Tuesday, 2 October 2018

أفلام فائقة بالجونة 2



جمال السينما رغم بؤس الحياة
أحيانا أفكر لماذا أفلامهم جميلة ، وأفلامنا بائسة، هل لأن حياتهم بتفاصيلها الصغيرة أجمل وأكثر اقترابا من الحياة، أفلام الجونة 2 تنفي تماما هذه الفكرة فممكن جدا أن نشاهد فيلما شديد الجمال يعبر بإنسانية عن حياة بائسة لبشر وضعتهم ظروف عامة في أوضاع قاسية.أتوقف عند ثلاثة أفلام جميلة رغم بؤس حياة أبطالها، " المذنب " و"حرب باردة " و " يوم الدين".

هناك مقولة أعارضها تماما " السينما صورة" يقلل فيها من يرددهها من أهمية شريط الصوت ، الحوار والمؤثرات الصوتية، فيلم " المذنب " ينسف هذه الفكرة تماما فالصورة لتسعين بالمائة من زمن الفيلم لا تتغير على وجه البطل الذي يتلقى مكالمات استغاثة ، لا يتركه المخرج لينقل الينا ما يحدث على الطرف الآخر فقط نسمع صوت الطفلة المتصلة المستغيثة ثم أمها من مكان آخر ، نتعلق بمصير الأم المخطوفة ، والطفلة المتروكة وحيدة ، ثم يحدث الانقلاب الدرامي ليتبين أن الأب ليس المجرم ، بل يصطحب الأم الى المصحة فقد قتلت رضيعها وتوشك على ارتكاب جريمة أخرى ، سوء التفاهم هو دائما ما يوقع بطلنا في المشاكل وينتهي الفيلم وقد أدركنا أن مشكلته هو هي الأساس وليس مشكلة المتصلين. إنه في موقع لا يصح فيه التعامل بقلبه، بل عليه أن يجنب العواطف وأن يكون حازما ومحايدا ليتمكن من مساعدة طالبي الاستغاثة. المخرج جوستاف مولر صور فيلمه بموقع وحيد وممثل وحيد- إلا نادرا- وحقق وظيفة الفن في إحداث تأثير قوي لدى المشاهد وينجح في خلق تعاطفه مع هذا المذنب الإنسان مرهف الحس.

فيلم " حرب باردة " الذي حصل على جائزة سمير فريد لأفضل فيلم روائي طويل، وهي جائزة تمنحها جمعية نقاد السينما المصريين ، يعبر بسينما شديدة الجمال عن مأساة فنان بولندي، جمع الموسيقى والغناء الشعبي لفلاحي بولندا وكون مع زميلة له فرقة غنت على مسارح ، بدأ الفيلم عام 1949مع نهاية الحرب العالمية الثانية ، وبضغوط من السلطة المنتصرة أجبروا على الغناء وخلفهم صورة ضخمة لستالين ، ومرة أخرى ستالين ولينين ، هناك الفنان ورجل الإدارة الموالئ للسلطة وفتاة موهوبة وقع الفنان في غرامها منذ اللحظة الأولى. اختار المخرج التعبير بالأسود والأبيض في صورة أبعاد الكادر (3-4) كما السينما القديمة ، بعيدا عن الشعارات والسينما الزاعقة ، أصاغ قصة حب بين هذا الفنان الذي هرب الى باريس وعاش في المنفى بينما استغل رجل السلطة حبيبته ويتزوجها، الفنان يعيش مع مثقفة وشاعرة باريسية تغار منها الفتاة القروية ، يحضرني تعبير شعبي مصري ( بطينه ولا غسيل البرك )
هذه الفتاة بجمالها الفطري الوحشي في مقابل تكلف الباريسية ، حين تخبرها بسبب الغيرة أنها لا تحس بشعرها ولا تفهمه تقول الشاعرة ، انها ميتافور – استعارة- تترقص ساخرة القروية في الحمام وتردد مياتافور! ، معاناة الفنانين في المنفى تحدث مع الأنظمة الشمولية، حدثت مع مواطني المعسكر الاشتراكي سابقا وتحدث مع مثقفي العراق وسوريا حاليا، هنا في الفيلم البولندي تناول بديع من خلال قصة حب ، روميو وجولييت بمعالجة مختلفة تناسب أجواء الحروب.

" يوم الدين"  الذي قدم حكاية قوية حقيقية عن بشاي المبتلي بالجذام ، وأوباما النوبي اليتيم ، في إطار رحلة بشاي ليصل إلى عائلته في جنوب مصر، يرافقه رغما عنه الصبي الذي لم يعرف صديقا غيره، في الرحلة حكايات مختلفة واحد منه أعتبره وحدة مشهدية فائقة الجمال حين يختلف مع المتسول، نصف الرجل الذي فقد نصفله السفلي في حادث، وبعد الشجار يتعاطف معهما ويصطحبهما حيث مأواهم مع قزم لا تنقصه الحكمة، ومريض يمتلك حسا فكاهيا، وعن طريق هؤلاء المنبوذين يصلوا الى معرفة اسم أوباما الحقيقي ويساعد بشاي في الوصول الى قريته. وحدة مشهدية أبدعها المخرج أبو بكر شوقي لتخرج بالفيلم من الخاص لحالة بشاي الى العام حيث منبوذين تضطرهم الظروف للعيش على الهامش، يتضامنون بكبرياء ويقاومون ويستمرون في الحياة.
 لماذا بكيت ولماذا بكى كثيرون تأثرا بالفيلم، لماذا استمر البكاء حتى بعد انتهاء الفيلم، لماذا اكتفينا بمشاهدته ولم نشأ أن يعكر صفو احساسنا أي عمل بعده ؟ "يوم الدين" حقق ما حققه "حرب باردة" و"مذنب" في الوصول الى وجدان المشاهد قبل تمحيص عناصر فن السينما بداخله. فيلم سينما كبير لا يخلو من بعض الهنات ولكنه يترك أثرا ممتدا حتى بعد مشاهدته بزمن طويل. تميز الفيلم بأماكن تمثل مسحا لمصر، الصحراء يشقها شريط القطار، الريف بوحدته الصحية الفقيرة وترعته التي يستحم فيها البشر والحيوان، مدنه الصغيرة وأماكنه العشوائية التي يعيش فيها فقراء يتضامنون معا. قيادة المخرج لأبطال فيلمه وغالبيتهم من غير المحترفين أضفت على الفيلم مذاقا مختلفا وأبعده عن التحذلق الذي يلجأ إليه البعض ونلمسه داخل بعض الأفلام ، مثل اللجوء إلى ما يعرف بالإسقاط، أو الاستعارة في غير موضعها .

الاستعارة أو الميتافور الذي سخرت منه بطلة "حرب باردة" هذا الميتافور الذي يقوم عليه فيلم السورية  سؤدد كعدان هو تماما ما يبعدني عن الفيلم الذي لم أتواصل معه ولم تنجح مخرجته في إيصال رسالتها حول من هم بلا ظلال بينما جنود السلطة ومعارضي الإسلام السياسي ظلهم ممتد. يمكن أن تكتب مقالا أو عمودا صحفيا عن هذه الفكرة ، ولكن أين السينما في فيلم طويل به تمثيل رديء وصورة فارغة بلا أي دلالات . هناك أشرار حتى النهاية – جنود الجيش – وملائكة حياتهم تعسة ، ومقاومة إسلامية أضفت عليهم شرعية وجعلتهم يحفرون قبورهم قبل العودة من التظاهر. الجوائز لم تعد دليلا على تميز الأفلام، غالبا هناك دوافع سياسية لتشجيع البعض ما دامت وجهة نظرهم متفقة مع ما يريده الغرب من مهاجمة النظام السوري وجيشه. على العكس من ذلك أثار المخرج السوري العائش بألمانيا تعاطفنا مع جنود الجيش الذي أسرهم جنود النصرة ، يسأله الجهادي لماذا التحقت بجيش الأسد فيرد الشاب منكسرا ( من أجل الراتب ) يبقي المخرج الكاميرا طويلا على وجوه الجنود ودموع أحدهم تنساب في صمت . طلال الديركي التحق بجماعة النصرة مخاطرا بحياته ليصورهم عن قرب، مجهود عظيم، جهاد لمناصرة الحق أسفر عن بحث مهم جدا عن كارثة هؤلاء العائشون في الماضي والذين يرتكبون جريمة كبرى في تنشئة أبنائهم على ممارسة العنف وتوجيههم إلى القتل بداية من دفع ابنه أسامة ليذبح بيده العصفور الصغير الذي أمسكه بيده، تشجيعه على الذبح والإشادة بفعله على أنه عمل بطولي. المخرج بمهارة كبيرة يتتبع الرجل مع أطفاله، ثم وهو يبطل أفعال الألغام ببدائية وصولا إلى قطع قدمه وتشوه وجهه. في جلساتهم يتضح أنهم منجذبون إلى النبي محمد والإسلام الذي يسمح له بالتمتع بأربع سيدات، أحدهم يقول أنه ينوي أن يتزوجهم في ليلة واحدة ، أربعة من الأخوات ، المتطوعات. لايقدم لنا المخرج الجانب الآخر نهائيا مركزا على موضوعه حول هذا الكابوس المرعب الذي هدد وطنه سوريا وجعله يعود – بعد التصوير – الى منفاه في برلين. يعود واليقين المحزن أن وطنه قد ضاع ولن يعود كما كان أبدا مع إصرار هؤلاء ( المجاهدين) أن الحرب مستمرة حتى إقامة دولة الخلافة العادلة ، يسأله الرجل- ممثلا المخرج- العادلة؟ باستنكار لا يفهمه المغيب الذي يردد آيات القرآن طبقا لفهمه الذي يدفعه الى القتل وإلى خوض معارك تنتهي بضياع قدمه وبموت أصدقائه وبضياع مستقبل أبنائه الذين يتصورون أنهم يلعبون. يشارك "عن الآباء والأبناء " مسابقة التسجيلي الطويل وأرشحه للجائزة الكبرى في هذا القسم.

تناولت المخرجة السورية سؤدد كعدان حالة آنية للسوريين الضائعين بين سلطة دكتاتورية وإسلاميين ، فجاء عملها سطحيا ومباشرا ، ضعيف فنيا وفشل في إحداث تعاطف المشاهدين مع أبطاله . وقدم المخرج البولندي بافل بافليكوفسكي في فيلمه " حرب باردة " عن حالة ماضية تمكن فيها من النظر عن بعد بعمق ابتعد فيه عن المباشرة بل من خلال قصة حب عبر عن مأساة العيش في ظل أنظمة شمولية وعن مأساة العيش بالمنفى، مكثفا الفكرة في استحالة العيش مع الحبيبة وفي صعوبة الاحتفاظ بالرغبة المشروعة الوحيدة في العيش معا في بلدهما.

نجح القائمون على مهرجان الجونة السينمائي الدولي في دورته الثانية في تجميع أجمل الأفلام مصريا وعربيا وعالميا، في برنامج تم صياغته بحيث يمكن الاستفادة من كل فعالياته ويبقى أننا كمشاركين علينا واجب المتابعة قدر استطاعتنا احتراما لجهد منظميه وهو ما يحرص عليه الجميع نقادا وسينمائيين.

صفاء الليثي

الجونة سبتمبر 2018
نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 1 أكتوبر 2018 رئيس التحرير عماد الغزالي

No comments:

Post a Comment