Thursday 13 October 2016

المونتاج فى أفلام هاشم النحاس


صياغة جمالية لفنون الناس الفطرية
هاشم النحاس فنان متجدد ، يختار موضوعه ابتداء ليحتفى بالإنسان العامل ،صانعا أو زارعا أو صيادا، حرفيا ماهرا أو مفكرا وأديب. دائما يضع تمجيد الإنسان فى المقام الأول سواء كان هذا الإنسان صيادا في بحيرة أو حارسا لآثار بلده أو كاتبا كبيرا كنجيب محفوظ. ومع اختيار الموضوع يختار النحاس المونتير الذى يجده مناسبا لطريقة عمله فى الفيلم فيختار أحمد متولى أستاذ الإيقاع الذى يحول لقطات الفيلم إلى نوت موسيقية لفيلم الناس والبحيرة الذى خلا تماما من أى جمل حوارية أو تعليق صوتى، فقط مؤثرات المكان وغناء الصيادين غير المصاحب للموسيقى حيث يشكل الموال مع مشاهد الصيد وصنع الشباك موسيقى الفيلم الرئيس ويحدد إيقاعه المعبر عن شخصية هذا الإنسان الصبور المجد الراضي بحاله.

فى "واحة سيوة" اختار معه عادل منير المتمهل ليتأمل شخوصه ويستمع إليهم فى الفيلم الغنى بالمعلومات عن الواحة الزاخرة بكنوز من آثار القدماء تحكي تاريخا طويلا مع الفراعنة والرومان وحتى دخول الإسلام مصر. ليس هناك اصرار من جانب النحاس على نبذ الحوار مثلا أو التعليق بل يأخذه الموضوع والمكان بما يحتويه من عناصر بشرية وعمرانية إلى الأسلوب الذى سيتبعه فى بناء فيلمه وتكوين شريط الصوت فيه.
وهذا ما حدث أيضا فى فيلم " خيامية " مع المونتير  الكبير كمال أبو العلا الذى يكتفى بعرض ما نراه تفصيلا دونما الحاجة إلى شرح بكلمات الصناع أو إلى تعليق من خارج الصورة، فغناها يكفى لنتعرف على العمال وهم ينشئون السرادقات كمعارض متحركة يعزلها قماش الخيامية المعلق على ألواح من الخشب عن الشارع ليكون للعزاء أو لحفل زفاف أو لافتتاح معرض لبيع حلوى المولد وغيرها من المناسبات .
مع عناوين فيلم " الناس والبحيرة" 12 ق إنتاج عام 1981 نقرأ لوحة مكتوب بها : من أهالى المطرية – دقهلية، ساعد فى التنفيد شيخ الصيادين عبده السمرى، غناء الصياد محمود العاصى، موسيقى الصياد محمد العربي، هذا الغناء وموسيقى السمسية اعتمد عليها المونتير أحمد متولى ليصيغ العمل صياغة فنية خالصة من عناصر الصورة التى أبدع تصويرها الفنان محمود عبد السميع  ومن الغناء المصاحب للعمل للصياد محمود العاصى ومقاطع من عزف السمسية تلك الآلة الشعبية المرتبطة بالمدن الساحلية المصرية.
نبدأ في سماع غناء " يا رزاق يا كريم يا فتاح ياعليم " على لقطة عامة لمراكب شراعية بالبحيرة بإضاءة الفجر، تزداد  الإضاءة تدريجيا مع لقطات لتحضير شباك الصيد ثم إعداد الفطور على المركب ومعها يتلاشى صوت الغناء وترتفع أصوات الطبيعة من خرير المياة  وصيحات الطيور. يثوم الصيادون بتغيير ملابس النوم وارتداء أقنعة على الوجه لتبدأ عملية صيد السمك مع عزف منفرد للسمسية ، ومعها لقطات تلقيم الشباك للطعم لجذب الأسماك، الصيد الوفير يلقى فى السلال  مع مجروش الثلج لحفظه ثم التعبئة ، الخامات كلها من الطبيعة ولقطة واحدة لعملية  وزن السمك. اللقطات بها اقتصاد وتكثيف يلخص مراحل الصيد دون اللجوء إلى شرح بالكلمات بل  يتم تقديم صيغة جمالية قبل رحلة صيد أخرى مع مؤثر لعملية إحماء يقوم بها الجميع بمشاركة أطفال لدفع الأسماك إلى الشباك، موسيقى العمل مع صوت المياه ولحظات الصمت تخلق قطعة صوتية بإيقاع متنوع يدخل بها  إيقاع شواكيش عمل النجارين، وشيء لزوم الشيء، سمفونية عمل بالحركات وأصواتها الطبيعية ، لقطات  لعمل الحداد أيضا مع دقاته لتليين الحديد،يضيف تنويعا بالصورة والصوت،  ثم لقطة متسعة بانورامية نسمع معها نغمات سمسية الصياد محمد العربي، ثم غناء منفرد تصحبه مجموعة ويختفى الغناء تدريجيا لندخل فى دورة لعمل الحصر والحبال، وعمليات بيع وشراء لمواد لوازم الصيد. ننتقل مع قطع صوتى عال مع هدير المياه لحظة خروج الشباك من البحيرة ، نغمات السمسية مع إعداد الطعام على المركب ، صياد يصلى، صبيان وبنات يسبحون ، اللقطات فى تنوعها ترصد حركة نشطة لمظاهر حياة يومية ، وصيد منفرد فى الأحراش بشبكة صغيرة ومركب بمجداف، خلافا لصيد المراكب بالأشرعة فى عرض البحيرة. مرة أخرى مع النجارين وصنع المراكب ، ومنه مع غناء محمود العاصى" البحر قاسى" المجموعة تصاحبه ، كورس من المغنين بالفطرة وكأنهم مدربون فى أعلى المعاهد الموسيقية،  تنقلنا الصورة مع فتيات تعملن فى الخوص، الإضاءة قاربت على الغروب واللقطات تتسع فى بانوراما  تظهر المنظر العام للبحيرة بكل تفاصيلها ، لقطة بانورامية  متمهلة هى خير ختام لفيلم جمالى عن البحيرة وناسها ولسان حال المخرج هاشم النحاس وفريق عمله المصور محمد عبد السميع والمونتير أحمد متولى ( محلاها عيشة الصياد) رغم أن النهاية مع " لم المراسى يا ريس ، لم المراسى، ده البحر قاسى يا ريس، البحر قاسى"،  كلمات حزينة ولكن بها شجن يمس الوجدان مع غروب الشمس قبل أن يحل الليل. وينتهى العمل فى 12 دقيقة  لم نشعر بها مع بناء صاغه المونتير الخلاق أحمد متولى الذى نجح فى تحقيق رؤية المخرج هاشم النحاس، ولولا هذا النجاح لبقيت المادة المصورة مادة خام تفتقد الصياغة الجمالية المتحققة عبر فيلم " الناس والبحيرة" المتميز ببناء موسيقى مستمد من ناس البحيرة ومواهبهم الفطرية فى العزف والغناء.
يمثل " الناس والبحيرة" توجها قدمه المخرج هاشم النحاس ظهر مع " النيل أرزاق " فى تفضيل التعبير بالصورة والاستغناء تماما عن الشرح بالتعليق بكل أشكاله سواء كان من داخل الصورة أو من خارجها، والستعانة فقط بأصوات الواقع ومفرداته دون إقحام عناصر من خارجه مما يمنح فرصة للمشاهد للتأمل والاستمتاع بجمال الواقع وعظمة البسطاء من الناس.
تنويه هام : المقال كان مخصصا ليكون مع كتاب تكريم المخرج هاشم النحاس بدورة مهرجان الإسكندرية الأخيرة ولكنه سقط سهوا أو عمدا من النسخة النهائية بعد  أن تمت مراجعة النسخة قبل النهائية  وكان فى متنها . لذا لزم التنويه.
صفاء الليثى القاهرة 2016

 نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 11 أكتوبر 2016 بدون التنويه