Tuesday 31 October 2017

أخضر يابس فيلم بطعم السينما الإيرانية



واقعية ثالثة تعكس دواخل الشخصيات

عقدت العزم على حضور الحفل الأول من العرض العام لفيلم " أحضر يابس " ، ثوان أخرتني عن بداية الفيلم فأجلت المشاهدة للحفلة التالية، وحسنا فعلت ففي الدقيقة الأولى من الفيلم ، نباتات زينة في شرفة منزل ، كلها من نبات الصبار، أخضرها باهت، ثوان ننتقل بعدها إلى فتاة تصعد كوبري الترام ، كاميرا المخرج تبدأ حركة تتبع البطلة وفي المقدمة شجرة يابسة ويقطع قبل أن تصل الكاميرا إلى فروع أكثر اخضرارا. تهيأت لمشاهدة فيلم كل تفصيلة فيه محملة بدلالات وليست فقط مناظر بالصدفة. إضاءة الفيلم نفسه باهتة دون سطوع، والحي والأماكن المختارة لا تعبر عن واقع مدينة مصرية قدر ما تعبر عن واقع الشخصية التي ركز عليها الفيلم في كل مشاهده.
منذ فيلم هالة لطفي " الخروج للنهار " بدأت ملامح سينما مصرية معاصرة لا تتناول الواقع الذي بدأ مع كمال سليم وامتد مع صلاح أبوسيف، ثم مع عاطف الطيب، في واقعهم الاجتماعي العام الذي يوثق سينمائيا المجتمع المصري بتعقداته ودواخله. 

هنا في " أخضر يابس " واقع الشخصية الداخلي، العالم من خلال الفتاة التي فاتها قطار الزواج والحياة، الفتاة التي يبست جثمانيا بعد أن تيبس العقل حابسا نفسه في احترام التقاليد والأعراف. عين تيمة الفيلم القصير لحماد " أخضر باهت " المكثف والمؤثر عن واقع النساء في بلدنا، المحكوم عليهن بانتظار فرصة الحياة فقط مع رجل يرغبها كزوجة. في " أخضر يابس " إيمان الأخت الكبرى ترعى الصغرى، إيمان المهزومة هي البطلة وليست الصغرى التي اتخذ نموذجها بطلة وجسدتها سعاد حسني الفتاة الشقية في أغلب أدوارها، الواقع الاجتماعي الذي وضعه حماد في الخلفية ، المتراجع في مصر مع حجاب النساء وبؤس حاضرهن، بطلته الفتاة التي شاخت مبكرا، وليس الأخرى التي ستعيش عيشة أهلها وتتزوج، متحملة تقاليد العائلات فلابد من رجل يظهر كمسئول عنها حتى لو كان خيال مآتة. حسنا كتب حماد راسما ثلاثة اختلافات بين الأعمام، عم تسوقه زوجته مستسلما لمشورتها، وعم مشغول بعمله في الخارج مشغول فقط بمصلحته ومخاوفه على ما كسبه، والعم الثالث طيب وحنون ولكن ظروفه الصحية تحول بينه وبين أداء واجبه تجاه بنات أخيه، اليتيمتان. قدر طفيف من ميلودراما حسن الإمام مع يتيمتيه ظهرت عند حماد حين اختار أن يصاب العم الطيب بأزمة ويدخل الرعاية المركز. ليس انحرافا عن السرد الأميل إلى الطبيعية ، تحول يتوقعه المشاهد، ويصدمنا حماد بفعل الفتاة التي أزالت بكارتها بيدها ، تألمت متمردة على بكارة احتفظت بها دون جائزة منتظرة من مجتمع منصرف عنها غير مكترث بما تعتقد أنه تضحياتها.

يستخدم حماد دلالات تقليدية حين يختار شريط القطار والترام القديم، والسلحفاة التي تعافر بعد أن انقلبت على ظهرها. محل الحلويات وثلاجته المعطلة التي تمنع الحلوى الغربية، وتبقى فقط الشرقية بكل ما تحمله من دلالة عن الفارق بين الشرقي والغربي. ينتمي الفيلم إلى سينما تهتم بالنساء للتعبير عن أزمة للمجتمع ككل، لقطات وجدتها كتحية من المخرج محمد حماد لمشاهد نسائية، مسح البلاط والتقليب في الذكريات تحية لفيلم هالة خليل القصير " طيري يا طيارة"، وأجواء فيلم هالة لطفي القصير " عن الشعور بالبرودة" والطويل " الخروج للنهار".
" أخضر يابس" بطعم السينما الإيرانية التي تطرح أفكارا كبيرة دون موعظة ولا كلمات رنانة، المعتمدة على ممثلين يبدو وكأنهم لا يمثلون قدر ما يستوعبون الشخصية فتبدو كما لو كانوا يؤدون شخصياتهم الحقيقية في الحياة الواقعية. الممثلة هبة علي في دور إيمان، ، يتذكرحماد أن اختيار بطلة الفيلم لم يكن سهلاً حيث تواصل مع هبة علي لمدة طويلة دون أن يخبرها بأنه يرشحها للدور، يقول أنه كان يحاول اكتشافها على المستوى الانساني أولاً ، بعد فترة عرض عليها القيام بأداء دور ايمان ، وهو ما قابلته هبه بصمت في البداية وتردد طويل قبل أن توافق في النهاية على المشاركة مدفوعة برغبتها في خوض هذه المغامرة ، ونظراً لعدم وجود مدرب تمثيل كان على حماد قراءة العديد من الكتب ودراسة كيفية تدريب الأشخاص العاديين على التمثيل وتغيير نبرات الصوت وإجراء بروفات كثيرة حتى يمكن الوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة .
عن تمويل فيلم كهذا لا يتحمس له منتج تقليدي يشير حماد إلى أنه يعمل في منطقة صافية من السينما خالية من شوائب الرغبة في الربح أو الانصياع لتقاليد السوق، وهو ما دفعه إلى الاعتماد على نفسه في تمويل صناعة الفيلم حتى لا يتأثر بتوجهات وانحيازات شركات الإنتاج .
لم يحصل الفيلم على أي تمويل أو منح من أي جهة واعتمد على شراكة بين حماد، و المنتجة خلود سعد ، ومحمد شرقاوي مدير التصوير  حيث كانوا هم المصدر الأساسي لتمويل الفيلم، بالاضافة الى الجهد التطوعي الذي قدمه باقي فريق العمل ، و بعد الانتهاء من مرحلة المونتاج حصل الفيلم في مرحلة ما بعد الإنتاج على دعم من المنتج محمد حفظي الذي تحمس للفيلم و بدأ على الفور تمويل المراحل الأخيرة.
ويبقى السؤال كيف لفيلم كهذا أن يعرض في دور عرض تجارية يهمها فقط جذب جمهور يتعامل مع السينما كملهى في قاعة مكيفة الهواء ليضحك ويتسلى ويمضي بعض الوقت، يعود بعدها لعمله وحياته. ولهذا يأتي دور زاوية ماريان خوري ومصر العالمية بتخصصها في عرض الأفلام الفنية لجمهور خاص حين تقابله تعرف أنه مازال هناك هامش لنا نحن محبي السينما الجديدة، المتعطشين لأفلام تؤرقنا وتبقى محتلة مكانة في أذهاننا لنتقكر في شخوصها ونتشارك همومهم ونحاول جاهيدن التفكير في تغيير واقعنا والاستمرار في التمرد على ما يسمونه ثوابت أجدها ضد الحياة، وضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها . قابلت في صدفة متوقعة قبل مشاهدة الفيلم زملاء من مهنة النقد وصناعة السينما، كنا فرحين لأن هناك حدثا سينمائيا هاما نتشارك في التفاعل معه، فرحين بمحمد حماد ومحمد الشرقاوي وخلود سعد بأنهم أصروا وحققوا مشروعهم، فرحين بأنهم وجدوا محمد حفظي مساندا لتجربتهم ومن سمير فريد وهالة لطفي وآخرين داعمين لتجربتهم التي تضيف للسينما المصرية المعاصرة عناوين جديدة تدعم استمرار صناعة السينما المصرية رغم كل ما يحدث حولنا. 
في مصر الآن يعرض الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجة المؤلف محمد حماد بعد جولة في مهرجانات العالم، وبعد حصوله على جائزة أفضل إخراج من مهرجان دبي السينمائي الدولي 2016.  
                                                                                                         صفاء الليثي 
 نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 رئيس التحرير عماد الغزالي



No comments:

Post a Comment