Tuesday, 23 April 2019

تكريم برهان علوية بالإسماعيلية 21


فلسفة حسن فتحي في عمارة الفقراء

في كتابه عن برهان علوية الصادر بمهرجان الإسماعيلية في دورته 21 يذكر الناقد نديم جرجورة أن علاقة علوية بالسينما بدأت فعليا عند مشاهدته فيلم المخدوعون للمصري توفيق صالح وكانت مشاهدته للفيلم دافعا إلى التأمل بأشياء كثيرة " راحت تتفاعل في رأسي" كما يقول علوية فلم يتأخر عن صالح وحمل مشروعه إلى نفس المنتج المؤسسة العامة للسينما في دمشق.. فأنجز فيلمه كفر قاسم عام 1975 الذي يعيد إحياء المجزرة الصهيونية بحق أبناء تلك البلدة الفلسطينية والتي جرت في 29 أكتوبر 1956 في تجربة تمزج التسجيلي بالتمثيلي أعاد فيه علوية تقديم المجزرة مع ممثلين يؤدون أدوار أناس حقيقيون، وقد عرفناه في مصر هذا الفيلم الفريد المعبر عن مفهوم علوية في عدم الفصل بين الوثائقي والروائي وستعبر مسيرته المهنية عن هذا الجمع فله أربعة أفلام روائية ، أفلام كفر قاسم وبيروت اللقاء وخلص ومازن والنملة القصير  بجانب أنجزها بالتوازي مع الأعمال التسجيلية وأولها فيلمه الهام عن العمارة والمهندس حسن فتحي بعنوان محمل بالدلالات فجاء فيلم  لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء شارحا فكر المهندس المصري وكما كتب كعنوان بعد التترات حول أفكار وتجارب المهندس المعماري حسن فتحي الذي يبدأ بتصوير مقابر للفقراء وفي الخلفية الأهرامات التي هي مقابر لملوك مصلر القدماء وصوت طائر برتابة ثم تعليق شارح يقرأ فقرات من كتاب حسن فتحي المعبر عن أفكاره عن عمارة الفقراء والتي لا تعني أنها الأقل جمالا كما كتب حسن فتحي. 

استغرق هذا المدخل العلمي ثلاث دقائق قبل أن يظهر حسن فتحي بظهره مشرفا على مساكن القاهرة الفاطميا متحدثا بالفرنسية عن ضرورة التمسك بثقافتنا في بناء منازلنا يواجه الكاميرا وهو يجيب على سؤال من أنت يوقول أنا معماري عربي فقد عروبته في طور البحث في العمارة عن عروبتي. يبدو فتحي متجاوبا مع أسلوب علوية في تقديم الوئاقي بطريقة درامية يمتزج فيها الأداء مع الوثيقة الحية. نشاهده فوق سطح بناء عربي ثم يدخل حجرته ونعرف أن هذا بيته العربي الذي يقول عنه أنه لم يسترح إلا في هذا البيت ثم يشرح معمار البيت العربيب وملاءمتها للبيئة الحارة ويذكر ملقف الهواء ناطقها بالعربية وسط حديثه الفرنسي كلغة التفكير بينما يتحدث العربية حين أراد أن يعبر عن مشاعره. يستعرض علوية بيته العربي على أغنية سيد درويش أنا هويت بصوت المجموعة ويطول المشهد في إطار تقليدي لسينما وثائقية معروفة تتغير أسلوبيا مع استعراض الحارة والأولاد يلعبون بمنازل النوم، البيجامة الكستور المخططة قبل أن ينفتح الناس ويصبح لديم ملابس رياضية للعب بها. ينوع علوية في التعليق فيقرأ بصوت نسائي لتوضيح التطور التاريخي ويدخل حسن فتحي بصوته بعد أن تعرفنا عليه في المشهد الافتتاحي ويعود صوت المعلق الرجل بديلا في الغالب عن صوت المخرج نفسه الذي يقرأ فقرات من كتاب ألفه حسن فتحي. بانوراما للقاهرة ولقطة سريعة لإعلان فيلم بص شوف سكر بتعمل إيه راصدا الفترة التي صور فيها الفيلم وموثقا لآخر عنوانه يا حلوة ما تلعبيش بالكبريت. إنها السبعينيات وانحسار دور الفيلم الواقعي لصالح الخفيف والهابط.
مزيج مركب لشرح أفكار حسن فتحي مع عرض للقاهرة كما يراها المخرج المبدع برهان علوية. يتجلى الإبداع في استخدام أغنية نادرة للشيخ إمام تترجم المعنى الذي شرحه المعماري، زهر الجناين طرح ، والعطر مش واحد ، مع إن الشجر طالع في غيط واحد ، بلحن جميل مع العود فقط ومشهد ساحر يصور بيوت الفقراء مما تسمى المساكن الشعبية وأطفال يلعبون على مرجيحة في ساحة ترابية.

في كتاب تكريم برهان علوية المعنون سيرة منافي وحكايات غير منتهية يبدأه جرجورة بأنه يصعب اختزال السيرتين الحياتية والمهنية للسينمائي اللبناني  برهان علوية المولود عام 1941 بكلمات قليلة. وأجدني بالمثل أعاني من صعوبة عرض فيلم " لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" الذي يعرض باستفاضة تجمع بين الشاعرية وبين العرض العلمي لأفكار المهندس المصري المتفرد حسن فتحي، تنقل فيه المخرج من القاهرة إلى أسوان مصورا قرية في غربها أقامها الفلاحون بعد غرق النوبة وقرية أخرى أقامتها الحكومة بما يعتقدون أنه بناء عصري والمقارنة بينهما تشرح بالصورة وتعليق البسطاء عن الفارق بين تفهم الفلاح ونجاحه في بناء بيت مريح يلبي احتياجاته وبين فشل مهندس المدينة في تقديم الراحة للفقراء طبقا لأسلوب معيشتهم. يوثق علوية لمنازل فلاحية بنيت بالخامة المحلية، الطوب غير المحروق في مشاهد تجمع بين الجمال والبراح، يوثق لساقية لم أصادف مثيلا لها وفلاح مسن يجلس فوق دولابها يتشارك فيها صغار ملاك الأراضي بطريقة تعاونية ، وثق دون قصد لما ترتديه فلاحة مصرية في الجنوب من جلباب يغطي الركبة ويترك الساقين عاريتين في مناخ البلاد الحار قبل أن تغزو الملابس المحملة بالثقافة البدوية مصرنا . توثيق لبيوت النوبة بمعمارها المناسب للأجواء، وبيت عليه الرسم الشعبي للحج ، وقبل هذا رصده لسكن بعض الفقراء للمقابر وسكن مجموعة أسر أخرى لمسجد أثري قديم بعد اقتحامها للباب لأنهم بلا مأوى. ونسمع الأغنية ، ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين كمرثية لما يحدث من إهانة للآثار وإهمال الدولة وقتها ، فمن الاحتلال العشوائي لأي مساحة فارغة إلى التكدس في منازل ضيقة تم استيراد عمارتها من الغرب حيث المناخ مختلف. في الفيلم تعبير عن الواقع المعيش لفقراء مصر النازحين من الريف فيسكنون أسطح المنازل العالية أو يتخذون من أحواش المقابر سكنا لهم أو يقتحمون مساجد أثرية ويسكنون ساحاتها.
الفيلم مقسم إلى فصول بعناوين توضيحية تغطي مصر بداية من القاهرة إلى الريف وحتى أسوان وكوم أمبو مقدما رسالة حسن فتحي الموجهة للمعماريين أن عليهم تقديم خدمة لفقراء بلدهم بتصميمات يستخدم فيها مواد البيئة وتراعي احتياجاتهم. يشرح فتحي مفهومهم التعاوني وضرورة التعلم منهم وليس العكس. أجد في فيلم علوية شرحا وافيا لفلسفة فتحي في عمارة الفقراء بشكل لم يتطرق إليه أحد بهذا الوضوح في فيلم كلفته اليونسكو بإنجازه غضب منه المسئولين في مصر وقتها واعتبروا أنه يسيء لمصر وأجده دراسة علمية تنحاز للفقراء الذين يحبهم الله ولايكفي ذلك بل يجب أن تحبهم حكوماتهم وكبار مثقفيهم بما يساعدهم على الاستمرار في حياة مريحة في ظروف تناسب متطلبات معيشتهم. لقطات جميلة للريف المصري ومدينته الفاطمية مع استخدام للأغاني المعبرة عن روح المشهد بشكل بديع. في الفيلم أيضا نقد ذاتي لحسن فتحي يعترف بأنه أخطأ أثناء تصميمه للقرنة الجديدة ومقرا بأن المعماري يجب أن يتعلم من الفلاح وليس العكس مقدما مثالا كيف بنى الفلاح المصري الذي يعتبر أن مصر هبة له ، كيف بنى بيته بشكل جميل وفريد .

غاب برهان علوية لظروف صحية عن ندوة تكريمه وحضرها الناقد نديم جرجورة والمنتج نجا الأشقر وأدارها رئيس المهرجان عصام زكريا ، عرض فيلم قصير فيه حوار مع برهان علوية يشرح فيه فلسفته ومفهومه للفيلم السينمائي ودور المثقف العربي. ثم عرض الفيلم عن حسن فتحي الذي أدهش الحضور لاكتماله وتفرده  ومنهم المخرج علي الغزولي ومدير التصوير محمود عبد السميع .  شملت الندوة عرضا لكتاب التكريم الذي ألفه جرجورة وتضمن بيو فيلموجرافيا لعلوية أعدها عرفة محمود ، في الندوة تعرفنا على جهود نادي كل الناس في إحياء والمحافظة على تراث السينما اللبنانية وخاصة مجموعة الخمسة المشاركون في صناعة سينما بديلة وهم كما ذكر نجا الأشقرالمسئول عن النادي وهم مارون بغدادي ورندة الشهال وكريستيان غازي وجان شمعون بالإضافة إلى علوية العائش منذ فترة في منفاه الاختياري بفرنسا منشغلا بهموم السينما العربية وكان عمله الهام الأخير إليك أينما تكون الذي قدمه عام 2000 عن تداعيات الحرب الأهلية اللبنانية وكوابيسها وأشباحها. 
كانت التكريمات وما صدر عنها من كتب وما تبعها من ندوات من أنجح برامج الإسماعيلية السينمائي في دورته 10-16 أبريل 2019 . كما كان الاتجاه العام للأفلام التسجيلية الطويلة ممتزجا به الخيالي مع الواقعي كأسلوب برهان علوية الذي عرفناه مع فيلمه كفر قاسم والممتد في كل أفلامه التالية.
سمحت التكريمات بإعادة قراءتنا لأعمال مبدعين مازالوا بيننا مثل سعيد شيمي وبرهان علوية ، وآخرين غابت أجسادهم وبقيت أعمالهم مفتوحة على كافة التأويلات من مختلف أجيال النقاد. وكل مكرم منهم يستحق عرضا منفصلا عن مشواره مع السينما وخاصة التسجيلية منها.
صفاء الليثي
نشر بجريدة القاهرة الثلاثاء 23 ابريل 2019 رئيس التحرير عماد الغزالي 



No comments:

Post a Comment