Tuesday 10 October 2017

الفيلم الحائز جائزة سمير فريد وذهبية الجونة الأول





" أم مخيفة" والحد الفاصل بين الجنون والعبقرية


حلم سكنها ككابوس مخيف، نادوجي هي تأكل السيدات الحوامل، لم تعد نينا بل ناندونج كما الحكاية الشعبية الآسيوية، وحش بمائة ذراع يأكل النساء بعد أن يغتصبهن. تقدمت بالفكرة إلى مركز الفيلم في جورجيا كفيلم قصير ولم تقبل فكرتها، عملت على الفكرة وطورتها وأصبح الحلم مشهدا فائقا في فيلم الفتاة التي لم تبلغ الثلاثين من عمرها ولكنها امتلكت وعيا بنفسية امرأة، ربة بيت، كاتبة مبدعة، تؤرق شطحات إبداعها أسرتها وخاصة الزوج، يمارس عليها قهرا فيحرقون ما كتبته، في مشهد أوجعني، في جردل وضع بالشرفة نشاهد الأسرة مجتمعة يحرقون النص، احتفال عائلي لزم أن تعود الأم بعده لتمارس دورها الوحيد والمقبول اجتماعيا. كجمهور ترسو رغبت بشدة أن تكون هناك نسخة أخرى من العمل، المخرجة بوعي لما يريده المشاهد، نعم هناك نسخة صورها الرجل صاحب المكتبة، وسيط الناشرين والمؤمن بعبقرية المؤلفة، معه نسخة، يلف بها على الناشرين، الجميع يرفضون، هذا جنون وإباحي، لا يستسلم، يبحث ويحضر مطبعة قديمة كانت ملقاة في النفايات، يقدمها لها هدية عيد ميلادها، العمل غير مكتمل، عليها أن تتفرغ لتكتب النهاية، يعد لها حجرة تخصها وحدها ويساعدها على الهرب لتتفرغ للكتابة، الزوج يلاحقها، يعنفها، يتشاجر مع الرجل، يفشل في أخذها بالقوة، يستسلم ويمضي بعد أن يهددها ( ستخسرين عائلتك) ، الكاتبة تسير بين منزلها والمكتبة على جسر للمشاة ، موجود بشكل طبيعي في البلدة ولكنه في السياق الدرامي جسرا رمزيا بين عالمين، تستغل المخرجة البناية بنوافذ مختلفة أقرب إلى نصف قبة، موقعا للمشهد الذي تحكي فيه حلمها ( فيلم المخرجة القصير) للزوج، هو عطوف يحضر لها غطاء سميكا يلفها من البرد، ولكنه عاجز عن فهم لحظات إبداعها، يتهمها بالجنون، في لقطة مشهدية يهرع الى الابنة (امك اتجننت) الفتاة نائمة وضوء يغمرها بينما الأب خلف حاجز موجود في المنزل طبيعيا فتظهر صورته يحجبها ضباب، يصلنا معنى عن حيرته وتشوش أفكاره في مقابل تفهم الابنة المحبة للقراءة لجنوح أمها. 
هل انتهى عرض المخرجة للقهر الذكوري الواقع على المرأة المبدعة، لا فالأب سيظهر، رجل ثري مسن مريض، يترجم، تتحايل عليه بطلب مراجعة نص لصديق لها، تعجبه الكتابة حتى مشهد يعبر عن مأساة أمها، زوجته التي انتحرت فيستشيط غضبا، تزوره وقد عقصت شعرها وبدت كأمها، يدرك الأب أنها الكاتبة ويحذرها بعنف أنه لن يترجم موت انتحار أمها. ها هو الأب أيضا، رغم إيمانه بعبقرية تأليفها، لا يوافق على أن تعبر بصدق عن قهره لأمها الذي دعاها إلى الانتحار. ينتهي الفيلم فجأة، هل ستطبع الرواية، هل سيقوم الأستاذ بالترجمة، الحكاية نفسها ليست بأهمية التعبير عن مشاعر مبدعة تجد نفسها مضطرة للتخلي عن أسرتها ومحيطها الاجتماعي كله لتتمكن من الكتابة. يعكس الفيلم وعيا بالنفس البشرية للمبدعة، ولزوجها العاطل من الموهبة، ولابنتها الحائرة والتي تواجه مشكلة أكبر من عمرها، تفهم للمترجم الأب الأناني رغم تفوقه، كل الأسرة مع أصدقائها في ناحية، وبعد الجسر هناك على الجانب الآخر صاحب المكتبة الداعم والمؤمن بضرورة تفرغها لكي يخرج فنها إلى النور. 
من بين أفلام المسابقة الأربعة عشر وجدت لحنة تحكيم جمعية نقاد السينما المصريين عضو الفيبريسي أنه الفيلم المستحق للجائزة، وفي الاعتبار عبقرية هذه الفتاة الخجول التي وجدناها منعزلة مع بطلة فيلمها ناتا مورفانيدزه ومع بطل فيلمها ديمتري تاتشفيلي الحاضرين معها . بعد تسليمها الجائزة أجريت مقابلة معها وعرفت منها حكاية فكرة الحلم كفيلم قصير، وكيف عكفت على الكتابة لمدة عامين، وبعدها كيف تقدمت به ليتم الموافقة على إنتاجه فجاءتها الموافقة بعد شهرين، شهرين فقط ، الدعم يكفي التصوير وبقي أن تحصل على دعم لما بعد الإنتاج، أنهت فيلمها وشاركت به مهرجان لوكارنو ليحصل على جائزة العمل الأول ، ثم على الجائزة الكبرى من مهرجان ساراييفو، وهاهي في الجونة تحصل على جائزة النقاد ونجمة الجونة الذهبية للفيلم الروائي الطويل من لجنة التحكيم الرسمية، بما يعني أن هناك إجماعا على تميز الفيلم واستحقاقه للجوائز.
 أنا أوروشاتدزه فتاة السابعة والعشرين ربيعا ابنة المخرج الجورجي الكبير زازا أوروشاتدزه المرشح للأوسكار مرتين، والدتها طبيبة نفسية. تعكف أنا حاليا مع أختها الأصغر على كتابة فيلمها الثاني، منطلقة من مجموعة مشاهد لم تربطها بعد في سياق واحد ، مما يبدو أنه طريقتها في الإبداع حيث تسكنها حكايات صغيرة وصور مبهمة تعمل على تطويرها لتكون عملا متماسكا تصوره في شهر، وتقوم بمونتاجه، أخبرتني أنها أنهت مونتاج الفيلم فقط في ثلاثة أيام مما يعني أنها دخلت التصوير بسيناريو محكم (شوتنج سكريبت) جاهز تماما للتصوير، تأتيها أفكار، تجترها، تطورها، تبنيها داخل سياق وتصور.
دولة جورجيا دولة صغيرة تعداد سكانها ثلاثة ملايين نسمة، تقوم مؤسسات حكومية بها  بتلقي مشروعات الأفلام قصيرة وطويلة، تقرأها لجنة مختصة، المشروع الموافق عليه يعني أنهم سينتجونه. كانت هذه سياسة قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري في فترة تولاها السيناريست ممدوح الليثي، وبعيدا عما طال سمعته من اتهامات إلا أنه أنتج عددا من الأفلام السينمائية بميزانية محدودة، لم تكن بقوة الأفلام المنتجة سينمائيا للشركات الخاصة المصرية، ولم تصل لحجم ولا مستوى إنتاجات المؤسسة المصرية العامة للسينما ولا فيلمنتاج، ولكنها كانت منفذا لزيادة المنتج من أفلام السينما ، والآن لا يوجد إنتاج للمركز القومي للسينما  للبلد الذي وصل تعداد سكانه إلى تسعين مليون نسمة، البلد الذي يتفاخر بأن السينما بدأت لديه بعد شهور من بداية السينما في العالم. ولنعرف جيدا كيف تسير الأمور في مصرنا الحبيبة، سنجد أن الفيلم المصري الحاصل على جائزة أفضل فيلم عربي مقدمة من لجنة التحكيم الدولية يمثل العمل الأول لمخرجه تامر عشري والعمل الثاني لشركة خاصة ناشئة، تدعم الإنتاج الفني دون أن تتلقى دعما من أي جهة حكومية مصرية.
تشكلت لجنة تحكيم جمعية نقاد السينما المصريين التي يرأسها الناقد محسن ويفي من صفاء الليثي رئيسا وعضوية كل من أندرو محسن ومنال بركات في الدورة الأولى لمهرجان الجونة السينمائي الدولي الذي أسسه رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، في بلدة الجونة التي أنشأها أخوه سميح ساويرس، واختارا الناقد والناشط السينمائي العراقي انتشال التميمي مديرا فنيا له بعد خبرة بمهرجان أبو ظبي السينمائي، وأسندت مهمة البرمجة للمخرج أمير رمسيس، رأس المركز الصحفي الناقد خالد محمود وتحرير النشرة  إلى الناقد هاني مصطفى، نسق المخرج الشاب مصطفى يوسف منصة الجونة التي طورت ودعمت مشروعات في طور الإعداد وغير كاملة التجهيز. يطمح مهرجان الجونة ليملأ فراغا في مصر لما يجب أن يكون عليه مهرجان السينما كمؤتمر علمي كبير لكل السينمائيين.
صفاء الليثي
نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 10 أكتوبر 2017 ، رئيس التحرير عماد الغزالي

No comments:

Post a Comment