشاركين فى الأفلام –وخاصة من الممثلين- الذين قيل إنهم عارضوا الثورة فى بدايتها أو أنهم كانوا من المساندين للنظام السابق إلا أن الفيلم لم يُعرض حتى الآن للجمهور لأن صانعيه يبحثون عن صيغة لعرضه وفكروا بالفعل فى تأسيس شركة يمكنها تحمل مسئولية عرض الفيلم والدعاية له.
نخلص من السابق أنه لا يمكن اتهام من سارع بالتعبير بالتعجل أو السطحية مثلا، ولا نجزم أيضا بأن من انتظر حتى يتفاعل بالفكرة بأنه الأفضل، فكلاهما طريقتين فى التفكير يصعب المفاضلة بينهما. ويبقى أن نؤكد على دور السينما بكل أنواعها فى التحذير من الخطر القادم وفضح فساد الدولة ومؤسساتها فى كل الأعمال التى أرهصت بالثورة وتنبأت بالتغيير.
تختلف إذن تجارب السينمائيين كل حسب موقعه، وحسب حماسته سواء كان من جيل الرواد أو كان من جيل الشباب، ولكن الغالبية استعانت بالديجيتال لتوثيق الثورة سواء فى أعمال احترافية تنتج لحساب قنوات متخصصة، مثل الجزيرة الوثائقية، أو البى بى سي. أو العربية الإخبارية، وقناة أون تى فى المصرية الخاصة. ونادرا ما شاهدنا أعملا منتجة من التلفزيون الرسمى.
أما البعض فقد اكتفى بالعمل على تجميع المادة مهما كان طولها، وتأجيل صياغة فيلم حتى يتم تكوين رؤية متسقة تجاه الأحداث. تجربة هامة قام بها المخرج التسجيلى الكبير على الغزولى. قبل التنحى بيوم واحد التقيت الفنان على الغزولى وهو سبعينى نشط لم يعرف فى حياته سوى عمل الأفلام وأحيانا رسم اللوحات.  المخرج الكبير على الغزولى الذى يلقب بشاعر السينما التسجيلية يسكن فى بناية تطل على ميدان عبد المنعم رياض، ومن شرفة منزله شاهد كل وقائع يوم الأربعاء الدامى 2 فبراير 2011 وقام بتصويرها من موقعه. وبسعادته كطفل نجح فى اقتناص لحظات تاريخية وفى توثيق الحدث الفارق فى مسيرة ثورة 25 يناير، يوم ما سمى بسخرية موقعة الجمل التى أظهرت للعالم الفارق بين الثوار من جيل الفيس بوك وثورة المعلومات وبين تفكير عصابة الخيل والحمير والجمال. كنت قد تابعت مسيرة على الغزولى مع الفيلم التسجيلى بمقال عنوانه "طفولة وإبداع على الغزولى"، فهو صاحب فيلم "صيد العصارى" القصيدة السينمائية الجميلة، وفيلم بعنوان "طفولة وإبداع"، اجتمعت طفولته مع إبداعه ليتصرف بروح طفل مغامر فيتخفى فوق سطح بيته ليصور القناصة المترصدين فى سطح البناية المجاورة، يكتم أنفاسه ليتمكن من تصويرهم، هل كان خائفا؟ بالتأكيد ولكن رغبته فى المشاركة غلبت خوفه وتمكن من تصوير وثائق نادرة من موقعه الذى وجد فيه بالصدفة. قابلته فى منزله المطل على ميدان عبد المنعم رياض وعاينت معه موقع التصوير وحكى لى تفصيلا:
"اعتدت المشاركة فى وقفات احتجاجية بميدان طلعت حرب، وعلى سلالم النقابة، يوم 25 يناير وكنت مستعدا للنزول، سمعت صوتا هادرا لمظاهرة، كنت أراقب من سطح منزلى المطل على ميدان عبد المنعم رياض، وظهرت مجموعة متظاهرين يحمل بعضهم سلة ورود وعلم مصر لتحية رجال الشرطة، ثم تزايدت أعداد قادمة من اتجاه رمسيس، قلت "مابدهاش- لم يعد هناك بد- وقررت النزول، لمحت  الزميل فاروق عبد الخالق المتقاعد بعد عمل طويل فى الإنتاج، تعلقت بذراعه وكان يهتف بحماس "يسقط يسقط حسنى مبارك"، وشاهدت لأول مرة الرجال والنساء من كل الأعمار يسيرون وهم يهتفون،لا توجد طبقة دنيا بينهم، طبقة وسطى وعليا، لمحت على مراد الأرستقراطى مدير استوديو مصر يقبل سيدتين –تحية برجوازية فى الشارع– أنا فقط أحمل كاميرا فوتوغرافية وصوتى ما بيطلعش، ثم جاءت مظاهرة تقودها ناشطة سياسية معروفة  من ناحية كوبرى قصر النيل، تلاقت المجموعات بفرح وتسارعت الخطوات وهم يوشكون على الاحتضان، التحمت مظاهرة أخرى قادمة من باب اللوق وعندها تدخل البوليس خفيفا لمحاولة التفريق، ثم ظهرت عربة رش المياه، لا أعرف كيف صعد شاب على سطح العربة واشتبك مع الجندى الذى يوجه مدفع المياه وأخرجه من موقعه وسقطا معا على الأرض، لحظتها أدركت أن هذه ليست مظاهرة، هذه ثورة، فعل المقاومة هذا وهذه الجسارة فعل ثورى. وأمضيت أياما عدة أراقب من السطح، ثم أنزل عندما يتزايد أعداد المتظاهرين. ولاحظت ظهور اللجان التنظيمية التى تنظم الدخول إلى الميدان، وصيحة إسلامى: طابور للحريم وطابور للرجال، عندما وجهت الكاميرا للتصوير منعونى، فجادلتهم"أمال عاوزين تغيروا إيه؟" وصورت، كنت منفعلا، تدور فى رأسى أغنية للشيخ إمام:" لكل فعل رد، ولكل رد صد، دى المعمة يا واد، باين هتبقى جد، فى ناس كثير كثير، ما يحصيهمش عد، وفجر بكرة زاد، من خطوته ومد". الحكاية بقت جد فعلا. صورت من سطح العمارة أيضا حريق مقر الحزب، كان قلبى يرتجف خوفا على المتحف المصرى القريب جدا من مبنى الحزب. كانت الصورة مفزعة. قيامى بالتصوير كانت طريقتى فى المشاركة، كونى جزء من الناس وهذا ما أجيد عمله، كنت صورت بالمحمول عملية جراحية لخياطة جرح فى الجبهة، الطبيب الذى يعمل على الرصيف، نسى أين هو وسأل "سيسور؟"،يطلب مقص، ناوله أحدهم مقص، وعندما عدت للبيت شاهدت لواء متقاعد يحى المظاهرات عبر برنامج فى قناة خاصة ويطلب من الرئيس التنحى، يناشد الشرطة التعامل بهدوء مع المحتجين، بمجرد انتهاء البرنامج بدأ الضرب عنيفا، كنت أراقب من خلف زجاج النافذة  المقفل تفاديا لدخان القنابل المسيلة للدموع. يوم 2 فبراير بعد خطاب الرئيس سمعت عن مظاهرة تأييد له بميدان مصطفى محمود، وأخرى أمام التلفزيون، وصلت مظاهرة تحت البيت، بعض السيدات لا يوحى مظهرهن بأنهن موظفات، مأجورات على الأرجح، واحد منهم قال: نطلع التحرير، وآخر رد: بل نرجع التلفزيون. ثم ظهرت  مجموعات بالسيارات يصدرون غاغة- ضجيجا– أكبر من حجمهم، مراسل عربى كان يجرى حوارا مع شخص مظهره بلطجى، يقول:" أيوه حسنى مبارك لازم يبقى رئيس، لازم يبقى ملك، حسنى مبارك ملك مصر" ، ثم ظهرت تحت منزلى سيارات نقل كبيرة محملة بحجارة، وبدأت أعداد غفيرة تلقى الحجارة من مواقعها هذه على المتظاهرين خلف دبابات الجيش، صورت كل هذا من سطح العمارة، وصورت عمارة عن يسارى صعد على سطحها رجال مدربون، أحدهم يحرك علما وكأنها إشارة ما، وآخر يكسر حجارة ضخمة ويلقيها على المتظاهرين، من مكمنى بسطوح البيت لم يلاحظنى أحدهم. نقلت هذه الوثائق وقدمتها للجنة تقصى الحقائق التى تحقق فيما حدث يوم الأربعاء 2 فبراير2011". انتهى حديث على الغزولى وشهادته حول ما حدث يوم الأربعاء الدامى الذى سقط فيه العديد من الشهداء، وهو اليوم الذى وضع حدا لنهاية النظام ، يومها كانت حجارة من الجرانيت حاد الزوايا أحضرت من محاجر بمنطقة فى مصر القديمة تسمى شق التعبان. صباح الخميس شكل من بالتحرير لوحات من الحجارة التى ألقيت عليهم، علم مصر، أو كاركاتير يسخر من النظام، أو يكتبون بها كلمة الثورة إرحل. أخيرا عرف شباب مصر معنى لكلمة الجبهة، التى أطلقوها على منطقة الاشتباك بين مؤيدى مبارك من العصابات المنظمة وبينهم هم الثوار المؤمنين بقضيتهم التى بدأت بالاحتجاج على وزير الداخلية وتصاعدت مطالبة بسقوط النظام ورحيل الطاغية. ثورة شارك بها شباب دون العشرين ورجال تجاوزوا السبعين كل حسب طاقته لتحرير مصر. صور الغزلى ساعات وساعات يعكف عليها الآن ليصيغ منها فيلما عن ثورة 25 يناير بمادته التى التقطها بكاميرا ديجتال متواضعة الإمكانيات وهو المعروف عنه الاعتمام بجماليات الصورة، ومعروف عنه أيضا أنه كان من المتشككين فى البداية فى إمكانيات الديجيتال وقد اقتنع تدريجيا بها وخاصة مع إمكانية إجراء درجات من تصحيح الصورة والصوت عبر تقنيات تتطور بإطراد عبر أجهزة المونتاج وبعضها متاح للجميع بأجهزة منخفضة الأسعار. لم تتوقف عملية توثيق الثورة عند الغزولى على الفترة الأولى فقط، بل وثق المليونيات المختلفة بكاميرا أكثر احترافية وفى ذهنه أن يكتمل مشروعه بالمساهمة فى الثورة بما يعرفه ، بفن صنع الأفلام.
وهناك تجارب أخرى مثل تجربة قامت بها تهانى راشد بالمشاركة مع منى أسعد اللتين وثقتا الثورة من خلال ملازمة أسرة محددة وقراءة المشهد من خلال رصد تحركاتها. وقد كنت أقابلها فى التحرير فى أيام الثورة الأولى، كما قابلتهما أمام مبنى التلفزيون توثقان لاعتصام مسيحى مصر أمام ماسبيرو ترافقهما الناشطة والصحفية نوارة نجم.
وهناك التجربة المشتركة التى قدمها كل من أيتن أمين وتامر عزت وعمرو سلامة " تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي" الوثائقى وحصل على جائزة المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم، اليونسكو التي تحمل اسم السينمائي الإيطالي الشهير إنريكو فولشيانوني، وذلك في ختام فعاليات الدورة الثامنة والستين لـ مهرجان فينسيا السينمائي الدولي.  ويعرض الفيلم  ثلاث مراحل مختلفة للثورة وما حدث خلال الـ18 يوما التي بدأت يوم 25 يناير وانتهت بسقوط الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك يوم 11 فبراير، وذلك عن طريق عرض الثورة من ثلاث اتجاهات، الأولى من خلال المواطنين العاديين من الشباب الذين قاموا بالثورة، وهو الجزء الذي قام بإخراجه تامر عزت بعنوان الطيب، والجزء الثاني الذي سُمي الشرس قامت بإخراجه المخرجة آيتن أمين وفيه تحدثت عن دور الشرطة ووزارة الداخلية وكيفية تعاملها مع المتظاهرين في بداية الثورة وحتى انسحابهم ليلة الثامن والعشرين من يناير، وأسباب هذا الانسحاب وما تسبب فيه، أما الجزء الثالث والأخير فهو الجزء الذي أخرجه عمرو سلامة بعنوان السياسي، وفيه يحاول المخرج معرفة الخطوات التي اتخذها مبارك خلال الثورة وكيفية التعامل معها، وذلك من خلال عمل حوارات مع سياسيين عدة ورجال مقربين من الرئيس، والذين حكوا عن تحول الرئيس إلى ديكتاتور في عشر خطوات. ولو تتبعنا مشوار المخرجين المشاركين فى العمل فسنجدهم جميعا من جيل الديجيتال الذين بدأوا عمله فى أفلامها وأقدمهم تامر عزت الذى بدأ مونتيرا برز فى تجربة المدينة مع يسرى نصر الله الذى صور بالديجتال ثثم طبعت منه نسخة 35 مللى للعرض العام، وبعد عدة تجارب فى المونتاج قام عزت بتحقيق أفلامه التسجيلية ثم أخرج فيلمه الأول بكاميرا الديجيتال وتم نقله لإلى شريط السينما، أيتن أمين قدمت عدة افلام قصيرة مميزة وكتبت سيناريو فيلمها الأول الذى حصل على جائزة تمكنها من إنتاجه لفيلم طويل سائرة فى نفس الطريق بتصويره بالديجبتال ثم تحويله لشريط سينمائى.
أفلام الثورة فى مسابقة الديجيتال
أحد أهم مساهمات جيل الشباب فى بانوراما أفلام الثورة بهذه المسابقة هما تجربتى المخرجة نيفين شلبى التى وثقت الاحتجاجات التى قدمتها فئات مختلفة مطالبة بتحسين أوضاع العمل، على مدى عامين كاملين سجلت نيفين شلبى اعتصامات بجوار مبنى مجلس الشعب المصرى وفى أماكن عديدة فى فيلمها المعنون " الشارع لنا" من إنتاج الجزيرة، والتى أنهته بأيام الثورة الأولى التى جاءت نتيجة طبيعية لهذه الاحتجاجات. ومن إنتاجها الخاص قدمت فيلم " أنا والأجندة" بدأته بالثورة، والقمع البوليسى، والاتهامات بالعمالة وبحمل أجندات، جامعة فى فيلمها بين المشاهد الحية لكل هذه الأحداث، وبين شهادات عدد من المشاركين فى الثورة. ما تفعله نيفين شلبى معادل سينمائى للمراسل الحربى أو المراسل الصحفى الذى يتابع الأحداث لحظة بلحظة، وقد مكنتها كاميرا الديجتال من صياغة هذا فى أفلام وثائقية كشهادة حية على حدث هام فى تاريخنا. 
أحد التجارب الهامة الفيلم الروائى القصير " برد يناير" تأليف ولإخراج رومانى سعد وهو عمله الثانى بعد مشروع تخرجه من الجامعة الفرنسية، قدم فيه فكرة حميمة عن بائعة الأعلام فى الثورة وطفلتها وطفلها الذين فشلت صورة الرئيس المخلوع فى تدفئتهم، ويتساءلون إن كانت صور مرشحى الرئاسة المحتملين قد يمكنها القيام بذلك. بأسلوب ينتمى لرمزية شاعرية عبر رومانى عن الثورة المصرية وتأثيرها المحتمل على فقراء مصر. استعان بطفليه مع الممثلة المحترفة إيمى وقدم الممثل المحترف محمد رمضان كضيف شرف ، كما ظهر بنفسه فى الفيلم الذى صور بميدان التحرير وعلى كوبرى قصر النيل المؤدى إليه.
التجارب لا تنتهى لمخرجين ومخرجات من مختلف الأجيال، ساعدتهم تقنيات الديجتال من تصوير ومونتاج وعمليات جرافيك فى ملاحقة ثورة 25 يناير التى فجرتها دعوة على الفيس بوك، واستمر التعاون بين الديجيتال بوثائقة والشبكات الاجتماعية كمنافذ توزيع مجانية تمثل للشباب بشكل خاص ولكل مستخدم للانترنت يريد أن يحصل على الخقيقة موثقة صوتا وصورة، وينشرها بين أصدقائه معلقا عليها ومتفاعلا من خلالها مع الجميع. لم تلغى الشبكة الاجتماعية ما سبقها من وسائل اتصال جماهيرية بل تعاونا معا ومع الشرائط القديمة لتقديم الحقائق وربط القديم بالجديد فى تفاعل حضارى يضيف للمعرفة مزيدا من الطبقات المتتالية والمتكاملة لكشف الحقيقة وتوعية الناس ودعم السلام والتعاون بين الشعوب نحو التقدم .

1 comment:

  1. رائع، أتمنى أن تواصلي جهدك في رصد وتوثيق تلك العلاقة بين ثورة الأداة الفنية والثورة السياسية وتداعياتها الاجتماعية والإقتصادية

    ReplyDelete