Monday 27 November 2017

أنت بداخل رأسي You Go To My Head





 حادث أليم يؤدي إلى حياة ثانية

آدم وحواء في تيه صحراء مغاربية
مونتير واحد، مدير تصوير واحد وثلاثة كتاب أولهم المخرج ديمتري دى كليرك في عمل من إنتاجه يبدأ بالعناوين على لقطة جانبية لامرأة جميلة هادئة، وأغنية رومانسية، بعده قطع حاد على نهاية حادث سيارة مصور بالتصوير البطيء، سائقها توفى وامرأة بفستان أحمر تجاهد للخروج من السيارة المقلوبة، حيث صحراء برمالها الصفراء وفستان المرأة نقطة حياة في قلب هذا التيه، حيث لا أحد سوى الشمس والرمال وبئر تعجز عن أن تطول مياهه. 11 ق تمضي في وحدة مشهدية ملخصها الحادث ورجل يتجول بسيارته فينقذ المرأة من كارثتها، يستعين بطبيب عربي يخبره أن المرأة فاقدة للذاكرة ولا تعرف حتى اسمها. أوربيان غريبان في صحراء عربية وحيدان، هي وجيك الذي قرر أمرا ساعده إليه تأكيد الطبيب أنها لن تسترد ذاكرتها..غالبا. حين تسأل من أنت يقول جيك، ثم ... زوجك، هي مرتابة والمشاهد معها يحاول الفهم. الارتياب ينتقل إلينا مع إخفائه لأشيائها، ساعتها وبوصلة طريق، وإلباسها خاتما متسع على اصبعها قليلا. الحوار دقيق جدا، ماذا لو سميتك كيتي، نعم فليس هذا اسمها، وإذا كان زوجها فمن هو الرجل الذي مات ؟. كادرات الفيلم لوحات ساكنة يلعب فيها الضوء والظل دورا جماليا بديعا، اللون الأصفر ليس برمال الصحراء فقط، في زجاج النافذة أيضا حيث يقف جيك مفكرا، ثم ناظرا للمرأة النائمة، يقترب منها ويتشممها. هناك بالتأكيد سوء تفاهم مربك حول الحقيقة ومصير المرأة مع منقذها الكريم في بيته الفريد بإضاءته البيضاء حيث لا توجد حواجز للضوء سوى ستائر خفيفة. لونان فقط مسيطران على المشهد الأبيض، ولون الخشب الخام وهو نفسه لون وجه المرأة وذراعها الظاهران تحت أغطية السرير البيضاء. قبل إحضارها إلى البيت قام بحرق فستانها الأحمر وكأنه يريد إخفاء أي معالم تربطها بماضيها ويعيد خلقها هنا في بيته مع حمام السباحة بسلالمه البيضاء، تصحب المشهد موسيقى كورالية مع كاست أزرق لمشهد فائق فيه تسير كالمنومة تردد أسماء الأشياء كمن يحاول اختبار ذاكرته، الكاميرا تصحبها حتى تصل إلى زجاج تنعكس فيه صورتها فتردد في شك، كيتي. سيعيد المخرج المشهد تقريبا حين تعود إليها الذاكرة فتنطق اسمها الصحيح دافن. الممثلة دلفين بافورت تقوم بدور كيتي / دلفين بأدائين مختلفين قادها المخرج ليتضح لنا صورتها الجديدة مع شخصية كانت برأس جيك هذا المعماري الحالم الذي أنقذها واستغل فقدانها للذاكرة ليشكلها على هواه، حين تسأله ماذا كنت أفعل يقول لها تخلقين عالمك وتلهمينني. وجدها واتخذها بديلا لصورة ملأت رأسه كملهمة تتحرك بجمال في بيت ابتكره وبناه، عاش فيه وحيدا منتظرا لعبة القدر بظهورها العارض.

الفيلم الذي قارب الساعتين يمضي سلسلا دون مفاجآت غير متوقعة، في وحدات مشهدية مشبعة بالتفاصيل ومرضية لنا حيث لا يوجد شرير في الحكاية، تناول مختلف تماما عن فيلمنا المصري " الليلة الأخيرة " للمخرج كمال الشيخ في فكرة مشابهة، لا يوجد شرير هنا، لا محمود مرسي، ولا الضحية فاتن حمامة، بل شخصين أرادا فرصة ثانية للحياة فوجداها، فبدون تعمد، يصادف جيك امرأة وحيدة في تيه الصحراء فينقذها من الموت ومعها يعيد حياته التي أوشكت على الضياع وكاد يبيع بيته، فيلغي صفقة البيع، ويبني بيتا لآخرين، تدب فيه الحياة فيصحبها في رحلات يكشف لها عالمه البديع، يمارسان الحب في الطبيعة كآدم وحواء، بعد ساعة كاملة من الفيلم ، فقط بعد ما يزيد عن 60 دقيقة يتقاربان وتحبه، وتستمر رحلاتهما معا يمارسان حبا في الفراش وهو بوجهه العجوز الذي يعبر عن عمر أكبر من حقيقته يبدو وكأنه معها يبدأ ميلادا جديدا. هي تعلق، وكأنه شهر عسل ثان لنا . تأتي حكمة الفيلم بجملة عجوز عربية والدة عامل الفندق الذي تعرف البطلة الحقيقة عن طريقه، العجوز تقول حكمتها والعامل يترجم، تقول لك أن كل شيء بسبب، وما يحدث لنا في الحياة ليس صدفة. ما يعني أنه مقدر ومكتوب. نعم موقع الفيلم وديكور البيت أيضا ليس صدفة، حوض السباحة هو غرفة المعيشة بمياهه التي تغسل المرأة من حياة سابقة، وعزلتها في المكان يعيدان اكتشاف ذواتهما، الأصفر لون الحياة الجديدة لها في مقابل الأحمر المرتبط بكل أشياءها، الفستان، وحقيبتها التي تتخلص منها بعد معرفتها بحقيقة حادثها مع هذا السائح الأمريكي الذي غيبه الموت، تلقي الحقيبة في النهر وكأنها قررت أن تتخلص من كل ما يربطها بماض لا تريده. في مشهد قبل النهاية جيك يسكر بعد إدراكه لعودة ذاكرتها وخوفه من فقدانها، يسقط في الحوض السباحة ومياهه غير مكتملة فيصاب في رأسه ويسقط في غيبوبة، يتبادلان الأدوار فتطببه هذه المرة، وتأخذ دورها سيدة للبيت فتطلب أثاثا وتطعمه، تنظم له مواعيد العمل، تقول مبتسمة هيا استرد صحتك لنحقق مشروعنا، الطفل الذي حلمنا به معا. يبكي في صمت وتعبيرات وجهه المقتصدة تخبرنا عن مدى امتنانه للمرأة التي وضعتها الأقدار في طريقه، فاكتملا معا، آدم وحواء كما بدأ الخليقة.
الحوار في الفيلم كثيرا ما يكون تفكيرا منهما بصوت عال، جيك يقول كمن يقنع نفسه أولا، أحبك يا كيتي، مهما كنت بالنسبة لي، أرجوك تذكري هذا، وحين نسمعه تدق قلوبنا هل اقترب موعد المكاشفة؟. الفيلم يجيب على سؤال واضح، ماذا يحدث لو تقابل اثنان مُحيت ذاكرتهما، هو بإرادته ورغبته في حياة جديدة ، وهي رغما عنها نتيجة حادث. هناك تماهي بين المخرج وبطله يظهر واضحا حين يراقبها وهي ترقص على أنغام عربية ، بمزيج من الإعجاب والتوجس، يشعر من غرابة تصرفتها أن ذاكرتها عادت إليها، ينجح في إيصال مشاعره المختلطة، فالممثل المقتصد في تعبيراته يدخرها للحظات الارتياب، العشق، والقلق من فقدانها. نظرات عينيه تمتلأ بكل هذه المعاني فيزداد تفهنا لتصرفه ونغفر له كذبته الكبرى بالادعاء أنه زوجها. تمثيل مقتصد تفوقت فيه الممثلة دلفين بافورت في شخصيتيها بالفيلم، هادئة ومرتابة حين تكون كيتي، وغاضبة وممتلئة بالحيوية حين تكون دافن. امرأة في أوج أنوثتها في الخامسة والثلاثين. عُريها بعيد تماما عن إثارة رخيصة، بل إعادة لصورة حواء في بدء الخليقة، وخاصة في مشاهد تواجدها بحوض السباحة، غالبا عارية تماما، وأحيانا بلباس بحر أحمر لونها في شخصية دافن.    
الموسيقى المؤلفة تعبر عن المعنى من وراء كل مشهد فتكون كورالية أحيانا، أو عزفا منفردا بآلات وترية أحيانا أخرى، تشكل مع أصوات الطبيعة، كصوت قطرات الماء والطيور شريطا صوتيا معبرا عن الحياة البكر في منزل جيك وكيتي في غربتهما الاختيارية بالصحراء المغاربية. أتوقع أن يشكو البعض ممن تعود على الإيقاع السريع للأفلام أن يجد المشاهد بطيئة ولكنه بطء مقصود للتأمل والإحساس بإيقاع الحياة في صحراء تحتاج جهدا من مبدعين مثل جيك وملهمة مثل دافن لتتفجر فيها الحياة. 

عنوان آخر مقترح: حادث أليم يؤدي إلى حياة ثانية

اختفاء في صحراء الغابات الثلجية



مثلث غير تقليدي 
في دراما نفسية أسرية
كثيرة هي الأفلام التي تقدم دراما المثلث التقليدي ، زوج وزوجة وعشيث- أو عشيقة-، في فيلم اختفاء مثلث من نوع آخر بين أم وابنة وأخ أصغر. العلاقة بين الابنة أو الأخت الكبرى مع الصبي الأخ الأصفر تتسم بالحميمية، هناك دفء في العلاقة، يلعبان معا بما يعكس القدرة على التواصل والتفاهم والتناغم معا. بينما العلاقة مع الأم باردة، تتحدثان كغريبتين، ودائما الكاميرا من وجهة نظر الابنة من ظهر الأم المنصرفة دائما إلى شئونها.

تبدأ الحكاية بوصول سيدة في مقتبل العمر تقود سيارتها عبر طريق تحوطة غابات حيث منزل وحيد في صحراء ثلجية، تستقبلها الكلاب في ترحاب، هي تناديهم بأسمائهم عدا كلب واحد، ثم استقبال أشد حماسة مع صبي يركب الآن ظهرها وسط نباح فرح من الكلاب بينما تلقي بكرات الثلج جريا وراء الصبي. ثم قطع إلى مشهد بإيقاع مختلف تماما، الزائرة تتأمل ظهر امرأة تعمل بهمة وتلقي أسئلة على نحو عابر. هذه الدقائق فيها تقديم للشخصيات الرئيس بالعمل وتوضح شكل العلاقة على نحو سيتأكد مع تكرار المشاهد بين الأخت الكبرى والصبي، وبيها وبين الأم. في مفتتح الفيلم وقبل العناوين مشهد لطفلة تعزف على البيانو في حفل ينتهي بتصفيق معجبين، وفي المشهد الأخير من الفيلم تنهض فيه الفتاة تحي جمهورها أو تودعه كما سيتضح لنا في النهاية. حيث ستتجه روز وهذا اسمها الى الأفق الثلجي وتختفي اختياريا.

نعود للسرد الذي بدأ بقدوم روز، لقائها مع الأخ ثم مع الأم، روز مع جيران حيث يدور حديث لطيف، ثم الأم تعزف على البيانو عزفا بديعا وسيتضح أنه احتفال صغير بعيد ميلاد الصبي الثالث عشر. وسط الاحتفال روز تتظاهر بالسعادة، ولكن لحظات سعادتها الحقيقية مع أخيها في الخارج يشكرها على هديتها. الحوار يدور بين الابنة والأم بلغة النرويج، بينما يدور مع الأخ بالإنجليزية سنعرف جانبا من حكايتهما وهما تتحاوران معا، اختارت روز أن تعيش مع والدها تاركة الأم هنا في هذا الشمال الأوربي وثلوج شتائه. المشاهد التي تجمهما معا دائما تعكس توترا وعدم انسجام، بينما مشاهدها مع أخيها بها محبة خاصة، يطلعها على سره، اختراعه بتسجيل أصوات الطبيعة في الكهف الذي كونته الثلوج، وكل الأصوات المحيطة بينها تسجيلا لمناقشة حادة مع الأم مزجها الصبي بدقات قلب، يقول لأخته دقات قلبك مع ذوبان الثلوج، يرقصان على شريط الصوت الذي كونه . مضى زمن من الفيلم ولم نعرف بعد سبب الزيارة إلا عندما تقابل جار شاب، يبدو أنها كانت تعرفه قبلا، تركب معه سيارته، تتشمم غطاء رأسه، تمارس معه الجنس بعنف تخبره وهي معه فجأة ( أنا بموت I am Dying) صدمة له ولنا وينكشف سر نظرات روز الزائغة ومراقبتها دوما لانشغال الأم كمن تتحين فرصة لإخبارها. عندما تجيء الفرصة لا تصدقها الأم حين تخبرها وهي تتقيأ أنا مريضة، حين تدور مناقشة حادة بينهما وتمضي روز بعصبية في الطريق يصطدم بها حيوان قادم من الغابة، تكون الأم قد سارعت باللحاق بها ويدور مشهد من أروع مشاهد الفيلم حيث نسمع حكاية الأم التي تركها والديها في مدرسة داخلية من سن الثامنة، وبدأت في التجوال في العواصم مع حفلات الكونسير الضخمة، يقطع المخرج بين لقطات حكيها في السيارة مع بحثهم ومعهما محترف مسئول عن الحيوان الجريح لإنهاء عذابه، صوت حكيها مستمر والقطع مستمر، نسمع صوت طلقة الرحمة وسيتبين أنها خرجت من بندقية الأم. المشهد يوضح سر صلابة الأم، سبب قوتها الداخلية ، وقدرتها على الفعل.
نعود للعلاقة مع الأم فرغم الاختلاف بينهما إلا أنها هي من ستنقذها من متاهة الغابة، وهي من ستتفهم رفبتها في عدم الاستمرار في الحياة. أما العلاقة مع الصبي معه تعود طفله تلاعبه، ويقوم هو بدور الناصح والزاجر لها، يوبخها هل ستختفين مرة أخرى بلاسبب. طوال الفيلم لايجتمع الثلاثة معا، بعد انكشاف مرض روز تجتمع الأسرة في لقاء أشبه باجتماع عائلي، الفتي غير قادر على التحكم في غضبه يحطم كهف الأسرار وتمنعه روز محتضنة إيه. سابقا يسبحان معا في حفر المياه وسط الثلوج، هي بصدرها العاري تجري معه حوارا حول علاقته بالفتيات، وحين ينظر إلى ثديها تمسك يده وتجعله يتحسسه، تنمحه خبرة وتشجعه على التعامل مع الجنس الآخر. ثقافة أخرى دون خشية الاتهام بشذوذ أو ما شابه.
ثقافة شمال أوربا وخصوصية تفاصيل الحياة، واضحة في الغابة، الثلوج المنتشرة، الحيوانات الشاردة والنزهة حيث تجر الكلاب زلاقة، عربة الجليد تقودها الأم ، مرتان تأخد الأم ابنتها، تجلسها على الزلاقة، وهي واقفة تقود بينما الكلاب تجر في سرعة في الصحراء الثلجية. مرة كطلب من الابنة قبل التفاهم. ومرة بعد تصالحهما وتأكيد الابنة على رفضها لإجراء العملية التي قد تنقذ حياتها، واضح أنها آثرت الاختفاء في الأفق الثلجي كنوع من الانتحار كمصير اختارته بدلا من انتظار موت أليم.
اختار المخرج أن يكون واضحا، ففي مشهد مع الشاب الذي مارست معه الجنس يصطاد من حفرة بالثلج ، اصطاد سمكة تطلب روز منه أن تمسك بها، هي وحيدة مع السمكة التي تعافر محاولة التنفس خارج المياه، تعيدها إلى المياة مرة أخرى وتخبره، هي أرادت العودة. التشبيه مع السمكة المقبلة على الموت التي أرادت العودة حيث بيئتها ومسقط رأسها واضح. لا يتركنا المخرج مع الحزن فها هو الشاب  يدير أغنية مرحة يرقص وروز على نغماتها، من كلماتها ، إنه يوم  صيد جيد .، ثم قطع حاد لها تتقيأ والأم توبخها معتقدة أن إسرافها في شرب الخمر السبب. تحاول روز إخبارها أنها مريضة، ولكن الأم تقول كفاك ميلودراما    
اختفاء دراما نفسية مؤثرة، نجح فيه المخرج في التعبير عن أزمة سيدة مقبلة على الموت، وجعلها تتصالح مع أسرتها ومع الحياة قبل الاختفاء. 
نشر بنشرة المهرجان العدد الثاني 23 نوفمبر 2017 تحرير خالد محمود

محاولة لتتبع بذور العنف




مذلون مهانون في المجتمع الكوري الحديث

فى عمله الأول يتتبع المخرج الكوري تاجيو ليم بطله يونج الجندي الشاب وتعرضه للاستغلال من قبل رئيسه الضابط، حين تعوق شكوى مجهولة الضابط من ترقية محتملة يضغط أكثر على يونج الذي يضغط بدوره على مروؤسه فيليب ليعترف بأنه من قدم الشكوى. مشهد البداية يقدم  فيه المخرج الجنود بكامل زيهم والضابط بفانلة داخلية يحاول التبسط معهم ومع فيليب المجند الأصغر في المجموعة، وحين نعرف موضوع الشكوى سنعرف سر تبسطه غير المخلص وضغطه المستمر على يونج وإذلاله. يعنف ضابط أعلى يونج ويحقق معه بعنف، يضربه ويهينه ويأمره بمعاملة فيليب بالمثل حتى يصل الأمر إلى كسر إحدى أسنان فيليب ويتورط يونج في محاولة إصلاح الأمر . يحدث كل هذا في يوم واحد يكون منتظرا فيه زيارة من أخته حاملة معها ملابس وبعض النقود. الأخت لا تحضر ولا ترد على التليفون، ويصبح على يونج  المهموم بأمر أخته، وبالجندي فاقد سنته أن يحل المشكلتين معا، فيذهب إلى زوج الأخت- صادف أنه طبيب أسنان - طالبا مساعدته، وتصبح هذه المساعدة ورقة يقايضه عليها زوج الأخت الذي يضرب الأخت ويفشل يونج في إقناعها بترك هذا الزوج العنيف، هنا يربط المخرج بين الجلاد والضحية فلا يمكن أن يستمر العنف إذا لم يرض الطرف المعنف ويتنازل عن حقه. من الواضح أن عيشة مرفهة في بناية حديثة تجعل الأخت تتغاضى عن ضرب زوجها لها. عنف سادي من الضابط رئيس يونج في المؤسسة العسكرية المعروفة بتراتبية بين كل فرد وآخر وطبقية بين الأعلى والأدنى، وعنف في مؤسسة الأسرة من الزوج الذي يبدو هادئا على السطح وعنيفا وقاسيا في الحقيقة، ينتقد المخرج الشاب هذا العنف في المؤسستين ولا يعفي الضحية المستسلمة للذل، والتي تتحول بدورها إلى شخصية عنيفة تمارس عنفا على الأضعف كما حدث من يونج تجاه فيليب ومن الأخت تجاه أخيها يونج. 
يحكي المخرج تاجيو ليم من خلال رحلة يونج لإجلاء الحقيقة، لايتركه نهائيا، متتبعا إياه بكاميرا محمولة يدويا، غالبا من ظهره كشخص مهزوم، وسيبقى مهزوما بل سيفقد مثاليته وبراءته حين يضطر لتعنيف فيليب وتعنيف أخته، بعد فشله في إقناع الأول بالاعتراف بأنه من قدم الشكوى في الضابط، وفشله في أخذ الأخت بعيدا عن زوجها الذي يهينها ولا يكف عن ضربها. يكشف الفيلم عن طبقية المجتمع الكوري وعن فساد الطبقة الوسطى التي لا يكف أفرادها عن إذلال من يقع تحت سيطرتهم، ويصبح المنطق ( يا قاتل يا مقتول) رغم التظاهر بأن هناك تحسنا وتطورا في قوانين المؤسسة العسكرية بما يسمح بتلقى شكاوى عن كبار الضباط بل ومحاكمتهم. ونعرف هذا من حوار بين زوج الأخت وصديقه طالب البوليس الذي يوشك على التخرج. التوتر في العلاقة بين يونج وزوج أخته من ناحية، وبين يونج ومجموعة فرقة الجيش سواء الضابط رئيسه أو المجند مروؤسه تعكس هذه الفوارق الطبقية في المجتمع الرأسمالي الكوري الحديث. 

لجأ المخرج إلى تفاصيل صغيرة لرسم شخصيات عمله، في مشهد البداية الجنود بكامل زيهم الرسمي، بينما الضابط يتحرك بفانلة داخلية وشورت وشبشب – عفوا مداس مفتوح- والجنود بحذائهم العسكري ورباطه الذي يستغرق وقتا في ربطه وحله، ويقدم كتمرين- سخيف-  على سرعة استجابة الجندي ومهارته في سرعة فك رباط حذائه. الجنود يفضلون عدم الاستمرار بالبقاء في الجيش، ولكن الضابط يفضل البقاء، ولم لا، ما دام متمتعا بحريته، ممارسا ساديته في إهانة وتعنيف كل من يقع تحت رئاسته.
لم يكتب ليم السيناريو بنفسه، ويبدو أنه فضل الاعتماد على سيناريو احترافي محكم البناء. رغم أن الفيلم قائم على تجربة شخصية له، لم يلتحق المخرج بالجيش ولكنه شارك معسكر تدريب مكثف لم يعامل فيه بشكل سيئ ولكنه يتذكر أيضا بعض الحوادث غير السارة التي أظهرت له كيف يمكن للجيش الكوري الجنوبي أن يكون قاسيا وحشيا على الشباب في نظامه القمعي. في حالة وجود خدعة رفيعة المستوى جعلت الحياة بائسة بالنسبة لنا، وكذلك مدربينا، لم يكن سوى متسلل متعجرف سادي في رأيي، وما زلت أتذكر جيدا عندما هددنا هذا الوغد الممتليء بالكراهية بعقوبة تأديبية فقط بسبب خطأ طفيف لمجند واحد. يكمل في لقائه بعد عرض فيلمه بمهرجان كوريا 18، وهذا هو السبب الذي دفعني إلى الرد بقوة على عدد من المشاهد الوحشية العاطفية في فيلم كوريا الجنوبية المستقل "بذور العنف" الذي يلاحظ العنف البارد ليس فقط من الجيش الكوري الجنوبي بل أيضا المجتمع الكوري الجنوبي. من المثير أيضا أن نرى كيف يتساوى العنف في العالم الخارجي في الواقع، والفيلم يترك لنا في نهاية المطاف لحظة قاتمة للتفكير في هذه الحالة الاجتماعية غير القابلة للتجزئة في كافة مؤسسات المجتمع.
قي فيلمه المستقل ومع كاميرا صغيرة محمولة يدويا، وبأسلوب يبتعد عن الإبهار التقني للسينما الكورية السائدة، والمختلف أيضا عن فطاحل السينما الكورية رفيعة المستوى كأفلام (كيم كي دوك) يقدم جياو ليم عملا بسيطا صاغه في يوم واحد ملئ بالأحداث التي تبدو اعتيادية ، كاشفا عن خلل كبير في مجتمعه بحس نقدي ينبه إلى خطورته.  
      نشر بنشرة المهرجان الاثنين 27 نوفمبر 2017 ( العدد السادس) تحرير خالد محمود 

Tuesday 31 October 2017

أخضر يابس فيلم بطعم السينما الإيرانية



واقعية ثالثة تعكس دواخل الشخصيات

عقدت العزم على حضور الحفل الأول من العرض العام لفيلم " أحضر يابس " ، ثوان أخرتني عن بداية الفيلم فأجلت المشاهدة للحفلة التالية، وحسنا فعلت ففي الدقيقة الأولى من الفيلم ، نباتات زينة في شرفة منزل ، كلها من نبات الصبار، أخضرها باهت، ثوان ننتقل بعدها إلى فتاة تصعد كوبري الترام ، كاميرا المخرج تبدأ حركة تتبع البطلة وفي المقدمة شجرة يابسة ويقطع قبل أن تصل الكاميرا إلى فروع أكثر اخضرارا. تهيأت لمشاهدة فيلم كل تفصيلة فيه محملة بدلالات وليست فقط مناظر بالصدفة. إضاءة الفيلم نفسه باهتة دون سطوع، والحي والأماكن المختارة لا تعبر عن واقع مدينة مصرية قدر ما تعبر عن واقع الشخصية التي ركز عليها الفيلم في كل مشاهده.
منذ فيلم هالة لطفي " الخروج للنهار " بدأت ملامح سينما مصرية معاصرة لا تتناول الواقع الذي بدأ مع كمال سليم وامتد مع صلاح أبوسيف، ثم مع عاطف الطيب، في واقعهم الاجتماعي العام الذي يوثق سينمائيا المجتمع المصري بتعقداته ودواخله. 

هنا في " أخضر يابس " واقع الشخصية الداخلي، العالم من خلال الفتاة التي فاتها قطار الزواج والحياة، الفتاة التي يبست جثمانيا بعد أن تيبس العقل حابسا نفسه في احترام التقاليد والأعراف. عين تيمة الفيلم القصير لحماد " أخضر باهت " المكثف والمؤثر عن واقع النساء في بلدنا، المحكوم عليهن بانتظار فرصة الحياة فقط مع رجل يرغبها كزوجة. في " أخضر يابس " إيمان الأخت الكبرى ترعى الصغرى، إيمان المهزومة هي البطلة وليست الصغرى التي اتخذ نموذجها بطلة وجسدتها سعاد حسني الفتاة الشقية في أغلب أدوارها، الواقع الاجتماعي الذي وضعه حماد في الخلفية ، المتراجع في مصر مع حجاب النساء وبؤس حاضرهن، بطلته الفتاة التي شاخت مبكرا، وليس الأخرى التي ستعيش عيشة أهلها وتتزوج، متحملة تقاليد العائلات فلابد من رجل يظهر كمسئول عنها حتى لو كان خيال مآتة. حسنا كتب حماد راسما ثلاثة اختلافات بين الأعمام، عم تسوقه زوجته مستسلما لمشورتها، وعم مشغول بعمله في الخارج مشغول فقط بمصلحته ومخاوفه على ما كسبه، والعم الثالث طيب وحنون ولكن ظروفه الصحية تحول بينه وبين أداء واجبه تجاه بنات أخيه، اليتيمتان. قدر طفيف من ميلودراما حسن الإمام مع يتيمتيه ظهرت عند حماد حين اختار أن يصاب العم الطيب بأزمة ويدخل الرعاية المركز. ليس انحرافا عن السرد الأميل إلى الطبيعية ، تحول يتوقعه المشاهد، ويصدمنا حماد بفعل الفتاة التي أزالت بكارتها بيدها ، تألمت متمردة على بكارة احتفظت بها دون جائزة منتظرة من مجتمع منصرف عنها غير مكترث بما تعتقد أنه تضحياتها.

يستخدم حماد دلالات تقليدية حين يختار شريط القطار والترام القديم، والسلحفاة التي تعافر بعد أن انقلبت على ظهرها. محل الحلويات وثلاجته المعطلة التي تمنع الحلوى الغربية، وتبقى فقط الشرقية بكل ما تحمله من دلالة عن الفارق بين الشرقي والغربي. ينتمي الفيلم إلى سينما تهتم بالنساء للتعبير عن أزمة للمجتمع ككل، لقطات وجدتها كتحية من المخرج محمد حماد لمشاهد نسائية، مسح البلاط والتقليب في الذكريات تحية لفيلم هالة خليل القصير " طيري يا طيارة"، وأجواء فيلم هالة لطفي القصير " عن الشعور بالبرودة" والطويل " الخروج للنهار".
" أخضر يابس" بطعم السينما الإيرانية التي تطرح أفكارا كبيرة دون موعظة ولا كلمات رنانة، المعتمدة على ممثلين يبدو وكأنهم لا يمثلون قدر ما يستوعبون الشخصية فتبدو كما لو كانوا يؤدون شخصياتهم الحقيقية في الحياة الواقعية. الممثلة هبة علي في دور إيمان، ، يتذكرحماد أن اختيار بطلة الفيلم لم يكن سهلاً حيث تواصل مع هبة علي لمدة طويلة دون أن يخبرها بأنه يرشحها للدور، يقول أنه كان يحاول اكتشافها على المستوى الانساني أولاً ، بعد فترة عرض عليها القيام بأداء دور ايمان ، وهو ما قابلته هبه بصمت في البداية وتردد طويل قبل أن توافق في النهاية على المشاركة مدفوعة برغبتها في خوض هذه المغامرة ، ونظراً لعدم وجود مدرب تمثيل كان على حماد قراءة العديد من الكتب ودراسة كيفية تدريب الأشخاص العاديين على التمثيل وتغيير نبرات الصوت وإجراء بروفات كثيرة حتى يمكن الوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة .
عن تمويل فيلم كهذا لا يتحمس له منتج تقليدي يشير حماد إلى أنه يعمل في منطقة صافية من السينما خالية من شوائب الرغبة في الربح أو الانصياع لتقاليد السوق، وهو ما دفعه إلى الاعتماد على نفسه في تمويل صناعة الفيلم حتى لا يتأثر بتوجهات وانحيازات شركات الإنتاج .
لم يحصل الفيلم على أي تمويل أو منح من أي جهة واعتمد على شراكة بين حماد، و المنتجة خلود سعد ، ومحمد شرقاوي مدير التصوير  حيث كانوا هم المصدر الأساسي لتمويل الفيلم، بالاضافة الى الجهد التطوعي الذي قدمه باقي فريق العمل ، و بعد الانتهاء من مرحلة المونتاج حصل الفيلم في مرحلة ما بعد الإنتاج على دعم من المنتج محمد حفظي الذي تحمس للفيلم و بدأ على الفور تمويل المراحل الأخيرة.
ويبقى السؤال كيف لفيلم كهذا أن يعرض في دور عرض تجارية يهمها فقط جذب جمهور يتعامل مع السينما كملهى في قاعة مكيفة الهواء ليضحك ويتسلى ويمضي بعض الوقت، يعود بعدها لعمله وحياته. ولهذا يأتي دور زاوية ماريان خوري ومصر العالمية بتخصصها في عرض الأفلام الفنية لجمهور خاص حين تقابله تعرف أنه مازال هناك هامش لنا نحن محبي السينما الجديدة، المتعطشين لأفلام تؤرقنا وتبقى محتلة مكانة في أذهاننا لنتقكر في شخوصها ونتشارك همومهم ونحاول جاهيدن التفكير في تغيير واقعنا والاستمرار في التمرد على ما يسمونه ثوابت أجدها ضد الحياة، وضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها . قابلت في صدفة متوقعة قبل مشاهدة الفيلم زملاء من مهنة النقد وصناعة السينما، كنا فرحين لأن هناك حدثا سينمائيا هاما نتشارك في التفاعل معه، فرحين بمحمد حماد ومحمد الشرقاوي وخلود سعد بأنهم أصروا وحققوا مشروعهم، فرحين بأنهم وجدوا محمد حفظي مساندا لتجربتهم ومن سمير فريد وهالة لطفي وآخرين داعمين لتجربتهم التي تضيف للسينما المصرية المعاصرة عناوين جديدة تدعم استمرار صناعة السينما المصرية رغم كل ما يحدث حولنا. 
في مصر الآن يعرض الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجة المؤلف محمد حماد بعد جولة في مهرجانات العالم، وبعد حصوله على جائزة أفضل إخراج من مهرجان دبي السينمائي الدولي 2016.  
                                                                                                         صفاء الليثي 
 نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 رئيس التحرير عماد الغزالي