Thursday, 20 July 2017

عن آخر أفلام كياروستامي



.مثل شخص مغرم 
عباس كياروستامي 
الإيراني المنفتح على العالم

في عودة لنشاط جمعية نقاد السينما المصريين، اختارت الناقدة الشابة رشا حسني الفيلم الأخير لأيقونة السينما الإيرانية عباس كياروستامي " مثل شخص مغرم" وشرفت بإدارة ندوته مع متعطشي السينما الفنية الرفيعة، بينهم المخرج الكبير هاشم النحاس، والمخرجة فريال كامل ، والناقدة سهام عبد السلام، كنا متعطشين لمشاهدة الفيلم لصاحبه الذي عرفناه بعد حصوله على سعفة كان عن فيلم " بستان الكرز 1997 ، وأصبح له مريدوه المتابعين لأفلامه التي احترمها العالم واحتفى بها في أهم مهرجاناته.
عند المخرج الإيراني " عباس كياروستامي " الحياة أقوى من الأفلام ومن أي خيال لأي مبدع كان . في أفلامه يقدم طبقات متعددة مثل الحياة الإيرانية التي لا تكشف عن نفسها بسهولة . والحلم عنده هو رد فعل لحياة مؤلمة ، مقتنع تماما بأن كل التغيرات تحدث نتيجة لأحلام البشر . هذا ماكتبته منذ أكثر من خمسة عشر عاما عنه مع بدايات اتجاهي للنقد، وأثناء بحثي عن معلومات عن فيلم اليوم صادفني مقال هام للناقد اللبناني الكبير ابراهيم العريس ومنه هذه المقتطفات : (لولا ثلاثية عباس كياروستامي المؤلفة من أفلامه «أين منزل الصديق؟»، «الحياة مستمرة»، و«عبر أشجار الزيتون»، هل كان يمكن لذلك الزلزال المرعب أن يبقى في ذاكرة الناس الذين لم يعيشوا ذلك الزلزال حقًّا؟ ها هو نبأ رحيله يصل في وقت كنا نتساءل عمّا سيكون مشروعه المقبل؟ سينمائيّ، أوبراليّ، فوتوغرافيّ، أدبيّ…؟ فكياروستامي خاض كل هذه الأنواع وغيرها، مجتمعة أو متفرقة، في داخل إيران وخارجها، وخصوصًا بالنسبة إلى الأنواع غير السينمائية، خارجها. ويضيف العريس أنه حين سأل عما يمكن أن يقدمه خارج إيران أجاب مبتسمًا: " أنتم لو انتزعتم شجرة من أرضها وزرعتموها في أرض أخرى، قد تواصلون الحصول على ثمارها، لكنها لن تكون طيبة المذاق كما كانت حالها في أرضها القديمة ". 
ولكنني وجدت أن فيلمه " مثل شخص مغرم" ينتمي تماما لسينما كياروستامي التي يمكن وصفها بأنها السهل الممتنع، مشاهدة طويله وحواراتها طويلة، حركة كاميرا ثابتة، وجولات بالسيارة . الفيلم مكون فقط من وحدات مشهدية أقل من عشرة مشاهد، فمن مقهى بالعاصمة قدمت فيه الشخصية الرئيس وتعرفنا على ما يضغط عليها من خطيبها، رئيسها في العمل وجدتها، ثم مشهد طويل آخر في السيارة حيث أسمعنا المخرج مكالمات الجدة التي تركتها كرسائل صوتية على محمول الفتاة، ثم منزل البطل العجوز المغرم، أستاذ علم الاجتماع الذي جاوز الثمانين من العمر ويستقبل الفتاة في جو رومانسي، ثقافة اليابان وخصوصية فنها مطروحة في الحوار من خلال اللوحة لفتاة تعلم الببغاء، كياروستامي بعيدا عن رقابة بلده لا يقدم سوى مشهد شديد الجمال، وحوار مع الفتاة التي تعمل عاهرة لتنفق على تعليمها، يكشف عن طفولتها ومدى براءتها وعن ميلها لتصديق كل ما يقال، صباح يأتي  فنجدها نائمة في السيارة يقودها المسن مبتسما في سعادة، المشهد الثالث في السيارة ومن خلالها نلمح مشاجرة لا نسمع صوتها بين الفتاة وخطيبها، تدخل الفتاة الجامعة حيث ستمتحن ويأتي الشاب ويتطفل على المسن ويجري حوار مطول آخر يكشف عن مأساة الشاب وينذر بعاصفة ستحدث للفتاة التي تعود فتفاجأ بالشاب. سيبقى المشهد الأكثر تأثيرا علينا كمشاهدين، ومنه إلى مشهد بمنزل المسن مرة أخرى ، حيث تتعقد الأمور وتنجلي كثير من الحقائق التي حاولت الفتاة والمسن الالتفاف حولها. يابان كياروستامي ليست الكوكب المثالي كما نطلق عليه نحن المصريون في دعابة معتقدين بتقدمه وبسعادة أهله، يكشف كياروستامي عن تعليم مهترئ ، وطبقية شديدة، وحشرية من جارة غير متزوجة تتلصص على المسن. نال الإيراني وسام الامبراطور الياباني عن عمله الذي قدم اليابان المعاصرة بالبشر العاديين فيه، بحلوهم ومرهم، اليابان التي يقبل شبابها على العمل الحر وينبذون المهن التقليدية، اليابان حيث فقراء بعيدين عن العاصمة تضطر بناتهم للعمل في الدعارة للإنفاق على تعليمهم. كيف استطاع مخرج عاش وعمل في إيران أن يحقق فيلما كهذا وأن يقود ممثليه ويجعلنا نشعر بما يدور في رؤوسهم من أفكار. إنه الشجرة الباسقة التي تطرح ثمارها في أي أرض تكون. 

وهو نفس النجاح الذي حدث مع فيلمه الذي صوره في إيطاليا مع الممثلة الفرنسية جولييت بينوش ويصف العريس تجربة عرضه بمهرجان كان، "عرف ضيوف العروض بمهرجان كان كيف ينعمون لساعات ولو قليلة بلحظة سعادة شاعرية، ربما أنستهم، ولو مدة يسيرة، بؤس العالم وعنفه، وضراوة الوجود التي عبّر عنها معظم ما عرض من أفلام داخل المسابقة وخارجها. هذه اللحظة السعيدة سينمائيًّا على الأقل أمّنها عباس كياروستامي في فيلمه الجديد المتباري يومها، في التظاهرة الأساس "نسخة طبق الأصل". وهو الفيلم الثاني ضمن أعماله التي قدمها خارج إيران قدمه في إيطاليا مع جوليت بينوش بعد فيلمه الأول الإفريقي التسجيلي عن الأوبئة في القارة البائسة، والأخير فيلم "مثل شخص مغرم" 2012 باليابان، الذي اقترب في أذهان بعض المشاهدين مع رواية ماركيز " ذكريات غانياتي الحزينات"، وافترض الناقد محمود قاسم أنها تعود إلى قصة يابانية " الجميلات النائمات" للكاتب الياباني كاوباتا، واعتمادا على عناوين الفيلم فقد كتبه وأخرجه كياروستامي وأعطاه عنوان واحدة من أشهر أغنيات الغرام الإنكليزية في الستينيات "مثل شخص مغرم" وهي الأغنية التي أدارها الأستاذ المسن في منزله وهو يعد عشاء رومانسيا للفتاة أكيكو ابنة صيا السمك الفقير التي تعمل في مهنة كامتداد لفتيات الجيشا لتنفق على تعليمها. دعي كياروستامي لتحقيق فيلم باليابان، فالفيلم إنتاج ياباني وأبطاله يابانيون، وجغرافيته ولغته وكل ما فيه ياباني، ومع هذا هو أولًا وأخيرًا فيلم لعباس كياروستامي، يحمل ثيماته الأثيرة، وكذلك إيقاعه المعهود، ويخلو كالعادة لديه من أحداث. ظلت عناصر سينماه في إيران وخارجها كما هي مع الحوارات الطويلة واللقطات الثابتة، والجولة بالسيارة. كما  الطفل في " البحث عن صديقي "، وكما المرأة في فيلم " عشرة" وكما الفتاة والمسن في " مثل شخص مغرم " تنويعات على لحن واحد يرسم ملامح البشر ويصور معاناتهم، سواء كانوا مواطنيه أو من جنسيات أخرى ولهذا يستقبله الجميع وتصلهم رسائله.

عباس كياروستامي الذي يرسم الواقع عوضا عن تصويره ولد في طهران في 22 يونيو 1940، أظهر موهبة مبكرة في الرسم ، وحصل على منحة دراسية وهو في الثامنة عشر من عمره , ترك منزله منذ عام 1960 لمدة ثماني سنوات ، وبينما كان يعمل موظفا في قسم البوليس كان يدرس الفنون الجميلة وقام بتصميم عناوين الأفلام الروائية . في عام 1969 التحق بمؤسسة التنمية الذهنية للطفولة والشباب ، وأسس فيها قسما للسينما ، وهي المؤسسة التي أصبحت الأكثر أهمية وزامله فيها عدد كبير من السينمائيين ومنهم جعفر بناهي وآخرين . وفي عام 1970 بدأ أول أفلامه القصيرة ، ومادته المفضلة الأطفال حتى عام 1991 . تبلغ أعماله ثلاثين عملا ثلاثة منها كتابة سيناريوهات لمخرجين زملاء وعدد 27 فيلما ما بين قصير وطويل وغالبيتها من تأليفه . يقدم كياروستامي دراسة دقيقة عن تحولات المجتمع الإيراني وهو لا يصور الواقع ولكنه يرسمه . بوجهة نظر تجعلنا نكتشف الحيوات الكامنة تحت سطح الواقع . وهو في مزجه بين المتخيل والواقعي لا يهدف فقط لتصويره كما هو بل يتجاوز السطح ليكشف عن حقيقة الشخصية الإيرانية الخجولة والحالمة دائما بتجاوز الواقع بما فيه من سيطرة الأموات على حياة الأحياء . تجاوز الواقع من نافذة الحلم التي يفتحها بتؤدة كياروستامي في أفلامه التي تحمل نكهة الأعمال الكبيرة التي يتفق كثير من النقاد على التقاط مغزاها . وهو كفنان مجدد وخلاق سيجعلنا نتذكر دائما أنه ليس المهم أن نرى ولكن كيف نرى. كياروستامي يفضل العمل في المواقع الطبيعية ومع ممثلين غير محترفين .اشتهرت أعماله بنزعتها التشيكوفية والشعرية . أصبح عضوا في لجان تحكيم عدد من المهرجانات الدولية لوكارنو1990 ، كان 1993 ، فينيسيا وسان سباستيان 1996. كما رأس لجنة تحكيم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 25 عام 2001. عام 1997 حصل على السعفة الذهبية من مهرجان كان عن فيلمه " طعم الكرز " وفي فينسيا حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمه " الريح ستحملنا ، 1997 وفي ديسمبر من نفس العام تسلم ميدالية فيلليني من اليونسكو. نال أرفع وسام باليابان وكرم في مهرجان كان بعد وفاته 2016.
شكر خاص للناقدالكبير ابراهيم العريس لاستفادتي من دراسته عن كياروستامي بعد وفاته. 

No comments:

Post a Comment