Wednesday 21 July 2010

التكثيف فى الفيلم التسجيلى


داود عبد السيد 
الصراع ، وليس مجرد تراكم الصور

تخرج داود عبد السلام فى معهد السينما عام 1967، ولد عام 1946، وقدم من إنتاج المركز القومى للسينما فيلم " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " عام 1976، وفى عام 1979 قدم " العمل فى الحقل " يدور الحوار بين الصديقين ، الزميلين خيرى وداود ، العاشقين لفن السينما :
" انا حأعمل سينما جديدة ، أفلام تكسر الدنيا " .
" انت مش حتعمل حاجة أبداً. أنا حغير شكل الدنيا . من هنا حنبدأ موجة جديدة .... "
المضمون هو الأهم، والمضامين تعكس القلق و الرغبة فى التعبير، دون الالتجاء لتكوين جماعة، وبدون شعارات. ويمكننا أن نتحدث عن جيل يقدم سينما أخرى، تبدأ إرهاصاتها مع السينما التى لاتكذب، ومع ذلك تتجمل. من خلال الوظيفة فى المركز القومى للسينما التسجيلة تظهر البدايات.

بين مولد خير بشارة وداود عبد السيد عام واحد فقط ، ويبدو أن دواد يكن تقديراً للمثل الشعبى " أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة " فيتعامل من هذا المنطق ويتصرف كحكيم للدفعة المشاغبة التى تخرجت عام 67، ويسلك طريق الحكماء فيقدم فيلمه التسجيلى الثانى بعنوان " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " الذى لم ينبذ فيه التعليق الذى تعامل معه المجددون كشر مطلق، بل اٍستخدمه بشكل جديد يحقق جدلا بين فريق يعارض تعليم أبناء القرية ويعتقد أن تعليم الفلاحين يهدد سلامتهم ، وفريق آخر منحاز إليه بقوة، ويدافع عن  قضية تعليم الفلاحين وتطوير القرية إلى حد يعرضه للقتل.
" وصية رجل حكيم "
بعد أن يُهدى المخرج فيلمه إلى الدكتور طه حسين و تلامذته، يبدأ باستعراض لقرية مع موسيقى هادئه. ونشاهد لقطات ممتنوعة لممارسات الفلاحين اليومية ، ويأتينا صوت المعلق " الممثل جميل راتب ": " تبدو القرية المصرية بلا تغيير، الهدوء و السكينة .. منذ آلاف السنين.. الفلاح الفقير وخالى البال ، يملك مالا يمكن شراؤه بالمال، السلام والهدوء و السكينة و المحبة " ثم يغير من طريقة أدائه ويقول بلهجة تمثيلية : " كل الحياة الآمنة مهددة بالانهيار، فتحت الجلد يجرى تغيير خطير فى حياة القرية "، يمضى التعليق على هذا النحو ليكتشف المشاهد أن التغيير الذى يخشاه المعلق ويتبناه فريق من القرية، هو تعليم الصغار فى المدارس، وتعليم الكبار فى برامج محو الأمية، ويكشف داوود فى فيلمه عن القوى التى لا تريد أن يتعلم الفلاحون، ونراهم فى زاوية من أسفل أمام منازلهم التى تعتبر قصورا مقارنة بمنازل الفلاحين الفقراء المحتاجين للتعليم لكى يحافظوا على حقوقهم ويعرفون كيف يطالبون بها . ويقدم المخرج شخصية المعلم ابن القرية ودوره فى توعية الفلاحين الكبار وتبنيه لبرامج محو الأمية، وتواجده فى جلسات مناقشة مع الفلاحين فى قضايا عامة.
ونسمع المعلق يقول : مال الفلاح و السياسة ؟، ويستمر المخرج فى توضيح ربط التعليم بالتطور من خلال المدرس ، بينما الرأى الاخر مستمر من خلال التعليق : " يريد تغيير ما خلقه الله ، اعزلوه .. فهو مفسد شرير" . الصورة للمدرس فى لقطة عامة يسير مع تلاميذه الصغار ممسكا بحنو يد أحدهم وحوله باقى التلاميذ و التمليذات.
المدرس مع فلاح يحكى كيف عرضوا عليه مبلغ " 500 جنيه " لكى يقتل المدرس، لكن الفلاح يُعجب به ويصبح صديقا حميما له.
يستمر داوود فى عرض فوائد التعليم من وجهة نظر الفلاحين، ويقاطعه المعلق الذى يمثل القوى المعارضة، يقول عنهم فلاح: " الناس اللى مش من مصلحتها إن الفلاحين يتعلموا " .
يضرب بهم مثلا بلقطة مأخوذة بزاوية من أسفل لرجل من الأثرياء فى بيته الفخم وبعده موكب المدرس حاملا- الكلوب– مصباح الاضاءة يعمل بالكيروسين، كرمز لنور العلم الذى يحمله المدرس إبن القرية، فى عدة لقطات له سائرا فى ليل القرية مارا على منازلها حاملا الكلوب .
يستخدم دواد رسومات ثابتة تدعو لمقاومة التعليم وشنق الداعين له ، تُذكرنا بشقاء الفلاحين وهم يحفرون القناة بالسُخرة، هذه اللوحات طلبها خصيصا من الفنان التشكيلى فخرى الليثى، خريج فنون جميلة دفعة 1964 من نفس جيل داوود وصديقه وقتها، اللوحات وهى بطريقة الجرافيك حفر بالأسود، يقدم بعدها مشهدا لتعليم الكبار فى فصول محو الأمية، يقرأون سورة " إقرأ " من القرآن الكريم فى صمت نرى شفاه الفلاحين تردد الآية الكريمة ، ثم عودة لمجموعة لقطات لتعليم الصغار ، وينتهى الفيلم بمشهد يضم الفلاحين من الكبار و الصغار يشيرون لقافلة الفيلم مودعين .
يقول داود : لكل منا طريقته فى التفكير ، كنت أكره التعليق الغالب على أفلام الفترة التى سبقت عملى فى الفيلم التسجيلى ، كان التعليق عادة رسمياً جدا ، أقول عنه " صوت ربنا ".. صوت لا يأتيه الباطل أبداً، وهو يناسب المنهج الإعلامى و الأنظمة الشمولية، وحدث تغيير لجأ إليه عدد من المخرجين بأن يستنطقوا الناس العاديين، جعلوا الشخصيات العادية تتحدث، كانت هناك صعوبات تقنية كثيرة، وكان العمل يتم بوسائل بدائية ويخرج الصوت رديئا وغير متزامن مع الصورة، ثم ظهرت أفلام تستغنى تماما عن التعليق كرد فعل لمشاكله، وظهرت محاولات لعمل شكل جمالى بعيدا عن التعليق، أما فى فيلم " وصية رجل حكيم " فان طبيعة الموضوع فرضت وجهتى نظر، فكرت فى استخدام التعليق للتعبير عن وجهة النظر المسكوت عنها ، لتظهر بشكل واضح وفج، وفى نفس الوقت أردت اللعب على تراث السينما التسجيلية الذى يظهر فيه التعليق معبراً عن وجهة نظر ربنا– الحقيقة المطلقة– وأترك المشاهد للحظات يُصدق فيها هذا المنطق، بعدها يرى وجهة النظر، فما هو موقفك؟".
يحصل الفيلم على جائزة التحكيم الخاصة من مهرجان الأفلام المصرية التسجيلية والقصيرة لعام 1977، وجائزة اتحاد النقاد المصريين فى نفس العام مناصفة مع فيلم زميله خيرى بشارة " طائر النورس ".
يقول دواد : اخترت لعمل فيلم " وصية رجل حكيم فى شئون القرية و التعليم " محافظة كفر الشيخ ، فوضعها متوسط، ليست نائية تماما، ولا تكون المشكلة فيها محلولة مثل محافظة المنوفية، بل محافظة تجمع عدة بيئات، صحراوية وساحلية وريفية، تجولت بها حتى وصلت إلى هذه القرية حيث وجدت " الصراع " وهذا هو المنسى فى السينما التسجيلية. فى المهرجان الأخير شاهدت مجموعة أفلام تسجيلية عبارة عن تراكم بالصور، الفيلم التسجيلى يعنى القبض على صراع موجود فى الواقع، و السينما التسجيلية تبحث عن صراع موجود فى المجتمع، قد يكون صراعا مع الطبيعة ، بين الناس ... دراما، لابد من وجود صراع يجذب المتفرج لمتابعة الفيلم مهما بلغ طوله، الدراما هى البعد الغائب عن الأفلام التسجيلية الحالية، وهى مشكلة تقنية وليست مشكلة أفكار ".
" العمل فى الحقل "
ورغبة فى الابتعاد عن قضايا إجتماعية قد تثير المشاكل فى مجتمع يتغير، فكر المخرجون فى تقديم أفلام عن الفنانين التشكيليين، اختار داود المصور حسن سليمان فكان فيلم "العمل فى الحقل " الذى يبدأ بصوت المعلق على شاشة سوداء : " أمس قال لى حسن أنه سيحدثنى عن نفسه ، وسيشرح لى ما كان غامضا على ، وتركنى فى الحجرة وحدى ، وفجأة .... " – عند كلمة " فجأة "نرى لوحة فى العمق وتتحرك الكاميرا عبر الشاريوه مقتربة من لوحة " الحساب الأخير" حتى تصبح اللقطة متوسطة بعدها – وفى حركة " بان " – تستعرض الكاميرا اللوحة ، و التعليق يقول " كان كل التلاميذ مقنعين إلا المسيح، حسن يقول إن كل البشر مقنعين إلا الأنبياء و الفنانين، إن القناع إذا تمزق أسفر عن وجه واضح، أما خلف وجه الفنان فأعماق ليس من السهل الغوص فيها – التعليق يمثل رأى ذاتى للمخرج، وبصورة مركبة تتداخل أراء حسن سليمان التى قالها للمخرج مع ما كتبه فى مقالاته، فالفنان حسن سليمان لا يرسم لوحات رائعة فقط بل هو فنان مفكر، حفر اسمه فى ذاكرة داود بعد أن شاهد لوحته " العمل فى الحقل " التى يقدمها لنا المخرج فى لقطة عامة ثابتة : النورج تسحبها بقرتان و الفلاح فى خلفية الصورة أعلى منتصف اللوحة.

الموسيقى السيمفونية تربط المشاهد معا، الكاميرا تستعرض الحوائط ، رفوف عليها تماثيل، ثم فى العمق يتم القطع على لقطة أخرى للوحة، أنابيب الألوان و الفرش ( أدوات الرسم ) تثبت الكاميرا متأملة هذه التفاصيل ثم تتحرك فى بان حتى تصل إلى الفنان متأرجحا على كرسيه فى وضع متأمل تنقلنا نظرته المتأملة للوحة – عارى – وحركة رأسية من أعلى إلى أسفل " تلت دوان Tilt Down " ثم تفاصيل اللوحة، ثم لوحة أخرى، وعند هذا الحد يتدخل صوت المخرج، ويقوم بدورة المعلق عبد الرحمن على : " كنت قد شاهدت بعض لوحاته الحديثة وذهبت ليوسف صبيح أحد مقتنيى أعمال حسن " .. هنا يتم القطع على الرجل الذى يحكى لنا عن حسن شارحا أسلوبه الفنى .
فى الشرح الذى قدمه المقتنى لأعمال حسن سليمان يذكر بداياته الأكاديمية واستعماله للألوان الذى تطور بعد ذلك وتسيدت الرماديات لوحاته، ينقل لنا داود عبر كاميرا علي الغزولي هذا الجو الرمادي أثناء تقديمهم لمنزل الفنان في بدايات الفيلم ، وعندما نصل للنهاية وتزامنا مع التعليق : " حسن هو الذي يقول أن الفنان يمتلك الشرط الإنسانى الذى يأبى الهزيمة والحزن، لذلك فان حسن في لوحاته دائما يحفر مساحة صغيرة من الضوء"،عندها نرى نفس اللقطة وقد طغى ضوء برتقالى على المشهد الذى كان رماديا.

الصورة التي صورها الفنان علي الغزولي وهو المخرج التسجيلى الكبير والفنان التشكيلى ومدير التصوير السينمائى في فيلم داود عبد السيد"العمل في الحقل" لا تقل جمالا عن أعمال الفنان نفسه، حركة الكاميرا باستخدام الشاريوه تنقل المنزل بتفاصيله أحجام اللقطات تعطي تنوعا للمشهد وتشكل إيقاعا موسيقيا بين اللقطات الاستعراضية واللقطات الثابتة، الموسيقى المستخدمة ليست دخيلة على المشهد، ففي مشهد لاحق نرى الفنان يضع أسطوانة، ثم نراه في شرفة مرسمه سارحا في حالة من السكون التى تسبق عاصفة الإبداع ، الموسيقى تُسلم للتعليق والتعليق ينتهي ليبدأ حوار الشخصية، لا توجد في الفيلم لحظة واحدة أو خلجة يمكن الاستغناء عنها ، داوود يحقق في فيلمه التسجيلي ( 23 ق ) شرط نجاح القصة القصيرة : لا ثرثرة، ولا تزيد من أى نوع وعلى المشاهد أن يكون يقظا حابسا أنفاسه لتصل إليه رسالة الفيلم كاملة.
يقول داود : تعليق فيلم " العمل في الحقل " ذاتى وليس موضوعيا، ذاتى بمعني أنه يمثل وجهة نظر مخرج يحاول عمل فيلم تسجيلي عن المصور الرسام ، ووصف معاناته الشخصية لعمل الفيلم ، الحوار الدائر بين تعليق المخرج وكلمات حسن سليمان أسلوب يحقق الجدل بين ما يفكر فيه المخرج وبين الواقع والهواجس والأسئلة الشخصية لدي الفنان، عملت بهذا الأسلوب لانني أحب التكثيف في الفن لا أحب السينما المسطحة– بعيدا عن الأيديولوجيات– فليس الفيلم الذي يقدم وجهة نظر تقدمية هو هدفى، ولكنني أقصد بالتكثيف عمل فيلم له عدة مستويات ويحتاج لتفكير وانتباه المشاهد".
نعود للفيلم لنري كيف يضفر المخرج مشاهده : الفنان في لقطة عامة يدير أسطوانة، نسمع موسيقي كلاسيكية، لقطة قريبة للأسطو انة وهي دائرة كوسيلة إنتقال، ثم حسن سليمان جالسا في شرفة مرسم، تتمهل الكاميرا عنده قليلا ثم تتسحب لتنقل أجواء المنزل، ويؤكد التعليق على عزلة الفنان وينقل لنا أسئلته وإجاباته من مقاطع من كتاباته التى درسها داود بعناية : " يدرك الفنان أن الفن صعب والعمر قصير " يأخذنا التعليق إلى عالم الفنان الداخلي أثناء التجول مع محتويات المرسم، الكاميرا تدور في إحساس دائرى، ونفاجأ بالفنان يعمل في لوحة.
المشهد السابق تجمعه وحدة الفكرة، فكرة عزلة الفنان التي يناقشها المخرج دون ثرثرة سينمائية وعبر تكثيف للقطات في إيقاع مشدود للغاية مع غنى تفاصيل الصورة وشريط الصوت ، وأهمية كل كلمة.
تسود الموسيقي مع نهاية المشهد وتستمر علي المشهد اللاحق حيث يسير حسن وحيدا في شوارع القاهرة، يتناول الأيس كريم ، ثم يتوقف ليشتري لعبة، وينتهي المشهد بلقطة قريبة له ممسكا باللعبة سعيدا مثل طفل، ونرى بعدها بداية وحدة مشهدية جديدة، تبدأ بصورة لحسن وهو طفل رضيع ثم صورة له وهو أكبر وصورة ثالثة مع والديه، ويأتينا صوت الشخصية تتحدث لأول مرة :" الواحد عاوز يفتكر طفولته .... ".
وهكذا لا يتم القطع بشكل متعسف، فكل شي خاضع للمنطق، والشخصية لا تقول أى كلام، كلمات مختارة متفق عليها في جلسات سابقة، حكي حسن يصل بنا الي سر شخصيته المتمردة : كل ده إدى الطفل الصغير التمرد والعناد علي المقاييس اللي كانوا عاوزين يحطوها، وإللى فضل بس هو حب الواحد لمصر ".
قطع على مشهد في حواري القاهرة، وحسن سائرا وخلفه بائع العرقسوس ثم صانعوا النحاس ... جو كامل تتحرك فيه الشخصية وينقلها لنا المخرج لنقترب من عالم الفنان حسن سليمان .
مشهد يناقش معني إلتزام الفنان الذى لا يرسم سوى الورود والكمثرى، وشرح من الفنان عن درس أعطاه له أستاذه عن الإقتراب من أبناء بلده – لا ليرسمهم بالضرورة، ولكن لتكون هناك مساحة للتعبير بتلقائية عن معان كالحب والحرية والعدل والكرامة، أثناء حديثة يقدم لنا داود مشهدا بديعا للعجوز يعمل علي نول يدوى في الهواء الطلق، ويبدو كحكيم يغزل في الأساطير، وقبل ان تندهش من سحر اللقطات لا تنس أن علي الغزولى المصور والمخرج التسجيلى فنان تشكيلى في الأساس نجح مع المخرج وعبر لغة السينما أن يقدما تنويعات من اللقطة العامة والقريبة والمتوسطة لشخصية حقيقية وجدت بالصدفة في طريق العاشقين فنقلاها لنا بكل الحب، وكانت خير تعبيرعن آراء حسن سليمان النظرية. كل هذا الثراء ولم يمض من الفيلم سوى بضع دقائق، وما زال لدينا المشهد الذى يرسم فيه أمامنا إحدى لوحاته بعد أن شحنته مشاهد الحياة التي رأينا بعضا منها. يسكت التعليق والحوار وتصاحبنا الموسيقي فقط لنحبس أنفاسنا ونحن نشاهد عملية الخلق الفني البديع للوحة من الطبيعة الصامتة لثمار الكمثرى الخضراء على نسيج حريري بنفسجي، إيقاع المونتاج الرائع للمونتير أحمد متولى لتنويعات اللقطات التي قدمها له كل من المصور والمخرج بسخاء ، يتصاعد مع لقطات حسن القريبة مندمجا في عمله بكل تركيز.
أجهدنا المشهد ولا توجد مساحة لالتقاط الأنفاس، خاصة أن الفيلم ينقل لنا الحاضر عبر تحركات الفنان وممارسته لعمله وحياته والزمن الماضي بالاستعانة بالصور وحكي حسن، نشعر بأن حسن لا يكف أبدا عن العمل حيث نراه يخطط بقلمه أثناء تناول إفطاره، ونقترب من النهاية وداود يتساءل : " جُهد ما زال علي أن أبذله ... وتذكرت قول حسن إن خلق عمل فني في حد ذاته رحلة مميتة ".
ينتهي الفيلم بمشهد لاستحمام الخيول في نيل القاهرة ، الحصان الجامح يصهل سعيدا بعد الحمام ويسوقه صاحبه المستحم أيضا، ونسمع التعليق في لغة شعرية : الحياة دائما كدورة النورج في الحقل – كذلك هو دائم العمل لا يكل – الحصان يصهل – لا يتوقف لأن بقاءه في العمل .. في الحقل ".
ومن بحر النيل إلى بحر حسن المرسوم في لوحات خضراء رمادية ، عدة لوحات للبحر يتساءل معها المخرج : لماذا يرسم حسن البحر ؟.
السؤال أجاب عنه الفيلم كله الذى لم يتوار فيه المخرج ، بل قدم حوارا أشبه بجدل مع فنان يعمل في حقل فني آخر، فنان مصور رسام رأى فيه السينمائي نفسه.
يقول داود :" نتيجة عدة جلسات مع حسن سليمان والتحضير للفيلم، قرأت ما كتبه من مقالات وتناقشا واتفقنا علي الحديث عن أجزاء معينة، وما حكاه لي سابقا أعيد تصويره، وحتي التعليق كان جاهزا طبعا تكون هناك مقترحات أثناء التصوير وفي المونتاج .. والوعي في الفيلم التسجيلي يكون بعدم تزييف الواقع، بإحضار شخصية تمثل مثلا أو يجعل الشخصية تقوم بأداء ما لا تقوم به في حياتها الحقيقية، ومن الطبيعي أن يعمل المخرج تحت أي ظروف ، لكن لابد من المعاينة والتحضير ".
يكتب داود السيناريو لفيلمه التسجيلي علي الورق بعد المعاينة، فلا تكون هناك مشاكل فى التصوير ولا فى المونتاج إلا فيما يتعلق بتقنيات جودة الصوت المسجل وتزامنه مع الصورة– وقتها كانت توجد مشكلة فى المعدات – وهناك جهود مع المعمل لتحقيق أعلي جودة للصورة بالإضافة لبعض المشاكل الإنتاجية.
فريق عمل فيلمه "وصية .." ...21 ق – إنتاج 1976، المكون من سعيد شيمي للتصوير، عادل منير للمونتاج ، وجهاد داود للموسيقى،فخرى الليثى للوحات ، سيتغير بالكامل مع فيلم " العمل في الحقل " ..23ق... إنتاج 1979، فيعمل معه علي الغزولى في التصوير وأحمد متولى فى المونتاج، ويوسف عزيز في الموسيقى. ومع تغير فريق العمل لا يتغير المنهج الذى اختاره الفنان السينمائى أسلوبا لعمله، المنهج الجدلى المكثف الذى يعمل على إثارة العقل ودفع المشاهد للتفكير فى القضايا المعروضة.
يقول داود : " عمل الأفلام التسجيلية كان سلاحي ووسيلتي لأعرف بلدى وناسى ... وأنا مخرج صغير لا يعقل أن أقعد مع حسن سليمان على قهوة مثلا، وكان عمل فيلم عنه هو وسيلة لمعرفته. العمل في حقل الفيلم التسجيلي يمثل طُرقا مختلفة للدخول في عوالم أخرى، عالم الفلاحين فى " وصية رجل حكيم " وعالم كبار الفنانين فى " العمل في الحقل "، لم تكن رغبتى فقط أن أكون مخرجا، بل أن الذهاب لرؤية أماكن وشخوص كانت متعتي ".
                                                                  
حاشية: عملت فى فيلم " العمل فى الحقل " بعد تخرجى بعام أو أكثر كمساعد مونتير، وكانت متعة العمل الذى كان يجرى فى حجرات المونتاج باستديو الأهرام على جهاز الموفيولا متعة لا توصف، وبعد أكثر من عشرين عاما حين اتجهت للنقد وفكرت فى الكتابة عن الأفلام التى لايعرفها أحد بتشجيع من محمود الكردوسى رئيس تحرير مجلة الفن السابع وبتشجيع من رئيس مجلس إدارتها محمود حميدة تذكرت بدايات خيرى بشارة وداوود عبد السيد، كانت المشاهدة صعبة لعدم وجود DVD ، وكان لزاما التقدم بطلب للمركز القومى للسينما لكى يسمح لى باستعارة نسخة فيديو من الأفلام، أو مشاهدتها بالقاعة ، ثم مقابلة المخرج وتسجيل حوار معه، ألتقط صورا بكاميرا متواضعة لدى، وأبحث عن صور ثابتة للفيلم، الملف الصحفى للفيلم التسجيلى لا وجود له، فهو صنف مهمل ولا يشاهده أو يكتب عنه أحد، بعدها أدمجت الحوار مع عرضى للفيلم، لست صحفية دارسة لفن المقال، ولكنى عرفت بعدها أن ما أكتبه هو نوع من المقال الصحفى يسمى French article بالمقال الفرنسى، وكدنا نتوقف فى الفن السابع عن باب "جماليات السينما التسجيلية المصرية " اعتقادا من مديرة المجلة مها درويش أنها ليست محل اهتمام، حتى جاء أفراد عديدون يطلبون أعداد المجلة وخاصة التى تحوى هذا الباب فاستمرينا وتوسعنا ليصبح تحت مسمى "السينما الأخرى" ليضم كل أنواع الروائى القصير، التحريك والتسجيلى. يمتلك المركز القومى كنوزا منها ولكن نسخ العرض قد تحولت ألوانها بفعل الزمن. ولدى الباحث المدقق مجدى عبد الرحمن مشروع كبير لعمل ألبومات لكل مخرج يبدأ بطبع نسخ جديدة ونقلها على أسطوانات مدمجة. كنوزنا كثيرة، ولكنها ضائعة ولا معنى للتفكير بى مقر للأرشيف دون الاهتمام بنسخ الأفلام التى توضع فى هذا الأرشيف، أو السينماتيك، فحتى المدافن تحتاج جثثا لكى يصبح لوجودها معنى.

Sunday 18 July 2010

" لعبة " 7ق وجائزة لجنة التحكيم من المهرجان القومى للسينما المصرية أبريل 2010


                 مروى زين
هوية عربية مركبة
فى تقديمها لشخصية فيلمها التسجيلى " راندا " وصفتها بأنها تحمل " هوية عربية مركبة" فهى فلسطينية الأب لأم مصرية ، تعيش فى القاهرة بعد دراستها فى بيروت. المخرجة السودانية مروى زين خريجة معهد السينما بالقاهرة تحمل نفس الصفة فهى ذات هوية عربية مركبة. تشغلها فكرة الانتماء العربى وترغب فى أن تكون أول مخرجة سودانية تحقق فيلما يحمل هموم أهلها وناسها فى السودان. حصل مشروع تخرجها "لعبة" من المعهد العالى للسينما فى مصر على جائزة لجنة التحكيم من المهرجان القومى الأخير. جنسية الأفلام وهوية المخرج لم تكن أبدا محل نقاش فى مصر إلا فى السنوات الأخيرة، حتى أن البعض تساءل عن أحقية السودانية مروى زين فى الحصول على جائزة من المهرجان القومى للسينما المصرية. مشروعات التخرج هى إنتاج يخص المعهد والأكاديمية المصرية رغم ما يُسهم به الطلبة فى ميزانية الإنتاج، وعليه فإن فيلم " لعبة " هو إنتاج مصرى خالص يستحق المشاركة والحصول على الجوائز. دعم المواهب العربية فى مجال الفنون دور كبير تقوم به أكاديمية الفنون بمصر وقد تخرج من معهد السينما المصرى عدد كبير من فنانى السينما على مستوى العالم العربى، بعضهم عاد لبلده وشارك فى حركتها السينمائية، وبعضهم بقى مثل المخرج سعيد حامد السودانى الجنسية، مصرى الهوى صاحب أفلام الحب فى الثلاجة، ورشة جريئة، وصعيدى فى الجامعة الأمريكية. منخرطا فى صناعة السينما المصرية كواحد من أبنائها.
عملت مروى زين ضمن ورشة الأستاذ على بدرخان الذى يفضل أن يعتمد الطالب على نص قصصى يبنى عليه سيناريو مشروعه ليضمن حدا أدنى من التماسك الدرامى الموجود بالقصة الأصلية. اختارت مروى قصة "لنلعب لعبة" للإيطالى ألبرتو مورافيا، وقامت بتمصيرها لتدور اللعبة بين أم وابنتها، الأم مطلقة ولها علاقة متوترة بآخر. 

تبدأ مروى فيلمها من لحظة توتر حادة تتعارك فيه الأم مع الصديق ابراهيم خارج الكادر قبل أن تدخل بيتها حيث ابنتها المنتظرة.
الأم وتقوم بالدور ليلى سامى عصبية جدا وغير متجاوبة فى الحوار مع الطفلة التى تعرض على أمها لعبة تبادل الأدوار، أنا انت وانت أنا، توافق الأم وتندمج الطفلة فى اللعبة لتكشف مروى عن حجم الأخطاء الذى تقوم بها الأم عادة، وتنتهى اللعبة وقد أعطت الطفلة درسا لأمها ولنا نحن المشاهدين من الكبار تنبهنا إلى ما نرتكبه من أخطاء تضر بنفسية الصغار. زمن عرض الفيلم 7 ق وهو من أقصر مشروعات التخرج التى تتراوح عادة بين عشر دقائق وربع الساعة مصور بخام السينما 35 مللى إذ يُعد الطالب للعمل فى سوق صناعة السينما وبتقنيتها. 
يدورفيلم " لعبة " فى شقة الأم والابنة فقط دون مكان آخر، وفى زمن لا يتخطى الساعة. وحدة المكان والزمان تمثل عادة تحديا للمخرج ليكثف أفكاره، وفيها يتم الاعتناء بالتمثيل، وكانت الطفلة روفينا عزت شديدة البراعة فى أداء دورها وكأنما وُلدت لتمثل. تقول مروى زين أنها قبل تصوير الفيلم فشلت فى العثور على من تقوم بدورالطفلة وكادت تيأس تماما إلى أن التقت صدفة بطفلة تسير مع أمها فى منطقة وسط البلد، سار كل منهم فى طريقه وعادت فالتقتها ،ابتسمت لها الطفلة سألتها مروى هل ترغبين فى التمثيل؟ فقالت نعم. دارت عدة جلسات مع روفينا فى حضور والديها وأصبحت مروى مقتنعة بأنها مناسبة تماما للعب دور رنا فى لعبة. حتى أن أدءها طغى على أداء هالة الأم وتفوق عليه مما خدم الفكرة عن الطفلة التى لقنت أمها درسا فى الحياة. أدار تصوير الفيلم وليد جابر وقامت بعمل المونتاج رضور على وهما زميلى مروى فى الدفعة من معهد السينما يحكمون على عملهم فى المشروع ومعهم ابراهيم شامل الذى مازال طالبا فى معهد الكونسيرفتوار ويقوم بالتأليف الموسيقى لعدد كبير من الأفلام القصيرة لزملائه مستخدما عازفين أكاديميين، فريق العمل، المخرجة ومدير التصوير والمونتيرة ومؤلف الموسيقى، كلهم أجادوا عملهم القصير" لعبة" كنموذج لما يمكن أن يقدموه فى سوق السينما لو أتيحت لهم الفرصة.
حين سئلت مروى فى ندوة جرت بجمعية النقاد عن اهتمامها بالأدب، أجابت وهى محرجة عفوا اعذرونى أنا أفضل الأدب الغربى وأقرأ لكتاب عرب وكاتبات أحب كتابات هدى بركات..كانت تتردد وكأنه لزاما عليها أن تحب يوسف إدريس، وغيره من الكتاب المصريين كأغلب زملائها. وهى صادقة مع نفسها ومعنا، وطموحها لتقدم فنا سودانيا ليس حقها فقط بل واجبها تجاه وطن به من المثقفين والأدباء المبدعين، ما يشى بوجود قدرت إبداعية يمكنها أن تظهر فى السينما أيضا إذا ما توفرت الشروط والرغبة لتحقيق ذلك. 
ونعود للفيلم التسجيلى "راندا " عن المصورة راندا شعث . 
تعرفت مروى زين عليها من خلال معرض 
لها أقيم فى القاهرة، اقتربت منها، نمت بينهما صداقة ظهرت فى مشروعها التسجيلى المقدم ضمن دراستها بمعهد السينما، به مادة ثرية من صور راندا، وعرض قريب لشخصيتها المقتحمة غناها بالروافد الثقافية المتعددة. استخدمت مروى زين فى الفيلم موسيقات عربية مختلفة جزائرية ومصرية ولبنانية للتعبير عن التناغم العربى كما يتضح من صور راندا شعث نفسها التى تقترب فيها من الناس فى أمكان عربية مختلفة من ريف مصر،إلى مخيمات فلسطين، إلى الجزائر. فى الفيلم تطالعنا راندا شعث بابتسامتها الصافية وخجلها من أن تكون موضوعا لعمل مصور وهى التى اعتادت على الوقوف خلف الكاميرا.
قدمت مروى فيلما آخر"سلمى " عن شخصية تضيع فى الإدمان، لا يرقى للعملين السابقين كانت تجرب فيه فقط أدواتها كمخرجة سينمائية.
تندمج مروى فى سوق صناعة الفيلم، تدربت وساعدت فى أعمال فنية بمصر ولبنان، تجمع خبراتها لتكون قادرة على تحقيق طموحها لعمل أول فيلم روائى سودانى عن قصة سودانية.

صفاء الليثى

Sunday 11 July 2010

أبناء بينوشيه: الجيل الذى أزاح الديكتاتور

الفيلم التسجيلى
وسيط معرفى
ومحفزعلى النضال

فى نهاية الثمانينيات تدعو الحكومة لاستفتاء -لا أو نعم- للجنرال ليبقى ثمانى سنوات أخرى فى الحكم، اتحدت المعارضة وقالت لا .
ليس هذا حلم يقظة بل هو ما ترصده المخرجة باولا رودريجيث فى الفيلم التسجيلى "أبناء بينوشيه " 80 ق والذى عرض بمصر فى إطار مهرجان "بين سينمائيات " لقاء المرأة العربية اللاتينية فى دورته الثالثة لهذا العام. أسسته المخرجة المصرية الشابة أمل رمسيس ونجحت فى أن تعرض أفلامه مصحوبة بترجمة عربية –قامت بها بنفسها- فبلغت الاستفادة من مشاهدة الأفلام مداها، وأعيد عرض الفيلم ضمن نشاط النقاد كونه نموذج لما يجب أن يكون عليه الفيلم التسجيلى الذى لا يكتفى بعرض شهادات لمن عاصروا أحداثا ما، بل بمزجه الفنى بين الوثيقة الحية واللقاء مع من شاركوا فى الأحداث فى بناء درامى كفيلم روائى يبدأ بمقدمة ويصل إلى ذروة ثم نهاية منطقية لما حدث لثلاث رفاق جمعتهم المخرجة بعد ثلاثين عاما من الأحداث التى أطاحت بسيطرة الدكتاتور بينوشيه . 
                                                                   المخرجة باولا رودريجو
استعرضت المخرجة وهى واحدة من هذا الجيل نفسه حقبة هامة فى تاريخ تشيلى بادئة بيوم الانقلاب على سلفادور الليندى أول رئيس يسارى منتخب فى حكومات العالم. 
فى البداية نسمع صوت كارلا على لقطات للبحر، جيل كامل هو جيلنا، أرانا كما كنا كارلا بولى وجويك. إنهم جيل الثمانينيات فى تشيلى نما وعيهم فى سنوات الدكتاتور. كل يحكى عما عاصره وكان جزءا منه، ستخرج بعد مشاهدة الفيلم وقد امتلأت بالمشاعر، وازددت معرفة، هل حقا انتحر سلفادور الليندى، يصحح الفيلم ما قد تكون تعتقده إذا كانت لديك بعض المعلومات. وستحصل على المعلومات كلها مرتبة ومحققة بالوثائق الحية إذا كنت صفحة خالية لا تعرف أى شيء مسبق عن نضال المعارضة التى قادها اليسار فى تشيلى. تحت عنوان تمرد الثمانينيات تسمع غناء ثورى ممتزجا بهتافات من مشاهد حقيقة. صور التمرد وقنابل تفريق المظاهرات. وثيقة حية تبدو كلقطة من فيلم جبار لثائر يقرأ بيان الثوار، استخدم الشعب حقه الشرعى فى الاحتجاج على النظام، وتمتد يد لتخبئه خلف باب قبل وصول البوليس، يخرج من باب آخر ليكمل البيان، حميمية الثورة تنتقل إليك، انضموا إلى حلبة الرقص مقطع من أغنية شبابية للثوار. بعد وقفة موسيقية فى إيقاع مثالى، قطع فنى ويدخل صوت كارلا الجوع وعدم الرضا بسبب القمع يتحدان فينفجر البلد ، إنها سنوات الثمانينيات حيث بدأ الثلاثة كارلا ابنة وزير داخلية حكومة سلفادور الليندى، وبولى ابن القائد الشيوعى وطبيب الليندى الخاص، وفوجيك بمظهر يشبه جيفارا، ابن 16 عاما عند حدوث الانقلاب العسكرى على حكومة الليندى المنتخبة. 
وبداية عملهم الطلابى ونضالهم السياسى، كيف تحررت الجامعات من الديكتاتورية بانتخاب العمداء وليس تعيينهم قبل أن تتحرر البلد. مشاهد حية لنضال الثمانينيات فى جامعة تشيلى الحرة هكذا يهتفون فى الوثيقة. لا تتعجب من أين حصلت المخرجة على هذه الوثائق، فهى التى خرجت من تشيلى إلى ألمانيا وعملت فى التلفزيون واكتسبت خبرة جعلتها لا تُقدم على عمل فيلم وثائقى بدون جمعها لوثائق حقيقية. كوجيك يحكى كيف كان كره الديكتاتورية يمنح الثوار القوة. مرة أخرى غناء ثورى بمزج عبقرى مع لقطات للثوار الثلاثة الآن بعد 30 سنة من الأحداث. فن المونتاج فى أروع صوره مازجا الصوت والصورة . تستعين المخرجة بمحلل سياسى اسمه مانويللا من جريدة معارضة لبينوشيه، يعلق ويزيد الشرح شرحا. إنه الجيل الذى تشكل أيديولوجيا من خبرة الدكتاتورية، بمعنى أن مصدر وعيه السياسى نشأ من المعايشة الشخصية للظلم. ويكمل جويك شبيه جيفارا كيف أن ثلاثتهم تخلصوا من الصيغ الجامدة لليسار الماركسى فتجاوزوا كونهم قيادة للشيوعية ليصبحوا قيادة للمعارضة كلها. يؤكد المحلل السياسى أن كارلا ووبولى كانا رمزين لحكوة الليندى، وأن كوجيك بمثابة الروح الحرة التى توقظ داخلك عاطفة كبيرة. نكتشف من التحليل أمورا مشتركة بين الناس فى تشيلى ومصر، كحبهم لمن يأمر، واستخدام بينوشيه لخبثه الفلاحى يذكرك بالسادات، وخاصة عند جزء تورده المخرجة من خطاب لبينوشيه يتحدث فيه عن دولة القانون التى ستختل إذا مسه أحد. تكمل كارلا أن هدفه هو البقاء فى الحكم فقط بينما يشاركه اليمين ووزراء الاقتصاد والمال الحكم الفعلى للبلاد. وعن استراتيجيتهم التى توجت بالخصخصة. لا تغفل باولا رودريجيث مخرجة الفيلم عرض مؤيدى بينوشيه من البرجوازيين أصحاب المصالح، تعرض مظاهرت تأييدهم رافعين الأعلام. كمدخل لذروة الفيلم وذروة الأحداث فى الفصل المعنون بصيحة الرفض لا ، عندما تدعو الحكومة للاستفتاء كمخرج ديمقراطى لأزمة الدكتاتورية وتكون النتيجة لصالح المعارضة. كما تُظهر إحدى المؤيدات تكاد حنجرتها تنفجر وهى تصرخ نحن أبناءك المخلصين لا نريد شيوعيين فى هذه البلاد. إيقاع الفيلم يتوازن بين مشاهد اللقاءات مع الأبطال الثلاثة وخاصة وهم يسيرون على البحر، وبين الوثائق والتعليق عليها. يحكون عن القبض عليه فى انجلترا وتوجيه تهم الإبادة الجماعية له، كيف عاد على كرسى متحرك ليثير الشفقة ويدعى أنه ضعيف وغلبان،كوجيك يقول إنه عار على القوات المسلحة التشيلية كيف اختاروه قائدا، يفلت من العقاب فى بلده فقد نجح فى أن يمنح نفسه حصانة مدى الحياة قبل أن يترك الحكم .
كل المعلومات السابقة نسمع شرحا لها ونشاهد الوثائق الدالة عليها، وتنهى المخرجة الفيلم بشرح الدور الحالى الذى يقوم به كل منهم، كارلا تعود للسياسة بعد أن فهمت روح الاشتراكية فى احترام الإنسان، بولى يترك تجارته الناجحة ويعود للسياسة، كوجيك ممثلا ومخرجا مسرحيا لأعمال من تأليفه، الثلاثة سائرين على البحر متطلعين إلى المستقبل. تهدى المخرجة فيلمها لابنتها تأكيدا لتوجهها نحو المستقبل. أبناء بينوشيه إنتاج عام 2002 مشترك بين تشيلى وألمانيا العمل الرابع لمخرجته، يثير غيرتنا على المستوى الفنى والنضالى ويعيد للفيلم التسجيلى دوره المعرفى والتحريضى.


Friday 9 July 2010

" بحلم يادنيا بجد " فيلم روائى قصير


 بساطة الفكرة
وخصوصية الأسرة المصرية

فى إطار نشاط نقابة الصحفيين تقام عروض فيلمية وندوات،  وفيها شاهدت الفيلم القصير " بحلم يا دنيا بجد" للثنائى الكاتب ماهر زهدى والمخرج سامح الشوادى وهو عملهما الثالث بعد البداية القوية بفيلم " هوه النهاردة إيه" الذى تناول علاقة عنصرى الأمة من خلال شخص أقرب للالتزام الدينى الإسلامى، ومسن مسيحى هاجر أبناؤه وعاش وحيدا على كرسيه المتحرك، وعن طريق اتصال تليفونى خاطئ تنشأ علاقة إنسانية بين "كمال أبو رية" وحسن عبد الحميد بطلى العمل القصير الذى ينتهى نهاية حالمة بالشاب المسلم يحقق حلم العجوز بالذهاب للكنيسة كما يصحبه فى جولات بأماكن هامة فى القاهرة . جاء العمل الثانى"نجاملكم فى الأفراح " أقل تألقا وكان أقرب لجو المسلسلات التلفزيونية شكلا وموضوعا.
أما الثالث" بحلم يادنيا بجد" فيرتكز بفكرته الرئيسية على حلم لفتاة مثالية تعول أسرتها وترعى أمها المريضة، ووالدها المتمارض وأشقائها الأصغر، وبعد استعراض لتفاصيل من حياة الأسرة ندخل فى حلم الفتاة بقضاء يوم فى مدينة الإسكندرية مثل بطلات فيلم " أحلى الأوقات " الذى يقدم له الكاتب والمخرج التحية بجعله ملهما للفتاة لتحلم بجد بقضاء عدة ساعات فى المدينة الساحرة. 

تقوم المطربة ميس حمدان بدور الفتاة بأداء تمثيلى جيد ولكن بشكل تقليدى بالطريقة المعروفة فى الميلودراما المصرية، يتوافق مع بناء الشخصية التى رسمها ماهر زهدى والتى تجد قبولا لدى المشاهد الذى تربى على الفن السائد. وشخصية الفتاة المثالية المضحية والمتفانية فى سبيل أسرتها قد تجعلنا نطرح تساؤلا "هوه لسه فى حاجة كده؟" أغلب الظن أن البطل المضاد هو الأقرب للعصر والمعبر عن غالبية الناس وهى النماذج التى يكثر تناولها الآن فى السينما التجارية التى تعرض بدور العرض، ولكن زهدى والشوادى فضلا أن يقدما لنا بطلة نقية نتعاطف مع حلمها المشروع بقضاء يوم مختلف تقابل فيه رجلا يمنحها حبا وحنانا، ولا يسرفان فى الحلم الذى يتبين أنه حلم للفتاة يفيقها منه خبر سار بنهوض الأم المريضة من سرير المرض بما يشى بإمكانية تحسن الظروف وتخفيف قدر من العبء على الفتاة المخلصة. وهذا التناول يناسب عملا ينتجه التلفزيون بغرض العرض على شاشته لكل أفراد الأسرة. تحفل تفاصيل العمل بالكثير من تفاصيل الأسرة المصرية والشخصية اللافتة فى " بحلم يا دنيا بجد" هى شخصية الأب التى قام بها الممثل على حسنين والتى أضفت بعدا قويا على أحد سلبيات الأسر المصرية التى يتخلى فيها ذكور الأسرة عن واجباتهم تاركين تحمل المسئولية للنساء. والرسالة هنا غير مباشرة جعلت من شخصية الرجل المتخيلة الذى ظهر فى حلم الفتاة بالإسكندرية هو النموذج الذى ينحاز إليه صانعا العمل لشخصية الرجل كما يجب أن تكون حنونا وحاميا للمرأة.
أجاد المخرج سامح الشوادى عمله وكذلك كل فريق فيلمه، مما يجعلنا نتساءل أين السهرات الفيلمية التى كانت تصور بخام السينما 35 مللى وقدمت فيها أعمال هامة لابراهيم الشقنقيرى، وعلوية زكى، وإنعام محمد على وأحمد صقر، برع فيها كتاب مثل عاطف بشاى وآخرين، وهى أعمال فنية غير صادمة للقطاع العريض من مشاهدى التلفزيون.  
الفيلم الروائى القصير مجال يتسع لتناول قضايا متنوعة بأساليب فنية شديدة التباين، فبينما يغلب على مشروعات التخرج من معهد السينما قيمة التكثيف الذى يجعلها تضاهى القصص القصيرة لمبدعيها وعلى رأسهم يوسف إدريس ومحمد المخزنجى، يغلب الشكل الغنائى والملحمى على الأفلام القصيرة المنتجة فى التلفزيون. والشكل الغنائى لا يعنى بالضرورة وجود أغانى بالأفلام، ولكن أقصد به القيمة التعبيرية والأسلوبية التى تجعلها فى منطقة أقرب للقصص الشعبى والتراثى، مثل أعمال عز الدين سعيد، وأعمال للكاتب عطية الدرديرى، ومثل عملنا هذا " بحلم يا دنيا بجد " الذى تضمن أغنية واحدة تؤكد تناوله الرومانسى ورغبة صانعيه فى تخطى الواقع ومحاولة تغييره ولو فى الحلم.
صفاء الليثى

Sunday 4 July 2010

جيل أفلام الديجيتال والحركة النقدية الشابة

مستقلون يعملون دون حركة نقدية موازية

كنت أراجع كتاباتى القديمة لأختار منها ما أضيفه للمدونة فوجدت مقالا لى عن السينما المستقلة نشر بمجلة "أبيض وأسود" التى تصدر عن قصر السينما، وكان المقال قد طلبه منى شريف.. واستوقفتنى الفقرة: " تكون مستقلا حينما يكون بداخلك قدر من التمرد والرغبة في التواجد بشروط مختلفة عما يفرضه عليك النظام السائد.
وتكون مستقلا حين تطلق العنان لقدرات التجريب داخلك، وتطرح القواعد جانبا، ويخرج طير الحرية من رأسك، فتسمح لأفكارك بالانطلاق، وتتبع -قلبك- إحساسك، لا تضع عينيك على سوق أو جمهور أو مهرجان تحصل منه على جائزة." وقفز لذهنى ابراهيم بطوط وعمله الرائع "عين شمس " وقبله إيثاكى . 
وفكرت هؤلاء بالفعل هم جنود ثورة الديجتال وحركة الاستقلال عن السينما السائدة. ولكن أين النقاد، إذا كان هناك تيار إبداعى جديد فأين الحركة النقدية المصاحبة لها. حين ظهرت كتابات عن سينما الديجيتال لكل من د. صبحى شفيق صاحب فيلم التلاقى والسينمائي المخضرم"77 سنة الآن " ومعه المخرج التسجيلى هاشم النحاس المترجم والباحث "72 سنة الآن" كتب أحمد رشوان فى الحياة مقالا بعنوان "ثورة الديجيتال لثوار ثورة 19 و52 " مستنكرا تبنى الأساتذة الكبار لحركة الديجيتال، حسنا أيها الشاب الهمام هيا ،الساحة متروكة لك. فى إطار مهرجان الإسماعيلية الدولى أشرف أحمد رشوان على ندوة دولية للسينما المستقلة، وكانت مبارزة انتصر فيها الثوار القدامى وأزاح مُنظر منهم الشباب عن المشهد، وتركه فراغا كاملا دون تواجد لأحد من أى جيل. تسارعت تطورات الديجتال تقنيا ، ولم نسمع شيئا أو نقرأ تحديدا أى نقد أو تبشير بتجارب الديجتال للشباب الواعد ممن يناسبونهم فى العمر، بل انصرف البعض ممن ظهرت لهم بدايات نقدية، وتحولوا هم أيضا للإبداع، أحمد رشوان نفسه بدأ مخرجا، له اسهامته النقدية، ثم ركز أكثر فى كتابة أعماله وإخراجها، أحمد حسونة حين كتب عن السينما المستقلة بدا وكأنه لم يسمع عن أحد غيره ونصب نفسه رائدا لها، محمد ممدوح اجتهد قليلا ثم دخل حقل الصناعة وقدم فيلما مستقلا واحدا " الآتى " عن رواية غير مكتملة له، ثم أنتج له المركز القومى فيلما قصيرا، واندمج فى أفلام تسجيلية لحساب الجزيرة الوثائقية. الثلاثة أحمد رشوان، أحمد حسونة ومحمد ممدوح أعضاء عاملين فى "جمعية نقاد السينما المصريين " إفكا عضو الفيبريسى"اتحاد الصحافة السينمائية الدولية" حتى أن ممدوح عضو حالى لمجلس إدارة الجمعية وإن كان مشغولا بعمله الإخراجى دون مساحة للنقد فى نشاطه. هؤلاء وغيرهم ممن يمكن أن تجمهعم تجربة "جود نيوز" يقسمون نشاطهم بين النقد والإبداع، محمد حماد، وائل حمدى مثالا. وهكذا لم تتبلور حركة نقدية شابة مواكبة للتجارب المستقلة أو المختلفة كما حدث مع جيل الثمانينيات والذين وجدوا فى سمير فريد وسامى السلامونى وآخرين سندا قويا لهم، الناقد الكبير سمير فريد-الذى يعتز بكونه صحفى ولا يرغب فى لعب دور آخر- قدمهم للناس وسلط الأضواء عليهم وهو صاحب الاصطلاح النقدى عنهم "الواقعية المصرية الجديدة ". بينما لن تجد جيلا من النقاد ظهر مع البطوط وتامر عزت وأحمد عبد الله فى محاولاتهم لشق طريق مختلف للسينما المصرية. هناك بالطبع بعض الكتابات ولكنها لا تبلور حركة نقدية موازية ويبدو أنها غير مؤثرة بدليل ما حدث بندوة فيلم "عين شمس " فى مهرجان جمعية الفيلم من عدم تفهم كثير من الحضور للأسلوب المختلف للفيلم عن السينما السائدة، كما أصرالبعض على اعتباره فيلما تسجيليا، تقليلا منه بالطبع. وما حدث أيضا فى النقاش الدائر بجمعية النقاد فى اللقاء السنوى لاختيار أفضل فيلم عرض فى السنة السابقة، وأسفر عن حصول الفيلم على تنويه خاص فقط بينما حصل "واحد صفر "على أفضل فيلم بفارق صوت واحد.
بالبحث عن الفيلمين "إيثاكى 2005" و "عين شمس 2007 " نجد أن سمير فريد ما زال المساند الأكبر للتجارب الجديدة فى مصر، كما سنجد د. رفيق الصبان داعما قويا لها ،وهناك كتابات لشيماء سليم وانتصار صالح، وعدد من النقاد العرب يكتبون عندما تعرض الأفلام فى مهرجانات يحضرونها. بينما اختفى النقاد الشباب أو انشغلوا بأفلامهم.

ابراهيم البطوط بدأ عام 2005 حركة الاستقلال فى السينما المصرية ومعه أحمد عبد الله، وتامر السعيد، وتامر عزت، وهالة لطفى. وغيرهم كثيرمن الواعدين. عمل ابراهيم بطوط منذ 1989 كمراسل حربى وكما صرح بنفسه فقد صور صدام حسين فى عنفوانه ثم شاهد حادث إعدامه، صورحروبا كثيرة، ولد ببورسعيد وعاصر الوحدة مع العراق صغيرا ثم فى شبابه مر بجوار الجيش المصرى وشاهده يأسرعراقيين فى الكويت، عاش كثيرا من التناقضات، وبدلا من الانسحاب أو الجنون فكر فى "إيثاكى" بادئا بما يعرفه، ومتعاملا مع من حوله من أصدقاء، بدون أى حسابات كأن يسأل نفسه لمن أقدم هذا الفيلم، وكيف سيسوقه، أدخل حيرته الشخصية وجعل الممثل أحمد كمال يقوم بدوره، مخرج قضى وقتا فى تصوير الحروب والكوارث الطبيعية وجاء الوقت لينقل خبرته عبر السينما ولكن بدون القوالب المعتادة كل يقوم بدوره فى الحياة، أو بدور قريب منه فكان إيثاكى. 

وفى "عين شمس" بلور فكرته ونجح مع سيناريو لتامر السعيد فى نقل عصارة تجربته إلى عدد أكبر من المتلقين، كان البعض منا يهتف فى مظاهرات الغضب ضد اجتياح العراق"اللى بيحصل فى العراق بكرة هيحصل فى الوراق". لمن لا يعرف الوراق فهى حى شعبى فى القاهرة قريبة من حى المهندسين الراقى موضوعة فى الهتاف لزوم السجع،.هذا المعنى تحديدا بلوره المخرج فى فيلمه، فباختصار شديد يخبرنا البطوط أننا يجب أن نهتم بما حدث فى العراق لأن دعوة تحريرها الكاذبة للاستيلاء على بترولها تقترب منا هنا فى القاهرة. مرض السرطان المتفشى نتيجة استخدام أسلحة محظورة وتجريبها فى العراق تسبب السرطان وخاصة لدى الأطفال. وفى مصر يقوم الفساد واستيراد الأغذية المسرطنة للتربح يقوم الفساد بنشر السرطان فى مصر أيضا. لا يتركنا البطوط فى حيرة الاستنتاج بل يربط بين الحدثين فى العراق ومصر ويعلق بالصوت ليزيد الأمور توضيحا. وخلافا للفكرة المنحازة ضد الفساد والقهر فالبطوط يعتمد على ممثلين غير معروفين ويصور بكاميرا الديجيتال. والأهم أنه لا يربط فيلمه بنص مسبق بل يعتمد فى توجيهه لأبطال فيلمه على الارتجال فى حدود المعنى المراد توصيله.
يستعد البطوط لإنهاء فيلمه الثالث "الحاوى " مستمرا فى طريق بدأه فى "إيثاكى" ومستخلصا العبرة من "عين شمس " . أرجو أن تواكب فيلمه"الحاوى" وفيلم تامر عزت"طريق الخاتم" الذى يعده حاليا وفيلم تامر السعيد ، وغيرها من التجارب السينمائية الاهتمام النقدى الذى يتعامل مع العمل الفنى ليس بغرض التبشير فقط، بل بممارسة الدور الحقيقى للنقد فى قراءة العمل الفنى وتحليله لتكتمل الدائرة بين النقد والإبداع .
صفاء الليثى
safaaelaisy@hotmail.com



Thursday 1 July 2010

بنتين من مصر


العفن يأكل أحلام البسطاء
 و نساء بائسات لرجال مهزومين 

طائرة لوفتهانزا تقلع من المطار تتابعها زينة وصفا المنتظرتان عريسا سيختار زوجة من بين أربعة يشحنها معه لدولة خليجية، لقطة متوسطة لحنان وداليا فى نظرة جانبية تستنجدان بنا نحن المشاهدين تكاد الواحدة منهما تصرخ "عاجبكم كده؟".
نهاية منطقية لأحداث الفيلم الثالث للمخرج المؤلف محمد أمين بعد عمله الأول "فيلم ثقافى" والثانى" ليلة سقوط بغداد ". مقل فى عمله، متتبعا ما يجرى فى مجتمعه يفاجئنا بعمله الثالث الجاد والهام الذى يخرج الناقد عن صمته ويدفعه للتحاور معه. هنا فى " بنتين من مصر " يتناول مشكلة أساسية عن عنوسة الفتيات ويربطها ببطالة الشباب أو عملهم بالخارج. يمر على محاولات التغيير بالعمل السياسى الذى يجهض من داخله، وبالعفن والفساد الداخلى والاستعانة بالأمريكان. لا يغرق محمد أمين فى السياسة كفيلمه الثانى، ولا يتعامل بخفة مع مشاكل الشباب كفيلمه الأول. إذ يمزج الخاص بالعام مركزا على البنات وكلهن عاملات، الطبيبة التى تنفق على الأسرة وتخطت الثلاثين دون أن تمارس عملا سياسيا وبالطبع لم تمارس الحب، وأمينة المكتبة التى – تجهز نفسها – بمعنى أن تشترى ملابس العرس للزواج الذى تحلم به وتسعى إليه، حالمة بطفل تحتضنه يرضع من ثديها. فى غياب تام للرجال لا نتأكد من كونهم متوفين أو هجوا وتركوا الفتيات والنساء ومعهم بعض الشباب العاطل، أو المهاجر للخارج للعمل.

عند الحديث عن السينما يظهر التساؤل هل السينما صناعة أم فن، والأرجح أنها فى السنوات الأخيرة أصبحت تقوم بدور الأحزاب السياسية، المعارضة غالبا، أحيانا بالكوميديا المقترنة بالسواد، وفى القليل منها بنماذج جادة يكاد الفيلم منها يقترب من مقال سياسى طويل، أو بحث مختصر. بنتين من مصر يمكن اعتباره نوع من الإدلاء بالرأى فى المشاكل المحيطة بنا. مقال مصور عن الفساد السياسى الذى تسبب فى بطالة الشباب أو هجرتهم، وعنوسة الفتيات.
 يظهر بين المشاهد منظر وكأنه عنبر مصنع أو شيء مشابه، اعتقدت أنه تعبير فنى من المخرج عن حالة الانهيار الذى تعانيه البلاد وسوف يتبين قرب النهاية أنه قاع العبارة التى غرقت ومعها آلاف من المصريين الذين اختاروا وسيلة رخيصة للسفر ومعهم فى الفيلم الشاب أخو الطبيبة العاطل عن العمل منذ تخرجه بعدة سنوات، وصديقه اللذان تحايلا على الأخت وتظاهرا بأنهما مسافرين بالطائرة، ثم أسرعا للحاق بعبارة الموت. أراد محمد أمين أن يربط أزمة شباب مصر بالفساد الذى تسبب فى مأساة غرق العبارة التى لاتصلح كوسيلة آمنة للسفر. طوال الفيلم وفى لحظات خاصة منه جرت دموعى تعاطفا مع بناتنا وشبابنا، ولم تصرفنى ألاعيب إخراجية، أو محاولات لشد الانتباه كما يحلو للبعض "انظروا أنا المخرج، هل تلاحظون مهارتى العالية وقدرتى على تحريك الكاميرا و..." لا توجد بفيلم محمد أمين سارينات بوليس ولا سيارات تنقلب ولا حتى رصاصات من مسدس، أو حتى أسلحة بيضاء. وحتى مشهد كمين البوليس على الطريق الصحراوى جاء بعدما أوشكت داليا/صبا مبارك أن تخبر جمال عن حبها، فيتكشف لها ولنا أنه عميل للمباحث مندس بين المعارضة السياسية ليبلغ عن زملائه، بهدوء تضم ورقة الاعتراف بالحب وتلقيها. وأعترف أننى ظللت كاظمة غيظى من عرض المخرج لنماذج المعارضين بهذا الشكل، هذا المرشد على زملائه والطبيبة التى تمارس الحب خطفا مع زميل لها فى مخزن الملابس وتوزع منشورات وتتحدث بسذاجة- من المخرج طبعا- عن كونها تنتمى للمعارضة. ولكنه قدم شخصا-أحمد وفيق- يدخل فى دردشة على النت مع داليا أسمى نفسه اللا منتمى ورسم شخصيته بشكل جميل ومثالى – وكأنه يعبر عنه شخصيا- وقرب النهاية يأتون للقبض عليه بعد مقال نارى على النت.
رغم البطولة النسائية للفيلم، إلا أن المشاهد الأقوى تأثيرا كانت مرتبطة بالذكور وخاصة هذا الشاب العاطل عن العمل والذى تضبطه أخته يقوم بأعمال البيت –يمسح الأرض- فتمنعه وتتحدث مثل فاتن حمامة فى الأستاذة فاطمة التى قالت لزوجها بعد نجاحها فى الترافع عنه " أنا أمسح وأكنس واستناك فى البيت" بمعنى نهائى أنه  قضيتها الوحيدة وأن الأعمال الدنيا لاتكون للذكور. عمر أحمد يوسف أداؤه هاديء مختلف كليا عن الأب، وجهه معبر وحزنه دفين أوجع قلوبنا وهو يتمثل روح شاب مهزوم فى قيم الرجولة المتعارف عليها خاصة فى المجتمعات الشرقية.  محمد أمين لايغازل ذكور مصر المكسورين والمحبطين بل شعرت من خلال الفيلم أن هذا رأيه كرجل محافظ يجد مأساة فى عمل الفتيات بينما دورهن الفرحة بالزواج وحضن الطفل وعلى الرجال العمل والإنفاق. هذا رأيه غير المباشر المطروح فى الفيلم والذى جعله يدفع بالفتيات للقبول بعرضهن كسلعة يفحصها العريس القادم من العمل"ترانزيت" لعدة ساعات. وهو بهذا يعبر عن رأى سائد فى المجتمع يحيل مأساة الأسر لغياب الأب وملاحقة الحكومة لجهود الشباب الحالمين بالعمل وتحقيق الذات.  
                                طارق لطفى وصبا مبارك
من أجمل خيوط الفيلم شخصية المهندس الزراعى التى قام بها طارق لطفى بإجادة تامة، قدم  المخرج ظهوره الأول كشخص عملى لم يجد وقتا لحلاقة ذقنه قبل موعد المقابلة المرتبة طبقا لمكتب الزواج، وفى المشهد الثانى يدخل بهدية عبارة عن علبة بها عدد من ثمرات طماطم شديدة الجمال من محصول أرضه بعد عدة تجارب أجراها لثلاث سنوات، والمشهد الثالث يعرفها وأخيها على مزرعته فى الصحراء ونعرف أنه محكوم عليه بالحبس لعدم قدرته على سداد القرض للحكومة. توافق داليا على زواجها منه وتبدأ مشاركته حلمه،هنا سنربى أرانب، وهنا عيادة لأهالى المنطقة، هذه المرة بكيت تأثرا من رومانسية الحلم وأفاقنى المخرج فالواقع ليس كالأفلام وها هو فى المطار يهرب قبل منعه من السفر وينتهى الحلم. لا يمكن لسطور قليلة أن تحكى تشعبات ما حصل فى الفيلم من تفاصيل كثيرة أغلبها موجع والقليل منها يبعث على الأمل.
"بنتين من مصر" فيلم مصرى بروح شخصياته وبرؤية مخرجه، خالى من الخطب والشعارات يشبه غالبية البسطاء فى مصر والعالم فى أحلامهم المشروعة بالحق فى العمل والحياة. كما يشبه نظرتهم البسيطة-ولا أقول السطحية- للصراع من أجل العيش. وكعمل فنى يكسر احتكارالأبطال من الذكور للسينما المصرية ويقدم زينة فى أداء تمثيلى مؤثر مؤكدا أن الممثل ينجح حين يسلم قياده للمخرج ولا يتصرف كنجم يتحكم فى كل عناصر الفيلم. كما قدم الأردنية صبا مبارك فى أداء مقنع وجها طازجا –غير محروق- نحتاجه لإثراء الأدوار المختلفة ولإضفاء المصداقية عليها ممثلات فى أدوار نسائية أولى ولسن سنيدات، ومعهن رانيا شاهين وسلوى محمد على وأخريات قدمهن كسيدات بائسات فى مجتمع هُزم رجاله وعجزوا عن إسعاد أنفسهم أو إسعاد نسائهم.