Tuesday 15 June 2010

جماليات السينما التسجيليه المصرية "1" *



الطريق الى "سينما مختلفة"بدأ بأفلام
"صائد الدبابات" "حديث الحجر" 
و"طبيب فى الأرياف"

خيرى بشارة 
تطهير الأفلام من آفة " البروباجندا "

- ولد خيرى بشارة عام 1947 . هل يمكن أن نقول أنه من جيل الثورة ؟ تربى فى أحضان التجربة الناصرية حيث الحلم بمجتمع جديد ، تخرج مع النكسة فى 1967 عمل مساعدا للإخراج مع المخرج عباس كامل عام 1968 في فيلم " أنا الدكتور " و مع توفيق صالح فى " يوميات نائب فى الأرياف " عام 1969 .
قضى عاما و نصف فى بولندا عام 1968، و هناك عمل مخرجا مساعدا فى الجزء الأول من الفيلم البولندى الروائى " فى الصحراء و الأحراش " للمخرج شليشتكى .
" صائد الدبابات " 17 ق ، و " طبيب فى الأرياف " 23 ق ، و " طائر النورس " 17 ق
و الفيلم التسجيلى الطويل " تنوير " 65 ق من إنتاج التلفزيون , ثم " حديث الحجر " 18 ق ، ثم آخر أفلامه التسجيلية " حديث القرية " 30 ق عام 1979 ، أحد أوائل أفلام التنمية السائدة الآن .
فى عام 1982 يقدم أول أعماله الروائية " الأقدر الدامية " و في 1986 قدم رائعته
" الطوق و الأسورة " تتوالى أعمال خيرى بشارة الروائية و يحصل على العديد من الجوائز ، ترفعه بعض الأقلام النقدية مصاف النجوم ، و تهاجمه بضراوة أقلام أخرى ، هنا محاولة للبحث فى الجذور أفلامه التسجيلية الأولى ، البدايات . 


( صائد الدبابات )
تظلم القاعة و تدور آلة العرض فنرى بلا مقدمات :
- لقطة متوسطة لجنود يمرحون أحدهم يشير بيده ثم يخبط كفه بكف زميل له .
- لقطه قريبة لجندى يقفل عينه بحاجز وينظر فى التلسكوب .
- مياه ثم حركة لأعلى فنرى القناة و البر الآخر ، ثم بان من اليسار لليمين ونسمع أحدهم يحكى حتى نصل الى مجموعة الجنود ، وبينهم الجندى الذى يحكى : " كان يوم عيد ميلادى ، كنا قاعدين أنا وعبد العاطى والخولى ، كنا قاعدين نتكلم ونقول ياريتنا نعبر النهاردة ، وبعد كده فوجئنا الساعة اتنين جانا أوامر بالعبور .. عبد العاطى قاللى حنعمل لك عيد ميلادك فى البر الشرقى فى قناة السويس .... وإن شاء الله حنشعل لك عشرين دبابة بدل 20 شمعة ، والحمد لله إنه اشعلي 23 .. دبابة أكتر من سنى بثلاث سنوات ".
- موسيقى مع صورة جدار بيت فى قرية ، وطفلة تجلس خلف حديد الشباك الذى يحتل يمين الكار ويظهر التتر الأول مكتوبا بخط بدائى علي الحائط يسار الكادر : هيئة السينما والمسرح والموسيقى – المركز القومى للسينما التسجيلية يقدم .
- لقطة شعاع الشمس ثم الجندى بالتلسكوب ثم جسم دبابة وتتر أسم الفيلم : صائد الدبابات .
- تتوالى التترات مكتوبة على لقطات متنوعة القرية مثل باب خشبي لمنزل ريفى ، وعلى المعدات من دبابات ومدرعات ، والموسيقى مستمرة يقطعها صوت المخرج :" كاميرا ".
- الجنود فى الموقع ، ويظهر بينهم مسجل الصوت وكاميرا محمود عبد السميع المتحركة يدويا تلتف حول الجنود ، وعبد العاطى يحكى :" يوم 8 اكتوبر ، كان أول المعارك بالنسبة لى ، كنا على بعد خمسة كيلو من القناة ، تحركنا لعمل كمين صد هجمات العدو المدرعة المضادة ، المكان ده كان أول مكان دمرت فيه أول دبابة من الثلاثة وعشرين اللي دمرتهم ..
( يشير بيده والكاميرا تتبع اشارته لاظهار موقع الحدث ) - فى المكان ده ضرب بيومى اتنين ، وأنا ضربت اتنين ، واستمرينا في الضرب ، وكان معايا المقاتل الخولى كمساعد - يضع يده على كتف زميله الذى يلتقط منه خيط الحديث ويكمل فيقول :" بعد التسع دبابات اللى دمرهم عبد العاطى ظهر لنا فوج مشاة ، أخذت الرشاش وتقدمت ناحيتهم وهاجمتهم ، فى اليوم ده دمر المقاتل بيومى 8 دبابات من اللى دمرهم على طول مدة القتال ".
وهكذا رغم التركيز على عبد العاطى بطل الفيلم .. إلا أنه يؤكد على بطولات زميليه بيومى والخولى ،لا يوهم خيرى فى أسلوبه بالواقع ، بل يؤكد أنهم يسجلون ، ويؤكد ذلك بصوته الذى يعلن بدء التصوير :" كاميرا "، وبوجود مسجل الصوت بمعدات التسجيل والميكروفون مع الجنود ، وبهذا يجيب عن السؤال الذي يرد على ذهن متفرج نهاية القرن : كيف يتم تصوير هذه المشاهد ؟
الفيلم تقرير فنى عن عمل عسكرى ناجح قام به أفراد بعينهم ، وها هم يقدمون أنفسهم مع التركيز على أحدهم كنموذج ، فبعد الفاصل الموسيقي المتكرر ، فبعد الفاصل الموسيقى المتكرر ، الدال و البسيط فى نفس الوقت ، لقطة الشمس ووجه عبد العاطى القريب بالتلسكوب يقدم لنا نفسه بعد أن شاهدناه يحكى عن عمله :
" أنا اسمى بالكامل محمد عبد العاطي عطية شرف ، أتعرفت فى حرب أكتوبر باسم عبد العاطى، أتولدت سنة خمسين فى شهر 11 من قرية اسمها شيبة قش مركز مينا القمح محافظة الشرقية ...".
يصطاد خيرى الجمال فى تلك القرية الصغيرة التي يقدمها بكل رهافة الفنان المحب لتفاصيل الحياة الصغيرة ، فمن بدلة عبد العاطى الرسمية والنيشان الذى حصل عليه مشبوكا فيها ، الى داير السرير من القماش الأبيض وعليه زخارف مطرزة لأوانى زهور وورود ، حتى جلسة الفلاحين – أهل عبد العاطى – يتناقشون فى السياسة ، عبر إضاءة طبيعية هادئة من مصدر طبيعى : شباك صغير ينفذ منه ضوء شمس العصارى ، وهو أسلوب يميز المصور محمود عبد السميع الذى برع فى تصوير الأفلام التسجيلية بالإمكانات المتاحة .
تصطاد الكاميرا من القرية أجمل ما فيها ، سيدات يفتلن الشعرية ، طفل على أرجوحة بسيطة بالحبال ، رسومات على الحوائط لكل من الكعبة والجمل ، وكف اليد على واجهات المنازل ، قبل أن يعود للجبهة ولأبطاله ، يقدم المخرج شخصياته بادئا بحركة طبيعية ، يوجههم ويخرج أفضل ما عندهم ، حتى تحتار وأنت تشاهد الفيلم وتندهش أنك امام أشخاص حقيقين ، فهم يحكون ، بطلاقة وإيقاع متدفق دون أن تربكهم الكاميرا .
عبد العاطى فى القهوة بملابسه الميرى ، وصوت أم كلثوم فى الخلفية ، ثم يأتينا صوته :" يوم تسعة أكتوبر .." دون تزيد يقدم خيرى ثلاث لقطات فقط لخسائر العدو : أسرى ،أسير يرفع يده فوق رأسه مستسلما ، بقايا سجائرهم الأجنبية وزجاجات المياه الغازية ، دبابة مدمرة .
سلم معوج امام واجهة منزل فى لقطة تبدو مثل لوحة لفان جوخ ، ثم حركة مع فتاة تفتح شباك البيت ، وصوت عبد العاطى يحكى عن خطيبته محاسن ، وعند هذا المشهد يشرح المخرج علاقته بالمصور ، ويجمع الإثنان بين التلقائية والقدرة على التحكم وترجمة ما يدور فى ذهن خيرى بشارة عبر عدسة محمود عبد السميع :
"محاسن – خطيبة عبد العاطى ، تبدأ بكادر مظلم ثم تفتح شباكا ، ثم آخر والكاميرا محمولة على اليد تتابعها وهى تخرج من الحجرة ، ثم تلف من وراء السلم وتصل الى رشفة السطح وتنظر الى حارة القرية ، الكاميرا ما زالت وراءها كل ذلك فى لقطة واحدة ، بالاتفاق بالطبع مع محاسن الحركة التي اخترتها من واقعها اليومى " .
هذا الشرح يوضح كيف يتعامل خيرى مع شخوصه الحقيقية إذ يجعلهم يعيدون تمثيل دورهم فى الحياة ونخرج بنتيجة رائعه لا نشعر معها بأى افتعال لأنه ببساطة : عاين
و درس وطلب منهم ما سبق أن رآه بالفعل ، و تصبح كتابة كلمة سيناريو على عناوين الفيلم أمرا واجبا ليس فيه أية تجاوزات .
قدم خيرى موقعين فقط فى الفيلم : الجبهة بجوار القناة ، و عندما يقدم البطولة التى قام بها عبد العاطى وزملاؤه ، و قرية بمنازلها و شخوصها ، و عندها نعرف كل ما يتعلق بعبد العاطى الإنسان ، و يمزج خيرى طوال الفيلم بين الحكى عن موضوعه الأساسى – تدمير دبابات العدو ، و بين الحياة البسيطة لعبد العاطة وسط أهل القرية . و ينهى فيلمه بالبطل فى شقته التى سيتزوج فيها .. و هو يركب لمبة الكهرباء ثم يتجه للبلكونه يتأمل حقول بلاده .
يتوحد خيرى مع أبطال أفلامه ، وعن هذا المشهد قال : كنت أعبر فى هذا المشهد و بطريقة غير مباشرة عن رغبتة فى أن يكون لدى شقة .. ودا كان حلم جيلى ".
إن المخرج الذى عرفناه فى السينما الروائية منحازا للمهمشين يركز فة اختياراته لأبطال أفلامه التسجيلية على شخصيات متفوقة مؤثرة فى مجالها ، بسيطة نعم .. لكنها تظهر كبطل خرافي متفرد :
الجندي " محمد عبد العاطي " يحقق أعلى رقم فى تدمير الدبابات ( صائد الدبابات ) ، و" عبد البديع عبد الحى " المثال البسيط يحوله حادثة أعتبرها قهرا إلى فنان ينطق الحجر " حديث الحجر " ، و " خليل فاضل " طبيب القرية يقدم كل ما يمكنه ليسعد أهل قرية نائية على تحسين صحتهم " طبيب في الأرياف "، أبطال أفلام خيرى التسجيلية غير عاديين فاعلون ، يمتلكون عزيمة تقهر الظروف و قوة على التغيير و الفعل .
" حديث الحجر "
تترات مكتوبة بخط بدائى بالطباشير تتخلل عمل المثال فى الحجر موسيقى منا غنيم / مونتاج أحمد متولى / تصوير سعيد شيمى / سيناريو وإخراج خيرى بشاره .
صوت الشخصية تحكى و الكاميرا تقدم حركة عرضية للحقول ، يحكى المثال عن التحاقه بالجندية و رفض قبوله لأنه أحول . شعر برفض الضابط مثل الكرباج وتحول غضبه إلى طاقة فنية أخرجت أول عمل في حياته ، عبد البديع يحكي فى الفيلم – إنتاج 79 – تمر السنوات وما زال يحكيها – عام 99– كما وردت فى الفيلم بالحرف : " كانت مشكلتى إنى مش قادر أحدد .. نفسى أبقى عسكرى سوارى ولا عسكرى بياده ولا طبجى و لا حرس ملكى ، و مكدبتش خبر و رحت للمركز و قابلت الضابط و قال لي ما تنفعش .. أنت أحول ، اتضايقت و زعقت فيه بقى أنا أحول أنا ؟
ضربنى بالكرباج ضربة لسه مأثرة فى دراعى .. روحت البيت و أنا متضايق ، لقيت قرن مواشى قعدت أنحت فيه و عملت منه تمثال للضابط و أنا باضربه بالسكينة .. حبيت أعبر عن رغبتى فى قتل الضابط بالتمثال .. بعد كده قريت فى الجرنال إعلان عن مسابقة محمود مختار عملت تمثال لست الحسن : واحدة ست جميلة بتمشط شعرها ، ووقعت على التمثال : " صانع طباخ " .
يستعرض خيرى منزل عبد البديع ، ونرى الزوجة فى حركتها اليومية تمسك بفرخة و صوت عبد البديع يحكى عنها ، ثم نرى الأبن شريف خريج فنون جميلة يساعد أباه فى نقل ووضع قطعة الرخام علىعربة بدائية إلى الورشة ، يعلق عبد البديع بصوته عن مسابقة هدى شعراوى :" مسابقة ست الحسن , أجمل حاجة عند كل واحد , عملت التمثال بأدوات بدائية , ثم أصبحت طباخ هدى شعراوى ".
يقطع خيرى استرسال عبد البديع و يقدم مشهدا حياتيا مع ابنته ، ينتقل بعدها للقرية و القمح يذروه فلاح بآلة بدائية بجوار تمثالى ممنون , و يعلق عبد البديع :" الأقصر أكاديمية بتاعة العالم ، الفرعونى ده الجامعة بتاعتى " . من حكى عبد لبديع نعرف أنه حصل على عدة جوائز. تستعرض الكاميرا مجموعة تماثيل فى أتيليه منزله ، وجوه فلاحين ، طفل يعزف الناى ، ثم مشهد خارجى ، القلعة فى الخلفية ثم حركة عرضية بالكاميرا . أسم الفيلم مكتوب بالطباشير على الحائط : حديث الحجر – إنتاج المركز القومى للأفلام التسجيلية – 1979


" طبيب في الأرياف "
قبلها- تحديدا عام 1975 – قدم خيرى بشارة " طبيب فى الأرياف " عن الطبيب خليل فاضل فى الوحدة الريفية بقرية المعمارية الشرقية محافظة المنيا .
الطبيب المفكر يشرح رأية .. تظهر التترات ثم يثبت الكادر على منظر جانبى مكبر للطبيب خليل فاضل .
خليل يناقش موظفة الوحدة ، يطلب زيادة طلبية الدواء ، و بعد مراجعته يعبئونه فى جوال من الخيش ، ثم ينقل الدواء على حنتور و نسمع :" كل شهرين أذهب لصرف طلبية الدواء مع فتحي و عاشور - عامل طبى بالوحدة - يصلون قرب شاطئ ، يشربون من الزير، يمرحون أثناء إنتظار المعدية ، يمصون القصب ونسمع موالا عن المرض و الطبيب .
يوظف خيرى الموال على المشاهد التي تعبر عنه دون وجود مصدر الغناء الذى وضعه فى المونتاج ، و هو هنا لا يسجل وافعا بكامل محتوياته من صوت و صورة .. بل ينتقى عناصره ويجمعها أثناء المونتاج .
الطبيب يصل ، فتحي وعاشور يحملانه وفوقه الشمسية ، حيث توجد منطقة لن يعبرها إلا إذا ابتلت ملابسه ، وهو ما يريانه غير مناسب للطبيب ، يؤكد خيرى على هذه التفصيلة و يعود إليها فى نهاية الفيلم .
شوارع القرية ، مناد عجوزا بلا أسنان يعلن عن ضياع عنزة ، الطبيب يسلم رجل من القرية ونسمع صوته شارحا : " تقع قرية المعمارية الشرقية بالقرب من آثار تل العمارنة ، محافظة المنيا .. وتخدم الوحدة قريتين او ثلاث .." التعليق يربط المشاهد المتنوعة للشوارع والسيدات منتظرات مع الأطفال فى الوحدة ، بكاء طفل صغير ينقل ينقل الصوت من التعليق الى لغة الحياة ، بينما الطبيب يفحص عيون عجوز ، ثم كشف باطنى ، فطبيب الوحدة يقوم بكل أنواع العلاج ولا مجال هنا للتخصص ، ننتقل للتحاليل التى يقوم بها فنى يشرف عليه الدكتور خليل فاضل .
الطبيب يتناول غداؤه فى الاستراحة مع مساعده ، يشرب شايه متاملا الحقول ثم ساهرا ليلا يراجع الدفاتر ، بعدها نرى مشاهد متتابعة لحياته ، حيث يقوم بزيارة شخصية لبيت عامل الوحدة ، فنستعرض وابور الجاز وأوانى المطبخ ولمبة الجاز وقد علقت الى جوارها أرفف مفروشة بأوراق الجرائد بعد قصها بشكل مزخرف ، وتعريف بفتحى يقدمه الطبيب بصوته : " اشتراك فى حرب أكتوبر ويتمنى لاينته أن تكون ممرضة " – لم يسرف فى حلمه فيتمناها طبيبة مثلا . ينتهى المشهد بالزوجة والابنة معا فى تصوير رائع باستخدام إضاءة المكان مع موسيقى شجية للدكتور يوسف شوقى .
يستمر الدكتور خليل فى تعريفنا برجال القرية بصوته بينما يتحركون ، حركتهم العادية فى شوارع القرية ، خلاف الصحة – حيث لا توجد خصومة بينه وبين الطبيب كما عودتنا للسينما الروائية ، خطيب المسجد وخادمه ، حفار القبور ، شيخ الخفر ، ثم يتمهل المخرج مع حمدى رضوان فلاح و صانع طوب . يعشق خيرى الصناع المهرة ، يقرب الكاميرا منهم يحب يصل الى حد العشق ولا ينسى غفير الوحدة ومأذون القرية والبقال مسئول البريد ، مشهد شامل لكل رجال القرية ورموز أنشطتها .
بعد ذلك فى اليل ، نسمع حديثا دافئا عن قرصة الحنش ، أثناء مراجعة الطبيب لدفاتره ليلا ، يعمل على ضوء "الكلوب" ، وهو مصدر الإضاءة الطبيعى فى قرى مصر قبل أن تدخل الكهرباء كل قرية .
عن هذا المشهد قال خيرى: " مشهد يصور يوم عمل عادى مراجعة دفاتر الوحدة الصحية بين خليل وفتحى ، شرحت الموقف لهما على أساس أن يكونا بعيدين عن أى تكلف .. وأن يراعيا الوقت ، ثم وجهت حديثى لخليل بالذات ... أنت شخص ذكى ومثقف ومتذوق سينما جيد ، يعنى مسائل الوقت على الشاشة مهمة جدا ، الحديث يتم بدون سرحان ، فيه تلقائية ، طبيعى ومركز قدر الامكان ، لم يكن لدينا " مايك " بل ميكروفون قديم وضعته أمام راديو فى مواجهة الدكتور خليل على مكتبه ، وبدأت أسمع حوارهما واخترت الجزء المناسب فى حدود الواقع فعلا ، بخلاف ذلك .. اتفقت مع محمود عبد السميع على الإحساس المطلوب .. فأحضر مجموعة من الكلويات علشان يادوب تنور شوية وتظهر عامل الوحدة فتحى .. و اتفقنا على أن تكون حركة الكاميرا بسيطة وأعطى الكلوب واقعية الإضاءة فى قرية ليس فيها كهرباء ، كانت بداية الحركة مع خليل ولا يظهر الكلوب ، ثم " بان " بطئ للعامل ، ثم حركة عودة بالكاميرا إلى خليل و يظهر الكلوب .. "
إن حركة الكاميرا المدروسة و المتفق عليها بين كل من المخرج و المصور وأخرجت مشهدا جماليا زاده إخفاء مصدر الإضاءه أولا إظهاره بعد ذلك ، و حافظ على إيقاع المشهد قيادة خيرى لبطل فيلمه ، ومن ثم لم تكن هناك صعوبة فى ضبط الإيقاع بعد ذلك فى المونتاج ، خاصة فى حالة اللقطة المشهدية ، و هو الأسلوب الذى اختاره خيرى لتقطيع مشاهده ، حيث لم يلجأ لأستخدام لقطات اعتراضيه ولقطات تغطية يلجأ إليها البعض لإنقاذ الإيقاع ، و ساعده أداء الطبيب خليل فاضل الذى استفز فيه كل طاقته الإنسانية و المعرفية ليعيد أداء دوره فى الحياة
و يصل إلى هذا المستوى من الأداء الطبيعى غير المتكلف و المقنع والجمالى فى نفس الوقت .
هل كان خيري يجرب شكلا جديدا للفيلم يعتمد على قيام بطل فعلى بإعادة أداء دوره فى الحياة أمام الكاميرا ، مازجا بين تلقائية الحدث الواقعى و الأداء الدرامى المعد سلفا من قبل السينارست المخرج ؟
يقول خيري : " قيام شخص ما بأداء مشاهد متفق عليها من حياته الخاصة ليس شكلا جديدا ، و أنا أتعلم ممن سبقونى : فلاهرتى و جريرسون ".
يستمر خيرى فى نسج فيلمه " طبيب فى الأرياف " الفيلم التسجيلى فى أبلغ صورة مليئا بالمعلومة و الدفء الإنسانى و الكمال الفنى ، صوتا و صورة ، فشريط الصوت غني بتعليق الشخصية ، و حوارات الناس ، وأصوات الحياة اليومية ، الموال الشعبى و الموسيقى المؤلفة ، و تصل كل هذه العناصر إلى قمتها مع مشهد الصباح و المنادى العجوز يعلن عن التطعيم ، هنا يصبح المنادى أداة فى يد المخرج يمهد بها لمشاهده التالية حيث نرى تلاميذ المدرسة فى الفناء والطبيب معهم ، و المنادى عجوز بلا أسنان يبدو كشخصية كرتونية فى واقع قرية فى صعيد مصر , ينهى إعلانه دائما بجملة خارج السياق كلازمة شخصية : " يا حلاوة عليك يادا الوقت " تجلجل ضحكة خيرى كلما سمع المنادى يقولها أثناء المراحل الأولى من المونتاج عند اختيار الصوت , و أثناء المونتاج , و فى كل مرة يعرض فيه الفيلم ينقطع ضحكة خيرى , كما لا تتغير ابتسامة كل من يشاهد الفيلم مهما تعدد مرات المشاهدة .
نعود لمشهد المدرسة و الطبيب يقدم إحصائيات عن أمراض التلاميذ : 25 % بلهارسيا ، 20% أمراض متوطنة ، و 12 % دودة إكسيروس , و قراع , و 2% تلف في صمام القلب , و لا يوجد دواء .
يقطع المخرج مشهده قبل أن يوجع قلوبنا ، و يقدم فرحا فى القرية ، رجل و امرأة عجوزان يرقصان بالعصا على نغم شعبى , الطبيب يشاهد الفرح – حفل الزواج – ثم طلق ناري ونرى زفة العروسين فى شوارع القرية نعود للوحدة واتصال عن حالة حرجة , لا توجد سيارة إسعاف رحلة ، رحلة وعرة من الشط الغربى إلى الشط الشرقي لضفتى النيل العريض فى صعيد مصر , و تكون السيدة قد انتهت بعد هذه الرحله و لم يتم انقاذها . نعود لتعليق الطبيب : " توفيت سيدة بعد حمى نفاس نتجة عدم لجوئهم للعلاج فى وقته .. شوية هوا وبعد الولاده حتروق " – هكذا يبررون عدم اللجوء للطبيب . يأتى ذكر الداية و دورها من فض البكارة إلى التوليد .
الطبيب يقدم تقريره الفني مع المرضي و الأطفال ، لا يدخر خيرى معلومة يمكن إعلانها ، ليتم تغطية الوافع من كافة جوانبه , دون أن يصيبنا الملل .
فالحياه جميلة ورغم مشاكلها , و نحن الأن مع شمس الغروب وموال و الطبيب يغادر مع حقيبة سفر يحملها مساعده بينما يحمل هو السامسونيت و شمسية ونسمع صوته لنعرف أنه ذاهب لعقد قرانه على صفية , ثم نرى مشهدا لأحتفال الفلاحين به . تسيطر على خيرى روح الدعابه فيختار موسيقى عسكرية لمشهد الطبيب محمولا ليعبر المركب حتي لا تبتل ملابسه. و تنزل تترات النهاية : المركز القومى للأفلام التسجيلية , إشراف سعد نديم .
وعن " طبيب فى الأرياف" قال خيرى بشارة :".. كنت أرى فيه الجزء الذى أحب أن أكونه و يكونه الجيل الذى أنتمى إليه . مثل طيور النورس – كنت أشاهد نفسى وأيضا كل أبناء جيلى ، إنهم نوارس فى رحلة بحثهم القلق عن الأفضل " .. " كانت المشكلة المطروحة أمامى من أجل عمل فيلم تسجيلى – ومنذ صائد الدبابات – هى كيفية تخليص الفيلم من البروباجندا .. وتطوير محاولات زملائى السابقة فى التعبير عن الواقع المصرى .. ثم كيف أجعل الفيلم التسجيلى مثيرا للإهتمام " .
أخيرا .. فإن أفلام خيرى و أرائه حولها تعكس درجة و عية بما يقدمه ، فهذا الشكل الذى يهتم أساسا بالإنسان و تفرده وسط أماكن طبيعة و الذى قدمة عبر أفلامه التي استعرضنا ثلاثة منها .. ليس وليد صدفة .
هوامش
1- أراء خيرى بشارة " المذكورة فى المقال .. مقتطفة من حديث أجراه إبراهيم الدسوقى في " سينما الفن السابع " – و هي كراسة تهتم بشؤن و قضايا الفيلم عدد يناير 81 – صادر من الإسكندرية
2- حكت لي الصديقة عرب لطفى كيف بكى خيرى بشارة أثناء عرض فيلم د. محمد كامل القليوبى " محمد بيومى " عندما ذكرت زوجة بيومى الأجنبية كيف أنه كان يصنع كل شئ بنفسه حتى حذاءه .
3- شكر خاص لعامل العرض محمد شعبان و الزميل رجب عبد الظاهر بالمركز القومى للسينما لما قدماه من عون لمشاهدة الأفلام التى تناولها الموضوع .
*نشر بمجلة الفن السابع


1 comment:

  1. سلسلة مقالات نشرت بمجلة الفن السابع وقد بدأت الكتابة بها عام 1998 ، أسسها الفنان محمود حميدة ورأس تحريرها محمود الكردوسى، وكان مدير التحرير أسامة عبد الفتاح ثم رأس العددين الأخيرين. توقفت عن الصدور بعد 45 عددا.

    ReplyDelete