Wednesday 27 March 2019

نسخة أفريقية من روبن هوود تنافس على جائزة الروائي الطويل بالأقصر



جون كيبي بطل تراجيدي بجنوب إفريقيا
من بين أفلام المسابقة الروائية الطويلة يبرز فيلم من جنوب أفريقا لمخرجه اللامع جميل كوندو الذي حظيت أعماله الوثائقية والروائية بعروض في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية المرموقة بما في ذلك مهرجان تورونتو السينمائي الدولي ومهرجان روتردام السينمائي ومهرجان لندن السينمائي الدولي ومهرجان بوسان السينمائي الدولي بكوريا، ومهرجان دبي السينمائي وغيرها. وهنا في الأقصر يشارك بفيلمه " خيط الشتاء جلدي" توقع الإعجاب بالفيلم يبدأ من عنوانه المحمل بصورة أدبية وتظل صورة الفيلم التي تجعلنا نشم الطين والطمي المبلل الذي يسود المناطق الزراعية في الريف الإفريقي على مدار الفيلم كله بدرجات لونية يغلب عليها اللون البني المائل الى الرمادية. فيلم حركة مستمرة منذ الدقيقة الأولى دون توقف وكأن الإيقاع على صرخة واحدة زاعقة خالية من لحظات صمت أو زمن هاديء. الفيلم عن بطل متمرد أسود، إذا جاز اعتبار أن السرقة من الأغنياء واقتسامها مع الفقراء بطولة، كما أدهم الشرقاوي في القصص الشعبي المصري ، وكما روبن هود الأشهر عالميا. اختار المخرج فترة في الخمسينيات تلت الحرب العالمية حيث مستعمرين بيض لديهم مزارع ويربون الأغنام مسلحين بالبنادق ولديهم متفجرات في مقابل ما يملكه السود من عصي وحجارة، معارك غير متكافئة تدور، ينتصر فيها الأبيض بسلاحه ويعيش أصحاب الأرض الأصليين من جبال بوشبيرج في فقر مدقع وخوف دائم من الموت. حيث يرز بطلهم الذي اختار منفردا أن ينتقم على طريقته  بسرقة الماشية وغيرها من المزارع في المنطقة القاحلة الشاسعة التي تقع في منطقة كارو الكبرى الريفية في جنوب إفريقيا وأن يشارك غنائمه مع الفقراء ومنهم أمه وامرأته. العلاقة مع الأم واضحة، ولكن علاقته بالمرأة يشوبها الغموض فهي تخيط جرحة بعد غزوة من غزواته التي عاد فيها منتصرا بحمله خروفا سرقه ووصل به سالما، يحاول التقرب منها ولكنها تمنعه بقسوة. 
لا يسرد المخرج فيلمه في خط زمني من بداية الأحداث حتى الوصول الى ذروة ثم النهاية مع إعدام المتمرد بتهمة القتل التي لم يرتكبها. بل يروح ويجيء منتقيا أعلى اللحظات وأسخنها مستخدما كل وسائل الإثارة من موسيقى زاعقة وإضاءة ممتعة وبيئة مبللة لا يظهر فيها زرع أخضر ولا مياه صافية. كل ما حولنا كأنها بداية الخليقة أو نهاية العالم.
البداية مع مشهد مطاردة في الليل بين شخص أعزل مغطى، سنعرف لاحقا أنه مغطى بالخراء بعدما اخنبأ في المجرور، وعديد من المسلحين مع كلابهم، ثم المحكمة وقراءة الحكم على السيد جون كيبي بالإعدام شنقا لجريمة القتل التي لم يرتكبها. الجكم يقرأ باللغة الألمانية وسنلحظ الصليب المعقوف على أذرع البيض حاملي السلاح مطاردي الرجل الأسود . نظرة نارية من كاتب يسجل بقلمه في كراس إلى البطل الأبيض بعينية الزرقاويين. الإقطاعي بوثا يمضي وقد شفي غليله ، وينتهي مشهد المحكمة بلقطة قريبة لسيدة سوداء ومنها لمشاهد عودة للخلف وحارس سيدها يحمل سلاحه ويمضي. تترقب خروجه حاملا سلاحا أبيض وتنزل العناوين .
عسكري أسود بشارب ضخم يعمل مع البيض يقتحم غاضبون بيته ويلقون بشعلة نار، صراخ طفل ، يعمر سلاحه ويقترب من الغاضبين ويقتل واحدا منهم فيفر الجميع. منذ البداية تفوق السلاح الناري على الوسائل الأخرى.الكاتب على آلته الكاتبة يكتب . سيتنقل السرد بين الوحدات المشهدية لما يقوم به جون كيبي من أفعال السطو على المنازل والتقليب في ممتلكاتهم صور أسلحة وجهاز اسطوانات، وبين مطاردة البيض له، ومشاهد لمساندة السود لبطلهم، ولقطات قصيرة تظهر الكاتب على آلته الكاتبة، دون تسلسل زمني بل بالتقدم والتراجع لاهثا وراء كل ما هو ساخن وحيثما يجد مساحة للتشويق فإنه يقتنصها ولا يسمح لها بالإفلات. في مغارة يضيئها بالمشاعل يجمع جون كيبي المسروقات ويشغل الجرامافون وتنبعث أغنية بالألمانية يستخدمها المخرج كموسيقى مصاحبة لمشاهد صراع بين حارس الإقطاعي واللص البطل الشعبي.
فكرة الانتقام تعتمد عليها كثير من الأعمال الدرامية ولكن المخرج يقلل من شأن المنتقم بالتركيز على أفعال خائبة وجنونية لا تحقق له شيئا، ويصبح مهزوما لا محالة فالبطل الفرد هنا ليس خارقا ولا ذكيا بل مغامرا ولا يأبه الموت وهي صفات لا تكفي لينتصر على أعدائه الذين لديهم دوافع قوية للحفاظ على ثرواتهم ولضمان عدم تكرار نموذج المتمرد عليهم. ورغم براعته في التعامل مع الخيل مما يسهل عليه اقتياده وبراعته في قيادة دراجة نارية أيضا إلا أن البطل الأسود ليس نبيلا بما يكفي لكي تتعاطف معه، بل على الأكثر يمكن أن ترثي لحاله وقد تتمنى أن ينجح في الإفلات من جريمته الصغيرة .  يسرق كيبي خروفا من مزرعة بوثا ويحمله على ظهره ويجري به وهو أعزل ، مشهد يطول في مطاردة غير متكافئة وتكون نتيجتها موت الحيوان حين يقفز به قفزة جنونية فيصرخ من ضياع غنيمته، يكرر الفعل وينجح فيرقصون احتفالا بطعام يشتاقون إليه . خروف واحد لقرية بأكملها سيدفع ثمنه حياته ولن يفلت بقوانين الرجل الأبيض الملفقة والشاهد عليها كاتب القصة الذي يظهر في الفيلم كشاهد على الأحداث وراويها.
يحفل الفيلم أيضا بمشاهد جماعية لثورة السود في مواجهة مع سيارات وبنادق الحكام البيض ومن يتعاون معهم من السود القلائل، برغبتهم كما الضابط ذو الشارب الغليظ، أو مرغما كما الخادمة في بيت الجنرال بوثا .مشاهد تعيد إلى الذاكرة أفلاما أمريكية أرخت لصراع السود مع البيض قبل انتهاء حقبة التعامل معهم كعبيد، ولكن المخرج الإفريقي في فيلمه هذا يقدم قطعة مختلفة في الأراضى الإفريقية التي استعمرها المنتصرون البيض في حروبهم خارج القارة السمراء، غالبا كمكافأة لهم على تضحياتهم في الحرب الكبرى. لا تجري أحداث " خيط الشتاء جلدي" في القارة الجديدة أمريكا حيث العبيد السود وأسيادهم البيض ، بل في بلادهم ، في جنوب إفريقيا الريفية المشحونة بالعنف في خمسينيات القرن العشرين التي سيطر عليها البيض وأتوا بعرباتهم ونسائهم وبكل تفاصيل حياتهم يعربدون في أرض لم تكن يوما لهم، وهذا المشهد هو ما ينتهي به الفيلم كعودة بالأحداث إلى الوراء  مع الإقطاعي بوتا الذي نجح في النهاية في القبض على جون كيبي وساندته قوانين البيض بإعدام الرجل الذي كانت أفعاله تهديدا للمجتمع الفلاحي الاستعماري، وها هم الجنرال المستعمر يهنأ الآن في أرضهم،  يستقبل ضيوفه، يمنع زوجته من تعاطي الخمر حتى لا يظهر للآخرين غضبها ورغبتها في ترك المكان والعودة إلى بلادها، ويمتليء مشاهد الفيلم بالأسى على سيادة الظلم في عالمنا الذي كان.
. في عام 2005 ، فاز فيلم وثائقي  للمخرج جميل عن الإيدز أخرجه لشارع سمسم بجائزة بيبودي المرموقة في أمريكا لأفضل برامج واقعية.  وفي عام 2013 تم حظرفيلمه الروائي الثاني "تقرير جيد" في  بلده جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري.
من بين العديد من أفلام إفريقا اخترت إلقاء الضوء على فيلم " خيط الشتاء جلدي" الذي يبين بوضوح أن القضايا لا تموت بفعل الزمن ، وأن تضحيات أصحاب الحقوق لنيل حريتهم تستحق التذكير بها مهما ظهرت قضايا معاصرة كتغيرات المناخ ، أو شح الغذاء ، تبقى قضية الحرية في المقام الأول هي قضية البشر في كل زمان ومكان. وسينافس في القسم التسجيلي فيلم آخر معاصر من جنوب إفريقيا يحمل عنوانا مستمدا من كتاب عن رواندا " همس الحقيقة " بإنتاج ضخم عن الفساد السائد في جنوب إفريقيا البلد الذي يعتبر الفارق فيه بين الأغنياء وأغلبهم من البيض وبين الفقراء السود أعلى فارق بين السكان على مستوى العالم.

صفاء الليثي
كتبته قبل إعلان الجوائز بيومين عن فيلم " خيط الشتاء بجسدي" الحاصل على جائزة أفضل إسهام فني من لجنة تحكيم المسابقة الروائية الطويلة بمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية وختام المقال عن الفيلم التسجيلي الذي حصد جائزة لجنة التحكيم " همس الحقيقة" الفيلمان من جنوب أفريقيا . نشر المقال بجريدة القاهرة الثلاثاء 26 مارس 2019 رئيس التحرير عماد الغزالي


No comments:

Post a Comment